|
استراليا كنموذج للحيرة ما بين الشرق و الغرب
عبدالله المدني
الحوار المتمدن-العدد: 1060 - 2004 / 12 / 27 - 07:04
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
كما في حالة جنوب أفريقيا التي كانت حتى وقت غير بعيد جزيرة معزولة للبيض الأوروبيين وسط بحر أفريقي اسود ، ظلت استراليا – مع فارق التشبيه و استثناء السياسات العنصرية الرسمية – حتى منتصف السبعينات من القرن الماضي كيانا يهيمن عليه العرق الأبيض و الثقافة الغربية ضمن إقليم يسوده العرق الأصفر و الثقافة الآسيوية. إلا أن صحوة الأقطار الآسيوية في السبعينات و ما تبعها منذ ذلك الحين من نهضة وحراك و تقدم مشهود على مختلف الأصعدة ، أوجد فرصا اقتصادية و مصالح غير مسبوقة لأستراليا مع جوارها الآسيوي ، أكثر من تلك التي تربطها بحلفائها التقليديين في الغرب البعيد جغرافيا. وكانت هذه مقدمة لظهور أزمة الهوية التي تعاني منها استراليا حاليا بمعنى هل هي دولة آسيوية أم دولة غربية؟. هذه الحيرة الاسترالية ما بين ثقافة غربية تجذبها نحو الولايات المتحدة و أوروبا ، و موقع جغرافي و مصلحة اقتصادية يشدانها نحو آسيا ، صارت منذ أكثر من عقد و نصف مادة للجدل على الساحة السياسية ، بل موضوعا ساخنا في أوقات الانتخابات البرلمانية. و يمكن القول بصفة عامة أن هناك اتجاهين أحدهما لا يعترض على توثيق العلاقة مع الجوار الآسيوي لكنه يعطي الأولوية للتعاون الاستراتيجي و الأمني مع الديمقراطيات الغربية انطلاقا من أن هوية البلاد و قيميها وثقافة غالبية سكانها هي غربية ، ناهيك عن التاريخ المشترك الطويل بين الطرفين و تضحياتهما من اجل القيم الواحدة و الأهداف المتشابهة. أما الاتجاه الآخر فينطلق من حقائق الجغرافيا و الاقتصاد و ما طرأ من تغييرات نسبية في العقود الأخيرة على المكونات العرقية للشعب الاسترالي ليدعو إلى الانخراط الكلي مع دول الجوار و اكتساب الهوية الآسيوية. ويقود الطرح الأخير حزب العمال المعارض ، الذي كان زعيمه السابق بول كيتينغ أول المدافعين و المتحمسين عن فكرة الالتحاق بآسيا ، بل الذي قام بمجرد فوزه في انتخابات عام 1991 بخطوات عملية في هذا الاتجاه. حيث وقعت حكومته اتفاقية دفاعية مع اندونيسيا ، كانت في وقتها بمثابة تثوير لسياسات استراليا الآسيوية و انتقال من مفهوم الأمن في مواجهة آسيا إلى مفهوم الأمن ضمن آسيا. بيد أن هزيمة كيتينغ و حزبه في انتخابات عام 1996 ، و وصول حزب الأحرار إلى السلطة بما عرف عنه من سياسات خارجية محافظة و مرئيات أمنية متفقة مع الإستراتيجيات الأمريكية ، حجم كثيرا اندفاع كانبرا نحو جاراتها الآسيويات ، مقابل تركيز اكبر على توثيق العلاقات الاستراتيجية مع واشنطون خصوصا و الغرب عموما. ثم جاءت تطورات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 لتجعل استراليا أكثر انخراطا في المشاريع العسكرية و الأمنية الأمريكية و حليفا رئيسا لواشنطون في حرب الأخيرة على الإرهاب، و بصورة فاقت كل الالتزامات المترتبة عليها بموجب معاهدة حلف الانزوس التي وقعتها هي و جارتها نيوزيلندة قبل خمسين عاما مع الولايات المتحدة ، إلى الدرجة التي قيل معها أن كانبرا صارت الذراع الأمني لواشنطون في الشرق الأقصى و منطقة الباسيفيكي. فقد شهدت السنوات الأخيرة قيام حكومة رئيس الوزراء جون هوارد بعقد صفقات مع واشنطون لشراء المزيد من الأسلحة و المعدات الدفاعية و إجراء مناورات و أبحاث عسكرية مشتركة ، و توقيع اتفاقية للمشاركة في مشروع الدرع الصاروخي الأمريكي و أخرى لإقامة منطقة تجارة حرة ، ناهيك عن مساهمتها عسكريا في عمليتي التدخل في أفغانستان و العراق. و مؤخرا وقعت كانبرا و واشنطون اتفاقية لإقامة منشآت عسكرية أمريكية جديدة على الأرض الاسترالية لتخزين المعدات و تدريب الجنود من اجل الاستخدام في حالة اندلاع حروب إقليمية. إلا أن هوارد وسط هذا الاندفاع نحو الغرب ، حاول أيضا أن يتقرب من آسيا مدفوعا بمصالح بلاده الاقتصادية مع الأخيرة و مصالح حزبه الانتخابية ، خاصة في ظل حملة حزب المعارضة العمالي بقيادة مارك لاثام عليه و اتهامه بأنه يفوت بسياساته على استراليا فرصا ذهبية للاستفادة من النمو و الحراك الجاري في الصين و بقية أقطار آسيا الصاعدة ، بل و يستفز هذه الأقطار بسياساته التمييزية حيال موضوع طالبي اللجؤ الآسيويين و بقراراته حول تخفيض الدعم الحكومي لبرامج تعلم اللغات الآسيوية في المدارس و المعاهد الاسترالية. هذه البرامج التي وعدت المعارضة بتعزيزها و توسعتها إذا ما وصلت إلى السلطة بهدف خلق أجيال جديدة ملمة بالثقافة الآسيوية و بالتالي خلق ظروف أيسر لدمج البلاد في المنظومة الآسيوية. ومن أمثلة ما قام به هوارد في فترة زعامته الثانية ، توقيعه لاتفاقيتين للتجارة الحرة مع كل من سنغافورة و تايلاند ، وتدشينه لمفاوضات من أجل الغرض نفسه مع ماليزيا و اندونيسيا و الصين ، و قيامه بزيارات رسمية إلى الأقطار الآسيوية أكثر من تلك التي قام بها إلى الولايات المتحدة و دول أوروبا مجتمعة ، فبدا كما لو كان يحاول خلق نوع من التوازن ما بين علاقات بلاده مع كل من آسيا و الغرب. وينتظر الكثيرون ، و في مقدمتهم رجال الأعمال الاستراليون و مواطنوهم من ذوي الأعراق الآسيوية ، أن يستمر مثل هذا التوجه و يتعزز في فترة حكم هوارد الثالثة التي بدأت مؤخرا على اثر فوزه في الانتخابات أكتوبر البرلمانية ، خاصة مع مشاركة استراليا لأول مرة في القمة الآسيوية الأخيرة التي عقدت في العاصمة اللاوسية بحضور زعماء دول آسيان العشر و الصين و اليابان و كوريا الجنوبية و الهند ، و ما اتفق عليه من تدشين مفاوضات في العام القادم حول إقامة منطقة تجارة حرة ما بين كتلة آسيان و استراليا في غضون عامين. إلا أن بعض المحللين يشكون في نجاح حكومة هوارد في مساعيه نحو التقرب من آسيا ، ما لم تتخل عن أو تخفف من روابطها الأمنية و الاستراتيجية مع الغرب و اندفاعاتها المحمومة نحو واشنطون ، و التي تتعارض مع سياسات بعض الأقطار الآسيوية و على رأسها العملاق الصيني. ففي ظل ما هو قائم راهنا من تحالف استرالي- أمريكي وطيد تنظر بكين بعين الشك و الريبة إلى دور كانبرا في حالة اندلاع حرب في مضيق تايوان واشتراك واشنطون فيها. كما أن دولا مثل اندونيسيا و ماليزيا ، رغم كل ما بينهما و بين استراليا حاليا من تعاون اقتصادي و امني ، لا تزالان متوجستين من بعض سياسات كانبرا المتناغمة مع مرئيات واشنطون ، مثل حق استراليا في القيام بضربات وقائية في دول الجوار ضد الجماعات الإرهابية التي تهدد أمنها ، و حقها المشاركة كشرطي في حماية الممرات المائية الاستراتيجية في جنوب شرق آسيا مثل مضيق ملقا. ومن هنا لن يكون مفاجئا لو ألقت هذه التوجسات بظلالها على مفاوضات التجارة الحرة المرتقبة ما بين استراليا و كتلة آسيان التي يتمتع الاندونيسيون و الماليزيون فيها بنفوذ قوي ، الأمر الذي لا يحول دونها سوى سياسات استرالية واضحة و حاسمة لصالح خيار الهوية الآسيوية ، وهذا خيار مفيد اقتصاديا لهذه البلاد ربما أكثر من فائدتها للكتلة الآسيوية. فتجارة استراليا العالمية لا تزيد عن 1 بالمئة من تجارة العالم و سوقها الداخلي يتساوى في الحجم مع السوق الماليزي ، و كمستثمر تقع خلف دول مثل السويد و فنلندا، و بالتالي فهي لا تضيف شيئا لآسيا بقدر ما تستفيد من الأخيرة . د. عبدالله المدني *باحث أكاديمي و خبير في الشئون الآسيوية تاريخ المادة : 25 ديسمبر 2004 البريد الالكتروني: [email protected] .
#عبدالله_المدني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
آسيا تتجه نحو التوحد على خطى أوروبا
-
آسيا تفتح باب الترشيحات لخلافة كوفي عنان
-
نزع صور - الزعيم المبجل-
-
فيما العرب مكانك سر الآسيويون يتجاوزن ثورة المعلوماتية إلى -
...
-
عظيمة أنت يا بلاد غاندي - الهند إذ تمنح قيادتها لسيخي من الأ
...
-
في الذكرى الأولى لاستشهاد الزعيم بعد تحرير العراق من جلاديه
...
-
عزاء للعرب.. الهند و-إسرائيل- بين زمنين
المزيد.....
-
جنرال أمريكي متقاعد يوضح لـCNN سبب استخدام روسيا لصاروخ -MIR
...
-
تحليل: خطاب بوتين ومعنى إطلاق روسيا صاروخ MIRV لأول مرة
-
جزيرة ميكونوس..ما سر جاذبية هذه الوجهة السياحية باليونان؟
-
أكثر الدول العربية ابتعاثا لطلابها لتلقي التعليم بأمريكا.. إ
...
-
-نيويورك بوست-: ألمانيا تستعد للحرب مع روسيا
-
-غينيس- تجمع أطول وأقصر امرأتين في العالم
-
لبنان- عشرات القتلى في قصف إسرائيلي على معاقل لحزب الله في ل
...
-
ضابط أمريكي: -أوريشنيك- جزء من التهديد النووي وبوتين يريد به
...
-
غيتس يشيد بجهود الإمارات في تحسين حياة الفئات الأكثر ضعفا حو
...
-
مصر.. حادث دهس مروع بسبب شيف شهير
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|