|
فدوى طوقان شاعرة الحرية .. بقلم المربي علي خليل حمد
أبو زيد حموضة
الحوار المتمدن-العدد: 3571 - 2011 / 12 / 9 - 01:01
المحور:
الادب والفن
مشروع كتيب مقدم للجيل الجديد من المنتدى التنويري الثقافي الفلسطيني ( تنوير ) حول فضائل الشاعرة فلسطين المحتلة نابلس 8/12/2011
مقدمة ولدت فدوى عبد الفتاح طوقان في مدينة نابلس عام 1917 ، وتلقت تعليمها الابتدائي في مدرسة الفاطمية أوّلا، ثم العائشية من بعد؛ ولم تتجاوز مدة دراستها خمس سنوات، إذ حرمها بعض أهلها من مواصلة تعليمها، وفرضت عليها الإقامة الجبرية في المنزل. انضافت هذه المعاناة لدى الطفلة فدوى إلى معاناتها السابقة من اعتلال صحتها وجفاء أهلها لها، فغلبتها الوحشة على نفسها واستبدت بها الكآبة إلى أن عاد شقيقها إبراهيم من الجامعة الأميركية ببيروت، فرق قلبه لها، وحنا عليها كما يحنو على الأخت الأخ، وعلمها قواعد الشعر والنحو والبلاغة؛ وعندما لمس لديها الحسّ الموسيقيّ المرهف، شجعها على كتابة الشعر، وكان نجاحها في ذلك باهراً، أثار دهشة معلمها وغيره من شعراء ذلك العهد. في ثلاثينيات القرن الماضي، كتبت فدوى طوقان قصائد متينة السبك مقلدة كبار شعراء العصر العباسي، وبعثت بها إلى المجلات الأدبية في القاهرة وبيروت موقعة بأسماء مستعارة، فقبلتها بصدر رحب مما عزز ثقة فدوى بشعرها، ومن ثم بنفسها. وفي عام 1941 توفي إبراهيم، وكان حزنها عليه شديدا، وفيه كتبت أول كتبها وهو "أخي إبراهيم"؛ وبموت إبراهيم عادت فدوى تعيش مرة أخرى دون ظهير في مواجهة العزلة والحرمان، إلا من الشعر الذي رافقها إلى آخر أيام حياتها. استلزم الأمر بعد وفاة إبراهيم أن تعتمد فدوى على نفسها في اختيار ما تقرؤه من شعر، بحيث يلبي حاجاتها النفسية في الحب والحرية، فوجدته في شعر المهجر ولاسيما عند إيليا أبي ماضي، وفي شعر مدرسة أبولو وبخاصة عند علي محمود طه؛ وما من شك في أن ديوانها الأول "وحدي مع الأيام" ( 1952) قد تأثرت قصائده بدرجة كبيرة بهؤلاء الشعراء الرومانسيين في مضامينه وأشكاله جميعا، وقد حظيت أشعار فدوى الرومانسية هذه بالإعجاب والثناء من قبل بعض هؤلاء الشعراء ومن النقاد أيضا، وكانت بينهم وبسين فدوى طوقان مراسلات متبادلة وبخاصة مع الناقد المصري أنور المعداوي. بعد وقوع نكبة فلسطين عام 1948 ، وتهجير مئات الآلاف من عرب فلسطين من بيوتهم وممتلكاتهم، ساء الوضع الاقتصادي وزاد تفاقمه سنوات المحل في أوائل الخمسينيات؛ وأدى ذلك إلى ضرورة مشاركة المرأه الفلسطينية الرجل في العمل وصنع القرار في العائلة؛ وقد أتاح هذا للمرأة قدرا من التحرر انعكس في انتشار ظاهرة السفور وحرية التنقل خارج المنزل؛ وأصبح بوسع شاعرتنا المشاركة في الندوات والاجتماعات الثقافية التي شهدتها بعض مدن الضفة آنذاك. خلافا لديوان "وحدي مع الأيام" الذي هيمن عليه الإحساس بالعزلة والكآبة العميقة، كان ديوانها الثاني "وجدتها" (1956) مختلفا تماما، هللت فيه لما تحقق لها من حب وحرية؛ وكذلك امتاز الديوان بغلبة شعر التفعيلة الذي أصبح الشكل السائد في شعرها منذئذ. وفي عام 1960 صدر ديوانها "أعطنا حبا" الذي أعلنت فيه خيبتها من تجارب الحب السابقة؛ وقد تكون هذه الخيبة أحد العوامل التي حفزتها على السفر إلى إنجلترا لدراسة الأدب الإنجليزي هناك عام 1962 . قد يمكن القول إن فدوى طوقان وجدت نفسها مرة أخرى في رحلتها هذه، ففي الفصل الذي كتبته في مذكراتها "رحلة صعبة رحلة جبلية" عن إقامتها في أكسفورد بإنجلترا، يجد القارئ فرحا غامرا ينبثق من كل سطر فيه، ليملأ حواسه وقلبه وروحه جميعا. ولكن الدهر الذي يسرّ بعض الناس أحيانا، لا بد أن يتبع ذاك السرور بغصة أليمة كما يقول سيد الشعراء، وقد كانت هذه الغصة عند فدوى موت شقيقها نمر في حادث سقوط الطائرة التي أقلّته مع إميل البستاني في عرض البحر. وفي رثاء شقيقها نمر كتبت قصيدتها الحزينة الغاضبة "أمام الباب المغلق" التي جعلتها عنوانا لديوانها الصادر عام 1968 . بعد رجوع فدوى من إنجلترا إلى نابلس، عملت على تحقيق حلمها القديم بالحياة خارج "القمقم الحريمي" أو البيت الأثري، بيت العائلة، الذي ذاقت فيه مرارة الظلم والحرمان، فابتنت بيتا صغيرا في مكان ناءٍ عن مباني المدينة "على الطرف الغربي من حضن جبل جرزيم"، وأحاطته ببستان جميل زرعت فيه شتلات السرو والصنوبر بنفسها، وتعهدتها برعايتها إلى أن كبرت وأصبحت موئلا للطيور. لم تكد فدوى تهنأ بالعيش المستقل في بيتها الجديد، وتستمتع بحديقته الغضة، وتشرع في رسم لوحاتها الشعرية التي تستعيد بها ذكريات سعادتها في رحلتها العذبة، حتى أخذت العاصفة الهوجاء تزمجر في الأفق مع إطلالة عام 1967. ولقد كان وقع هزيمة حزيران عام 1967 واحتلال الضفة، شديدا بالغ الشدة في نفس فدوى طوقان، فقد تحولت من شاعرة إلى شاعرة أخرى مختلفة تماما، تحولت من شاعرة يغلف روحها ضباب الهم الخاص إلى شاعرة تكاد تضيء نار الهمّ العامّ بين جوانحها، كما أراد لها أخوها المناضل اليساري رحمي طوقان، وكما أراد لها شعراء اليسار الفلسطيني: درويش والقاسم وزيّاد وغيرهم. في الأعوام القلائل التي أعقبت احتلال 1967، أصدرت فدوى ديوانها "الليل والفرسان"، وفيه تشير كلمة الفرسان إلى الشهيد مازن أبو غزالة ورفاقه، وديوان "على قمة الدنيا وحيدا" الذي يشير إلى الشهيد وائل زعيتر الذي اغتاله الموساد الإسرائيلي في روما عام 1972. وقد أودعت فدوى هذين الديوانين درر أشعارها حول الفدائيين والشهداء والأسرى وموضوعات أخرى ذات صلة بمقاومة الاحتلال. وفي عام 1985 صدر الجزء الأول من مذكراتها بعنوان" رحلة صعبة رحلة جبلية"، وهو عبارة عن سيرة ذاتية تغطي الفترة الممتدة بين سنة مولدها وما قبل حزيران 1967، ويشتمل الكتاب، فضلا عن مجريات حياتها، على وصف وجيز للأحوال الاجتماعية والسياسية في نابلس بوجه خاص وفلسطين بوجه عام. وقد تميز الكتاب بالصراحة والجرأة في عرض الحياة الخاصة للشاعرة، وحاز على التقدير والإعجاب من قبل القراء والنقاد، وفيه يقول سميح القاسم : "منذ أيام الراحل العظيم طه حسين، لم تبلغ سيرة ذاتية ما بلغته سيرة فدوى طوقان من جرأة في الطرح وأصالة في التعبير وإشراق في العبارة." وفي عام 1987 صدر ديوانها "تموز والشيء الآخر"، وفيه عاد الهم الخاص للبروز إلى جانب الهم العام، فتجد فيه قصيدة الطفلة الشهيدة لينا النابلسي إلى جانب قصيدة "مراهقة"، وقصيدة "النورس ونفي النفي" المهداة إلى أرواح الشهداء دلال المغربي ورفاقها إلى جانب "مبارك هذا الجمال والعذاب". وتمر سنوات الانتفاضة التي كتبت فدوى فيها قصيدة "شهداء الانتفاضة"، حتى إذا جاء عام 1993 صدر الجزء الثاني من مذكراتها بعنوان "الرحلة الأصعب"، وهو يغطي السنوات القليلة التي أعقبت عام 1967، ويتحدث عن نشاط فدوى السياسي والثقافي الوطني المقاوم للاحتلال، وعن العلاقة الحميمة بينها وبين الشعراء من عرب 48، وأخيرا وليس آخرا قصيدتها الغاضبة "من صور الاحتلال الصهيوني آهات أمام شباك التصاريح"، وفيها تصف كيف شتمها ومن معها الجندي الهجين بقوله: "عربٌ فوضى , كلاب ..." وفيها تقول : ألفُ هندٍ تحتَ جلدي جوعُ حقدي فاغرٌ فاهُ سوى أكبادِهم لا يُشبعُ الجوعَ الذي استوطنَ جلدي وقد وجد غلاة الشوفينيّين من اليهود في هذه القصيدة الفرصة لمهاجمة فدوى ومعاقبتها بادّعاء أنها تحرض على سفك الدم؛ وسرعان ما ردت فدوى بأنْ طالبتهم بقراءة قصيدة باركوخبا، لشاعرهم المفضل حاييم بياليك، التي لم يجدوا حرجا في قراءتها ونشرها، وفيها دعوة صريحة إلى شرب دم الأعداء.. ولم تعدم فدوى مدافعين عنها من قبل بعض الشعراء والكتاب في اليسار اليهودي؛ وتشغل رسائل هؤلاء وردود فدوى على تلك الرسائل التي يتغلب فيها الجانب الإنساني على التعصب القومي ـ تشغل حيّزا كبيرا من هذا الجزء من المذكرات. في عام 2000، صدر الديوان الأخير لفدوى طوقان، وهو ديوان صغير بعنوان "اللحن الأخير"، يتضمن بضع قصائد ومقطوعات، تبرز فيها تساؤلات فدوى وتأملاتها في موضوعاتها الأثيرة: الحب، والحياة، والحرية، التي شكلت جُلّ اهتمامات فدوى طوقان في تجاربها السابقة. وأخيرا لا بدّ من الإشارة إلى موضوع هذا الكتاب، فهو ليس حديثا عاما عن فدوى طوقان، كما أنه ليس نقدا أدبيا لإنتاجها الشعري أو النثري، وإنما اختصّ الكتاب بتبيان القيم والاتجاهات التي وجهت فكر فدوى وكتاباتها وسلوكها، كما يلمح القارئ الكريم من عنوان الكتاب نفسه:"فدوى طوقان: شاعرة الحرية والتحرير"، وهماـ أي الحرية والتحريرـ قيمتان أساسيتان، وربما القيمتان الأساسيتان، الموجهتان لإنتاجها الفريد. كما لا يفوت المؤلف، هنا، أن يتقدم بالشكر الجزيل لمنتدى التنوير بنابلس، لتفضله بإدراج هذا الكتاب ضمن سلسلة الكتب التي يصدرها في سبيل نشر الفكر التنويري في الوطن والشتات. المؤلف البيئة البيئة الطبيعية – كالشعر- ملاذ جميل اعتادت فدوى طوقان أن تأوي إليه كلما جاش في صدرها الإحساس بالقهر الأسري أو الاجتماعي؛ وتتمثل هذه العلاقة التي تكاد تكون سببية بين الإحساس بالقهر واللياذ بالبيئة في أكثر من موضع من كتابها " رحلة صعبة رحلة جبلية "، ومن ذلك قولها (ص ص. 45-46) : "كان الإحساس بالحرية والانطلاق بعيدا عن جو البيت الأثري المختنق بالمحظورات وبالأوامر والنواهي التي لا أول لها ولا آخر، كان ذلك الإحساس بالحرية يملؤني بفوحان الحياة... ولقد نشأت أواصر صداقة حميمة بيني وبين أشجار تلك المنطقة وممراتها الضيقة ومنعطفاتها الرطبة، فعايشتها كلها بألفة وحب عميقين... وهكذا كانت تنطلق طفولتي بكل تلقائيتها النابضة لتعانق الدنيا البكر الجديدة حيث عالم الخضرة ينمو نموا حرا لا تحد من حريته أية حواجز. ولقد كنت أحب تلك الفوضى في نمو الأشجار إذا صح أن أسمّي الحرية فوضى. وكنت أحدق في الطبيعة من حولي كما يحدق الرضيع في وجه أمّه إذ هو يكتشفه ملمحا ملمحا يوما بعد يوم ." وفيما بعد أصبحت رفيديا هي البيئة الأحب إليها، وفي ذلك تقول (ص. 130): "كان جوعي إلى الهدوء والصمت والعزلة جوعا دائما لا ينتهي، وحين كان يتاح لي سرقة مشوار إلى كروم الزيتون على طريق رفيديا، القرية الصغيرة الخضراء، كنت أجلس في ظل زيتونه كبيرة، أعبّ من الصمت والهدوء، وأحلم بامتلاك كوخ خشبي صغير يقوم على أحد تلك الكروم أستقل فيه بحياتي." هذه النشوة الروحية الغامرة بجمال الطبيعة في رفيديا ورأس العين لم تدم طويلا؛ فقد ذهبت بها أيدي العمران الفولاذية التي اجتثت كروم الزيتون الخضراء فيها؛ ووشّحت ذكريات فدوى عنها بالحزن والأسى؛ وقد أشارت فدوى إلى ذلك في كتاب "ظلال الكلمات المحكية" (ص ص. 45-46) : " لكن مع توسع العمران على حساب الشجر، تمّ قطع شجر كثير. رأس العين كانت كلها بساتين وفواكه ولوز وجوزـ صارت كلها شوارع وأسفلت وشاحنات... تغيرت كثيرا، لكنني أظل أحبها، يؤسفني أن قطع الأشجار تمّ على حساب جمالية المكان. على الأقل، كان بالإمكان إقامة مشاريع إنتاجية بدلا من هذه الفيلات الحجرية " "طريق رفيديا قبل العمران كانت كلها شجر وزيتون. من نابلس حتى رفيديا كنت تظلين ماشية وأنت محاطة بالزيتون والسّرو. مع هذا العمران لم يعد هناك مكان للمشي، ومع كل هذه السيارات. أحزن على هذه المنطقة التي أنا شغوفة بها، وكتبت عنها قصائد "مع المروج"، و" أوهام الزيتون". كنت في مرحلة رومانتيكية في الصبا والشباب، كنت في قهر. الحرية ليست مطلوبة للسياسة فقط. إنها حرية الوجدان والإحساس." في المقابل، ترسم فدوى طوقان صورة مشرقة للريف والبيئة الطبيعية في إنجلترا بما يمكن اعتباره رسالة بيئية مؤثرة؛ فهي تقول في "رحلة صعبة رحلة جبلية" (ص. 180) : " لقد اكتشفت أن الريف في كل جزء من انكلترا قريب من المدينة أو البلدة، فهو يعطي مباهجه بسخاء ليتمتع بها كل الناس. هناك يجد رجل المدينة راحته، كما أن ساكن الريف يحب الروائع المحيطة به ويحميها بالحفاظ عليها. إن الخضرة هي فرح الناس في انكلترا، والغابات في الريف من أهم ملامح البيئة الطبيعية’. إنها طبيعة يحرصون على الحفاظ عليها كل الحرص." وتقول (ص. 204) : "قيل لنا إن لندن العظمى ابتلعت الضواحي المحيطة بها، فالعمران قد ابتلع الأرياف، ومع ذلك لم تبد لندن لعيني مجرد عمائر ضخمه وشوارع مكتظة بالمخازن التجارية، فقد رأيت الحدائق التي تبلغ مساحتها مئات الدونمات تنتشر في قلبها، والأشجار السامقة تظلل الأحياء والدروب، ناهيك عن حدائق المنازل والحدائق الصغيرة هنا وهناك." كان الحس البيئي عند فدوى طوقان عميقا وعميقا جدا؛ فهو لم يتوقف عند إعزاز البيئة والاستمتاع بها، بل إنه تجاوز ذلك إلى السلوك العملي بالحفاظ على البيئة وتنميتها ففي حين تقول (ص. 180) "ما أقوى إحساسي بالطبيعة وما أشد حدّته. لا أزال منذ طفولتي أندمج فيها وأشعر كأنني جزء منها، أتخيلها كائنا حيّا وأحسن بدبيبها ونبضاتها." تقول (ص. 202)بشأن منزلها الجديد : مع إطلالة يوم عيد الشجرة مضيت أغرس حول الدار شتلات السّرو والصنوبر، العامل يحفز وأنا أزرع، ورحت أراقب نموها يوما فيوما. أرعاها وأسقيها وأقيس مدى أطوالها كل بضعة أ،سابيع، وكنت سعيدة فرحة بسرعة نموها. وفي خلال عامين بدأت فرق صغيرة من الطيور تعرف طريقها إلى شجيرات البستان الذي أصبح الآن يضحك ضحكاته النضرة الخضراء، ناهيك عن ضحكات الزهور المختلفة الأنواع والألوان." "هذه الملاحظة، ملاحظة اقتران الطائر بالشجرة اتخذت فيما بعد بعدا وطنيا في قصيدتي "الطوفان والشجرة" التي كتبتها بعد حزيران 1967 ، فقد حملت كلمتي الطير والشجرة فيها دلالات تشير من بعيد إلى الأمل والتطلع إلى الحرية والانطلاق من الحصار الصهيوني لوطني : ستقوم الشجرة، والأغصان ستنمو في الشمس وتخضرّ وستورق ضحكات الشجرة في وجه الشمس." لعل أجمل ما يختتم به حديث فدوى طوقان عن البيئة، قولها بعد "مشوار" لها، عائدة إلى منزلها ذات مساء من أماسيّ الربيع (ص. 229) : "الآن عدت من مشوار. كان القمر مكنملا والهواء محملا بخليط غريب من عطور الياسمين والورد الجوري وزهرة النسيم مما تتنفسه حدائق الأرض المحيطة" "خلال مشواري كنت أقف لأتملى من الأرض، ألتهمها بحسّي، أعبّ من هوائها حتى الارتواء، أتطلع إلى الجبال وأتمنى أن ينتهي عمري عند إحدى قمم عيبال أو جرزيم" "إن الموت شهي في مكان تبعث الأجساد في تربته زهورا وزعترا بريا.. ويا ما أجمل بلادي! كيف يمكن أن أموت على غير أرضها؟"
الشعر يصف بعض النقاد شعر فدوى طوقان بأنه بلسم الجراح التي خلفها القهر الأسري والاجتماعي في نفسها منذ الطفولة؛ وبالرغم من صحة هذا القول، إلا أنه لا يمثل الحقيقة كاملة، فقد بقي الشعر وسيلتها الفاعلة لتحقيق الذات، وبذلك يكون واحدة من القيم العليا عند فدوى طوقان إن لم يكن أعلاها جميعا. يرجع الفضل في دخول فدوى طوقان عالم الشعر إلى شقيقها الشاعر الكبير إبراهيم طوقان الذي حبب إليها الشعر، وذلك بما أسبغ عليها من عطف واهتمام افتقدتهما في سائر أفراد الأسرة، وبما وظفه في تدريسها قواعد الشعر واللغة من خبرات دراسته للعربية في الجامعة الأمريكية ببيروت وتدريس العربية في كلية النجاح الوطنية، وأخيرا وليس آخرا علاقته الحميمة بالشعر العربي معرفة وإنتاجا. إلا أن هذا لا ينبغي أن يدفع إلى إهمال عامل آخر مهم في إقبال فدوى على عالم الشعر، وهو البيئة الفنية التي توافرت لها في البيت من موسيقى وأغان كانت تسمعها إما من أمها(ص. 37): "حين كانت أمي تدندن بصوتها الشجي الحنون كنت أركض وأجلس إلى جانبها في إصغاء مرهف رايح فين يا مسليني ـ لمّوا العشيرة واجمعوا الخلان ـ أوف مشعل ـ زوروني في السنة مرة ـ وغير هذه الأغاني التي لا أزال أحبها، وكنت سريعة الحفظ للأغنية لحنا وكلمات." أو مما كان يصدح به الفونوغراف (ص. 54): وراح القلب يذوب تحت تأثير الأغاني المترعة بالعاطفية الشرقية الساخنة. منذ ذلك الحين ضربت أغاني محمد عبدالوهاب جذورها في قلبي وظل عندي سيّد الغناء. "تعالي نفن نفسينا غراما", "منك يا هاجر دائي", "قلب بوادي الحمى خلفته رمقا", "النبي حبيبك ما تحرمش الفؤاد منك" وغيرها..وغيرها." إذن كان توجيه إبراهيم وتشجيعه لها، وتوافر البيئة الفنية ذات الصلة بالشعر في بيتها، وربما أيضا ميلها الفطري هي العوامل الأساسية التي دفعتها إلى محبة الشعر بل إلى التماهي معه، وفي مثل ذلك تقول (ص 82-83) : "إذا التقى الميل الفطري بالحوافز الدافعة لتحقيق الذات أصبح الإنسان مملوكا وأسيرا لمطامحه وتطلعاته، كما أن حياته تصبح كلها وقفا على العمل لتحقيق هذه المطامع والتطلعات، فلا تدور إلا على محورها، متحدية كلّ العوائق والمثبطات، ومن ثم تبدأ في الظهور نتائج لا تكاد تصدق." وقد التزمت التلميذة الشاعرة بتعليمات أستاذها الشاعر زمنا، قلدت فيه الشعر العمودي مما أنتجه كبار شعراء العصر العباسي كابن الرومي وأبي تمام والبحتري، محافظة على ما يتصف به ذلك الشعر من نصاعة الديباجة، وجودة السبك، وفخامة العبارة، وجزالة اللفظ؛ لكن تطور عالم الشعر وعالم الشاعرة جعلاها تتمرد على أستاذها فيما بعد مرتين، تأثرت في أولاهما بشعر المهجر (أبي ماضي) ومدرسة أبولو (علي محمود طه) كما ذكرت في "رحلة صعبة رحلة جبلية" (ص. 91 ) : " وجدت أن شعر أولئك المهجريين أقرب إلى تكويني النفسي وتركيبي الذهني. كما صادف تلك الفترة اكتشافي لشعراء مدرسة أبولو كإبراهيم ناجي والشابي وعلي محمود طه والتيجاني. من هنا بدأت أدير ظهري للديباجة العباسية وأصبح مطمحي الأكبر هو كتابة شعر يستمد جماله من البساطة والليونة والصدق والصياغة الشعرية الخالية من التكلف. " أما التمرد الآخر فكان نتيجة لانتشار شعر التفعيلة الذي مهدت له نازك الملائكة في أواخر أربعينيات القرن الماضي، وهو الذي اعتمدته فدوى طوقان في كتابتها المستقبلية. ومثلما اختلف الشعر بين التلميذة والأستاذ في الشكل، اختلف كذلك في الموضوعات؛ إذ كان للسياسة والمناسبات نصيب كبير من شعر إبراهيم، أما فدوى فإنها حين طلب والدها منها أن تكتب في مناسبة سياسية، أعياها تحقيق ذلك؛ وربما كان الطالب لا يقل في عدم تقبّله عن المطلوب؛ وقد عللت فدوى عدم إقدامها على الكتابة في السياسة بجهلها الواقع السياسي نظرا لأنها كانت تعيش في عزلة عن المجتمع آنذاك؛ ممّا جعل شعرها يكاد يقتصر على تصوير همومها الذاتية وحدها، وهو توجه بقي سائدا عندها حتى عام 1967. قد يكون هذا التعليل من فدوى طوقان كافيا في الفترة التي أعقبت وفاة شقيقها إبراهيم مباشرة عام 1941 ، إلا أن الحال اختلف كثيرا بعد عام 1948 ؛ فقد أصبحت تتمتع بدرجه مقبولة من حرية التنقل خارج البيت، ومن التفاعل مع عناصر ثقافية وحزبية مختلفة منها، على سبيل المثال، شقيقها المناضل الشيوعي رحمي طوقان، وصديقها الشاعر الشهيد كمال ناصر من حزب البعث وغيرهما. وقد يكون للصراعات بين الأحزاب الفلسطينية الأردنية وما تعرضت له من قمع شرس في النصف الثاني من الخمسينيات، دور في إحجام فدوى عن كتابة الشعر السياسي، إلا أن المسألة تبدو بحاجة إلى المزيد من البحث والتحليل . مع حلول عام 1967 ، كانت صورة الذات عند فدوى قد اختلفت تماما، فبعد أن كانت ترى نفسها نكرة اجتماعيه في بدء مسيرتها الشعرية أصبحت علما من أعلام المجتمع في مدينة نابلس، يقترن اسمها باسمها في مختلف المحافل داخل البلد وخارجه؛ وعندما وقع الاحتلال في حزيران من ذلك العام انعكس ذلك انعكاسا قويا عندها في موضوعات الشعر وفي مفهومه أيضا. تقول (ص109): "الاحتلال الإسرائيلي أرجع إليّ الإحساس بنفسي ككائن اجتماعي. وفي ظل الاحتلال فقط، حين رحت ألتقي بالجماهير في قراءاتي الشعرية، عرفت القيمة والمعنى الحقيقي للشعر الذي يتعتّق ويتخمّر في دنان الشعب ". من العوامل المهمّة في إحداث هذه النقلة النوعية عام 1967الصلات الوثيقة التي عقدت بين الشاعرة وشعراء مناطق 48 (محمود درويش، وسميح القاسم،وتوفيق زياد ورفاقهم). لنستمع إليها تقول في كتابها( الرحلة الأصعب ص. 21): "بين هؤلاء الكتاب والشعراء الذين كانت السياسية والانتماء الحزبي عملهم من أجل الحياة، ومن أجل الوطن، ومن أجل الإنسان وجدت نفسي، كما وجد التحول النوعي طريقه إلى نفسي وتفكيري وكأنما لمستني كف المعجزة!.. كنت أعود من لدنهم بعد كل لقاء وفي نفسي ترتعش المشاعر المعافاة كارتعاش الأزهار." وتقول (ص. 87) معلقة على ممارسات الاحتلال في نابلس : " إنها لضرورة قصوى في هذا الزمن التائه، أن يتحصّن الإنسان العربي بوعي سياسي وعقائدي يحميه من الضياع، وعي تتأكد فيه هويته ويتكثّف شعوره بالانتماء، ومن المؤكد أنّ أجدر من يتحصن بهذا الوعي السياسي العقائدي هم أصحاب القلم الذين ينطلقون في أداء دورهم النضالي من جبهة الفن والفكر والشعر. فلا بد لهؤلاء من اتخاذ موقف من الحياة وموقع ينطلق منه سلوكهم وأفكارهم وأعمالهم الأدبية. فمثل هذا الموقع ومثل هذا الموقف يضيئان لهم الطريق ويمنحانهم عناصر رؤياهم، ومن خلالهما تنبثق مضامين إنجازاتهم الفكرية والفنية والأدبية." وقد انعكس هذا كله في شعر فدوى المقاوم للاحتلال، الذي استغرق معظم قصائدها فيما بعد حزيران 1967. من جهة أخرى، أتاح شعر فدوى قيام صلات ودّية بينها وبين عدد من الشاعرات والكاتبات الإسرائيليات، المناصرات لحق الشعب الفلسطيني في الحرية، مما أفاضت فدوى في الحديث عنه في كتابها "الرحلة الأصعب"؛ ومن أمثلة هؤلاء : يائيل دايان , وهانه زيمير, وفيليسيا لانغر, وداليا ربيكوفتش . فضلا عن التصنيف السابق لشعر فدوى طوقان بين شعر الهم الخاص قبل احتلال 67 وشعر الهم العام من بعده، يقدّم بعض الباحثين والباحثات ـ هيام دردنجي وغريد الشيخ وآخرون ـ تقسيما أكثر تخصيصا لشعر فدوى طوقان يعتمد على تحديد ميزات كل ديوان من دواوينها على حدة؛ والنموذج الآتي يوضح طبيعة تلك التقسيمات : وحدي مع الأيام ..شعر عمودي رومانسي، يمثل الهم الخاص للشاعرة وإحساسها بالعزلة والضياع، والتجاءها إلى الطبيعة أو الابتهالات الصوفية للخلاص من ذلك الضياع. وجدتها..يجمع هذا الديوان بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة، وفيه يتمثل الانعتاق الفردي في تجارب الحب، ونشوء الإحساس بإيجابية الآخر الوطني. أعطنا حبا..من شعر التفعيلة ولبابه تجارب الحب وأوهامه . أمام الباب المغلق ..تتمثل فيه سيادة الهم الخاص مع وفاة شقيقها نمر . الليل والفرسان ..تصور الشاعرة فيه معاناة الشعب الفلسطيني ومقاومته لاحتلال عام 1967. على قمة الدنيا وحيدا ..مماثل للديوان السابق ويتضمن فضلا عن ذلك توجهات إنسانيه عميقة. تموز والشيء الآخر..تعود الشاعرة فيه، ضمن قصائد متنوعة، إلى الهم الخاص: الحب والمصير..إلخ . اللحن الأخير .. متابعة للديوان السابق تموز والشيء الآخر . وكذلك كانت فدوى طوقان صادقة كل الصدق حين لخصت حياتها في أمرين: الحب والشعر في قصيدة "حياة" من ديوانها الأول "وحدي مع الأيام" بقولها: حياتي دموعٌ وقلب ولوعٌ وشوقٌ وديوانُ شعرٍ وعودْ وبقولها في ديوانها الأخير " اللحن الأخير": ما الذي يملك أن يفعله قلبٌ يظل الشعر والحب قرينين من الجنِّ لصيقين به لا يبرحانهْ ما الذي يملك أن يفعله قلبٌ يحب الحب للحب وللشعرِ وللمعنى الجميل يا له قلباً حزينْ مستعيذا برؤى الشعر ودفء الحب من هجمة العمر ومن وطء السنينْ بل إن هذا الحب الذي اقترن عندها بالشعر إنما كان حب الشعراء والشاعرات الكثر الذين عرفتهم في حياتها، أو تحدثت إليهم وعنهم في شعرها، وربما لا أحد سواهم! الطفولة : تشغل الطفولة مساحة كبيره من شعر فدوى طوقان ونثرها أيضا؛ وقد جاءت تجليات الطفولة في أدبها موزعة على ثلاثة مستويات : المستوى الشخصي، والمستوى الوطني، والمستوى الإنساني. تحدثت فدوى طوقان عن طفولتها بمرارة وألم بالغين، فهي لم تجد سوى الجفاء والإهمال من أسرتها بدلا ممن العطف والحنان، وهي عندما حاولت البحث عنهما خارج القمقم المنزلي عاقبتها أسرتها أشد العقاب، وحرمتها من حقوقها الإنسانية ومنها الحق في التعليم . تصف فدوى طوقان هذا الحادث الأليم بقولها في "رحلة صعبة رحلة جبلية" (ص. 55): " كان التواصل الوحيد الذي جرى لي مع الغلام هو زهرة فلّ ركض إليّ بها ذات يوم صبي صغير في (حارة العقبة) وأنا في طريقي إلى بيت خالتي" "ثم حلت اللعنة التي تضع النهاية لكل الأشياء الجميلة " "كان هناك من يراقب المتابعة فوشى بالأمر لأخي يوسف. ودخل يوسف عليّ كزوبعة هائجة (قولي الصدق).. وقلت الصدق لأنجو من اللغة الوحيدة التي كان يخاطب بها الآخرين، العنف والضرب بقبضتين حديديتين، وكان يتمتع بقوة بدنية كبيرة لفرط ممارسته حمل الأثقال" "أصدر حكمه القاضي بالإقامة الجبرية في البيت حتى يوم مماتي.. كما هددني بالقتل إذا تخطيت عتبة المنزل وخرج من الدار لتأديب الغلام." وفي قصيدة في ضباب التأمل في "وحدي مع الأيام" (الديوان، ص. 61) تقول : فهنا خيال شاحب : لم ترحم الدنيا ذبولهْ هذا خيال طفولة : لم تدر ما مرح الطفولةْ وهنا صِباً عضّت عليه قيود سجن واضطهاد باك، ذوت أيامه : خلف انطواءٍ وانفراد وفي ذكرياتها حول ما حدث في "تاريخ كلمة" في "أمام الباب المغلق"، الديوان (ص. 453) تقول : أوّاهِ ما أقسى تعطشَ الصغار حين ينضبُ الحنوّ في الكبار، حين لا يسقى الصغار قطرة من نبع حب وقد بقيت فدوى زمنا تعاني ما تعانيه من عزلة ووحشة في بئر الحرمان إلى أن امتدت غليها يد إبراهيم الحانية، فأخرجتها من ظلمات الكآبة إلى عالم الشعر المنير، لتسطر فيه من الروائع ما لم تسطره شاعرة عربية أخرى. تقول في القصيدة نفسها (ص. 454): وعاد من غربته أخي الكبير عادَ إبراهيم، كان قلبه الرحيم، خيّراً كبيرْ وفيض حبه غزيرْ ولفّني أخي وضمّني إلى جناحهِ هنا استقيت الحب وارتويت هنا استردّتْ ذاتيَ التي تحطمتْ بأيدي الآخرينْ بناءها، هنا اكتشفت من أنا عرفت معنى أن أكون. ظلت ذكريات الطفولة الجريحة تتردد في أشعار فدوى، دون انقطاع؛ ولكنها تحولت في بوتقة شاعريتها الفائقة إلى معان إنسانية نبيلة؛ ولعل قارئ سيرة فدوى يتذكر حكاية "زهرة الفل" وهو يردد مقطوعتها الجميلة، رائعة الجمال (ص. 553) : كفاني أموت على أرضها وأدفن فيها وتحت ثراها أذوب وأفنى وأبعث عشبا على أرضها وأبعث زهرةْ تعيث بها كف طفل نمته بلادي كفاني أظل بحضن بلادي تراباً وعشباً وزهرة. في المستوى الوطني، تختلف صورة الطفولة في شعر فدوى طوقان؛ فهي لا تمثل حالة فردية منفعلة مسحوقة تحت وطأة التقاليد والقهر الاجتماعي؛ بل تمثل، في المقابل، حالةً جمعية ـ أطفال ـ فاعلة تقاوم الاحتلال، وتزرع الأمل، وتصنع المستقبل . لوحات شعرية جميلة رسمتها فدوى طوقان لشهيدات: مثل، لينا النابلسي، ومنتهى حوراني وغيرهما؛ ولأسيرات، مثل: هبة، ورندة، وعائشة عودة وغيرهن؛ ولجماعات أطفال الحجارة الذين يواجهون بصدورهم العارية رصاص الاحتلال وقنابله، كما في نشيدها الأجمل "أنشودة الصيرورة" في "الديوان" (ص ص. 567-568) : في غاب الليل الموحش في ظل الصبار المرّْ كبروا أكثر من سنوات العمرْ كبروا التحموا في كلمة حب سرّيّة حملوا أحرفها إنجيلا قرآنا يتلى بالهمسْ كبروا مع شجر الحناء وحين التثموا بالكوفية صاروا زهرة عباد الشمسْ كبروا أكثر من سنوات العمر صاروا الشجر الضاربَ في الأعماق الصاعدَ نحو الضوءِ الواقفَ في الريح الهوجاءْ صاروا الصوتَ الرافضَ صاروا جدليةَ هدمٍ وبناءْ صاروا الغضب المشتعل على أطراف الأفق المسدودْ يكتسح صفوف مدارسهم يجتاح شوارع وحواري يتمركز في قلب "الدوار" وعلى الدبابات الجهمة يطلق رشاش الأحجار! ويخلخل بالرفض العاري مشنقة الفجرْ يقتحم الليل وطوفانهْ كبروا كبروا أكثر من سنوات العمر صاروا العابد والمعبودْ صاروا "سمحان" .. "عفانة" صاروا "عبدالله" .. "محمد" صاروا "أحمد".."لينا" .."محمود" حين تلقتهم في شغف أحشاءُ الأرض كبروا صاروا الأسطورة كبروا كبروا كبروا صاروا أكبر من كل الشعرْ ولا تنسى فدوى أن تتحدث إلى أطفال فلسطين المشردين خارج وطنهم، فتذكرهم برسالتهم المقدسة: رسالة العودة من الشتات إلى أرض آبائهم وأجدادهم؛ ومن ذلك قصيدتها "رسالة إلى طفلين في الضفة الشرقية ـ إلى كرمة وعمر"( الديوان ص. 498 ): لا تسألوا متى وكيف تنتهي حكاية الشتات والضياعْ لن تفهموا اليوم الجوابْ وحين تكبرون يا أحبتي تنبيكمو الأيامْ ويومها ستحملون العبء مثلَنا وتأخذون الدور مثلنا في قصة الكفاحْ يلاحظ في هذه القصيدة وسابقتها حلول ضمائر الجمع "نا" و "واو الجماعة" وغيرهما محل ضمير المفرد الذي كان سائدا في شعر المرحلة الأولى عند فدوى طوقان قبل حزيران 1967. ومثلما تحدثت فدوى طوقان عن الطفولة في المستوى الفردي والمستوى الوطني، تحدثت عنها كذلك في المستوى الإنساني؛ ومن أمثلة ذلك قصيدة "إيتان في الشبكة الفولاذية" التي تتخوف فيها من فقدان الطفل الوديع إيتان إنسانية طفولته حين يتم حقنه بالثقافة العنصرية؛ وتذكّر هذه القصيدة بما قالته مي زيادة بشان الصبي الوسيم "روبرت"، وهو ابن أحد الضباط الإنجليز، حيث توقعت مي أن يستحيل ما فيه من رقة ووداعة إلى عنف وقسوة نتيجة تربية التعصب التي تتوقع أن يخضع لها (تسامح، العدد31، ص 174) . ومن الأمثلة أيضا قصيدة بين "الجزر والمد" التي تبحث فدوى فيها عن السعادة في وجه الطفل الجميل، قبل أن يفقد حسه الإنساني إذا ربا في بيئة مسممة بالعنصرية ( الديوان، ص ص. 622-623) : لكني حين يعانقني طفل ويلامس وجهي المتعبْ الخدّ المخمل والكفان الناعمتان وأصابع زنبقْ لم ينبت فيها مخلبْ وتطل على قلبي عينانْ كسماء غسلتها في الفجر الرطبِ ملائكة الأنوارْ يتمدد قلبي يكبر قلبي تهرب من قلبي المغلقْ كلُّ الأسوارْ. الحرية : تعني الحرية عند فدوى طوقان في أغلب استعمالاتها لها الحرية الشخصية، أي حريتها في التعبير عن الرأي، وفي التنقل، وفي السلوك والحب، وكذلك عدم الامتثال لما لا يروق لها من التقاليد التي رسخها الاستبداد البطريركي والذكوري بعامة، مما عانت الشاعرة بطشه بطفولتها بوجه خاص. وفي هذا السياق قد ترتبط الحرية بالنوع الاجتماعي ارتباطا وثيقا؛ أما الحريه بمعنى التحرر الوطني من عسف الاحتلال فالأولى أن تتم مناقشتها في سياق الحديث عن قيمة أخرى وهي الوطن أو التحرير . السجين والجلاد.. هما الكلمتان اللتان أطلقتهما فدوى طوقان على وضع المرأة في نابلس بخاصة وفي فلسطين بعامة في أيام طفولتها. أما السجن فهو القمقم المنزلي الذي جعلت المرأة حبيسة فيه لا تبرحه إلا في مناسبات نادرة، وأما السجان فهو العنصر الذكوري المهيمن في الأسرة والذي يمكن أن يكون الأب أو الأخ أو غيرهما من الذكور. أليس هذا ما قالته فدوى في "رحلة صعبة رحلة جبلية" ( ص ص. 40-41) : "في هذا البيت وبين جدرانه العالية التي تحجب كل العالم الخارجي عن جماعة "الحريم" الموؤودة فيه، انسحقت طفولتي وصباي وجزء غير قليل من شبابي." وفي ( ص. 29 ) : "كان الواقع المعاش في ذلك القمقم (الحريمي) مذلا مهينا، حيث تعيش الإناث وجودها الهزيل القاتم. كنت ألتفت حولي فلا أرى إلا ضحايا بلا شخصية، بلا كيان مستقل، يقبعن في بيت يتعجل فيه الرجل شيخوخة أخواته وبنات عمه، متخذا من القهر وسيلة لذلك التعجيل. ضحايا لم أعرفهن إلا عجائز عجزت الواحدة منهن منذ الخامسة والعشرين من عمرها، لم أعرفهن إلا في ثياب التبتل والتقشف، يغطي شعرها المنديل الأبيض فيما هن قعيدات الجدران..." وهذا أيضا هو ما تقوله في قصيدتها المطولة "هو وهي" (الديوان، ص ص. 294ـ295 ) التي تماثل فيها بين السجن الذي يعزل فيه المناضل من أجل حرية الوطن، والسجن البيت الذي تكتم فيه أنفاس المرأة لأنها امرأة. تقول فدوى : وإذا انشق باب سجني أطلّتْ منه عينا وحشٍ رهيبٍ كبيرِ هو جلاديَ اللئيمُ ربيبُ الحقدِ والعنف والأذى والشرورِ مستبدٍّ بالحكم، يسكره االشرُّ وتعذيبُ كل روحٍ ضعيفةْ
كان لي من شذوذه كل يومٍ مِحنةٌ سلطت علي مخيفةْ أجل. كانت تعيش حياة السجن لا لشيء إلا لأنها امرأة؛ وإلا فما بال أشقائها يمارسون حرية التنقل كيف شاؤوا، ويرسلون إلى المدارس والجامعات الأجنبية دون رقيب؟ ( ص ص. 40-41) : "فإذا تركت المرأة الآن تعيش غيابها في ذلك البيت ـ السجن، وعرجت على المناخ العائلي، العام رأيت التناقض، حيث يلتقي التعصب الديني واللاتعصب، وحيث يلتقي الشعور القومي والوطني بتقليد ثقافي حرص أبي وعمي على ترسيخه في العائلة، وذلك بإيفاد الأبناء إلى مدارس أجنبية لتحصيل العلم والتزود بالثقافة الغربية على حين كان (الأزهر) قبلة طالب العلم في المدينة؟" مهما يكن من أمر، فقد بقي هذا الاستبداد الذكوري مهيمنا في العائلة النابلسية حتى عام 1948، عندما انتهت الحرب بخسائر جسيمه لعرب فلسطين في أنفسهم وممتلكاتهم، وتشريد الكثيرين منهم إلى خارج الوطن؛ وقد أدّى ذلك إلى خلخلة الوضع الاجتماعي العائلي، وإلى ضرورة مشاركة المرأة الفلسطينية في العمل وصنع القرار، ضمن الأسر المتضررة، وما كان أكثرها! وفيما يشبه الطفرة الثقافية أصبحت المرأة تتمتع بقدر لا بأس به من الحرية بأشكالها المختلفة." تقول فدوى ( ص. 138) : " في النصف الأول من الخمسينات خرجت من "قمقم الحريم". فمع انهيار السقف الفلسطيني عام 1948 سقط الحجاب عن وجه المرأة النابلسية، وكانت قد كافحت طويلا لتتحرر من ملاءتها التقليدية ومنديلها الأسود الكثيف. " وتقول ( ص. 27 ) : " كانت أمي أول امرأة من جيلها ترفع الحجاب في نابلس. ومنذ ذلك الحين أخذت تتنفس نسيم الحرية وقد طوى الزمن الجيل المتعصب في العائلة، وكنت أشعر بسعادة غامرة وأنا أرى حيويتها تزداد بفعل انطلاقها من قيود الحصر في السجن الأثري ( البيت ) المقيت. وكان حضور الأفلام السينمائية إلى جانب مبادلة الزيارات من دواعي غبطتها وسعادتها. لقد كانت تحب الغناء والموسيقى والرقص، كما كان الكتاب والجريدة والمجلة ضرورة من ضروريات الحياة لا غنى عنها. " لم تكن فدوى طوقان ناشطة نسوية على غرار مي زيادة وهدى شعراوي ممن امتهنّ الخطابة في المحافل والكتابة في الصحف وغيرهما من الأنشطة لمناصرة المرأة والدعوة إلى تحريرها؛ ولكنها كانت، في المقابل، قدوة عظيمة للمرأة بتمكنّها من تحقيق ذاتها من خلال كتاباتها الشعرية والنثرية بالرغم من كثرة العوائق وضعف الإمكانات؛ وربما أمكن تعليل ذلك الاختلاف بين فدوى وميّ بما وصفت فدوى نفسها به من الخجل وإيثار العزلة (ص ص. 71-85-114) وفي حديثها عن معاناتها في سبيل تحقيق ذاتها تقول، من قصيدة "هو وهي" ( الديوان، ص. 299) : أتحدى السجانَ، أسخَرُ بالعرفِ بما شادت التقاليد حولي من جدارٍ ضخم مضت أغنياتي تتخطاه في تحدٍّ مثلي كم فتاةٍ رأت بشعري انتفاضاتِ رؤاها الحبيسةِ المكتومةْ كان شعري مرآةَ كلِّ فتاةٍ وأدَ الظلمُ روحَها المحرومة مرة أخرى، لا يعني الاختلاف المذكور آنفا ضعف حساسية فدوى تجاه مظالم النوع الاجتماعي، وإنما يكمن الفرق في طبيعة الاستجابة ليس غير. والأمثلة على اهتمامها بهموم المرأة العربية بوجه عام كثيرة، يزخر بها كتابها "رحلة صعبة رحلة جبلية"؛ ويكفي هنا التذكير بتعبيرها عن فرحتها الغامرة لما وجدته من حرية واسعة للمرأة العربية في القدس مقارنة بالمرأة في نابلس عند زيارتها القدس مع أخيها إبراهيم عام 1939 (ص. 122)، وكذلك انتقادها وضع المرأة الإنجليزية في أثناء رحلتها إلى إنجلترا حيث تقول (ص. 196) : " كان في تصوري أن المرأة الانكليزية التي حاربت من أجل حق الانتخاب وانتصرت قد حازت على المساواة التامة بالرجل. وإذا بالصحافة تفيض بأخبار حرب الجنس الساخنة جدا، فالمرأة لا تزال تطالب بمساواتها مع الرجل في الأجر. إنها تقوم بنفس العمل والكفاءة كالرجل ولكنها تنال أجرا أقل لأنها بكل بساطه امرأة.. وكذلك فإن الوصايا التي تقول "مكان المرأة بيتها" و"المرأة يجب أن (لا؟) ترى أو تسمع أو تفعل أي شيء يمكن أن يجرح غرور زوجها وخيلاءه" مثل هذه الوصايا كان هناك من لا يزال ينادي بها؛ كما كان هناك من يحمل الفكرة التي تقول إن المرأة تابع يدور في فلك الرجل. " هل استطاعت فدوى طوقان أن تحقق أحلامها في الحرية؟ الإجابة عن ذلك هي : نعم، كثيرا وقليلا. كثيرا في مجال حرية التعبير وذلك من خلال دواوينها السبعة ومذكراتها، وقليلا في مجالات الحرية الأخرى، مثل: حرية التنقل، والمشاركة في مختلف الأنشطة النسائية؛ وإذا كانت قد قضت وقتا ممتعا في إنجلترا حيث درس أخوها أحمد أو في بيروت حيث درس أخوها العزيز إبراهيم، فلأنها عانت ما عانته غيرها من النساء الفلسطينيات بعد احتلال عام 1967 الذي حول الضفة في جميع أرجائها إلى سجن رهيب . الوطن-التحرير : بدأت فدوى كتابة الشعر الوطني بتحريض من أخيها إبراهيم، في وقت مبكر من تجربتها الشعرية، إلا أنّ ما كتبته آنذاك كان ضئيلا في المقدار والجودة، وقد عللت فدوى ذلك بأنها لم تكن تملك الخبرة المجتمعية اللازمة، نتيجة لحياة العزلة التي فرضت عليها؛ وقد بقي الحال كذلك حتى عام 1948 ، عام النكبة الذي كتبت فيه قصيدتيها المشهورتين : "رقية" و"مع لاجئة في العيد". وفي خمسينيات القرن الماضي كتبت فدوى بعض القصائد الوطنية، مثل: "نداء الأرض" , و"حلم الذكرى"؛ ولكن قصائدها الوطنية الأجمل والأروع هي التي امتازت حوادثها وشخصياتها بالقرب أو القرابة من الشاعرة، فيما كتبته بعد نكسة حزيران عام 1967 . نجد هذا النوع من القصائد في ديوانها "الليل والفرسان", و"على قمة الدنيا وحيدا"؛ وهي تتوزع على عدة مجالات من أهمها: حصار البلد وتحويله إلى سجن كبير. الشهداء . الأسرى .
الحصار/السجن الكبير وقد ذكرت فدوى، في ختام كتابها "رحلة صعبة رحلة جبلية" (ص. 237) أنها بقيت عاجزة عن كتابه الشعر مدة شهرين بعد الاحتلال، ثم "انكسر طوق الصمت، كتبت خمس قصائد، أشعر ببعض الراحة." تبدأ هذه القصائد وهي "مدينتي العزيزة"، و"الطاعون"، و"إلى صديق غريب"، و"الطوفان"، و"الشجرة"، و"حيّ أبدا" ـ تبدأ بنغمة حزينة متشائمة : يومَ رأينا الموتَ والخيانةْ تراجعَ المدُّ وأغلقت نوافذُ السماءْ وأَمسكت أنفاسَها المدينةْ ... ترمَّدَ الرجاءْ واختنقتْ بغصّةِ البلاءْ مدينتي الحزينةْ لكنها تستعيد عافيتها، وينبعث الأمل في القصيدتين الأخيرتين، إذ تقول في قصيدة "إلى صديق غريب" : ستقوم الشجرةْ ستقوم الشجرة والأغصانُ ستنمو في الشمس، وتخضرّ وستورق ضحكات الشجرةْ في وجه الشمسْ في وجه الشمسْ وسيأتي الطيرْ لا بدّ سيأتي الطيرْ سيأتي الطيرْ سيأتي الطيرْ وتقول في قصيدة "حي أبدا"، مخاطبة الوطن الحبيب : ليسرقوا الضحكاتِ من أطفالنا ليهدموا , ليحرقوا, فمن شقائنا من حزننا الكبير، من لزوجةِ ـ الدماء في جدراننا من اختلاج الموتِ والحياة ستبعث الحياة فيك من جديدْ يا جرحَنا العميقَ أنت يا عذابَنا يا حبَّنا الوحيد ولكن الحصار يستمر، ويستمر، وتعود فدوى إلى كتابة القصائد، فتصور بشاعة هذا الحصار في قصيدتها "من صور الاحتلال الصهيوني: آهات أمام شباك التصاريح" (ص.531 ): ليت للبرّاقِ عيناً.. آه يا ذلَّ الإسارْ حنظلا صرتُ، مذاقي قاتلٌ حقدي رهيبٌ، موغلٌ حتى القرارْ صخرةٌ قلبي وكبريتٌ وفوّارةُ نارْ ألفُ هندٍ تحتَ جلدي جوعُ حقدي فاغرٌ فاهُ سوى أكبادِهم لا يشبعُ الجوعَ الذي استوطنَ جلدي آه يا حقدي الرهيبَ المستثارْ قتلوا الحبَّ بأعماقي، أحالوا في عروقي الدمَ غِسْليناً وقارْ!! ومثلما تذكر أحزان نابلس، تذكر كذلك أحزان القدس؛ وذلك في قصيدتها "إلى الوجه الذي ضاع في التيه" (الديوان ص. 538) الأسى يهطلُ، ليلُ القدسِ صمتٌ وقتامْ حظروا التجوالَ، لا تطرقُ في قلبِ المدينةْ غيرُ دقاتِ النعالِ الدموية تحتَها تنكمشُ القدسُ كعذراءَ سبيّة وعلى الساحةِ طائرْ خرقَ السهمُ جبينهْ وعلى الأرضِ دخانٌ وحطامْ وعن حريتها الغالية التي هي نواة حياتها، والتي صادرها الاحتلال تقول ( الديوان، ص. 556) : سأظلُّ أحفرُ اسمَها حتى أراهْ يمتدُّ في وطني ويكبرْ ويظل يكبرْ ويظل يكبر حتى يغطي كلَّ شبرٍ في ثراهْ حتى أرى الحريةَ الحمراءَ تفتحُ كلَّ بابْ والليلَ يهربُ والضياءَ يدكُّ أعمدةَ الضبابْ . الشهداء : شهداء فلسطين في شعر فدوى طوقان متعددون متنوعون، منهم الشبان الذين استشهدوا داخل الوطن كمازن أبو غزالة أو خارجه مثل وائل زعيتر، ومنهم الأطفال أمثال منتهى حوراني ولينا النابلسي؛ ويجمع هؤلاء جميعا التضحية من أجل الأرض المقدسة التي تعلو على كل اعتبار؛ يقول مازن (الديوان، ص. 505 ) : ماضٍ أنا أمّاهْ ماضٍ معَ الرفاق لموعدي راضٍ عن المصيرْ أحملُه كصخرةٍ مشدودةٍ بعنقي فمن هنا منطلقي وكلُّ ما لديّ، كل النبضْ والحبِّ والإيثارِ والعبادةْ أبذلُه لأجلِها للأرضْ مَهرا فما أعزُّ منكِ يا أمّاهُ إلا الأرضْ كما يجمعهم الأمل في تحرير الأرض ( الديوان، ص. 563) : وما قتلوا منتهى وما صلبوها ولكنما خرجت منتهى تعلق أقمارَ أفراحِها في السماء الكبيرةْ وتعلنُ أن المطافَ القديمَ انتهى وتعلن أن المطافَ الجديدَ ابتدا وتقول فدوى في رثاء وائل زعيتر ( ص. 611) : أنتَ يا شمسَ القضيةْ نم هنا في الوطنِ الحاني فأنتَ الآنَ فيه يا بعيدا وقريبا يا فلسطينيُّ أنت أيّها الرافضُ للموت هزمتَ الموتَ حينَ اليوم متّ. الأسرى : ما يميز قصائد فدوى طوقان حول الأسرى والأسيرات: عائشة عودة، وهبة وتيسير ورندة وسعادات وغيرهم، هو تحدّي إرادة السجان والمخابرات، والإيمان المطلق باستمرار الثورة ضد الاحتلال واتساع مداها، والدعوة إلى تحقيق ذلك. تقول عن عائشة عودة ( الديوان، ص ص. 576-577) : يقولُ لها حارسُ السجنِ إنّ الشجرْ تساقطَ والغابةُ اليومَ لا تشتعلْ ولكن عائشةً ما تزالُ تصرُّ على القولِ إن الشجرْ كثيفٌ ومنتصبٌ كالقلاعِ، وتحلمُ بالغابةِ التي تركتْها تؤجُّ بنيرانِها قبلَ خمسِ سنينْ وتقول في "الأغنية الوصية" (ص. 614): وشَرّعتْ جهنمٌ أبوابَها وابتلعتْ براعمَ الصِّبى الطريِّ في أفيائِها ولم تزلْ هناك الغنوةْ على شفاهِ الفتيةْ الفرسانْ حمراءَ مزهوّةْ تخترقُ الظلامَ والجدرانْ: "يا إخوتي" "بدمي أخطُّ وصيتي" "أن تحفظوا لي ثورتي" "بدمائكم" "بجموعِ شعبي الزاحفةْ" "فتحٌ أنا" "أنا جبهةٌ" "أنا عاصفةْ" وفي مفكرة رندة ( ص. 616 ) : توحّشي ما شئتِ يا شراسةَ الأوجاعْ فلن ينزَّ من دمي جوابْ وفي مفكرة تيسير (ص. 619) : يا حاملَ القنديلْ الزيتُ وَفرٌ، أطعمِ القنديلْ وارفعه للسارين ارفعه مثلَ الشمس فالوعدُ لُقيا في ربى حطين والوعدُ لُقيا في جبال "القدس"
الحياة الحب والفن هما صديقا الحياة الحميمان، فإذا حضرا امتلأت الحياة بهجة وسروراً، وإذا غابا انقلبت موتاً أو ما يشبه الموت.
ولقد كان من سوء حظ فدوى طوقان أن الحرمان من الحب، والعزلة التي فرضت عليها، استغرقا طفولتها ومعظم أيام شبابها؛ ولولا يد الفن الحانية، يد إبراهيم طوقان، لانتهى الأمر بها إلى موت الروح أو موت الجسد.
يبدو شبح الموت المفزع حاضراً في معظم قصائد ديوانها الأول "وحدي مع الأيام": موت إبراهيم، وموت هذا اللاجئ أو ذاك، وموت الفراشة، وموت العدالة...، وتمتلئ نفس الشاعرة بالرعب، وأي رعب أشد من تصورها الدود يغشى جسمها البالي، ويأكل منه عضوا فعضواً؟ "الديوان"( ص16): كلّه يأكل، لا يشبع، من جسمي المذابِ من جفوني، من شغافي، من عروقي، من إهابي وأنا في ضجعتي الكبرى، وحضنُ الأرض مهدي لا شعورٌ، لا انفعالاتٌ، ولا نبضات وجدِ جثةٌ تنحلّ في صمتٍ، لتفنى في الترابِ
وهي، مع إحساسها بتقدمها في السن، وبالعزلة والحرمان من الحب، تتساءل في كثير من الأسى (ص. 62): أيحسّ هذا الكون نقصاً حينما أُخلي مكاني وأروح لم أُخلِفْ ورائي فيه جزءاً من كياني *** إن كان غيري في وجودهم امتدادٌ للوجودِ صورٌ ستبقى منهمُ: يحيَوْن فيها من جديدِ *** فأنا سأمضي، لم أُصب هدفاً ولا حققت غايةْ! عمرٌ نهايته خواءٌ فارغٌ... مثل البداية! *** هذي حياتي خيبةٌ : وتمزّقٌ يجتاح ذاتي هذي حياتي، فيم أحياها؟ وما معنى حياتي
وتبحث الشاعرة عن مهرب لها من شبح الموت، بعد يأسها من بني جنسها، متمنية أن تنقلب بعد الموت شجرة زيتون يانعة، أو عشباً ناضرا، أو كوكباً ساطعاً، فتقول (ص28): يا ربّ، إما حان حين الردى وانعتقت روحيَ من هيكلي وأعنَقَتْ نحوك مشتاقة: تهفو إلى ينبوعها الأوّلِ وبات هذا الجسم رهن الثرى لَقىً على أيدي البلى الجائرةْ فلتبعثِ القدرةُ من تربتي زيتونة ملهمة... شاعرةْ
وتقول (ص.ص 11،12): أوّاهِ، لو أفنى هنا في السفح، في السفح المديدِ في العشب، في تلك الصخور البيض، في الشفق البعيدٍ في كوكب الراعي يشعّ هناك، في القمر الوحيدِ أواهِ، لو أفنى، كما أشتاق، في كلّ الوجودِ!
لم يكن من السّهل على طفلة شقية بأسرتها أن تتقبّل موت أي من القلائل اللواتي تعاطفن معها من خارج الأسرة، فهي تقول في "رحلة صعبة – رحلة جبلية" (ص30): "وبالرغم مما كان يقال لنا من أن الموت يذهب بأحبائنا إلى الجنة، فقد ظل موت عمتي ثم معلمتي الشابة المحبوبة (زهوة العمد) ثم رفيقة طفولتي (علياء) ابنة الجارة، ظلّ موت هؤلاء غير مبرّر بالنسبة لي في أي حال من الأحوال، حتى لو ذهب الموت بهم إلى الجنّة."
وقد عزّز عدم التقبل لهذا الوعد في نفسها ارتباط الأوامر والنواهي الدينية عندها، بالشيخة المتزمتة البغيضة التي وضعها سادة البيت جاسوسة تقدم لهم التقارير بما يجري في البيت، وكانت تستغل سلطتها في قمع كل سلوك يعبر عن المرح لدى الطفلة وغيرها من إناث الأسرة، وفيها تقول فدوى (ص.ص 36،37): "أدركت فيما بعد نفاق الشيخة الديني، فما استطاع تديّنها أن يشذّب أحاسيسها ومشاعرها الإنسانية، ولم تكن لتفقه المعنى الحقيقي للدين وأنه محبة ورحمة وحسن معاملة، فلقد كانت أمية في عقلها ومشاعرها إلى جانب أمّيتها الأبجدية."
مهما يكن من أمر، فقد وقفت فدوى حائرة أمام لغز الموت الذي ذهب بأحبائها القلائل، وأعقبت هذه الحيرة حيرة أخرى في أمر الدين نفسه، (ص 219)، وتتكرر هذه الحيرة أو هذا الشك في عدد من قصائدها، مثل: "وحدي مع الأيام"، و "خريف ومساء"، و "مع سنابل القمح"، و "هروب"، وغيرها.
بينما كان الموت يحاول إحكام هيمنته على الفتاة الشقية بأسرتها، إذا بصديق الحياة الجميل، أي الفن، يتقدم قويا واثق الخطى لإنقاذها، فتفرح أشدّ الفرح، وتصوّر غبطتها بهذا الإنقاذ بقولها في قصيدتها "حياة" (ص.ص 50-52): وأُطرق رأسي بوحشة يأسي وفي الروح تصخب أشواقها وفي النفس ترعد آفاقها وأفرغ للشعر سلوة روحي أصوّر أشواق عمرٍ ذبيحٍ فيهدأ حسّي وتخشع نفسي وتسكن لهفة روحي الشّريد! *** وأجذب عودي لقلبي الوحيدِ فتخفق أوتاره باللحونِ تهدهد قلبي وتجلو شجوني بفنّي وشعري وألحان عودي أصارع آلام عمرٍ شهيدِ وهذا نشيدي نشيد وجودي سيبقى ورائي صداه بعيدْ: حياتي دموع وقلب ولوع وشوق، وديوان شعر، وعود!
وسرعان ما يقدم صديق الحياة الآخر، وهو الحب، فتغني فدوى ديوانها الثاني "وجدتها"، وهي تتحدى الموت والشقاء (ص 177): وجدتها، يا عاصفات اعصفي وقنّعي بالسّحْب وجهَ السّما ما شئتِ، يا أيامُ دوري كما قدّر لي، مشمسةً ضاحكةْ أو جهمةً حالكةْ فإن أنواري لا تنطفي وكل ما قد كان من ظلّ يمتّد مسودّاً على عمري يلفّه ليلاً على ليلِ مضى، ثوى في هوّة الأمسِ يوم اهتدت نفسي إلى نفسي
تمر الأيام، ويتراجع الحبّ إلى الوراء، وتحسّ فدوى بالخيبة التي عبّرت عنها ظاهرةَ الحزنِ أو مكابرة فيه في ديوانها الثالث "أعطنا حبّاً"؛ ثم لا تلبث هذه الخيبة أن تتحول إلى "انقطاع العلاقات" بينها وبين "السماء"؛ وينتهي صراخها في ديوانها "أمام الباب المغلق"، وهي تبكي أخاها نمر بقولها: عبثاً، لا رجعَ صدى لا صوتْ عودي. لا شيء هنا غير الوحشة – والصمتِ وظلّ الموتْ.
ولقد كان من الممكن أن ينتصر الموت انتصاراً نهائياً، لولا الزلزال الذي وقع في حزيران 1967، وتغير معه مفهوم الحياة والموت تغيرا كليا؛ فقد أطلّ الحب والشعر على فدوى من أفق أوسع كثيرا، وهو أفق الوطن وأفق الجماهير، تقول في "رحلة صعبة – رحلة جبلية" (ص.ص 108-109 + ص 152): "ما عرفت طعم هذا الاندماج [في الآخرين] ولا تعرفت على زَخْمِهِ وحلاوة مذاقه إلا بعد حزيران 1967. فالاحتلال الإسرائيلي أرجع إليّ الإحساس بنفسي ككائن اجتماعي [التوكيد من المؤلف]، وفي ظل الاحتلال فقط، حين رحت ألتقي بالجماهير في قراءاتي الشعرية، عرفت القيمة والمعنى الحقيقي للشعر الذي يتعتق ويتخمر في دنان الشعب."
وهكذا نجد مفاهيم الحب والفن والموت قد اختلفت في ديوانيها "الليل والفرسان"، و"على قمة الدنيا وحيداً" عمّا كانت عليه قبلاً؛ فأصبح الحبّ هو حب الوطن والشعب، والفن هو الشعر المقاوم للاحتلال، والموت هو الاستشهاد في سبيل الوطن ودحر الاحتلال.
ولكن الأيام تمر، فتكبر فدوى، ويتضاءل إنتاجها الأدبي ليقتصر على مذكراتها النثرية "رحلة صعبة – رحلة جبلية" و"الرحلة الأصعب"، وعلى ديواني شعر صغيرين، ولعلهما يكونان من قبيل المذكرات أيضا، وهما: "تموز والشيء الآخر" و"اللحن الأخير". وقد تكون قصيدتها "تموز والشيء الآخر" في الديوان الذي يحمل التسمية ذاتها ممثلة لأيام شبابها الضائع حيث تقارن بين خصب الطبيعة، وعقم حياتها، فتقول (ص7): على جسد الأرض، راحت أنامله الخضر تنقل خطواتِها تقيم طقوس الحياة، تجوس خلال التضاريس، تتلو صلاة المطرْ وتستنبت الزرع ريّان من شريان الحجرْ تبدّل كل القوانين، تلغي أوان الفصول – تغيّر في الأرض دوراتِها (أخبئ ما يثقل النفس، آه... يطاردني الظلّ يُعْتِمُ وجه الحُلُمْ أخبّئ ما يثقل النفس، من أين يأتي العذاب؟ من أي كهفٍ يجيء الألم)
وربما تكون قصيدة "أنتهي لأبدأ" أيضاً تمثيلاً لذكرى شبابها حين أصبح متدفقاً بوهج الحياة بعد تجربتها للحب، تقول (ص31): أمّي الحياة، وفي كينونتي دمُها: يبقى عل نهجها بثّي ومنقلبي ما خنت ناموسها، منها حملت معي: سرَّ الطبيعة، طقسَ الأرض والعشبِ لم تذو في كرمتي يوماً عرائشُها: إلاّ لترجعَ لي ريّانةَ العنبِ والقلب ما عاش يبقى نخلُ غابته: محمّلاً بجديد الطّلع، بالرّطبِ أنا التحوّل في صيرورتي أبداً: توهّجُ الكشف، مدّ الماء واللهبِ
تعيد هذه القصيدة إلى الأذهان تحولها في "رحلة صعبة – رحلة جبلية" (ص.ص 138-139): "كان جوعي للحياة قاسيا. إنّ من هُدِرت سنوات طويلة من عمره في صحراء الربع الخالي لا يعقل أن يهرب من الواحة الخضراء حين تفتح له أبوابها"
"وخَرَجَتْ بنت الحياة إلى أمها الحياة، وكانت صادقة كل الصدق، فطالعتها بوجه طبيعي أصيل هو الوجه الذي يصرّ المجتمع بقوانينه على تزييفه، وإضفاء قناع كاذب عليه. ولم تكن بنت الحياة أنانية، أخذت وأعطت، وكان العطاء قانونها في الحياة تعمل به، فقد كان جزءاً لا ينفصل من طبيعتها. كانت من قبل، حين تسرق مشوارها إلى حقول القمح تكتئب وتحزن، إذ ترى عطاء القمح دون أن تقدر هي على العطاء. إن القلب الممتلئ بالحب يختنق إذا لم يجد من يحب"
"وحان الوقت لتتكلم بنت الحياة، وحين تتكلم امرأة صادقة فالحياة هي التي تتكلم."
الحب الحب أنواع مختلفة، منها الحب بمعناه الشائع بين الرجل والمرأة، وهو موضوع هذا القسم من الكتاب؛ وأما الأنواع الأخرى كحب الوطن، أو حب البيئة، أو الحب الذي يكون بين أفراد الأسرة الواحدة، فيجد القارئ ما يتصل منها بفدوى طوقان مبيّناً في الأقسام الأخرى من هذا الكتاب.
ولقد كان للحب، بالمعنى الخاص الذي اخترناه، دور كبير في تعيين مسار حياة فدوى طوقان في كلا جانبيها الفني والعملي؛ وبذلك يمكن تقسيم حياتها إلى ثلاث فترات متداخلة بحسب طبيعة العلاقة بين الحب وكل فترة من تلك الفترات. - فترة الكبت: من الصبا إلى منتصف الخمسينيات. - فترة التوهج والخفوت: منذ منتصف الخمسينيات إلى وفاة أخيها نمر طوقان في 1963. - فترة التصعيد والذكريات: من 1963 فصاعدا.
فترة الكبت بدأت هذه الفترة من حياة فدوى طوقان العاطفية بحكاية زهرة الفلّ التي أهدتها التلميذة فدوى طوقان لتلميذ من جيرانها، فعوقبت عليها بحرمانها من الذهاب إلى المدرسة، وبالإقامة الجبرية في المنزل.
وتتوالى سنوات الجدب، تظلّ فيها فدوى رهن المحبسين: البيت وجفاء الأهل إلا من نسمات عليلة تهب على روحها وهي بصحبة شقيقها إبراهيم في المنزل، أو في القدس حين يصطحبها معه في حال ذهابه إلى مقرّ عمله في الإذاعة الفلسطينية هناك.
من الجدير بالذكر أن البدايات في شعر فدوى اشتملت على قصائد غزلية، أرسلتها إلى مجلة الأمالي البيروتية أو مجلة الرسالة القاهرية بتوقيع دنانير، وهي جارية ليحيى البرمكي كانت تقول الشعر (ص89).
وفي هذه الفترة –حوالي عام 1939- كتبت فدوى عدداً من الأناشيد للإذاعة الفلسطينية بالقدس، منها أنشودة "البنفسجة الذابلة" (ص121)، وهي تمثل حياتها العاطفية آنذاك أصدق تمثيل: ذوى شبابي وجفّ عودي : والعمر مازال في الربيع آهاً لعمري الغضّ الجديد : أودت به حرقة الولوع يا منية النفس ادنُ منّي : تُعد نضير الصّبى إليّا تُعد لروحي الحياة إنّي : بلمسة من يديك أحيا مالت برأسي : آلام نفسي إذ فات عمري : ومات عطري..
تمثل قصائد ديوان "وحدي مع الأيام" هذه الفترة الطويلة من حياتها العاطفية المكبوتة، وهي تخلو من الألفاظ أو العبارات العيانية ذات الصلة بالحبّ كالتي نجدها في ديوانها التالي "وجدتها"؛ وغاية ما في الأمر صور عابرة كالطيف الذي ما يكاد يظهر حتى يتلاشى ويختفي، ومن ذلك قولها (ص25):
واهاً: هنا يهفو على مجلسي في عالم الأشواق روحٌ حبيبْ لم تره عيناي لكنّني: أحسّه منّي قريباً قريبْ
وفي هذا الديوان تراوح فدوى بين موقف العجز عن الحبّ الذي يتمثل في الحديث عن العزلة، والوحشة، وتهديد الموت من جهة، وموقف التمنّي المتمثل في الشوق ومشتقاته ومرادفاته التي لا تكاد تخلو منها أي من قصائد الديوان. ومن ذلك قولها (ص.ص 38،39): نفسي موزعة، معذبة : بحنينها بغموض لهفتها شوقٌ إلى المجهول يدفعها : متقحّما جدران عزلتها شوقي إلى ما لست أفهمه : يدعو بها في صمت وحدتها أهي الطبيعة صاح هاتفها؟ : أهي الحياة تهيب بابنتها؟ ماذا أحسّ؟ شعور تائهة : عن نفسها، تشقى بحيرتها
فترة التوهج والخفوت ربما كانت فدوى تقصد هذه الفترة من حياتها العاطفية حين قالت في "ظلال الكلمات المحكية" (ص 49): "في كلّ تجارب الحب التي مرّت بي، كنت أحب كثيراً. أحب في كل مرّة وكأنها المرّة الأولى. لكن، دائما، كانت هناك غصة في نفسي سببها أن الرجل لا يحبني لشخصي، وإنما لأنني شاعرة، وأستطيع أن أكتب فيه شعراً..."
ويفهم من هذا القول أن تجاربها في الحب كانت سريعة التوهج، سريعة الخفوت، سريعة الانطفاء.
ويلحظ في قصائد ديوان "وجدتها" التي تمثل فترات التوهج، أنها خلافاً للفترة السابقة لها، تحفل بالألفاظ والعبارات العيانية ذات الصلة بالحب كقولها (ص180): ووسّدت رأسك قلباً سخيّ العطاء، ولفّ النقاء كلينا وغنّت بأعيننا العاطفات وابتسم الحبّ في شفتينا ومرّ نسيمٌ طريّ علينا ترشّ يداه عبير الحياة شربنا الشذى منه حتى ارتوينا
وقولها (ص188): وأبقى أمامك وجهاً لوجه وفي شفتينا لهاث أُوامٍ وفي وجنتينا ظلال ضرامٍ ونلقي السلاح وتمضي يدانا تلفُّ هوانا بحبٍّ وعطفٍ تلف هوانا ونفنى رضىً ونذوب حنانا
وقولها (ص192): هم يحسبون لقاءنا محض صدفة هل كان صدفة؟ من قال؟ من أين همو يعلمون؟ أنت الذي يعلمُ وأحمرُ الشفاهْ والعطر والمرآةْ وزينتي هي التي تعلمُ لا همو
وتجدر الإشارة هنا إلى أن موقف الشاعرة في هذا الديوان تجاه الطبيعة مختلف تماما أيضا عمّا كان عليه في الديوان السابق "وحدي مع الأيام"؛ إذ أصبحت الطبيعة ممتلَكَةً للشاعرة المُحِبّةِ عطوفاً عليها وليست ملاذاً متعاليا، تقول (ص 242): وَزِنْتُ غدائرَها الناعماتِ بوردٍ نما في جبال بلادي وطوّقتُها بأقاحي الروابي وزنّرتها بغصون الوهادِ
وقولها (ص235): هذا الهدوء الشاعري العميقْ يُغرق روح المكانْ يُشيع فيه الحنانْ ماذا ترى الطبيعة الساحرةْ قد أُلهمت أنّ هنا شاعرة؟
يمثل ديوان "أعطنا حبا" مرحلة خفوت الوهج العاطفي، فقد ملّت الشاعرة من تجارب الحب سريعة الانطفاء؛ وباستثناء قلة من القصائد مثل "المغرد السجين"، تعلن الشاعرة خيبتها بصراحة من تلك التجارب، ولعل "القصيدة الأخيرة" وهي آخر قصائد الديوان تعبر عن ذلك أوضح تعبير (ص.ص 404-405): انتهينا يا رفيقي حبنا كان استغاثاتِ غريق بغريقْ لم تكن تملك لي شيئا ولا كان لديّ لك شيّ وتلاشى صوتنا في اصطخاب الموج، في غور بحار الظلماتْ عبثا كنّا نريد الحب أن يمنحنا خيط الحياة.
فترة التصعيد والذكريات كانت جذوات الحب الأخيرة في الفترة السابقة قد ترمّدت مع وفاة شقيقها نمر عام 1962؛ وعندما وقع احتلال عام 1967 كانت فدوى مهيأة لحدوث تحول جذري في اهتماماتها العاطفية، بحيث أصبحت تقتصر أو تكاد على القضايا الوطنية كما يتبين من مطالعة ديوانيها "الليل والفرسان" و"على قمة الدنيا وحيداً".
ربما يصح القول إن قصائد الحب التي كتبتها في (أواخر) هذه الفترة إنما هي تذكرات لتجاربها السابقة في الحب، ونظرات استرجاعية تأملية في هذه التجارب. وهي عندما سئلت في "ظلال الكلمات المحكية"( ص61): "أتظنين أن الحب ظاهرة مألوفة ومتكررة في حياة المبدعين؟" كان جوابها: "الحب شيء خارج عن حدود المنطق، وعن دائرة العقل. مضت عليّ فترة كانت فيها حقيقة الوجود ثلاثة: الحب، والفن، والموت. لكن بعدها انتهيت إلى أنه ليس من حقيقة سوى الموت. إنه الحقيقة الوحيدة."
ومن الأمثلة الدالة في هذا الشأن قولها في "أنشودة للحب" من ديوان "اللحن الأخير" (ص.ص 32-42) كان وراء البنت الطفلةِ عشَرة أعوام حين دعته بصوتٍ مخنوق بالدمع: حنانك خذني ... ... الطفلة تكبر والأنثى وردة بستانٍ تتفتح والأطيار تطوفْ وتحوم رفوفاً حول الوردةِ بعد رفوف ... ... ما أحلى الحب!
الآخر
لكي يكون الحديث عن الآخر بالنسبة إلى شخص ما واضحا، يستلزم الأمر تحديد هوية هذا الشخص أولا. وليس تحديد الهوية بالأمر السهل، وبخاصة لأنه توجد في واقع الأمر عدة هويات للشخص الواحد، وذلك بحسب الدين أو القومية أو اللغة أو الجنس أو المهنة أو حتى الهواية أو غير ذلك؛ والمشكل في هذه الهويات، كما يقول المفكر البنغلاديشي أمارتيا سن هو إمكان قيام الشخص بتغليب إحداها على سائرها وطمس سائر الهويات، مما يقترن بالتعصب تجاه آخرين . وبتتبع أشعار فدوى طوقان وكتاباتها الأخرى، يمكن تحديد هوياتها بأنها امرأة عربية فلسطينية شاعرة يسارية . المرأة تطغى هذه الهوية على فكر فدوى وسلوكها في أيام طفولتها وجزء من شبابها، إذ كان يراد لها أن يكون حالها حال نساء العائلة اللواتي شبهتهن بالطيور الداجنة، واللواتي تقتصر رسالتهن على "تفقيس الفراخ الصغيرة" واستنفاد أيام العمر بين حلل الطبخ النحاسية الكبيرة وبين حطب المواقد"؛ وهي تفسر موقف أبيها الجاف تجاهها بقولها في "رحلة صعبة رحلة جبلية"( ص 129) : "لعل بروزي في العائلة بشخصية جديدة مغايرة للمألوف جعله يخشى من أن يؤدي ذلك إلى الجموح والخروج على الثوابت" . ولم يكن الأب وحده هو القيّم على الثوابت بل شاركه في ذلك إخوتها ـ باستثناء إبراهيم ـ وأبناء عمها الذين مارسوا سلطتهم الذكوريه عليها، أي "العنجهية التي ظل يعامل الرجال بموجبها الإناث من ذوي قرباهم" (ص 97) . وتعلق فدوى طوقان على ذلك بقولها (ص 98) : "بلى، كنت افتقد الجرأة على الاحتجاج الغاضب على مواقفهم المعادية، غير أن شعور الكراهية المقيت كان ـ بالمقابل ـ ينمو ويتعملق في أغواري كشجرة شيطانية. فمهما كان المرء سهل الطباع، فلا منجاة له من براثن وحش الكراهية الذي يخلقه فينا وينميه أولئك الذين يسلبون حريتنا، ويسيئون معاملتنا، ولا يثقون بنا . وتتضح هذه الكراهية الجارفة في قولها في كتاب "فدوى طوقان" ( ص ص. 186-188) : جرّعوني كأس الهوان وسدّوا الدرب دوني وأمعنوا في امتهاني طفلةً كنت في براءة طير : مقعدٍ عاجز عن الطيران إنهم عصبةٌ تبرأت منها : وسأبقى على مدى الأزمان قد يمكن تفسير بعض مواقف فدوى المستقبلية، بأشكال التمييز والحرمان التي عانتها في طفولتها، ومن ذلك فرحتها الغامرة بالسفر إلى إنجلترا والدراسة في أكسفورد بالذات، حيث أرادت تحقيق ما حققه أخوها أحمد الذي كان قد درس في أكسفورد سابقا . ومن هنا أيضا يمكن تفسير طبيعة الحب المتقلبة بينها وبين الرجال فيما بعد وقولها إنها أحبت كثيرا، ولم يتصل حبها في أي من الحالات؛ وهي تلقي اللوم في ذلك على الرجال الذين لا يحبونها لذاتها، كما قالت، بل لشِعرها؛ ولعل من الصواب أيضا القول إنها كانت لا تلبث أن ترى في هؤلاء صور الهيمنة الذكورية المروعة في صغرها فتسارع إلى قطع الصلة معهم؛ بل هي في أحسن الأحوال كانت تعامل الرجل المحبّ بندّية واضحة، وأبرز مثال على ذلك حوارها مع حبيبها في مطوّلتها "هو وهي" حيث يفتخر هو بنضاله من أجل التحرر السياسي فتفتخر هي بنضالها من أجل التحرر الاجتماعي . الهوية العربية شهدت فترة المد القومي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي إسهامات كبيرة من الأدباء والشعراء العرب في الدفاع عن الهوية العربية وحركات التحرير الوطني من قبضة الآخر الاستعماري . وبمراجعة دواوين الشاعرة في هذه الفترة، يتبين أن عدد القصائد التي كتبتها في هذا السياق محدود جدا، منها على سبيل المثال قصيدة "في مصر" وقصيدة "اليقظة" في ديوان "وحدي مع الأيام" وقصيدة "شعلة الحرية" (في حرب السويس) في ديوان "وجدتها"؛ ولا تتعرض فدوى للآخر في هذه القصائد تعرضا ذا شأن؛ ومن الممكن تفسير هذا الوضع جزئيا بما يمكن به تفسير ندرة القصائد التي كتبتها حول القضية الفلسطينية، وهو استحواذ الهم الخاص على الهم العام لديها، كما ذكرت هي نفسها في مذكراتها. يعود الصوت العربي عند فدوى للظهور بعد حزيران من عام النكسة ، حيث تناشد المثقفين العرب تحمّل مسؤوليتهم القومية من خلال الوعي الثقافي العقائدي؛ وتقول في "الرحلة الأصعب" ( ص 86 ) "إنها لضرورة قصوى في هذا الزمن التائه، أن يتحصن الإنسان العربي بوعي سياسي وعقائدي يحميه من الضياع، وعي تتأكد فيه هويته ويتكثف شعوره بالانتماء، ومن المؤكد أن أجدر من يتحصن بهذا الوعي السياسي العقائدي هم أصحاب القلم الذين ينطلقون في أداء دورهم النضالي من جبهة الفن والفكر والشعر. فلا بد لهؤلاء من اتخاذ موقف من الحياة، وموقع ينطلق منه سلوكهم وأفكارهم وأعمالهم الأدبية. فمثل هذا الموقع ومثل هذا الموقف يضيئان لهم الطريق ويمنحانهم عناصر رؤياهم، ومن خلالهما تنبثق مضامين إنجازاتهم الفكرية والفنية والأدبية . الشاعرة تماهي فدوى طوقان ذاتها بالشعر في أكثر من مناسبة، وبخاصة عند الحديث عن الآخر العائلي؛ ويرد هذا بأقصى درجات الوضوح والقوة في قولها في كتاب"فدوى طوقان" للمتوكل طه ( ص185) : مالهم يخنقون نبض طموحي وهو طيرٌ مرفرفٌ في الفضاءِ إنما الشعر شمس عمري هوائي وفضائي والشعر جذر بقائي وقولها(ص ص. 187 ـ 188) : ظل أقصى مناهمو هدم روحي وتداعي ما قام من بنياني فليموتوا بغيظهم ها هو اسمي نغمٌ عالقٌ بكل لسان وفي معرض دفاعها عن هويتها الشعرية في صباها تنتقد المعلمات في نابلس اللواتي لم يكنّ يقدرنها حق قدرها، بل "كان ذلك المجتمع النسوي المميز، مجتمع المعلمات، يجرح شعوري ويواجهني بمشاعر سلبية تعلن عن نفسها باللقاء غير الودي والمتغطرس الذي كنت ألقاه منهن. كانت الألسنة الحادة تقول دائما : أخوها إبراهيم يكتب لها الشعر ويذيله باسمها." نجد فدوى، من بعد، تدافع عن أهمية الفن (الشعر) إزاء من لا يرون له أهمية تذكر بالقياس إلى العلم والصناعة، فتقول في "رحلة صعبة رحلة جبلية" (ص 227) : "إن العلم والفن حركتان تمثل كل منهما جانبا من أعظم جوانب النشاط الإنساني الذي عرفته الحضارات المختلفة. والفن عموما بجميع فروعه مظهر حي من مظاهر الحياة وتعبير صادق عنها، ومن العبث أن ندعو إلى وأد الفن، لأنه شيء لا يموت إلا إذا ماتت الحياة على الأرض. وتضيف:" من الخطأ أن ندعو ـ نحن العرب ـ إلى عقد هدنة مع الأدب، متجاهلين أو جاهلين أن مشاريع المستقبل في أمة من الأمم لا يخططها ويرسمها إلا أدبها. إن الانتفاضات الواعية، والصراع من أجل الحياة الكريمة الحرة لا يمهد لها إلا الأدب ، فبالأدب والفن عموما تتيقظ الكبرياء، وتعلو الهمم ويشمخ البناء النفسي من أبناء الأمة." اليسارية من الملامح المميزة للإنسان اليساري وقوفه مع المظلوم ضد الظالم، بصرف النظر عن طبيعة انتماء أي منهما؛ وهذا ما نراه واضحا منذ وقت مبكر في حياة فدوى طوقان في تعليقها على معاملة الشيخة المتزمتة قاسية القلب لإحدى النساء الفقيرات، حيث تقول في "رحلة صعبة رحلة جبلية" ( ص. 36 ): "كنت أعاف هذه المواقف غريزيا وتلقائيا، فقد كنت شديدة الحساسية، لعلّي بالنسبة لهذا الموقف متأثرة لا شعوريا بأمي، فقد كانت تستهجن التعالي الطبقي، وتنتقد غطرسة الشيخة حتى لا تصيبنا عدواها...كما علمتنا بطريقه غير مباشرة المعنى الحقيقي لكلمة إنسان وما يحمله هذا المعنى من شمول أخوي." وتبدو ثورتها على الظلم الاجتماعي ـ الطبقي ـ بالغة الشدة في قصائدها الأولى في ديوان "وحدي مع الأيام" ـ "الديوان" ( ص32 ) : كم بائسٍ، كم جائعٍ، كم فقيرْ يكدح لا يجني سوى بؤسهِ ومُترفٍ يلهو بدنيا الفجورْ قد حصر الحياةََ في كأسهِ أرحمةُ الله بعليا سماهْ تقول أنْ يكتظَّ جوفُ الثري ويُحرَمَ المعوزُ قوتَ الحياةْ في عيشهِ المضطرب الأعسرِ وراعها صوتٌ عميقٌ مثيرْ جلجل فيها مثلَ صوتِ القدرْ لم تحبسِ السماءُ رزقَ الفقيرْ لكنّه في الأرضِ ظلمُ البشر.. وفي ( ص 36 ) : ألستِ من الأرض؟ فيمَ انحطافُكِ ؟ فيم انجذابكِ نحو الأعالي ؟ أأنكرت في الأرض هولَ الفناء , وظلمَ القضاء , وجورَ الليالي تُراكِ افتقدتِ جمالَ العدالةِ فيها , فهمتِ بأفقِ الخيالِ وفي ( ص 285 ) على لسان حبيبها المناضل: وكان لي الفنُّ والشعرُ صوتاً يجلجل في ثورةٍ لا تلينْ على الغاصبينَ حقوقَ الفقيرْ على السارقين جَنى الكادحينْ . لم تكن فدوى يساريةً ثورية فهي بصفتها امرأة شاعرة تكره العنف، وقد أشارت إلى هذا المعنى في عدة مناسبات من مذكراتها، فتقول في "رحلة صعبة رحلة جبلية"(ص. 159) : "لم أكن أملك يوماً الطبيعة العراكيّة التي كان يمكن أن تسعفني في ذلك العالم الغريب على طبيعتي، وأخذت أضطرب بين حبي للناس وخوفي منهم." وإنما يمكن أن يكون اليسار عندها شبيها بالفابيّة عند برناردشو وسيدني ويب وأمثالهما . من المؤشرات على الميول اليسارية عند فدوى طوقان النغمة الإيجابية المتعاطفة التي تتحدث بها عن الشخصيات اليسارية في مختلف المناسبات، وهي شخصيات كثيفة الحضور في مذكراتها، ومتنوعة بين الذكور والإناث، والعرب واليهود؛ بل هي ترى في بعض هذه الشخصيات معلميها ومرشديها أحيانا؛ وفي "الرحلة الأصعب" تقول ( ص.21) : " بصحبة الصديقة سلمى ماضي وزوجها، آنذاك، عصام عباسي، كنت أمضي بعض الأمسيّات في غرفة سميح الصغيرة أو غرفة محمود درويش الذي كان قد استقل ببيت خاص به، فألتقي بمحررين وكتاب في جريدة الاتحاد ومجلتي "الجديد" و"الغد" التقدميتين؛ ولقد تم التصاقي بكل هؤلاء، فكانوا بالنسبة إليّ قطراتِ الضوء في ليل الاحتلال الحالك؛ فبين هؤلاء الكتاب والشعراء الذين كانت السياسة والانتماء الحزبي عملهم من أجل الحياة، ومن أجل الوطن، ومن أجل الإنسان، وجدت نفسي، كما وجد التحول النوعي طريقه إلى نفسي وتفكيري وكأنما لمستني كف المعجزة!.. كنت أعود من لدُنْهم بعد كل لقاء وفي نفسي ترتعش المشاعر المعافاة كارتعاش الأزهار." الفلسطينية تعزز الإحساس بالهوية الفلسطينية، عند فدوى طوقان، بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع في حزيران 1967 ، وأصبح الآخر في أدبها هو الآخر اليهودي بعد أن كان يشاركه صفة الآخريّة الآخر الإنجليزي قبلئذٍ . فيما يتعلق بالآخر الإنجليزي، اختلفت الصورة التي رسمتها فدوى طوقان له في زمن الانتداب عنها بعد سفرها إلى إنجلترا للدراسة عام 1962 ؛ولعل الفقرة الآتية من" رحلة صعبة رحلة جبلية" (ص 107 ) تمثل أصدق تمثيل الصورة البشعة للآخر الإنجليزي في زمن الانتداب: "كانت الثورة (ثورة عام 1936) قد عمقت الدوافع العدائية الجماعية في أفراد الجماهير الفلسطينية نحو الانكليز. فوعد بلفور كان شيطانا انكليزيا منذ البداية، ولقد كانت ثورة القسام في الأصل قائمة على مناهضة الانكليز ومقاومتهم، فهم أصل الشر والبلاء، وهم العاملون على تنفيذ المطامع الصهيونية الخطيرة. وحين قال أبو سلمى عام 1936 : (لو كان ربي انكليزيا دعوت إلى الجحودِ) لمس الوتر الحساس في قلوب الجماهير الفلسطينية ونطق بلسانهم، وعبر عن مشاعرهم المستفزة الغاضبة." أما الصورة الأخرى(1962ـ1964 ) فصورة شعب متحضر يستمتع فيه الفرد ببيئة خضراء جميلة وبحرية في التعبير والمعتقد تكاد تكون غير محدودة، وبسلوك اقتصادي مرشّد بعيد كل البعد عن الإهدار؛ ومع ذلك لم تغفل فدوى عن ذكر بعض العيوب في المجتمع الإنجليزي، مثل: التقصير في حقوق المسنين، وعدم تحقيق المساواة في النوع الاجتماعي؛ ولكن مثل هذه الانتقادات لا تقلل من جمال الصورة العامة التي رسمتها . لكنّ ما حزّ في نفس فدوى وآلمها أشد الألم هو جهل عامة الإنجليز بفلسطين والشعب العربي الفلسطيني، وهي عندما عرّفت نفسها لأحدهم بأنها فلسطينية، لم يفهمها المخاطب، فقالت تريد التوضيح : أنا من روابي القدسْ بلد السنى والشمسْ وعندئذٍ، كان استنتاجه المفاجئ لها: يا يا، عرفت، إذن يهودية. ولم يكن مبلغ حزن الشاعرة قليلا، وهي تتذكر وعد بلفور عام 1917 وما ارتكبه الانتداب الإنجليزي من جرائم في سبيل إخراج عرب فلسطين من ديارهم، وإحلال المهاجرين اليهود من شتى بلدان العالم محلهم. وفيما يتعلق بالآخر اليهودي، تميز فدوى تمييزا قاطعا بين اليهودي كإنسان، واليهودي الصهيوني الغاصب والمحتل في فلسطين؛ فهي تقول مخاطبة موشيه دايان في "الرحلة الأصعب"( ص ص. 41-42 ): "لست أكرهكم كيهود، لكني أكرهكم كمحتلين. إن لليهود حقا في حياة حرة كريمة بعد الذي عانوه في أوروبا؛ ولكن هناك حقيقة أخرى وهي كون البلاد العربية سواء منها دمشق، أو بغداد، ظلت هي المكان الوحيد الذي أمنوا فيه على حياتهم على مدى قرون من الاضطهاد والذبح والطرد الذي مارسته دول أوروبا عليهم؛ نعم لقد عانى اليهود كثيرا ولكن لماذا نكون نحن الفلسطينيين من يدفع الثمن؟" وتقارن فدوى هذه المعاملة الكريمة بما يعانيه عرب فلسطين من التشرد ومنعهم من ممارسة حق العودة إلى ديارهم، وكذلك سوء حال العرب الذين ما زالوا يقيمون في بلداتهم وقراهم بعد حرب 1948 . وفي سياق التمييز أيضا تقول( ص ص. 103-104 ): "يسرني ويسعدني أنني أتمتع بصداقتي ومحبتي لعدد من اليهود الذين عرفتهم عن قرب، أولئك الذين لمست دفء قلوبهم وصدق إنسانيتهم وبعدهم في تعاملهم مع العرب عن روح التعالي القومي. وإذا قلت إنني وأنا في صحبة صديقة أو صديق يهودي لا اشعر إطلاقا أنني أجلس إلى إنسان ينتمي إلى دولة عدوانيه اغتصبت أرض آبائي وأجدادي، فإنني أؤكد أن هذا الإحساس لا ينبع عن سذاجة أو بساطة. ولكن ينطلق من شعور إنساني محض. إنني على وعي عميق بخطورة وضعنا الفلسطيني أمام الأهداف الصهيونية التوسعية. ولكن كيف ألقي المسؤولية على أصدقاء هم ضد التطرف الصهيوني وهم حريصون على صداقة العرب وبناء جسور التفاهم والمحبة بين الشعبين رغما عن القادة الصهيونيين الذين يعملون على أن يتباعد الشعبان وأن تهدم الجسور بينهما. إن أصدقائي أولئك من يهود إسرائيل إنسانيون ممتازون يبذلون جهودا صادقة من أجل تعزيز التفاهم المتبادل والتواصل الإنساني، ويعتقدون بضرورة التعايش مع الفلسطينيين ولا ينكرون أن لنا حقا في الحياة في أرض الوطن." والحديث عن هؤلاء الأصدقاء اليهود أو معهم يشغل حيزا كبيرا من كتابها "الرحلة الأصعب"، ومنهم راحيل فرحي، ويهودا منوحين، وهربرت ماركوز وزوجته، وفيليتسيا لانغر، وداليا بيكوفتش، ومردخاي أبي شاؤول، وغيرهم ممن تسميهم فدوى تقدميين، أو إنسانيين، أو يساريين؛ وهي مصطلحات متقاربة المعنى، وتشير إلى أن الهوية الإنسانية بقيت حاضره في نفس فدوى رغم مرارة الألم الذي عانته وعاناه شعبها الفلسطيني من ظلم الآخر الغاصب المحتل . الفكرالتنويري من الملامح المميزة والمهمة للمفكر التنويري سواء أكان ليبراليا أم يساريا أم مختلفا عن هذا وذاك، تحليه بالعقلانية في الفكر والسلوك، وانفتاحه على الآخر في سعيه من أجل الوصول إلى الحقيقة وترقية الذات والمجتمع . من تجليات العقلانية في فكر فدوى طوقان ما نجده في كتابها "رحلة صعبة رحلة جبلية" من رفض متكرر للخرافات والتقاليد البالية في المجتمع النابلسي في إبان طفولتها (ص ص.42-47) ، وكذلك الإشادة بالعلم واعتباره هو والفن جانبين من أعظم جوانب النشاط الإنساني التي عرفتها الحضارات ( ص 227) ، ودعوتها إلى تبني الموضوعية في الفكر، وذلك في "الرحلة الأصعب" ( ص ص. 143-145). ويتبين الانفتاح على الآخر عند فدوى طوقان في مختلف الإحالات إلى أفكار الآخرين من فلاسفة ومفكرين في مذكراتها، وفي علاقاتها الوثيقة مع أدباء وكتاب، ذكور وإناث، فلسطينيين ويهود غير صهاينة وغيرهم، والتي تجلت في"الرحلة الأصعب"بوجه خاص، في حوارات وخطابات متبادلة يهيمن عليها التوجه الإنساني العميق من كلا الطرفين. ومما هو جدير بالذكر في هذا السياق أن الكثرة الكاثرة من تلك الشخصيات هي ذات توجهات يسارية؛ ويعني هذا التوجه المقترن بإيمانها بدور الجماهير المهم في صنع الانتفاضات والتاريخ كما صرحت عنه في عدة مناسبات ـ يعني أن التنوير لدى فدوى طوقان هو تنوير يساري بالرغم من بعض الملاحظات التي عبرت فيها عن إعجابها بمناخ الحرية الذي عرفته في أثناء دراستها في أكسفورد بإنجلترا. ومن أبرز تجليات الفكر التنويري لدى فدوى طوقان أيضا عرضها الدقيق والشامل للتمييز في النوع الاجتماعي الذي عانته أشد المعاناة في أسرتها، ولرفضها التام لذلك التمييز في بلدها وخارجه، حتى إنها أخذت على المجتمع الإنجليزي تقصيره عن تحقيق المساواة التامة بين الجنسين في مختلف ميادين الحياة. المراجع عودة، نادية. (1998). الشعر جسر نحو العالم الخارجي: دراسة في سيرة فدوى طوقان . ترجمه د. عادل الأسطة. نابلس : الدار الوطنية للترجمة والطباعة والنشر والتوزيع . أبو غضيب، هاني.( 1983 ). فدوى طوقان الشاعرة والمعاناة. نابلس : دار الزيتون. طوقان، فدوى.( 1996 ). ظلال الكلمات المحكية (حوار مع ليانة بدر). القاهره : دار الفتى العربي . عودة، خليل.( 1998). حفل منح الدكتوراه الفخرية للشاعرة فدوى طوقان. نابلس : جامعة النجاح الوطنية . عمر، رمضان.( 2004 ). سيرة فدوى طوقان وأثرها في أشعارها عكا : الاسوار . العلم، إبراهيم.( 1992). فدوى طوقان : أغراض شعرها وخصائصه الفنية. القدس: اتحاد الكتاب الفلسطينيين . دردنجي، هيام.( 1994). فدوى طوقان شاعرة أم بركان . عمان : دار الكرمل للنشر والتوزيع . الشيخ، غريد.( 1992). فدوى طوقان شعر والتزام. بيروت: دار الكتب العلميه . الشامي ،يحيى.( 2003 ). فدوى طوقان ورحلة العذاب. بيروت: دار الفكر العربي . دروزة، أفنان.( 2005). فدوى طوقان كما عرفتها. رام الله: دار الشروق. طه، المتوكل.( 2004 ). قصائد لم تنشرها فدوى طوقان: قراءة المحذوف. رام الله : دار الشروق . طه ،المتوكل.( 2010 ). فدوى طوقان: رسائل إبراهيم طوقان إلى فدوى . المحذوف من حياة وشعر فدوى فلسطين : وزارة الثقافة الفلسطينية . طوقان، فدوى.( 2000 ). اللحن الأخير. رام الله : دار الشروق للنشر والتوزيع . طوقان، فدوى.(2000). ديوان فدوى طوقان. بيروت:دار العودة. طوقان، فدوى.(1994). فدوى طوقان: الأعمال الشعرية الكاملة. نابلس: مكتبة خالد بن الوليد.
#أبو_زيد_حموضة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكتب فى عالم بلا قرَّاء جلسة ثقافية أعدها المنتدى التنويري
-
من تجربة اليسار البرازيلي .. المناضل التقدمي آلدو سودا
-
المنتدى التنويري يعرض الفلم الفرنسي لاكومب لوسيان للمخرج لوي
...
-
المنتدى التنويري ينظّم جلسة حوارية حول مقاطعة العدو الصهيوني
...
-
غسان كنفاني : أديبا مبدعا ومناضلا صادقا ... ندوة نّظمها منتد
...
-
المنتدى التنويري يعرض ثلاثة أفلام وثائقية للمخرج الفلسطيني م
...
-
ورشة عمل حول حقوق الطفل ونهج من طفل الى طفل .. أعدها سامر عج
...
-
الصحفي الفلسطيني المناضل محمد علي الطاهر ...
-
ماذا تعرف عن حركة التضامن الدولي ؟ ( ISM ) ...
-
الحراك الشعبي والمسار الفلسطيني .. جلسة ثقافية نظّمها المنتد
...
-
حتى لا ننسى .. النكبة في الفكر الصهيوني واحياء ثقافة حق العو
...
-
تحرير الاسرى طريقنا للحرية .. محمود زيادة.. مسعود زعيتر .. ت
...
-
في الاول من ايار، المنتدى التنويري يسلط الضوء على دور النقاب
...
-
الكنيسة الانجيلية الاسقفية العربية والمنتدى التنويري يحتفيا
...
-
من صور التطهير العرقي اليومي في فلسطين ... شاهدو الفيديو
-
الحجة سبتية ( اُم الاسرى) وحكايتها مع السجن والسجان ..... مي
...
-
المنتدى التنويري يحتفي في الذكرى 75 لميلاد أديب الثورة غسان
...
-
تداعيات الثورات العربية على المشهد الفلسطيني .. زكريا محمد .
...
-
لا اريد لهذي القصيدة أن تنتهي ... اُمسية شعرية في نابلس في ي
...
-
الثورة الشعبية المصرية الواقع والآفاق جلسة ثقافية للاستاذ عم
...
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|