|
لقاء الأصحاء في مستشفى هنري موندور من حول سرير أفنان القاسم
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 3571 - 2011 / 12 / 9 - 19:02
المحور:
الادب والفن
تلك الليلة لن أناسها... كان الألم يبرق في جسدي، ويرعد، وكانت الصاعقة تدكني حتى أولى أضواء الفجر. بعد أن قطعت كل أمل في سكون العاصفة، أخذوني إلى مستشفى هنري موندور، الشهير بأطبائه النطاسيين وتجهيزاته الحديثة. كان المستشفى إذن مهمًا، وأهلي حريصين كبير الحرص على صحتي. سألني الطبيب أسئلة كثيرة، ليبدي لي مهارته، ويعبر أحسن ما يكون عن ضميره المهني، ليمسك بالداء، ويجد الدواء. في الأخير، قال لي إنه (( عرق النَّسا )). - ما يسببه لك من ألم يبدأ من ظهرك، ويغوص في ساقك اليسرى حتى أصابع قدمك. سنبقيك عدة أيام. في الغرفة رقم ألف وواحد، كان مكاني يوجد بين سريرين آخرين. إلى يميني، كان فرنسي هرم تدعوه الممرضة بمسيو روسو، وإلى يساري، جزائري عمره من عمري اسمه عزيز. ما أن بدأت بأخذ المسكنات حتى شعرت بالتحسن، ورغبت في مغادرة المستشفى في الحال، إلا أن ما أولانيه الطبيب من اهتمام كبير جعلني أتبع تعليماته كلها على الرغم مني: عملت راديو وتحاليل، وأخذت حبوبًا في اليوم أربع مرات. بعد مضي ثلاثة أيام، كنت قد عدت إلى جودة وضعي الصحي. لم يعد برق الألم ورعده سوى ذكرى من الذكريات الرديئة، ورغمًا عن ذلك، ركب الطبيب رأسه عازمًا على ضربي بإبرة في نخاعي الشوكي، وقضى بذلك بعد عدة أيام. خلال ذلك الوقت، توصلت إلى معرفة النزيلين اللذين كانا معي في نفس الغرفة بشكل أفضل. لم يعد مسيو روسو ينهض في الليل صارخًا: اقصفوهم! اقتلوهم! كان يبدو في صحة جيدة، تمامًا مثلي، ومثل عزيز. كانت قد سقطت على يد عزيز قطعة حديد في الورشة التي يعمل فيها، فبقيت أصابعه مشلولة. وكان عزيز يبقى في الممرات في ذهاب وإياب أو في غرف المرضى الآخرين، كان يمضي وقته في التنقل من غرفة إلى غرفة حتى ساعة الزيارات، فيعود إلى سريره، ويتمارض. عندما يغادر أهله، كان ينهض، ويأتي معي إلى الكافتيريا لنأخذ قهوة. عاد مسيو روسو في الليل إلى الصراخ: اقصفوهم! اقتلوهم! ثم هدأ، فأعلمني عزيز أن مسيو روسو كان في شبابه ضابطًا على رأس كتيبة مدفعية في الجزائر، وكان قد دخل المستشفى تحت ذريعة عظمه الذي يتفتت، بينما عظمه بقوة عظم الجن! في الواقع، لم تكن زوج ابنه الأوحد تريده، فكان المستشفى أحسن حل بانتظار أن يجدوا له مكانًا في مأوى للعجزة. - ولماذا يصرخ الآن في الليل، هل صار مجنونًا؟ - لقد صيروه مجنونًا. - لقد صيروه مجنونًا! - إنه دواؤهم. - ماذا؟! - إنه دواؤهم الذي يفعل هذا! ضحكت في سري على عزيز: أهو الدواء أم ماضيه البعيد الذي يدك له الروح كالبرق المفاجئ؟ في الليلة التالية، صرخ مسيو روسو صراخًا حادًّا مديدًا، وقال: اقصفوهم! اقتلوهم! فغرزت الممرضة في جسده إبرًا شتى جعلته ينام إلى ما قبل منتصف الظهر بقليل. عندما نهض، كان يأسن، فهرع عزيز لينادي الممرضة، وهو يزجر مسيو روسو، ويرغي ويزبد. عند ساعة الزيارات، تظاهر عزيز بالمرض. توارى في أعماق سريره، حتى أنني سمعته يئن. كان يهيئ نفسه لاستقبال عائلته، وبالمقابل، منذ وصولي المستشفى لم يزر مسيو روسو أحد، لا ولده الأوحد، ولا زوج ولده الأوحد، ولا أحد. اقترب مني في اللحظة التي غادر فيها زوار عزيز مع عزيز الغرفة، وأخبرني بصوت متهدج أن ابنه الكادر العالي في مصنع سيارات كان سيأتي ليراه، وعبر عن قلقه فيما يخصه. بدا لي كنخلة جفت على رمل الجزائر، ترفض الأمواج نقلها مع فضتها. ثم سمعته يتأوه ألمًا كما لو كان البرق يدقه في أعمق نقطة من نفسه: - لا بد أن ولدي بقي إلى جانب زوجه التي عملت حادثًا، تحطمت سيارتها تمامًا، وقُتلت الصغيرة آن، أما هي، فقد خرجت من الحادث نصف مشلولة. آه، أية مصيبة! آه، أية مصيبة! رأيت دمعة تضيع في ثلم خده، بينما كان يردد: آه، أية مصيبة! آه، أية مصيبة! تركني، ورمى بنفسه على السرير. ثم انطوى على نفسه كطفل في الثالثة، وظننت سماعي له يبكي. قبل انتهاء الزيارات بقليل، وصل ابن مسيو روسو. انبثق من الضوء الأصفر للممر كشبح يحاول الابتسام، وعبر من أمامي كغيمة من السائل المعقم. كان مسيو روسو يشع من الفرح كما لو كان هو نفسه الابن لولده. أكل حلوى وشكولاطه، وارتدى الروب دي شامبر الحريري العتيق الذي اهترأ دون أن يُضيع مع ذلك أبهته العسكرية، ورافق ابنه. بعد حوالي عشر دقائق، عاد مع ممرضة وضعته في السرير، وذهب مسيو روسو نائمًا دون أن يأخذ العشاء معنا. في صباح اليوم التالي، استيقظ مسيو روسو ملوثًا، فشتمه عزيز. دفعه إلى الحمام، وأمره بالاغتسال. نظفت الممرضة سريره، وشتمته هي الأخرى، وهي تطلق صيحات الاستنكار تارة، وتارة صيحات الاستهزاء. في المساء، عندما ذهب عزيز ليرافق زائريه إلى باب الخروج، اقترب مسيو روسو من سريري. كان غاضبًا، نخلة تتوق إلى الفضة في بحر الجزائر. قال لي إن عزيزًا هذا بلا حياء، وإنه يحقد عليه. ووكل إليّ أنه في ليلة قبل وصولي، زلق بنفسه في سريره، لكنه دفعه دون لين، وأخذ يصيح بالممرضة: اقصفوهم! واقتلوهم! وحسب ما قال لي إن المدفع الذي كان جنوده يستعملونه سيدمر عزيزًا ذات يوم. سينتقمون له، وسينتقمون لابنه الأوحد ولزوجته المشلولة وللصغيرة آن التي كانت هذه الأخيرة قد قتلتها. حاولت تهدئته، لكنه لم يطعني. في تلك الليلة، بحثوا عنه في كل مكان إلى أن وجدوه في غرفة الموتى، وهو يأسن في نومه، وأمضى باقي الليل صارخًا: اقصفوهم! اقتلوهم! فأتوه بشتى أنواع الإبر التي زرعوها في جسده، ولم ينم عزيز إلا بفضل قرص منوم. لم ينهض مسيو روسو في صباح اليوم التالي، فنادوا على الطبيب الذي أثبت وفاته. لم يبق سوانا، أنا وعزيز، في الغرفة، إلى أن جاءوا بشاب أجمل من قمر وأقوى من إله. كان عزيز سعيدًا لأن الطبيب سينقذ يده من الشلل عما قريب، لم يكن يعرف بعد أنه سيزرع له إبرًا في منبت الأعصاب، فرأيت بعينيّ، عبر عزيز، ما سيفعلونه فيّ، ودقني برق الرعب. أردت الهرب كمسيو روسو، فأنا استعدت صحتي، وذهب عني الألم تمامًا. أما عزيز، فبعد الإبرة، بقي لا يمكنه تحريك أصابعه، وامتد الشلل إلى ساعده، إلا أن الطبيب شجعه، وقال له: - إبرة أخرى، وستبرأ. عرفت اليد الثانية المصير نفسه لليد الأولى، بسبب خطأ في تحديد موضع العصب، وكان من أثر الإبرة الثالثة شلل ساعده الأخرى. ثم تركوا عزيزًا الذي بقي ملقى في سريره دون حراك، وانقطع أهله عن زيارته. عندما جاء دوري، أخذت بالصراخ: اقصفوهم! واقتلوهم! فخدروني، وقلبوني على بطني، وغرزوا في نخاعي الشوكي الإبرة المهلكة. عادت كل صواعق آلامي الأولى، وتكرر ضرب الإبرة، وصحتي راحت تتدهور. كانت تسوء أكثر فأكثر مع كل إبرة جديدة. وضعوني في قفص من الجبس، وجعلوني أخرج من المستشفى نهائيًا. في قصة كنت قد قرأتها منذ زمن بعيد، كان طائر يبدي رفضه للموت بضرب جناحيه في قضبان القفص دون توقف... لكنني أنا، كنت مقطوع الجناحين.
باريس/ مارس 1987
* من "حلمحقيقي" المجموعة القصصية الرابعة لأفنان القاسم بمناسبة نشره للأعمال الكاملة.
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وقائع نشرة مكثفة عن التلفزيون الفرنسي
-
الفتاة الممنوعة
-
وحيد وجوديت
-
ناتاشا والفنان
-
العاطل عن اليأس
-
انتحار الشاعر
-
أطول ليلة في الحي اللاتيني
-
القصيدة-القصة الأولى في الأدب العربي: الإبحار على متن قارب ه
...
-
محمد حلمي الريشة وعلبة أسبرين
-
39 شارع لانكري
-
الابن والبحر
-
الله والنقود
-
الطفل الآتي من هناك
-
حلمحقيقي
-
حبيبتي في صنعاء
-
حرير دمشق
-
إرادة الورد
-
الهامشيون
-
ساعة الصفر
-
على طريق دمشق
المزيد.....
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|