خارطة جديدة للتحالفات الداخلية
والإقليمية
رد الفعل المصري يعيق استيعاب الدور العربي
، وتساؤلات في الخرطوم حول مستقبل العلاقات مع مصر
توقيع الاتفاق
الإطار في ماشاكوس بين الحكومة السودانية والجيش الشعبي لتحرير السودان في نيروبي
في شهر يوليو الماضي وبإشراف وسطاء الايقاد أحدث صدمة في أوساط السودانيين حكومة
ومعارضة بالنظر إلى أن الاتفاق وضع أسس الحل لقضية علاقة الدين بالدولة تلك القضية
الشائكة التي ظلت محور خلاف بين أطراف النزاع السوداني منذ اندلاع التمرد المسلح
الأخير في عام 1983م و إعلان الرئيس
السوداني الأسبق جعفر نميري في نفس العام تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. كما أن
حجم التنازلات التي قدمها كل طرف لم تكن متوقعة إلا لمن كانوا يتابعون من قرب
تطورات المحادثات.
فبعد بداية المفاوضات في منتصف
شهر يونيو دخل الطرفان في حلقة مفرغة من المناقشات مما دفع الإدارة الأمريكية
بالتعاون مع حكومة النرويج إلى إعداد مشروع اتفاق مكتوب قدم إلى الطرفين في
الثلاثين من يونيو. لكن هذا النص
المفصل لم يساهم كثيرا في دفع المفاوضات مما دفع الإدارة الأمريكية إلى إرسال مسؤول
كبير في مجلس الأمن القومي إلى نيروبي للحديث إلى طرفي النزاع. ويبدو أن الموفد
الأميركي دعا قبل يومين من توقيع الاتفاق زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان الدكتور جون قرنق للاجتماع به في
نيروبي وبحضور الرئيس الكيني دانيال أراب موي ليبلغه بأن الإدارة الأمريكية لن
تتحمل طويلا تعنت الجانبين وأن على الطرفين توقيع النص المقدم من الوسطاء وإلا فإن
عليهما تحمل مسؤوليات وتبعات رفضهما. نفس الرسالة تم إيصالها إلى القيادة السودانية
مما قاد إلى تسريع التوقيع على
الاتفاق.
الاتفاق يؤجج
الخلافات
توقيع الاتفاق مثل حدثا فريدا في تاريخ النزاع السوداني
خاصة بعد أن نجح الرئيس اليوغندي يوري موسيفيني في إقناع الرئيس السوداني عمر
البشير وزعيم المتمردين الدكتور جون قرنق بعقد أول لقاء بينهما في كمبالا بعد أيام
من توقيع الاتفاق. ورغم الترحيب الكبير الذي وجده الاتفاق داخليا وخارجيا في ردود
الفعل الأولى ، إلا أن معسكري الحكم والمعارضة سرعان ما أفاقا من الصدمة وبدأت
خلافات كل منهما الداخلية تظهر إلى العلن. في جانب حكومة الفريق البشير تبلورت
ثلاثة تيارات معارضة للاتفاق. أولها تيار يمكن أن يوصف بأنه عقلاني ويقوده وزير الخارجية السوداني مصطفى عثمان
إسماعيل تحفظ على استبعاد الدور العربي من الاتفاق ، كما أنه لم يكن راضيا عن
استبعاده شخصيا ووزارته من المفاوضات وتهميش دوره لصالح الدور المتعاظم لمستشار
رئيس الجمهورية لشؤون السلام الدكتور غازي صلاح الدين العتباني الذي قاد وفد
المفاوضات ووقع نيابة عن حكومة السودان. التيار المعارض الثاني مثله التيار اليميني
الأصولي في الحكم والمدعوم من قوات الدفاع الشعبي (المجاهدون) الرافض لقيام دولة
علمانية في السودان والمطالب بالاستمرار في مسيرة "التوجه الحضاري" والالتفاف حول
"ثوابت الإنقاذ". لكن أكثر تيارات المعارضة جدية ظهرت من داخل مؤسسة الجيش النظامي
الذي يمثل السلسلة الفقرية للنظام الحاكم. ويقال أن قيادة القوات المسلحة نظمت
العديد من الاجتماعات التنويرية للضباط في العاصمة والأقاليم لتنو يرهم بمضمون
الاتفاق وظروف توقيعه وأن هذه الاجتماعات شهدت إشهار عدد من كبارة القادة العسكريين
لمعارضتهم للاتفاق. هذه المعارضة دفعت الحكومة السودانية لوضع القوات المسلحة في
حالة تأهب لأكثر من مرة خلال شهر أغسطس الماضي تحسبا لحدوث أي تحرك من معارضي
الاتفاق. كما أن فصيل الدكتور حسن الترابي المنشق على المؤتمر الوطني الحاكم انتهز
فرصة توقيع الاتفاق للتشكيك في مصداقية التوجهات الإسلامية للحكم وخضوعه الكامل
للضغوط الأمريكية مما خلق حالة من الململة في أوساط مؤيدي الحكومة. ولعل في ذلك ما
يفسر حملة الاعتقالات الواسعة التي نفذتها الحكومة في نهاية أغسطس في صفوف مؤيدي
الدكتور حسن الترابي والقرار الذي اتخذه الفريق عمر البشير شخصيا بتجديد حبس
الدكتور الترابي لمدة عام وفق الصلاحيات التي يمنحها له قانون الطوارئ الساري في
البلاد.
من جانبها لم تكن أحوال المعارضة بأفضل حالا من
الحكومة. حيث أدى انفراد الحركة الشعبية بتوقيع الاتفاق بعيدا عن حلفائها في التجمع
الوطني الديمقراطي المعارض إلى ارتفاع الأصوات المنتقدة للاتفاق وكذلك لمسلك الحركة
بل أن مسؤولا كبيرا في المعارضة السودانية هو السيد فاروق أبو عيسى عضو هيئة قيادة
التجمع والأمين العام لاتحاد المحامين العرب اعتبر أن الحركة خرجت عن التجمع
بتوقيعها على الاتفاق دون التشاور مع حلفائها. وشهدت اجتماعات هيئة قيادة التجمع في
بداية شهر أغسطس الماضي في اسمرا مناقشات حامية انتهت بإعداد ورقة
مشتركة
احتوت الخلافات و تمثل الموقف
التفاوضي للتجمع لتقوم الحركة بتقديمه في الجولة الثانية من المفاوضات التي بدأت في
نيروبي يوم 14 أغسطس. وطلبت قيادة التجمع من الرئيس الإريتري اسياس افورقي التدخل
لترتيب لقاء ثاني بينها وحكومة الفريق البشير للنظر في استيعاب التجمع في المفاوضات
بحيث تشمل جميع الأطراف ، لكن تنظيم هذا اللقاء ووجه بفيتو أمريكي بررته
الدبلوماسية الأمريكية برفضها لفتح قنوات تفاوض موازية لتلك المفتوحة في
نيروبي.
المخاوف
المصرية
ومن التساؤلات البارزة التي آثارها توقيع الاتفاق تأتي
دون شك قضية استبعاد المبادرة المشتركة التي طرحتها القاهرة وطرابلس على أطراف
النزاع السوداني وترجيح كفة المبادرة التي طرحها جيران السودان الأفارقة عبر منظمة
الايقاد. ومن المؤكد أن ترجيح كفة الايقاد مرتبط بانحياز واشنطن لهذه المبادرة لأن
المبادرة المشتركة تستبعد حق تقرير المصير للجنوب بالرغم من شمولية طرحها للأزمة
السودانية باعتبارها قضية قومية وليست قضية أقاليم تطالب بالمزيد من السلطة
والمشاركة. وقد أثار ذلك ردود فعل سالبة من العواصم العربية الكبرى لكن المعارضة
الأكثر حيوية جاءت بالطبع من دولتي المبادرة المشتركة مصر وليبيا. القاهرة اعتبرت
الاتفاق تهديد لمصالحها لأنه يهدد من وجهة نظرها وحدة السودان عبر اعترافه بحق
تقرير المصير لجنوب السودان. وقد ووجه الموقف المصري العنيف بمواقف سودانية مرنة
حيث دعت الحكومة السودانية بلسان وزير خارجيتها مصطفى عثمان إسماعيل الحكومة
المصرية للمشاركة بصفة مراقب في المفاوضات الحالية وذلك سعيا لعدم استعداء مصر
مقدما على أي اتفاق. لكن وزير الخارجية المصري رد على الدعوة معتبرا أن مصر طرف
أساسي في الشأن السوداني ولا يمكنها القبول بوضع المراقب. أكثر من ذلك رفض الرئيس
المصري استقبال نائب الرئيس السوداني علي عثمان محمد طه عند زيارته للقاهرة لحضور
اجتماعات اللجنة المشتركة بين البلدين وذلك بعد أيام من توقيع الاتفاق في ماشاكوس ،
وقد ردت الحكومة السودانية على هذا الموقف من خلال إعادة فتح ملف الخلاف الحدودي
حول منطقة حلايب حيث نقلت صحف خليجية عن الفريق عمر البشير قوله أن السودان ما زال
متمسكا بحقوقه في منطقة حلايب التي كان الجيش السوداني قد أخلاها في وقت سابق واتفق
البلدان على إيجاد حل للنزاع عليها في إطار تكاملي.
وكذلك الحال بالنسبة للمعارضة التي سعت إلى
طمأنة القيادة المصرية استنادا إلى أن الحرب هي أكبر مهدد لوحدة السودان وأن
التطبيق الصحيح للاتفاقات والالتزام بها هو الضمان الوحيد لبقاء الدولة السودانية
على حدودها الحالية. وقررت المعارضة إرسال وفد إلى القاهرة للقاء القيادة المصرية.
كما أن الدكتور جون قرنق زعيم الجيش الشعبي لتحرير السودان سيزور القاهرة خلال شهر
سبتمبر الحالي في محاولة منه لتبديد المخاوف المصرية.
عموما الموقف المصري أثار كما ذكرنا الكثير من التساؤلات في أوساط
السودانيين خاصة وأنه لا يخلو من وصايا على الشعب السوداني الذي اختار بكافة قواه
السياسية في الحكم والمعارضة خيار حق تقرير المصير باعتباره مفتاح لوقف الحرب
الدائرة على مدى نصف قرن في السودان وخلفت وراءها ملايين القتلى وأبقت السودان على
تخلفه الاقتصادي والاجتماعي بسبب توجيه كل الموارد لتمويل الحرب. ولم يعد مفهوما في
السودان حكما ومعارضة أن تضع مصر مصالحها فوق إجماع شعب بكامله ضاربة عرض الحائط
بكل آلام ومعانة وتضحيات السودانيين.
الجولة
الحالية من المفاوضات مليئة بالتعقيدات
في نيروبي تدور
حاليا جولة جديدة من المفاوضات بين الحكومة والحركة الشعبية تختلف عن سابقتها.
الجولة الأولى انتهت باتفاق على المبادئ الرئيسية للحل ، لكن الجولة الثانية تبدو
الأصعب لأنها تناقش أمر تنزيل هذه المبادئ إلى إجراءات محددة ومفصلة تشكل ملامح
السودان الجديد. نظام الحكم والإطار الدستوري الذي سيضبطه ، تقاسم السلطة بين
أقاليم السودان المختلفة ، تقاسم الحصص في الثروات القومية الموجودة في أقاليم
محددة وخصوصا النفط الذي يتركز في الأقاليم الجنوبية ، تشكيل مؤسسات الحكم
الانتقالي لفترة الستة أشهر التمهيدية ومن ثم تشكيل مؤسسات الحكم لفترة الستة سنوات
القادمة التي تسبق تنظيم الاستفتاء على تقرير المصير. وهناك أيضا القضية الشائكة
المتعلقة بمستقبل قوات التمرد وهل ستستوعب في الجيش السوداني يعد انتهاء الفترة
الانتقالية وكيفية إعادة تشكيل الجيش السوداني وجهاز الدولة لنزع الصبغة الحزبية
التي اضفاها عليه حكم الفريق البشير وتحويلهما إلى جيش وجهاز دولة قوميان. ويجب أن
لا ننسى كذلك قضية المراقبة الدولية لتطبيق الاتفاقيات التي ستوقع خاصة وأن هناك
تجربة ناجحة طبقت منذ حوالي التسعة أشهر في منطقة محدودة جغرافيا هي منطقة جبال
النوبة وفي هذا الإطار أيضا تدخل مسؤولية الأسرة الدولية في تمويل عمليات إعادة
البناء والتنمية خلال المرحلة الانتقالية.
ومن الواضح أن هذه
الجولة لن تكون بالسهلة ، بل أنها ستكون أكثر تعقيدا من سابقتها وتتطلب إرادة قوية
من كلا الطرفين للتوصل إلى نقاط توافق في كل هذه القضايا. ويبقى دور الوسطاء الإقليميين والدوليين رئيسيا في هذه
المرحلة لتقريب وجهات نظر الطرفين. وفي هذا سيلعب الضغط الأميركي خصوصا على معسكر
الحكم السوداني دور مفتاحي لتجاوز كل العقبات وكذلك في تجاوز المعارضة المصرية
والعربية. ومن المؤكد أن خارطة جديدة من التحالفات الداخلية والخارجية السودانية
ستتشكل مع تقدم المفاوضات واقترابها من نهايتها وأن هناك خلطا واسعا أو بالأحرى
إعادة ترتيب لأوراق ولاعبي السياسة السودانية ستحدث في الفترة القادمة في انتظار
توقيع الاتفاق النهائي للسلام في شهر ديسمبر القادم كما تخطط لذلك الإدارة
الأمريكية. ومن الآن وحتى شهر ديسمبر تبقى قضية واحدة تعوق التوصل هذا الحل وهي
كيفية استيعاب المعارضة الشمالية بكل انقساماتها في مسيرة الحل دون تعريض العملية
السلمية برمتها للخطر.