|
اللص الهارب في أربع حكايات
شريف صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3575 - 2011 / 12 / 13 - 20:37
المحور:
الادب والفن
شغل محمود أمين سليمان الناس في مصر مطلع الستينيات من القرن الماضي، وكان يمكن أن تُنسى حكايته كما نُسيت حكايات بشر آخرين لولا أن صاحب نوبل كتب عنه في رائعته "اللص والكلاب"، فأصبح لصاً خالداً في تاريخ الأدب العربي؛ فكيف استلهم نجيب محفوظ تلك القصة؟ ماذا حذف منها وماذا أضاف إليه؟ وما هي الفروق بين حكاية سفاح الإسكندرية الأشهر وسعيد مهران بطل "اللص والكلاب"؟ وكيف أعاد فيلم كمال الشيخ إنتاج تلك الحكاية؟ وما أوجه الاختلاف بين الفيلم والمسلسل الذي أخرجه أحمد خضر؟ عشرات الأسئلة سنحاول أن نجيب عنها مقتفينا أثر اللص الهارب عبر أربع حكايات: الحكاية الأولى في مطلع مارس عام 1960 تابعت الصحف المطاردة المثيرة بين الشرطة واللص محمود أمين سليمان. وقد رجعت إلى ما نشرته آنذاك جريدة الأهرام، على مدى شهري مارس وأبريل، لكن بشكل متقطع، فأحيانا يفرد له مساحة في الصفحة الأولى وأحياناً لا يوجد أي خبر عنه. وغالباً لم يذكر اسم المحرر باستثناء مرتين، في عدد 12 مارس كتب الإسكندرية في 11 ـ من سامي دسوقي بمكتب الأهرام، على موضوع خاص بوالد السفاح، ثم نجد توقيع محمود عبد العزيز على الموضوع الرئيسي بالصفحة ذاتها. ما يعني أن هناك أكثر من صحفي شارك في كتابة حكاية السفاح. تبدأ قصة محمود أمين سليمان بإشارات عن طفولته في لبنان وعلاقاته هناك بعدد من الشخصيات السياسية ثم فجأة يتهم بالسطو على أحد هؤلاء المشاهير، فيسجن أربع سنوات وبعدها يطرد إلى مصر. كما كانت له صلة بالأنشطة الفدائية في فلسطين حيث نجح في خطف زوجة خاله من اليهود في حيفا (ت10/3). أما ملامحه الحقيقية ومن واقع بيان للشرطة في عدد 14 مارس: "في الثلاثين من عمره، قصير القامة، نحيف الجسم، أسمر اللون وشعره أكرت. أحياناً يرتدي الملابس الإفرنجية وأحياناً البلدية. وأحياناً يرتدي الملابس العسكرية". وقد تميز بالحركة النشطة ما بين أحياء مختلفة في القاهرة والإسكندرية أهمها: حي محرم بك في الإسكندرية، و المنيل، والدقي، والمعادي، وبولاق، والكيت كات في القاهرة والجيزة. وطبعاً استغل براعته في التنكر والتخفي للتنقل بين المدن والأحياء، ففي أحد أعداد "الأهرام" ست صور له في زي عسكري بوليس، وبواب، وفي بدلة رسمية، وزي صعيدي، ومتسول، وببنت ببرقع. ولا نعرف كيف التقطت له تلك الصور! كما أن حكمدارية شرطة القاهرة كانت تشير على الدوام إلى التغيرات الجديدة في شكله، مثلما في عدد 9 أبريل:"لقد استطاع محمود أمين سليمان أن يغير في شكله العام. صبغ شعره بالأوكسجين فأصبح بلون أصفر بعد أن كان شعره يتميز باللون الأسود الفاحم. إن اللص القاتل يرتدي الآن جاكتة زرقاء وبنطلوناً بين الرمادي والبيج. أصبحت للص علامات مميزة جديدة فوق العلامات المميزة القديمة. في خده – بجوار الأنف – الآن جرح صغير يغطيه بقطعة قطن وفي ساقه اليسرى عرج بسيط". ثمة جانب آخر مهم في شخصيته، وهو عمله في مهن عدة، حيث "اشتغل بالتجارة وكان لديه ورشة موبيليا ثم باعها، ومحل بقالة في شارع جامع جركس باعه قبل القبض عليه بأربعة أيام". والأهم من ذلك ولعه بالظهور في صورة المثقف، إذ نراه يخبر أهل زوجته أنه صاحب دار نشر. (ت4/3) ويعزز من رغبته العميقة في التعبير عن نفسه كشخصية مثقفة وصاحب وجهة نظر، حرصه على تدوين اعترافات زوجته وكذلك جرائمه في كراس، وإرساله رسالة إلى "الأهرام" يشرح فيها كيف سارت حياته في هذا الاتجاه ويطلب نشرها مسلسلة كل ثلاثاء. وكتب لهذه السلسلة عنوان: "محمود أمين يتكلم بعد صمت طويل ويخص الأهرام بهذه الرسالة" (ت12/4). وكان سليمان لا يستهدف سوى بيوت الأثرياء والمشاهير. ولا يتردد في إطلاق الرصاص على من يشعر بخطورتهم أو يرتاب فيهم، لكن يبدو أنه لا يتعمد قتلهم. كما يشعر دائماً بظلم المجتمع له وتخلي الجميع عنه. وقد اتهم صديقيه المحامي بدر الدين أيوب ومساعد مهندس يدعى محمود أمين بأنهما على علاقة بزوجته، وأن ثلاثتهم شاركوا في الوشاية به. وكان المحامي عرض على الشرطة مساعدتها في الإيقاع به، كما أعلن عن نيته في كتابة قصة السفاح، إضافة إلى اتهامه بتقاسم المسروقات مع اللص. وأثناء رحلة المطاردة ورد ذكر فتاة تتردد على ملهى "الكيت كات" تدعى آمال الفلاحة تعرف عليها اللص وعرض عليها الزواج، وكذلك جرسونيرة في المعادي اختبأ في شقتها. وبعد أن أعلن وزير الداخلية التنفيذي عباس رضوان عن مكافأة ألف جنيه لمن يساعد في القبض عليه، أدلى خفير وفلاح بمعلومات مهمة قادت الشرطة تصاحبها الكلاب إلى مخبئه في مغارة في جبل حلوان حيث قتل بعد مطاردة استمرت حوالي 44 يوماً منذ لحظة هروبه من السجن. وصدر مانشيت الأهرام كالتالي: 17 رصاصة مزقت جسد اللص القاتل. وعادة لا تنشر الجريدة "رأي الأهرام" إلا في حال التعليق على قضايا وطنية ودولية كبرى، ويوم مصرع السفاح نشرت تحت عنوان "النهاية المحتومة" ما يشير إلى الانقسام في تلقي قصة السفاح، وإن ألمحت إلى أن المتعاطفين معه أو المتعاونين معه "أفراد قليلين": "لقي اللص القاتل محمود أمين سليمان نهايته التعيسة، وهي خاتمة طبيعية لقصة كل مجرم سالب للأرواح وللممتلكات خارج على القانون". (ت10/4) الحكاية الثانية يتفق النقاد على أن قصة لص الإسكندرية كانت الحكاية المصدرية التي استلهم منها محفوظ روايته "اللص والكلاب" التي نشرت في جريدة الأهرام خلال شهري أغسطس وسبتمبر من عام 1961، أي بعد مرور 16 شهراً على مصرع محمود أمين سليمان. ثم طبعتها مكتبة مصر في 144 صفحة موزعة على ثمانية عشر فصلا. وثمة إشارة بالغة الأهمية رواها يحيى حقي في مقاله عن الرواية، قائلاً:" وكان من حسن حظي أن شهدت انفعال نجيب محفوظ بفكرة رواية "اللص والكلاب" وإن كنت لم أعرف ذلك إلا فيما بعد، ففي أيام حوادث محمود أمين سليمان. وهو سعيد مهران في "اللص والكلاب" كنت ونجيب جارين في مصلحة الفنون ونخرج معاً، فكنت أسأله أحياناً ماذا تقرأ هذه الأيام وماذا يشغلك، فكان يضحك في وجهي، يقول لي: لا شغل ولا تفكير إلا في محمود أمين سليمان". وإذا كانت أسطورة السفاح بدأت عقب هروبه من السجن، فإن أسطورة سعيد مهران بدأت عقب خروجه من السجن إثر قضاء فترة العقوبة. ولاشك أن فعل "الهروب" للانتقام ممن خانوه أشد تأثيراً من فعل "الخروج". وبدلاً من 44 يوماً من المطاردات المثيرة، كثف محفوظ أحداث الرواية في حدود أسبوعين. كما اختزل أماكنها الموزعة على عدة محافظات مكتفياً بالقاهرة الكبرى، وبدلاً من التركيز على حي محرم بك باعتباره مركز الأحداث في الحكاية الصحفية، أدخل محفوظ سعيد مهران عالمه الأثير وتحديداً أحياء القاهرة القديمة حول القلعة. ومن بين حوالي 90 مكاناً ورد ذكرها في الحكاية الصحفية، اختزل محفوظ خريطة اللص في حوالي 20 مكاناً. وبينما حفلت الحكاية الصحفية بأكثر من 150 شخصية، نصفها من رجال الشرطة والنيابة والقضاء، فإن الرواية قلصت العدد إلى حوالي 40 شخصية، أهمها سعيد مهران (محمود أمين سليمان)، الزوجة الخائنة نبوية (نوال)، الصحفي رءوف علوان (المحامي بدر الدين أيوب)، الصديق الخائن عليش (مساعد المهندس محمود أمين)، أما شخصية نور في الرواية فهي مزيج من شخصيتي آمال الفلاحة وجرسونيرة المعادي. فيما أغفل محفوظ شخصية الأب وجعل سعيد يتيماً، واستبدله بأب روحي أو رمزي هو الشيخ الجنيدي، جرياً على عادة محفوظ في تأكيد حضور المرجعية الدينية. وأضافت الرواية شخصيات أخرى لا وجود لها في الحكاية الصحفية مثل: أم سعيد، المعلم طرزان، بياظة، المخبر حسب الله ممثلاً للسلطة. لكن الملاحظة الأساسية أن معظم الشخصيات في الحكايتين كانت معارضة لسعيد مهران ومهددة لوجوده، وهي شخصيات تملك السلطة والنفوذ للقضاء عليه، بينما الشخصيات المتعاطفة معه أو المساعدة له قليلة جداً وبلا نفوذ تعيش على هامش المجتمع مثل نور والشيخ الجنيدي. وجاء وصف سعيد روائياً بشكل موجز جداً، قد لا يتجاوز جملة أو جملتين: "فوقف بين قوم بدا فيهم غريب المنظر ببدلته الزرقاء وحذائه المطاط، وزاد من غرابته نظرته الحدة الجريئة وأنفه الأقنى الطويل". (ص28). وتحمل شخصيته سمات البطل التقليدي الذي يجد نفسه متورطاً في لعبة قِوى ليس في الأصل نداً لها. ويبدو أن صراعه العميق في حقيقته ليس مع تلك القوى، بل هو صراع مع الزمن، مواجهة لماضي الخيانة، ومستقبل الخسارة المريرة، والحاضر القلق المشحون بالموت في أية لحظة. ففي إطار بحث سعيد مهران عن خلاص ما، وعدالة ما، تستمر خطوات الزمن ثقيلة وكئيبة بعد الفشل مرتين في إنجاز الانتقام، وكأن حركة الزمن تظل في امتدادها إلى الأبد دون أن تحقق العدالة والقصاص. إنه شخص مسمم يتجه بقوة إلى الماضي، وهو أيضاً مضطرب لا يعرف عن حاضره ومستقبله إلا النذر اليسير ويوظف ذلك لجلب أدوات الانتقام الموهوم. إننا أمام بطل يسير عكس عقارب الساعة ظناً منه أنه يستطيع أن يطارد الماضي مطاردة الصياد للفريسة، فإذا به ينفصل عن حاضره ووجوده، شيئاً فشيئاً، ويصبح شبحاً غامضاً، أو فريسة يطاردها الماضي:"لم يسمح الماضي بعد بالتفكير في المستقبل" (ص34). إن أزمة سعيد في جوهرها هي أزمة وجودية بسبب اغترابه و وحشته وعزلته بلا أب.. وحركته المضادة للزمن، فمن خانوه ليسوا وحدهم الكلاب، بل إن عقارب الساعة ذاتها تحولت إلى كلاب متوترة تكشر عن أنيابها للخلاص منه بينما هو يقف وحيداً كالطائر الذبيح في نشوة صوفية أو عدمية مردداً: "لا مأوى لك الساعة.. ولا أي ساعة" (ص62). الحكاية الثالثة بعد عام من نشر الرواية، قدم كمال الشيخ فيلمه "اللص والكلاب" تمثيل شكري سرحان (سعيد مهران)، شادية (نور)، كمال الشناوي (رءوف علوان)، فاخر فاخر (الشيخ الجنيدي)، صلاح جاهين (المعلم طرزان)، زين العشماوي (عليش)، وسلوى محمود (نبوية). وشارك مع صبري عزت في كتابة المعالجة السينمائية. الفيلم مدته 125 دقيقة، وتضمن أكثر من مائة مشهد، تعرض لحوالي 50 شخصية، وإجمالاً التزم الفيلم بمعظم شخصيات الرواية، لكنه قلص حضور الشيخ الجنيدي في مشهدين فقط، وجعل بياظة صاحب مقهى وليس أحد أتباع عليش، واختلق بعض الشخصيات مثل السجين مهدي (صلاح منصور). وإذا كانت الحكاية الصحفية بدأت من لحظة الهروب من السجن والرواية بدأت من لحظة الخروج منه، فإن الفيلم بدأ من فعل الخيانة ثم دخول السجن، وتمتد الأحداث لتغطي خمس سنوات تقريباً، وكلها تقع ـ أو على الأقل توهمنا بأنها تقع ـ في حي القلعة والأماكن المحيطة به، وإن كان المخرج كمال الشيخ أخبرني في حوار معه بأنه صور بعض المشاهد في الفيوم. وقد خلت شخصية سعيد في الرواية والفيلم من أية عاهة تدل على الإجرام، كما افتقد براعة محمود سليمان في التنكر، إضافة إلى تحديد حركته في حي بعينه، ما يجعل عجز الشرطة في العثور عليه غير مبرر! الحكاية الرابعة في العام 1998 قدم المخرج أحمد خضر مسلسل "اللص والكلاب"، ويقع في 17 حلقة، متوسط الحلقة 41 دقيقة، ويشمل حوالي 500 مشهد. سيناريو وحوار أبو العلا السلاموني، تمثيل: عبلة كامل (نبوية)، رياض الخولي (سعيد مهران)، هاني رمزي (عليش)، بهاء ثروت (رءوف علوان)، و رانيا فريد شوقي (نور). وإذا كانت الحكايات الثلاث السابقة بدأت من لحظة دخول السجن أو الخروج منه أو الهروب، فإن الحكاية التلفزيونية ابتعدت تماماً عن تلك اللحظة، وبدأت من مرحلة عمل سعيد في بيت الطلبة خلفاً لوالده. وبذلك فإن زمن الحكاية التلفزيونية جاء مشوشا، فقياسا على عمر سعيد استغرق ما يزيد على عشر سنوات، وقياسا على الأحداث السياسية والاجتماعية في المسلسل مثل مظاهرات الطلبة المطالبة بالحرب عام 1972 وحرب أكتوبر وصعود التيار الإسلامي وشركات توظيف الأموال والتحذير من الإرهاب، يغطي المسلسل حوالي ربع قرن من الزمان وليس أسبوعين فقط، كما في الرواية. وعلى عكس الرواية والفيلم اللذين كثفا عدد الشخصيات، فإن المسلسل جاء مشابهاً للحكاية الصحفية في ضخ عشرات الشخصيات الثانوية في مجرى الحكاية أهمها: ضبو، شلبية، والدة نور، خشبة، ومدحت. وتعد شخصية شلاطة (توفيق عبد الحميد)، امتداداً لشخصية "مهدي" في الفيلم وليس لها وجود في الرواية. وقد ظهر سعيد في المسلسل موفور الصحة، طويلاً عريضاً، لا تبدو عليه آثار الفقر أو الحرمان، شعره الأسود مصفوف بعناية ولامع معظم الوقت. وفي خمس حلقات فقط تنوعت ملابسه إلى حد كبير دون أن يتعلق ذلك بأية مهارة في التنكر كما هو الحال في الحكاية الصحفية. كما خلص الفيلم والمسلسل شخصية السفاح من الدمامه وجعلاه بوسامة نجوم السينما. على المستوى النفسي للشخصية بدا سعيد مستسلماً لقدره أكثر منه راغباً في التحدي، إلى درجة أنه يبكي بسهولة في مشهدين متتاليين، كما يوافق على تقبيل حذاء رءوف علوان. ونلاحظ أن حضور سعيد تراجع تباعاً، فبعد أن كان مهيمناً على كافة مشاهد الرواية بنسبة 100% تراجعت تلك النسبة في الفيلم إلى 81% ثم إلى 37% فقط في المسلسل الذي انشغل كثيراً بشخصيات أخرى. التلقي تكشف قراءة الحكايات الأربع عن عدم تطابقها على مستوى بنائها وشخصياتها وأزمنتها وأماكنها ورؤيتها لشخصية البطل. فالحكاية ـ إذن ـ مفتوحة على احتمالات كثيرة في إنتاجها وتلقيها، لأن كل قارئ للحكاية لا يدخل إليها كصفحة بيضاء بل يأتي مثقلاً بالخبرات والمعارف التي يسقطها عليها. وليس صحيحاً أنه يغوص بين سطورها للعثور على المعنى الذي أودعه فيها من يحكيها، بل إن هذا المعنى يظل مراوغاً ما بين قصد الحاكي وما يضيفه المحكي له وطريقة الحكي. وبالتالي تتعدد قراءات أية حكاية بتعدد قرائها. وخير مثال على ذلك تباين قراءات النقاد للرواية فهناك من صنفها باعتبارها رواية قصيرة (أنور المعدواي)، أو قصة قصيرة طويلة (يحيى حقي)، أو قصة متوسطة الحجم (ماهر فريد شفيق). وبالنسبة إلى الاتجاه الفكري والجمالي، فإن البعض اعتبرها "قصة كلاسيكية القالب رومانسية المضمون" (لويس عوض) فيما نسبها آخرون إلى الاتجاه الوجودي، ففي الرواية "جميع المعضلات الوجودية الكبرى".(عبد المنعم تليمة) فأزمة سعيد مهران وجودية من وجهة نظر أنور المعداوي، وغالي شكري وإبراهيم فتحي. وإن كان الأخير يتحفظ على الطابع الوجودي كونه "لا يتعدى بعض النواحي العرضية الشكلية". ولم يختلف النقاد في تصنيف الرواية فكرياً وجمالياً بل اختلفوا أيضاً في الثيمة الأساسية التي تعالجها، فمثلاً هناك من يرى أنها تعالج مفهوم الحرية، فقيمة القيم التي تدور حولها المعركة هي "الحرية" أو معركة المنتمي ضد قيم فاسدة لاستبدالها بقيم صالحة.(غالي شكري). بينما يشير أكثر من ناقد إلى أنها تعالج مفهوم العدالة، فهي تطرح أبعاداً فلسفية حول مفهوم العدالة وتكافؤ الفرص.(محمود الربيعي). إن اختلاف النقاد في قراءة الحكاية، يعود دون شك إلى تباين أدواتهم، ومدى قدرتهم على الإتيان بأدلة من النص تعزز تأويلاتهم، وكذلك تباين خبراتهم الذاتية في إضفاء معنى ما على الحكاية. ولا ينفصل ذلك كله عن وعيهم بالسياق الذي أنتجت فيه. فنجيب محفوظ كتب الرواية بعد عملين شهيرين له هما "الثلاثية" التي بلغ فيها ـ في رأي البعض ـ حد الكمال، حتى قيل إنه سيعتزل الكتابة ويتصوف. والثاني "أولاد حارتنا" المكتوبة بأسلوب رمزي مغاير لأسلوبه المعتاد والتي نشرتها الأهرام مسلسلة عام 1959، وصدامه الشهير مع المؤسسة الدينية التي منعتها، آنذاك. وبين هذين العملين قامت ثورة يوليو، فتحمس لها محفوظ ـ وربما تحت وطأة الحماس ظن أن أحلامه تحققت ولم يعد للكتابة جدوى ـ ثم راح يتأمل تحولاتها بعين الريبة والشك، منشغلاً في الوقت ذاته بعمله ككاتب سيناريو. ثم دشن بها أول أعماله عن مرحلة ثورة يوليو، وكأنها إرهاصة أولى بأنه مقبل على نقد وتشريح للثورة، وإن بشكل رمزي أو موارب. فالإدانة للسلطة واضحة في الرواية، ومواكبة لبلوغ عبد الناصر ذروة مجده السياسي في العام 1960 وتحتوي الرواية أيضاً على إرهاصات مهمة حول سطوع نجم شخصيات وصولية وانتهازية باعت مبادئها وكفاحها القديم بثمن بخس، تساندها أجهزة حكومية بيروقراطية مثل الشرطة والقضاء، وهي أجهزة عاجزة عن تحقيق حلم العدالة مثلما عجز سعيد مهران نفسه عن الانتقام.. وأيضاً ثمة مرجعية دينية تثير من الألغاز أكثر مما تنجز من حلول. فالنص إذاً ينتسب إلى مؤلف صمت سنوات متأملاً العهد الثوري الجديد، مراهناً عليه في تحقيق ما ظل يحلم به، إلا أنه أدرك إخفاق الحلم واستمرار البنية السياسية الفاسدة ذاتها على نحو ما. هذا الرأي يؤيده كلام محفوظ نفسه في رسالة إلى خالد محمد خالد حيث يقول: "الحقيقة أنني كنت في ظروف سنة 1959 قد بدأت أشعر بشيء من الخيبة بالنسبة لثورة يوليو 1952، فهي قد جاءت وحققت أعمالاً عظيمة، ولكن بدأنا نسمع كثيراً: اليوم قبض على فلان، اليوم يعذبون فلاناً، وفيه ناس بتستفيد فوائد كبيرة جداً إلى أن أصبحوا أكثر من الإقطاعيين، وأشياء من هذا النوع، وبدأ الواحد بعد الفرحة الأولى يرمش شوية" (إبراهيم عبد العزيز). في المقابل اختلف سياق إنتاج المسلسل وخرج كلياً من مرحلة عبد الناصر وركز إدانته على مرحلة السادات، وعن هذه المسألة قال مخرجه أحمد خضر:"لا أدين النظام ولا السادات بل أدنت الإرهاب الموجود في تلك الفترة.. وهناك مشهد حذفته الرقابة نوضح فيه أن السادات هو الذي أعطى الفرصة لهؤلاء الإرهابيين، وهذا ليس إدانة له بقدر ما نوضح إنه "انضحك عليه".. بسبب طيبته وحسن نيته.. وإذا كانت الرواية أدانت نظام عبد الناصر والمسلسل أدان نظام السادات فهذا ليس خروجاً على فكر محفوظ. مرحلة عبد الناصر لا تهمني في المسلسل لأنني خرجت منها. والمسألة ليست إدانة بقدر ما هي تساؤل عن الجماعات الإسلامية التي كانت في السجون، من الذي أخرجها وعلى أي أساس خرجت؟!". حكايات أخرى إذا كانت اللغة نظام من العلامات والرموز التي تشير إلى وقائع وأفكار، فإن الحكاية أيضاً هي نظام من العلامات التي تشير إلى حكايات أخرى سابقة عليها، قد تكون ظاهرة في متنها أو مضمرة ومخفية. ومن البدهي، في قراءات النقاد للرواية، أن الإحالة الأساسية كانت للحكاية الصحفية، باعتبارها الحكاية المصدرية الواقعية. لكن السؤال الذي يفرض نفسه:هل هي الحكاية المصدرية الوحيدة؟ ألا يمكن أن تكون هناك حكايات مصدرية أخرى لكنها مضمرة؟ فعلى سبيل المثال أشار لويس عوض إشارة عرضية إلى إمكانية أن تكون شخصية سعيد مهران امتداداً لشخصية البطل الشعبي أدهم الشرقاوي، وتلقف سيد خميس تلك الإشارة دون أن يشير إلى صاحبها! محاولاً عقد مقارنة بين البطلين، لكنه وقع في فخ التعميم. ولو جاز لنا التنقيب عن حكاية مصدرية أخرى لسعيد مهران، فمن باب أولى ستكون حكاية فيلم "جعلوني مجرما" وليس أدهم الشرقاي. قد يبدو ذلك غريبا للوهلة الأولى، لكن لو عرفنا أن محفوظ كان أحد المشاركين في كتابة الفيلم وأنه بحسب ما ذكره هاشم النحاس لم يكن راضياً عنه رغم النجاح المدوي. كذلك لو عقدنا مقارنة مباشرة بين العملين سنتأكد من صحة تلك الفرضية بدءاً من رمزية اسمي البطلين:"سعيد مهران" و"سلطان شريف" وهما على الوزن نفسه معكوساً. وكلاهما لديه هذا الشعور بأن المجتمع جعله مجرماً وأنه كان يستحق مصيراً أفضل، وكلاهما احتمى بالشيخ كمرجعية دينية (يحيى شاهين وفاخر فاخر) ووجد في فتاة الليل والملاهي (شادية وهدى سلطان) ملاذاً حنوناً، وأخيراً انتهى مصيرهما بشكل مأساوي. لذلك في ختام "جعلوني مجرماً" يصرخ سلطان (فريد شوقي) في وجه الشيخ حسن وحبيبته "ياسمينا": "عدالة المجتمع اتأخرت عني كتير، سلطان غني عن البراءة، سلطان في إيده مسدس واتعلم ازاي يدوس ع الزناد، سلطان قلبه اتحجر ومش ها يرحم حد أبداً". لو حذفنا اسم سلطان وحل بدلاً منه اسم "سعيد مهران" هل يتغير شيء في الخطابين؟ إنه المونولوج نفسه يتردد صداه مرة أخرى في "اللص والكلاب": "بهذا المسدس أستطيع أن أصنع أشياء جميلة على شرط ألا يعاكسني القدر. وبه أيضاً أستطيع أن أوقظ النيام فهم أصل البلايا. هم خلقوا نبوية وعليش ورءوف علوان" (ص72). إذن لا تتوقف الحكاية بالضرورة على حكاية مصدرية وحيدة، كما إنها تشمل العديد من الحكايات الأولية والثانوية مذابة في نسيج الحكي. ومن هذا المنطلق رد النقاد شخصية البطل سعيد مهران إلى حكايات عالمية مثل رواية"الغريب" حيث تكشف المقارنة بين بطلها "ميرسول" وسعيد مهران عن هذا البعد الوجودي، مع الفارق بينهما، فالتمرد عند كامي هو تمرد أصيل أنبتته الحضارة الغربية في مرحلة التمزق. أما تمرد سعيد فهو شكلي لأنه منتم من حيث الجوهر، وينطلق في تمرده من كون بناء من القيم قد انهار أمام عينيه. (غالي شكري) أو رواية "سن الرشد" لسارتر، فمذاقها الوجودي يفوح منه عطر سارتر الساري فيها(أنور المعداوي)، أو رواية "الأيدي القذرة" لسارتر أيضاً، حيث يُلقى بالإنسان في هذا العالم الغريب دون عزاء كما تلفظ بوابة السجن "سعيد مهران"(إبراهيم فتحي) بينما يقارن لويس عوض بينها وبين "البؤساء" لفيكتور هوجو، ويعتبر سعيد مهران هو جان فالجان القرن العشرين، اللص شبه المثقف الذي يطارده المجتمع. في المقابل، إذا تعاملنا مع الرواية كنص مركزي، فما أكثر الحكايات اللاحقة التي اتكأت عليها، فبالإضافة إلى فيلم كمال الشيخ ومسلسل أحمد خضر، أخرجها حمدي غيث في مسرحية مطلع الستينيات من بطولة صلاح قابيل، وعالجها محسن زايد عام 1975 في مسلسل من13 حلقة، إخراج إبراهيم الصحن وتمثيل عزت العلايلي ورجاء حسين، من إنتاج مؤسسة الخليج للإنتاج الفني التابعة لتلفزيون دبي. ثم أعاد المخرج أشرف فهمي إنتاجها في فيلم "ليل وخونة" عام 1990، سيناريو وحوار أحمد صالح، تمثيل نور الشريف ومحمود ياسين وصفية العمري. كما استلهمها الشاعر سيد حجاب في ديوانه "صياد وجنية"(1966) تحت عنوان "أربع قصايد من نجيب محفوظ" حيث قدم صورة لسعيد مهران تدمجه في المخيلة الشعبية كشخصية أسطورية تجسد حلم العدالة والمساواة، وأضاف قصته إلى قصص أدهم الشرقاوي وياسين وبهية. نخلص من ذلك إلى أن الحكاية تبقى مفتوحة إلى الأبد إنتاجاً وتأويلاً وإعادة إنتاج، كما تبقى متشابكة مع تاريخ لا نهائي من الحكايات. وتلك المساهمة البسيطة هي محاولة لإدراك عملية بناء النص الروائي لدى محفوظ وتحولاته، وتعميق الوعي به انطلاقاً من مقولة بسيطة جداً مفاداها: لا أحد ينزل نهر الحكاية مرتين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ الأفكار الواردة في هذا المقال هي ملخص كتاب صدر حديثا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة كتابات نقدية تحت عنوان "نجيب محفوظ وتحولات الحكاية".
#شريف_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صدور نجيب محفوظ وتحولات الحكاية بمناسبة مئويته
-
تفاحة الديمقراطية المسمومة
-
الثورة قامت.. ونامت
-
لا تخفي علاماتك
-
الدنيا على مقاس -سلفي-
-
مائة ألف شاعر في كل عالم افتراضي.. يهيمون
-
آن لك أن تتقيأ.. في دول اللاجئين
-
ملاحظات حول اللحى الخمس
-
نادراً ما يموت كاتب عربي حر.. هذا هو فاروق عبد القادر!
-
فتاة أوباما
-
أسامة أنور عكاشة.. مؤسس الرواية التلفزيونية
-
الكاتب العربيد والقارئ القديس
-
مصطفى صفوان: السلطة المحتكرة لا تحب الحق إلا باعتباره من اخت
...
-
ذكريات قد لا يعرفها نصر حامد أبو زيد
-
-مثلث العشق- مجموعة قصصية جديدة للكاتب شريف صالح عن دار العي
...
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|