أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - السخرية السوداء واللغة المبطنة في روايات الداودي















المزيد.....

السخرية السوداء واللغة المبطنة في روايات الداودي


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 3570 - 2011 / 12 / 8 - 11:51
المحور: الادب والفن
    


يعرف المتابعون من كثب أهمية المنجز الإبداعي للقاص والروائي العراقي زهدي الداوودي الذي يشكّل علامة فارقة في المشهد الثقافي العراقي برمته. أصدر الداوودي منذ أوائل الستينات من القرن الماضي ثلاث مجموعات قصصية وهي (الإعصار) و (الزنابق التي لا تموت) و (أسطورة مملكة السيد)، إضافة إلى سبع روايات مهمة أبرزها (أطول عام)، (زمن الهروب) و (ذاكرة مدينة منقرضة)، مدار دراستنا النقدية المتواضعة. كما ينهمك الداوودي بين أوانٍ وآخر في الترجمة والنقد الأدبي والفكري والسياسي وما إلى ذلك.
تجدر الإشارة إلى أن غالبية أحداث قصصه ورواياته السابقة تدور في الفضاء الكردستاني العراقي، ولا غرابة في ذلك فهو مواطن كردي من مواليد طوزخورماتو ومن حقه أن يكتب عن الموضوعات والأمكنة التي يعرفها جيداً ويستطيع أن يغوص فيها ويمسك بعصبها النابض. ولأنني أعرف أن الداوودي في خاتمة المطاف هو إنسان كوزموبوليتاني أكبر بكثير من الحدود الجغرافية الضيقة فلهذا يستطيع أن يكتب عن موضوعات وثيمات عالمية كبيرة فما بالنا حينما يكتب عن بغداد ويضعها في دائرة اهتماماته الأدبية على وجه التحديد.
تنفرد رواية (ذاكرة مدينة منقرضة) بميزات قلّما نجدها في الروايات السابقة للمبدع الكبير زهدي الداوودي من بينها اللغة التهكمية المرّة التي تضرب في الصميم، ولعلني لا أغالي إذا قلت إن البناء المعماري الرصين لهذا النص الروائي تحديداً قائم على المفارقة، والسخرية السوداء، والصياغات اللغوية المبطنّة التي تكشف عن الشخصيات الروائية وتعرّيها أمام قارئ النص ومتلقيه.

إشكالية العنوان
لاشك في أن عنوان هذه الرواية غامض ومثير للجدل. فحينما ينتهي المتلقي من قراءة هذا النص الروائي لا يجد ما يحيل إلى الانقراض بالمعنى الواقعي المتعارف عليه، ولكن هناك ايحاءات قوية تشير إلى الانقراض المجازي لمدينة بغداد بوصفها العاصمة الجميلة الثرية التي يعبث بها اللصوص والجهلة وقطّاع الطرق ولا يتورعون عن انتهاكها وفضِّ بكارتها جهاراً نهاراً. من هنا يمكننا أن نسوّغ فكرة انقراض العاصمة بغداد في حقبة الأفّاقين الكذبة الذين يلهثون وراء السلطة والثروة، ويفضلون مصالحهم الشخصية على المصلحة العامة للبلد. فلا غرابة أن تنقرض بغداد وتتوارى خلف مدارج النسيان لمدة محددة من الزمن، لكنها سوف تعاود الحياة وتنهض من رمادها يافعة قوية معافاة لتسترد من سرّاقها كل ما سلبوه من ثروتها وعزِّها ومكانتها المرموقة بين الأمم. لقد أصاب الداوودي كبد الحقيقة حينما سمّى بغداد خصوصاً أو العراق بصورة عامة بـ (ولاية بطّيخ) وهي تسمية تهكمية ساخرة توحي بالانفلات التام، والفوضى العارمة، وغياب القانون، وهيمنة الجهلة والمغامرين على سدة الحكم. ويبدو أن هذا التوصيف الدقيق كان ملائماً جداً لأن تنضوي الرواية تحت لافتته المعبِّرة والموخزة والساخرة في آنٍ معاً، لكن الروائي كان يخشى في خلده من القارئ العربي الذي قد لا يفهم الدلالة التهكمية الكامنة في هذا التوصيف الساخر. وربما تصادفه المشكلة ذاتها في حال ترجمة الرواية إلى لغة أوروبية حيّة، لذلك تجاوز هذه الإشكالية وقرّر اختيار العنوان الصريح الذي ينطوي هو الآخر على إحالة مجازية يمكن قبولها وتسويغها بأقل الخسائر.

البناء الفني
إن منْ يقرأ هذه الرواية يشعر منذ صفحاتها الأُوَل بأنه أمام لغة عفوية سلسة وبناء معماري رصين يشي بالقدرة الفائقة لمنتج النص ومبدعه في السيطرة على حركة الشخصيات ونموّها ضمن السياق السردي الذي انطلق من نتوء واقعي هو (عرين الأسد) أو المقبرة بوصفها مكاناً مشؤوماً في الأقل، لكنه استجار بالتقنية الفنتازية التي يمكنها أن تستوعب جملة من الأحداث الغرائبية التي قد لا يستسيغها الواقع نفسه في (ولاية بطّيخ) التي أصبحت مرتعاً للعصابات والشقاوات والخارجين على القانون الذين يبتزون المواطنين البسطاء مقابل توفير الأمن وحماية الممتلكات الشخصية والعامة. ولك عزيزي القارئ أن تتخيّل المناخ الفنتازي الذي يتحوّل فيه اللص إلى (حارس أمين) على متاجر الناس ومحلاتهم وبيوتهم!
تشكِّل الجملة الاستهلالية في هذه الرواية، وفي أي عمل أدبي، مفتاحاً مهماً للولوج إلى متن الثيمة الرئيسة وفضائها الزمكاني. لنمعن النظر في هذه البداية التعبيرية المنتقاة حيث يقول فيها الداوودي: (كانوا ثلاثة أصدقاء. أصدقاء جمعتهم ذاتَ يوم قنينة عرق مغشوش) لا تبتعد هذه الجملة الاستهلالية كثيراً عن موضوع الصداقة الروحية الحقة التي تربط بين هؤلاء الأصدقاء الذين جمعتهم قنينة عرق مغشوش في إشارة واضحة إلى عوَزهم المادي وفقرهم المدقع. وما أن نمضي في قراءة النص حتى نكتشف أن هؤلاء الثلاثة قد نالوا قسطاً من العلم والمعرفة وتثقّف كل واحد منهم بطريقته الخاصة التي لا حاجة لذكرها الآن. ونتيجة لمواهبهم المتعددة وثقافتهم المُكتسَبة فقد انطبق عليهم القول المأثور (سبع صنايع والبخت ضايع)! المهم أن هؤلاء الثلاثة ليسوا إمّعات، ولكنهم كانوا مقتنعين بأن هذه الحياة الفانية لا تستحق المشقّة والعناء. نستشف من السياق السردي المُتهكِم أن الأصدقاء الثلاثة يعيشون في (عرين الأسد)، لكننا نكتشف أن هذا (العرين) ليس سوى مزار يضم قبرين لا غير يقع ضمن إطار المقبرة المسيّجة حديثاً. وأن هؤلاء الأصدقاء الثلاثة مشرَّدون يعيشون على هامش المدينة وحينما لايجدون ما يحتسونه من خمر مغشوش يقرِّر كبيرهم شمس الدين، الذي اتفقوا على أن يكون قائدهم ومدبِّر أمورهم في القادم من الأيام، أن يسطو على حانوت دنخة الأعور ويسرق منه عدة قنانٍ من المشروبات الروحية وعلب سجائر أجنبية وبضعة أكياس (كرَزات) إضافة إلى بندقية الصيد التي استعارها من مدير البلدية. بعد نجاح عملية السطو وتأمين المشروبات الروحية ازدادت ثقة خير الدين وشرف الدين بصديقهم شمس الدين الذي سلّموه زمام قيادة هذه المجموعة وتنفيذ أوامره الصارمة بما فيها القتل، وقد أصبح شعارهم منذ الآن (البذخ أو الموت، ومَنْ غشَّنا ليس منّا) وأقسموا بأغلظ الأيمان بأن لا يخونوا بعضهم بعضا، وأن من يخون فسوف يكون مصيره القتل لا مُحالة.
إذا كانت الفكرة التي التمعت في ذهن شمس الدين فنتازية فإن هذا المناخ الفنتازي سيستمر ويهيمن على مدار النص بكامله وكأنَّ الداوودي يمهِّد لنا الطريق للقبول بهذا العالم العجائبي الغريب الذين يتسيّد فيه اللصوص والهامشيون ليصبحوا حُماة (ولاية بطّيخ) ومدبِّري شؤونها. ولكي تتكامل شروط اللعبة الفنية اقترح شمس الدين على صديقيه أن يأخذا من الخيّاط أيوب ثلاث بدلات عربية بالدَين مقابل أن يرهنا عنده البندقية المسروقة. وهكذا أصبح شمس الدين في لمح البصر شيخ عشيرة ألبو رايات التي لا وجود لها على أرض الواقع، فيما أصبح خير الدين مرافقه الأول، وشرف الدين مرافقه الثاني. ولكي يحكموا أبعاد اللعبة ذهبوا إلى دنخة وفبركوا له قصة مواجهة اللصوص الذين دهموا حانوته وسرقوا منه بعض المشروبات الروحية إضافة إلى بندقية الصيد التي استعارها من مدير البلدية. ولتأكيد حسن نيتهم فقد أعادوا له البندقية المسروقة بعد أن تبرع لهم بمبلغ مائة دينار كي يمنحوها للرجال الشجعان الذين تصدوا للصوص، بينما كان حدسه الدقيق ينبئه أن هؤلاء الثلاثة هم الذين سطوا على حانوته وأنهم قادرون فعلاً على تأمين الحماية له ولبقية المحلات التجارية التي تخضع لإمرتهم. لم يقتصر هذا الإيهام على دنخة حسب، وإنما تعدّاه إلى سالم الجربوع، صاحب مطعم الكباب السوري الذي قطع الشك باليقين بأنهم شيوخ عشائر وأنهم قادرون على تأمين الحماية له مثلما أمّنوا الحماية لدنخة وأعادوا له بندقيته المسروقة، كما استقبلتهم القوّادة (عزيزة) أحسن استقبال لأنها أيقنت أن شمس الدين رجل قوي ويستطيع أن يدافع عنها ويحمي مصالحها، ولكنها كانت تعرف نتيجة لخبرتها الطويلة في هذا النمط من الرجال أنه ليس شيخاً، وأن عشيرة ألبو رايات لا وجود لها على خارطة العشائر العراقية المعروفة، لكنها أحبته لأنه جميل وجذّاب وغير متزوج ويكبرها بأربع سنوات لا غير. لا غرابة أن تتسارع الأحداث وتتطور بشكل دراماتيكي حينما كشفت له عزيزة أنها تعرف، كما الساحرات في القصص القديمة، أنهم من سكنة المقبرة وأنهم سطوا على حانوت دنخة وسرقوا منه المشروبات الكحولية وبندقية الصيد وأعادوها له في اليوم الثاني وكيف اقترح شمس الدين على صديقيه أن يكون قائداً لهم شرط أن ينفِّذوا أوامره بحذافيرها. وعلى الرغم من كل القصص التي سمعتها من شمس الدين إلا أنها أيقنت أن هذا الرجل سيوفر لها الحماية المطلوبة، وسوف ينتقم لها من (كمال)، الشخص الذي اغتصبها وطعنها في الصميم. ولأن بُنية النص فنتازية كما أسلفنا وعلينا أن نقبل بهذه الأحداث المتواترة والتطورات المتسارعة التي تفيد بأن شمس الدين قد مارس الحُب مع عزيزة في اللقاء الأول ثم رسم لها خطة مُحكمة للانتقام من كمال بيك، الذي يشغل حالياً منصب مدير الشرطة العام في (ولاية بطيخ) وهو رهن إشارتها وينتظر تحديد ساعة الصفر لينقضّ على خصمها وعدوّها اللدود. وأكثر من ذلك فقد صرّح لها أنه ينوي الإطاحة بـ (ولاية بطيّخ) ويقيم على حطامها (ولاية بطيخ) جديدة. تضمّنت خطة شمس الدين أكثر من مقترح انتقامي مدروس من بينها أن يقتله ويبيد عائلته معه أو يستدرجه ويقبض عليه متلبِّساً بالجرم المشهود. وحينما شعر برغبتها الجدّية في قتله وتقطّيع جثته أقنعها بأن (ولاية بطيخ) ستعمل المستحيل للعثور على القتلة والقصاص منهم، لذلك فضّل استدراجه إلى المنزل وجلب كل الكمبيالات التي وقعّتها عزيزة بحجة أنها ربحت بطاقة اليانصيب وتريد أن تسدّد ديونه التي جاوزت الخمسة آلاف دينار. ولكي لا يتركوا أي أثر للجريمة فقد اقترح عليها أن تعطي عليوي وزينة وساهرة إجازة لمدة أسبوع. ومن بين تفاصيل الخطة أنهم يدهمون البيت بحجة سرقة مبلغ الجائزة في اللحظة التي يكون فيها كمال بيك وعزيزة عاريين في الفراش ثم يصوّرونه لكي يكون مطية لهم ويعمل لمصلحتهم، وسوف يأخذون الكمبيالات الموجودة لديه، ويخيّرونه بين أن يقتلوه أو يتعاون معهم مدى الحياة.

الاستعادة الذهنية
استعمل الداوودي تقنية (الفلاش باك) لتوضيح أبعاد العلاقة العاطفية التي ربطت بين عزيزة وكمال. فبعد أن اقترحت عليها أمها أن تتزوج من الراعي الطيب حسون قررت عزيزة أن تهرب إلى بغداد بعد أن كتبت رسالة إلى كمال الذي استقبلها في المحطة مع اثنين من أصدقائه من طلاب كلية الشرطة، الأول صباح وهو ثري وابن شيخ معروف، والثاني سرمد الشخص الأكثر هدوءاً بينهما. لم ينتظر كمال طويلاً إذ اغتصب عزيزة بالقوة وغيّر طبيعة العلاقة الروحية التي تربطهما حيث قالت له: "أنك اغتصبتني بالقوة وملكتَ جسدي، وأما قلبي ففقدته إلى الأبد" ونتيجة لضغطها وإلحاحها بتوجيه من صديقتها زينة قرر أن يعطيها راتباً شهرياً قدره عشرة دنانير مقابل أن يوقّعها على كمبيالة ليضمن مطالبة أمها بدفع المبلغ لاحقاً.
لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، بل تطورت باتجاه آخر أكثر تعقيداً، إذ عرف صباح محل سكناها وقدّم لها اغراءات كثيرة حيث منحها مبلغ خمسين ديناراً لكي تشتري ملابس لها ولصديقتها زينة. وأكثر من ذلك فإن العلاقة أخذت طابعاً جنسياً لم يكن كمال يتصوره، الأمر الذي دفعه في لحظة غضب وانفعال أن يطلق النار على صباح ويرديه قتيلاً في الحال، ولكي يسجل الجريمة ضد مجهول دفن الجثة في مكان لا يعرفه إلا هو وخير الدين الذي بدأ يدير المقبرة بتكليف من رئيسه وصديقه شمس الدين. وبعد عملية الدهم التي أشرنا إليها سابقاً وإجبار كمال بيك على التعاون معهم طلب شمس الدين منه أن يعين ثلاثة من أبناء أخواله في الشرطة السرية فوافق في الحال، كما اتفقا على أن يُسمّي شمس الدين من الآن فصاعداً باسم شيخ إبراهيم الذي سيتولى مراجعة السيد كمال، مدير الشرطة العام، في دائرته الرسمية. عزّز شمس الدين علاقته مع السيد حامد، مدير البلدية، والسيد أنور، مدير الطابو، والسيد تحسين، مدير الأمن، كما أخذت علاقته بعزيزة طابعاً عاطفياً عميقاً منحه الحُب والإحساس بروح المغامرة التي علّمته لأن يختار بين أن يكون ذئباً أو خروفاً، لكنه قرّر سلفاً أن يكون ذئباً لكي لا تأكله الذئاب.
تغيّرت حياة الأصدقاء الثلاثة بعد أن بدأت النقود تنهمر عليهم من كل حدب وصوب فاتصلوا بالخيّاط أيوب وطلبوا منه أن يفصِّل لهم ثلاث بدلات أوروبية لكي تتلاءم مع أوضاعهم الجديدة التي شهدت ثراءً مادياً غير مسبوق بعد أن نسّق شمس الدين أموره مع السيد أنور مدير الطابو. بدأت أوضاع كمال النفسية ترتبك حينما وزعت الجهات الأمنية صور المغدور صباح وطلبوا من الموظفين الأمنيين الذين يعرفونه أن يجيبوا بكلمة نعم أو لا، وهذا يعني أن والده الشيخ المعروف، وعضو مجلس النوّاب قد التمس من الباشا أن يفتح التحقيق مجدداً فأخذ كمال يشكّ في عزيزة التي تريد أن تنتقم لشرفها المهدور على يديه. ومما فاقم وضعه النفسي هو ارتكابه جريمة قتل ثانية حينما أمر بإطلاق النار على الخطيب الذي لم يتفوّه بكلمة واحدة في المظاهرة المناهضة للسلطة. التجأ كمال بيك إلى شمس الدين كعادته فاحتواه هذا الأخير وأفهمه بأن الذي يُصدر هذا الأمر لم يولد بعد فزالَ قلقه وتوارت شكوكه، وعاد إلى بيته مطمئن البال، لكنه عاد في اليوم الثاني وهو يحمل اقتراحين، الأول أن يطيح بولاية بطيخ، والثاني أن يعتذر لوالد صباح، ويقبِّل يديه، ويدفع له الديّة، كما يطلب من الباشا أن يتدخل بالموضوع لأنه عضو في حزبه. حينما عرف شمس الدين أن كمال بيك عضو في حزب الباشا انزعج كثيراً وعاتبه لأنه خبأ هذا الموضوع الحسّاس عنه، فهو يريد من شمس الدين أن يفتح له أبواب الحزب أيضاً. كان كمال يسقط في أحلام يقظة كثيرة يرى فيها نفسه وهو يتلو البيان رقم واحد ثم يصدر قرارات الإعدام المتتالية برئيس الوزراء ووزير الداخلية حتى يصل إلى اعدام عزيزة وشمس الدين بتهمة الدعارة ومخالفة تعاليم الدين الإسلامي الحنيف. كانت عزيزة هي الشخصية الوحيدة التي تعرف نوايا كمال بيك جيداً مذ انضمَّ إلى التنظيم السرّي (ضباط المقاومة) وأراد أن يكون مسؤول هذا التنظيم، لكن صباحاً قال له أنه مجرد إمّعة وانتهازي ولا يصلح أن يكون عضواً في هذا التنظيم. من هنا قطع صلته به وقرر قتله لسببين في آن معاً وهما اهانته وخيانته مع حبيبته عزيزة. حينما عرف الباشا بتفاصيل هذا التنظيم السري الذي يهدف إلى الاطاحة بولاية بطيخ قرر مكافأة كمال بيك لأنه أنقذ الوطن من ضابط خطير وطموح لا يتورع عن ارتكاب أية حماقة وفي أي وقت. لم يقتصر الأمر على مكافأة كمال بيك حسب، وإنما تعداه إلى تقديم كتاب شكر له وترقيته وتعيينه في المكتب الخاص بالباشا شرط أن يدلّهم على قبر المغدور كي يضعوا حداً لهذه المشكلة التي أرّقتهم طويلاً. لقد فرح شمس الدين بهذه الأخبار الطيبة، لكن عزيزة أصرت على تغيير ولاية بطيخ مثلما كان يخطط كمال وشمس الدين سابقاً.
حينما جاء الشيخ وثلاثة من رجاله بضمنهم خادمه مهاوش زعيان لفتح القبر ونقل الجثمان إلى القرية بغية إقامة شعائر التأبين قرر كمال بيك أن يحضر بنفسه ليتأكد من جثمان صباح. ونتيجة لإخلاص كمال بيك للباشا وانسحابه من التنظيم السري قرّر الباشا تعيينه مديراً للاستخبارات الخاصة حيث يتسنى له مراقبة ضباط الجيش والشرطة وكتابة التقارير الوافية عن اتصالاتهم وتحركاتهم المريبة التي تستهدف قلب النظام. وفي أول متابعة سريّة له قرر أن يحضر شعائر التأبين التي أقامها الشيخ، والد الضابط المغدور وتوقع حضور أصدقائه الضباط المقاومين، ولكنه دهش لعدم مجيء أي واحد منهم. وحينما زارهم آمر الانضباط العسكري استفسر من مهاوش زعيان فعرف أن وباء الكوليرا هو الذي حال دون مجيئهم لمجلس الفاتحة.
أمر كمال بيك أن يحققوا مع ثلاثة من ضباط المقاومة الذين يخططون للإطاحة بالنظام، لكن السجين في الزنزانة الأولى سرعان ما اعترف حينما شاهد أدوات التعذيب الأمر الذي أفضى إلى انهيار الضابطين الأخيرين.

النهاية المفتوحة
أيقن شمس الدين أن كمال بيك لم يعد بحاجة إلى أحد لأنه أصبح في حماية الباشا، لذلك قرر أن يأخذ عزيزة إلى بلدتها لكي ترى أمها بعد الغياب الطويل نسبياً وسوف يتزوجها هناك. أما المحامي الذي كان مكلفاً بانهاء التحقيق وغلق القضية فقد عرف بحدسه أن كمالاً هو القاتل، ولكنه لا يملك أي دليل ضده، كما أن أبا صباح وخادمه مهاوش زعيان يعرفان ذلك بحدسهما وخبرتهما الطويلة بكل ما يحدث في ولاية بطيخ. وعلى الرغم من ثقة كمال بيك بحماية الباشا إلا أنه طلب نصيحة المحامي فقال له: "قدِّم خدماتك للباشا بإخلاص فهو يعرف كيف يحميك"، فردّ عليه كمال بيك: "يعني أربط مصيري بمملكة الشياطين أو بالأحرى بولاية بطيخ"؟ إن الجميع في ولاية بطيخ يعرفون أن الباشا يمسك بخناق كمال بيك الذي اختار بنفسه هذا المصير المقلق. كما أنهم يعرفون بعلاقته بعزيزة وشمس الدين وعصابته ومقتل صباح وكل قضايا السطو والسرقة والاتاوات التي يفرضها اللصوص وقطاع الطرق سواء من أزلام السلطة أم من أعوانها ومناصريها في ولاية بطيخ.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرهان اليساري والعلماني لا يزال قائما
- التوجّهات الجديدة في الاقتصاد العراقي. . . إشكالية التنمية و ...
- دور كفاءآت المهجر في تطوير التعليم العالي في العراق
- إشكالية تطوّر العملية السياسية وتأخّر الإعمار في العراق(ج1)
- مهرجان ريندانس السينمائي الدولي يحتفي بالفكر الأميركي الثوري ...
- أدب السجون في العراق: جدار بين ظلمتين مثالاً
- تريّيف المدينة العراقية
- الدكتور حميد الهاشمي يتحدث عن -عجلة المدنية وعصا العشائرية-
- المبالغة والغرور
- تحيّة لدار الشؤون الثقافية العامة
- الروائي زهير الجزائري في أمسية ثقافية بلندن (3)
- إلى السيد نوري المالكي، رئيس مجلس الوزراء المحترم
- شركة الناصر للطيران
- الأحزاب الدينية والسينما العراقية
- الشخصية المنشطرة وتعزيز الأمكنة الافتراضية
- الحقوق المائية
- رواتب البرلمانيين العراقيين
- القرصنة والابتزاز
- مُحفِّزات أعمال الشغب والعنف في بريطانيا
- الجادرجي في أمسية ثقافية بلندن يتحدث عن تأثير ثورة 14 تموز ع ...


المزيد.....




- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - السخرية السوداء واللغة المبطنة في روايات الداودي