وليد يوسف عطو
الحوار المتمدن-العدد: 3585 - 2011 / 12 / 23 - 09:42
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تصورت الشعوب والحضارات القديمة من عراقية رافدينية وكنعانية ومصرية الإله على صورة البشر وبالتالي كان ابن الإله على صورة أبيه )أيها الإله الابن ياصورة السيد الاله) .هذه الصورة تعني ان الابن مولود من أبيه الإله ويحمل نفس قدرات أبيه.الصورة نفسها استمرت عبر الحضارات ودياناتها ووصلت إلى المسيحية بفكرة المسيح (ابن الله ) .وقد ناقشت الفكرة في مقالتي المعنونة :(أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة) .المسيح في كولوس1/15:( هو صورة الله الذي لا يرى وبكر الخلائق كلها ) وصورة الله تعني انه ابن الله أي من جوهر الله يعمل نفس عمل الله.فقد غفر للناس الخطاة ولا يغفر الخطيئة إلا الله. وخلق عينا لإنسان مولودا أعمى. وأوقف الريح بكلمته وسار على البحر.( وبكر الخلائق ):تعني انه مؤسس لسلالة جديدة من المؤمنين سلالة أبناء الله : ( و هم الذين ولدوا لا من دم و لا من رغبة جسد و لا من رغبة رجل , بل من الله )}يوحنا 1/12و13{.لقد اتخذ (ابن الله) معان كثيرة عند الطوائف النصرانية والمسيحية فمن تبني ألله لملاك أو رئيس ملائكة وجعله ابنا له أو من اعتقد أن المسيح حصل على البنوة بالمعمودية من الروح القدس أو بقيامته من الموت. وهناك من أعتبر البنوة تناسلا روحيا أو اتحاد اللاهوت بالناسوت.وفي الميثولوجيا القديمة تكون الإلوهية الحامية لكل فرد مقيمة في باطن العبد وتتخذه مقرا لها. وهكذا الحال في المسيحية ]أما تعلمون إنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم؟[. أكو 3/16.نقرا في النصوص القديمة :] أنا فلان ابن فلان الذي إلهه فلان وألهته فلانة [. نقرا أيضا :]أنا الملك أشور بانيبال ابن الملك الذي إلهه أشور وألهته أشورين ). فالناس كالمدن كل منهم له اله يشفع وحام ويقف الإله على يمين ألإنسان وألالهة الأنثوية على يساره.
وبتحول المجتمعات القديمة نحو الذكورية ألغيت الآلهة الأنثوية وبقي الإله الذكر يجلس عن جهة اليمين. نقرا في مزمور110 من التوراة :]قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى اجعل أعدائك موطئا لقدميك[. ونرى عند صلب المسيح أن اللص عن يمينه أمن به فقال له المسيح :]اليوم تكون معي في الفردوس [ وفي قانون الإيمان المسيحي جاء عن المسيح : (جلس عن يمين الله الأب…. )
والى اليوم فأن أصول الضيافة العربية تقتضي تقديم القهوة وغيرها من جهة يمين المضيف أو شيخ القبيلة.وعندما يقترف الانسان ذنبا ويخالف الاوامر الالهية فان الهه الحامي يفارقه. {هذا الرجل الشرير المرذول .أذبحه كما يذبح حمل,فقد خرج الاله من جسده وتخلت عنه الهته} .يعتقد البابليون ان الله ( ايل ) ينصب ملكا على عرش ملكي يقاصص بلدا وليكون اداة الغضب الالهي. وهذا يعني ان الملك يمثل رضى الله على الملك وغضبه ايضا. ومن هنا فالملك يظل انسانا الى زوال اما الملكية فأن لها ذاتا الهية .من هنا جاء تسجيلهم للحملات الحربية التي شنوها بانها مقدسة ويتخذ الملك صفة {قاضي تقي } توجهه الالهة وترشده وتحميه وتقود حروبه حتى النصر الالهي. ومن هنا كان غضب الالهة يتجلى للشعوب الخاطئة بواسطة ملوك تختارهم الالهة ليكونوا المنتقمين {أقرا سفر اشعيا من التوراة }. أن الاله يعتبر الملك مسئؤلآ عن جميع خطايا شعبه والعكس صحيح أيضا فخطيئة الشعب تنعكس بعقوبة الملك لانه يمثل الشعب. أي أن الخطيئة الفردية تقود الى عقوبة جماعية في الفكر القديم.
كان يتوجب على الملوك أن يخضعوا للموت بعد انتهاء مهلة محددة يبحثون فيها عن شخص يوكلون اليه هذه المهمة وكانوا يعهدون اليه بالسلطة الملكية عدة ايام وبعد ذلك يعدم الملك المخلوع ويتولى الملك الجديد سلطاته .ويذكر أنه في فترة ممعنة في القدم كان ملوك بابل يضحون بحياتهم لابعرشهم فقط بعد مرور عام واحد على حكمهم . كان هناك عيد اسمه ساكي يحتفل به البابليون كل عام وهو يبدا في اليوم السادس عشر من شهر لوس Lous ويستمر خمسة أيام وكان السادة والعبيد يتبادلون الادوار حيث يصدر العبيد الاوامر الى السادة الذين يطيعونها ويلبس احد المحكوم عليهم بالموت ثياب الملك ويوضع على العرش ويستطيع ان يصدر ما يشاء من الاوامر وأن ياكل ويشرب ويلهو وينام مع محظيات الملك وبعد انتهاء الايام الخمسة تخلع عنه اردية الملك ويجلد ويوضع على خازوق أو يشنق .وخلال فترة الحكم القصيرة هذه يطلق عليه لقب (Zoganes) .نحن نعرف الغيرة لدى الملوك الشرقيين على نسائهم ومحظياتهم والملك لا يسمح بمعاشرة محظياته الا اذا كان الدافع خطيرا جدا .وهذا الدافع هو ان المحكوم عليه سيموت بدلا عن الملك
وحتى يكون البديل كاملا فانه يتوجب عليه ان يقوم بكل حقوق الملكية خلال هذا الحكم القصير . وبالتالي كان لدى الشعوب القديمة فكرة (البدل) حيث يضحى بحيوان بدلا من الآنسان فيقدم الحمل بدلا عن التضحية بأنسان أو عن مجموعة سكانية كاملة أو بديلا عن الملك .فبتطور الفكر الديني القديم تطورت فكرة الذبيحة و الكفارة من تضحية الانسان بأنسان حيث كانت الشعوب القديمة تقدم تضحيات بشرية قسم منهم اطفال يوضعون في أسس بناء المدن والمعابد . تحولت هذه العادة والتقليد فيما بعد من تضحية بانسان او تضحية بملك الى تضحية بانسان مجرم بديلا عن الملك وفي مرحلة تالية ,تمت التضحية بالحيوان بديلا عن الانسان.من هنا نرى ان المسيحيون الاوائل اعتبروا المسيح هو: (ملك الملوك) و(رب الارباب) يقول المسيح :(مملكتي ليست من هذا العالم) فهو ملك السماء .وبموته على الصليب أعتبر موته وقيامته هي ذبيحة وكفارة كاملة عن جميع البشرية لمختلف العصور فهو أعطى الحياة الابدية للمؤمنين به بأن تحمل كل ذنوب البشرية. هذه هي فكرة الحمل (البديل). لقد نظر المسيحيون الاوائل الى موته والى قيامته بانه قام بدور رئيس الكهنة وبدور الذبيحة معا وبدور الملك الذي يضحي بنفسه فدى لشعبه.في الفكر الديني القديم فكرة الكفارة والحمل البديل تتم باراقة دم الحمل :(بدون سفك دم لاتحدث مغفرة )الرسالة الى العبرانيين 9/22 . فالمسيح:(هو الوسيط لعهد جديد ينال فيه المدعوون الميراث الابدي الموعود ,لانه مات كفارة للمعاصي التي ارتكبها الشعب في ايام العهد الاول ). الرسالة الى العبرانيين 9/15 .لم يكن يسوع كاهنا ولا رئيس كهنة ولم يؤسس للكهنوت ولكن أعتبرت الكنيسة الاولى انه قام بدور رئيس الكهنة بموته وقيامته وفق مبدا القياس الارسطو طاليسي ( جاء لا ليساعد الملائكة , بل ليساعد نسل أبراهيم .فكان عليه ان يشابه أخوته في كل شي .حتى يكون رئيس كهنة ,رحيما امينا في خدمة الله ,فيكفر عن خطايا الشعب ,لانه هو نفسه تألم بالتجربة ,فامكنه أن يعين المجربين .فيا اخوتي القديسين المشتركين في دعوة الله ,تأملوا يسوع رسول ايماننا ورئيس كهنته فهو امين للذي اختاره ) الرسالة الى العبرانيين 2/16-18 و(3/1-2). بموت يسوع قام بدور رئيس الكهنة (فدخل قدس الاقداس مرة واحدة....,فكسب لنا الخلاص الابدي ) الرسالة الى العبرانيين9/12 وكذلك في 10/19-20 : (ونحن واثقون ,ايها الاخوة بان لنا طريقا الى قدس الاقداس بدم يسوع, طريقا جديدا فتحه لنا في الحجاب ,أي في جسده ,وان لنا كاهنا عظيما على بيت الله). ان قدس الاقداس كان يحتوي على تابوت العهد الذي يمثل حضور الله,فالطريق الذي فتحه يسوع في قدس الاقداس مرة واحدة والى الابد بجسده تعني ان الطريق بين المؤمن وبين الله اصبحت سالكة ومباشرة بدون كاهن بشري وذبائح حيوانية .وبذلك سقط الكهنوت اليهودي القائم على شريعة موسى . وقد عبر أنجيل متى عن ذلك بقوله في الاصحاح 27/51: (فأنشق حجاب الهيكل شطرين من اعلى الى أسفل). أن حجاب الهيكل هو الستارة التي تفصل قدس الاقداس الذي يمثل حضور الله عن المؤمنين وبذلك اصبحت رؤية الله مباشرة لاتحتاج لوسيط وأنتهى الكهنوت اليهودي . لقد عبر التلاميذ والرسل الاوائل عن القيامة بتعابير بشرية لحدث غير معقول وغير منطقي ولا يخضع للقياس والعقل والمنطق. لقد عبروا بكلمات وصور عما لايمكن التعبير عنه فالقيامة هي سر الله وسر المسيح . وفي مرقس 16/12 (وظهر يسوع بعد ذلك بهيئة اخرى لاثنين من التلاميذ وهما في الطريق الى البرية ) وفي يوحنا (20/19-29 ) وكانت الابواب مغلقة جاء يسوع ووقف بينهم واراهم يديه وجنبه . و في مرة اخرى ظهر للتلاميذ عندما كان توما معهم وقال لتوما: (هات اصبعك الى هنا وانظر يدي, وهات يدك وضعها في جنبي ولاتشك بعد الان ,بل آمن). في هذه القيامة السوريالية الغرائبية تجتمع كل المتناقضات التي لايمكن للعقل البشري والكلمات ان تصفها . لقد دون كتبة الاناجيل ايمان التلاميذ بصور واشكال غير معقولة لقد عبروا عن اللانهائي والمقدس واللاهوتي بكلمات بشرية لتصف مالايمكن وصفه .كيف تكون الابواب مغلقة ويدخل يسوع كشبح ثم يتحول الى جسد ويريهم اثار المسامير في يديه وضربة الرمح في جنبه وطلب طعاما لياكل .اذا كان الله قادرا على كل شي فهو لايستطيع ان يناقض نقسه وان يخالف القانون الاسمى الذي خلق به العالم والا لاصبح وجودنا عبثيا ولا معنى له .كيف يسلك المسيح سلوكا مزدوجا ؟ ان كاتب الانجيل لايكتب حسب قانون وضعي .لقد صاغ بكلمات بشرية حدث القيامة الذي غير التلاميذ وبينما أنكر بطرس يسوع انتهى بطرس بموته على الصليب على طريق معلمه وكذلك الرسول بولس : ( فقال له الرب :اذهب , لاني اخترته رسولا يحمل اسمي الى الامم والملوك وبني اسرائيل. وسأريه كم يجب ان يتحمل من الالام في سبيل اسمي ).لقد قال يسوع لتوما (لاتشك بعد الان ,بل آمن ) وهكذا في الدين يكون الايمان متعارضا مع الشك القائم على الجدل واعمال العقل والفكر.
هل قام المسيح حقا ؟
يكتب الرسول بولس في (أكو 15/17-24 ) : (واذا كان المسيح ماقام, فايمانكم باطل وانتم بعد في خطاياكم ... )
القيامة لاتخضع لعقل ومنطق وقياس بل هي ذوق وكشف الهي واحساس .هي شعور وجداني غير قائم على اعمال العقل والتجربة والمنطق .
الخاتمة:
مما سبق نرى ان فكرة الالوهية والملوكية والذبيحة والكفارة والحمل البدل قد تطورت عبر مختلف العصور وعبر مختلف الديانات وصولا الى يومنا هذا. السؤال الختامي هل نبقى نجتر نفس الفكر اللاهوتي القديم ام نقوم باعادة النظر الى حادث موت وقيامة يسوع وفق رؤية جديدة وفق لاهوت معاصر يتجاوز الذبيحة وقدرة الدم على غفران الخطايا والمطابقة بين الالوهية والملوكية ؟. وبين موت يسوع والحمل الذي يذبح عوضا عن انسان ؟.أليس موت يسوع هو موتا طوعيا مات من اجل مبادى سامية هو كعنقود عنب عصر نفسه ليشبع الجميع وكحبوب حنطة طحن نفسه ليحولها الى رغيف خبز ليشبع به الجياع . تقدم يسوع الى الموت بأختياره الشخصي من اجل مستقبل البشرية .مثلما كان موت الحسين بن علي اختيارا شخصيا للحرية مقابل العبودية :(الدعي بن الدعي قد ميز بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة ) آن الاوان ان ننظر الى اللاهوت المسيحي بعيون جديدة لانرفض فيها القيامة ولانرفض فيها الالوهية ولكن نعبر عنهما وفق متطلبات عصرنا ومناهج البحث الجديدة ووفق نظرة الانسان المعاصر. فالمسيح الجليلي كان داعيا للحرية التي يملكها ورفض الخنوع والسكوت مقابل الحياة .المسيح اعظم من نجار ومن حمل يموت عوض الانسان واعظم من كاهن اعظم على مبدا القياس واعظم من ملك زائل . ان تعاليم يسوع هي المحرك الاول للثورة وللعدالة الاجتماعية وبالتالي رسالته جاءت من اجل الانسان في حياة افضل واجمل خالية من العبودية والاستغلال والحروب. وسواء كان هناك حياة ثانية بعد الموت او لم يكن ولكن يسوع يقول في الصلاة الربانية :(لتكن مشيئتك كما في السماء ,كذلك على الارض )
المصادر :
1-المسئولية الجزائية في الاداب الاشورية والبابلية تأليف :جورج بوبيه شمّار
ترجمة :سليم الصويص
رقم الايداع في المكتبة الوطنية ببغداد 606 لعام 1981
2.الكتاب المقدس (العهد الجديد )
#وليد_يوسف_عطو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟