جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 3565 - 2011 / 12 / 3 - 19:21
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
العلمانية.. إنقاذ الدين من ساسته ومن كهنته
جعفر المظفر
إن كثيرا من المتغيرات كانت دخلت على الصورة منذ انتهاء حقبة الحروب الصليبية والتحالف الإقطاعي الكنسي في الغرب. قضت الدولة العلمانية اللبرالية على ذلك التحالف الحاكم, ثم أتى عصر الرأسمالية الأممية واقتصاد السوق والفكر الماركسي لكي يرسم العلاقات مع الشعوب والدول الأخرى ضمن سياقات بعيدة عن تأثير العامل الديني كعامل مركزي. ليس معنى ذلك أن الغربيين تخلوا عن دينهم غير أن الالتزامات الاقتصادية والسياسية بدأت بإنتاج ثقافة اجتماعية متفتحة لم يكن مصدرها الدين هذه المرة.
أما المسلمون فما زالوا يتحركون من موقع الدفاع عن الذات أكثر من موقع الانفتاح على الآخرين, وهو قدر أنتجته عوامل موضوعية وأخرى ذاتية يكفيني من الوقوف أمامه الآن القول إن ثقافة الدفاع عن الذات هي ثقافة بلا مهمات سوى تلك التي تحافظ على الذات بمزيد من الإغراق في الذاتية.
إن ثقافة كهذه تعوزها قدرة الإقناع إلا بالشكل الذي يحرس لها الموروث من خلال بناء المزيد من المَصّدات والأسوار الإسمنتية العازلة. وثقافة الدفاع عن الذات بهذا الشكل هي ثقافة خائفة ولا قدرة لها على الاقتراب من الآخر الا من خلال الابتعاد عنه.
مضافا إلى ذلك إن بقاء المجتمعات الإسلامية متخلفة وعاجزة عن بناء مؤسسات ديمقراطية متحررة يمنعها حقا من الالتحاق بالعالم, وسيعفيها ذلك من مهمة تطوير مناهجها بالاتجاه الذي يجعلها أقرب للآخرين, وهكذا سيكون طريق هذه الثقافة أن تستدير دائما ودائما إلى الخلف لكي تجد هويتها وتحافظ عليها بمواجهة هجمات لا تترك لها فرص التعبير عن نفسها إلا بإتجاه ماضوي.
أما الأنظمة الرأسمالية فبعيدا عن نقد تجربتها الاحتكارية والاستعمارية فانه لا يمكن لنا أن ننكر مطلقا أن نظامها الإقتصادوسياسي هو الذي جعلها, داخليا, قادرة على تطوير ثقافة متسامحة بين جميع الأديان, وهي ثقافة تستند إلى منظومة قيم أخلاقية وقانونية واحدة تنظم المواطنة بشكل تجاوز إلى حد كبير سياقات التعصب والتمييز بأشكاله ومستوياته المختلفة.
إن من الحق القول إن ذلك التطور قد أفلح بالتعامل مع جميع أبناء الديانات الأخرى ومنهم المسلمين ذاتهم كجزء من مجتمعات الغرب الوطنية. ولن نكون مخطئين حينما نقول إن فكر المؤسسة الدينية صار قليل التأثير على الأنظمة السياسية لهذه الدول لان هذا الفكر على المستوى السياسي هو نقيض للبنية التحتية ولطبيعة التنوع في هذه المجتمعات التي فرضتها جملة من الظروف الداخلية والخارجية وفي مقدمتها تطور هذه المجتمعات إلى مجتمعات أممية تجاوزت مفهوم الوطنية المتوارث بسياقاته وصيغه التعصبية المغلقة.
وكما قلت كان بعض ما قدمته تجربة التوسع الاقتصادي والتطور العلمي التي أدت تدريجيا إلى نشوء نظام العولمة أنها أرغمت مجتمعات الداخل لتغيير أو تطوير ثقافتها للقبول بالآخر وفتح أبوابها للتعامل معه كجزء منها أو قريب إليها أو ضمن منظومة واحدة منسجمة ومتناغمة المصالح والنشاطات. وذلك يؤكد على أن بعض الأمور السلبية تتنحى مرغمة من خلال عملية صراع مستمر ومواجهة إحتدامية يومية لصالح بدائلها الإيجابية. والمسألة هنا ليست بعيدة عن أن يجري استيعابها من خلال صراع النقائض في الحالة الواحدة ذاتها وذلك لإنتاج الحالة الأفضل القادرة على مواجهة ظروف التطور ومقتضياته.
لنأخذ مثلا نظام الرق في أمريكا, سيكون سهلا القول إن المسألة بدأت بالحاجة الاقتصادية المحضة التي فرضتها طبيعة ظروف العمل, في وقت كان العالم فيه قد تخلى عن ذلك النظام قبل قرون. لكن هذا النظام نفسه ونتيجة للتداعيات التي أنتجها بعد ذلك صار مدعاة لتغييرات في بنيته الاجتماعية والسياسية باتجاه نقيض تماما, فالعبد الذي كان تم جلبه إلى الولايات المتحدة الأمريكية لحاجة إليه في مزارع القطن اختاره سكان هذه الدولة فيما بعد رئيسا لها. ولم تكن هذه الرحلة, ما بين قيد العبودية وكرسي الرئاسة, قد تمت نتيجة لعقلية التسامح الديني المسيحي, فالآباء العنصريون الذين أقدموا على جريمة الاستعباد كانوا مسيحيين أيضا.
وإن من العبث البحث عن تفسير حقيقي لهذا التطور من داخل المنظومة الدينية ذاتها فلقد كان قد انتهى عصر المصلحين الدينين الذين بإمكانهم أن يديروا عنق المجتمع المسيحي بهذه الزاوية الاجتماعية الحادة. ولهذا سيكون من الأجدى والأسهل البحث عن المتغيرات التي أنتجت هذا التحول الخطير من داخل البنية الاقتصادية والسياسية للنظام ذاته فثمة تطورات أساسية على المستوى الاقتصادي والعلمي, بعيدا عن الموقف الديني, قد أدت إلى هذا التغيير الهائل.
وبمقدورنا أن نتأكد أن إمبراطورية كبيرة كالاتحاد السوفيتي قد سقطت وانتهت وذلك بعد أن تراجعت نظريتها الفكرية الماركسية التي تؤكد على أن العمال, وفئة منهم على وجه الخصوص وهي الفئة البروليتاريا, هم قادة المجتمع والدولة والعالم.
وإذ تطورت الآلة وحلت التكنولوجيا محل النسبة العظمى من العمال فان التطور العلمي والتكنولوجي على وجه الخصوص قد انهي الجانب السياسي على الأقل للنظرية الماركسية اللينينية التي كانت اعتمدت حزب الطبقة العمالية وفئتها البروليتارية كقيادة للحكم والتغيير, وفي بدايتها حاولت الماركسية أن تعطي تفسيرا حقيقيا لأسباب انهيار نقيضها البرجوازي والرأسمالي لكنها لم تكن توقعت أن ذلك التفسير نفسه سوف يستعمل فيما بعد لاستيعاب الأسباب الحقيقية لتراجعها هي أيضا.
ولهذا فان سقوط الاتحاد السوفيتي لم يأتي نتيجة لاندحار عسكري أو فاقة اقتصادية أو للممارسات البيروقراطية لحزب السلطة وما أثاره ذلك من عزلة اجتماعية حادة ومن تلهف نفسي واجتماعي للتغيير, ولم يأتي أيضا نتيجة للتنافس الاقتصادي بين الرأسمالية والماركسية مما ولد ارتباكات حقيقية في عمق النظام الاقتصادي السوفيتي. الواقع إن كل ذلك قد حصل, غير أن العامل الأكثر والأقوى تأثيرا كان عدم قدرة الماركسية اللينينية بجانبها الفكري والاجتماعي على إنتاج موقف متطور ومتناغم مع الثورة التكنولوجية والإلكترونية ذاتها.
الكمبيوتر مثلا سرعان ما ألغى الحاجة إلى آلاف العمال في أرشفة الصحف والمكتبات, وصار بإمكان غرف السيطرة في محطات القطارات والطائرات أن تُسَيِر مركباتها بأقل عدد من العمال الموزعين على تقاطعات تحويل السكك, ولم يعد صاحب محطة تعبئة الوقود بحاجة إلى عمال تعبئة بعد أن صار بإمكان صاحب المركبة الضغط على أزرار الماكنة المختلفة لكي يحدد نوع وكمية الوقود الذي يحتاجه, وصار بإمكان الأطباء أن يراقبوا حالة المريض على بعد, أي أن يقرءوا ضغطه ويقيسوا نبضه ويتعرفوا على سرعة وانتظام تنفسه وهو راقد في منزله, ومعنى ذلك إن كثيرا من المستشفيات ستكتفي بنصف الأسرة وبنصف عدد العمال والممرضين. وما زال الحبل على الجرار فيما يخص تأثير التطور العلمي والتكنولوجي على حياة الإنسان الاجتماعية وعلى أفكاره ونظرياته السياسية, وأيضا على تكوين الفئات الاجتماعية الجديدة وتغيير أدوارها السياسية.
وقصة العبد الأفريقي الذي أصبح حفيده رئيسا للأمة التي استعبدت جده ليست قصة من ألف ليلة وليلة أو رواية من روايات الجان وإنما هي حقيقة حية تتحرك أمامنا بقوة, وقد ابتدأت تلك القصة حينما استطاع الشمال الأمريكي أن يكتشف أن دور البرجوازية جنبا إلى جنب مع النهضة الصناعية ألغى الحاجة إلى الأفارقة كعبيد وأحل الحاجة إليهم كعمال, في حين أن الهيمنة الإقطاعية على الفكر والبناء الاجتماعي كانت تراوح في مكانها من حيث تأثير فكر العبودية المتأسس على الحاجة إلى عبيد وليس إلى عمال.
وهكذا أنتج التطور الاقتصادي والصناعي تغييرا في عمق الأفكار الاجتماعية والسياسية وأدى إلى تغييرات جوهرية على صعيد النظريات الإنسانية, ثم قالت الحرب الأهلية, وهي أعلى أشكال السياسة, كلمتها الفصل على صعيد تحرير العبيد وتحولهم من رق مستعبد لدى الإقطاعي إلى عمال ولو مستَغَلين لدى البرجوازي.
مرة أخرى أقول إن هذه التطورات على الصعيد الإنساني لم تأتي نتيجة لحركة إصلاحية دينية او نتيجة للتسامح الديني المسيحي وإنما جاءت بضغط الحاجة الاقتصادية ونتيجة لفاعلية الثورة الصناعية بدء والثورة التقنية فيما بعد, ولو كان للدين أن يتحكم لوحده بحركة تلك المجتمعات لما تحرر العبيد مطلقا ولما وجد أوباما وظيفة له حتى كعامل منجم.
لكن ليس معنى ذلك أن هذه التطورات الإنسانية جاءت متعارضة مع الدين, غير أنه يمكن القول أنها ساعدت الدين على أن يسير متناغما مع الحاجات الإنسانية الناشئة من التطور الاقتصادي والعلمي وما أنتجه هذا التطور من مناهج فكرية وثقافات إنسانية, وبدون العلمانية يبدو أن قدرة الدين, بتعاليمه الأخلاقية المطلقة ونظرياته الروحية المجردة وشرائعه المرتبطة بيئات وظروف تاريخية خاصة, غير قادر على أن ينجو من رجالاته ومؤسساته, على الأقل فيما يتعلق بميلهم للهيمنة على الناس من خلال ردع كل ما من شأنه أن يتعارض مع فكرة المقدس, وميلهم أيضا إلى حراسة مكانتهم وإعلاء كلمتهم وشأنهم على باقي الكلمات والشؤون.
إن العلمانية في جانب من جوانبها, وإن هي لم تضع ذلك غاية لها, هي من أنقذ الدين في النهاية من ساسته ورجالاته بان سلب منهم القدرة على وضع الدين على طريق التضاد مع حركة التطور.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟