|
الشعر والناس
رياض خليل
الحوار المتمدن-العدد: 3564 - 2011 / 12 / 2 - 10:28
المحور:
الادب والفن
الناس هم غاية الشعر وجدواه ومحتواه ، فإن لم يكن هكذا ، يصبح مثل صرخة في واد ، لا يسمع صداها إلا الشاعر نفسه ، وكأن فعله فعل لازم ، لا يقبل مفعولا ، حيث يتحد الفاعل والمفعول في كيان واحد ، له داخل وليس له خارج ، بمعنى أنه معزول ومنفصل عن الخارج ، الذي هو بمفهومنا " الآخر " الفردي والجمعي الإنساني . والفعل حينئذ يصبح بلا معنى ولا جدوى ، على الأقل بالنسبة للخارج " الآخر" ، أي أنه يقصي وربما يلغي المتلقي من حساباته ، بدل أن يتوجه إليه ، لا إلى نفسه وحسب ، ولهذا نستطيع القول : إن الشعر هو الشاعر والمتلقي معا ، إنه ثنائية ذات مضمون ، والتعبير مهما كان ذا تيا .. فهو في وجه من وجوهه يتوخى الآخر . والتعبير الذاتي هو معاناة من نوع ما تتعلق بالآخر وتنطلق منه ( الحبيب ، القريب ، الصديق ، العدو .. الخ ) ولا وجود للمعاناة بمعزل عن الآخر كالحب والكره وغيره . والشعر هو نوع من تجسيد المعاناة جماليا ، لتوصيلها بأجمل صورة ، لماذا ؟ لأن الجمال والتجميل أسلوب لإغواء الآخر المتلقي من أجل قبوله واستجابته للصوت الشعري ، الذي هو خطاب له منطلق ومستقر ، وتلك هي الثنائية الشعرية . وحتى يتمكن الشعر من إسماع صوته ، فعليه أن يقدم شعرا مغريا من الناحية الفنية الجمالية كما من حيث المضمون ، ليستحث الآخر على التلقي وقبول صماع صوته وخطابه الفني ، الذي يجب أن يكون جذابا ومقنعا ، للوصول إلى قلب ووجدان الناس وعقولهم . مهما كانت التجربة ذاتية ، فإن لها بعدها اللاذاتي ، لأنها كما أسلفنا ، تعني الثنائية ( الأنا والآخر ) ، أ ي أن للتجربة بعدا مشتركا مع الناس ، وبقدر اتساع هذا القطاع المشترك ، يكون اتساع مساحة التلقي ، أي الجمهور ، الذي ينجذب إلى مايمس تجربته ، أو ماهو مشترك فيما بينهم ، مثلا : الإحساس بالظلم ، والخيانة ، والإخلاص ، والغدر ، والاستغلال ، وكل مايصنف من سلوك تحت عنوان : الخير والشر . . إن محنة عائلة قد تكون هي محنة مئات وآلاف العائلات ، وقد تكون محنة وطن ومجتمع ، ومن هذا الاتساع في قطاع المشترك ، تنبع أهمية المضمون الشعري بالنسبة للناس ، المضمون الذي ينطق بلسان حالهم ، ويعكس معاناتهم ، ويجسد تجاربهم وآمالهم وطموحاتهم ، ويترجم أحاسيسهم ومشاعرهم بلغة بليغة وسلسة ومكثفة وموحية وجميلة معا ، تستحوذ على نفوسهم ، وتنتزع إعجابهم ، وتحرض استجابتهم ، وتحرك عواطفهم وتعاطفهم وتمثلهم للمقولة الشعرية ، فيطربون لها ، ويحفظونها ، ويرددونها . إنها تجسد نوعا من الشعور الجمعي المستمر ، بالحياة والهموم والعلاقات ، وبذلك يحمل قيمة إبداعية متجددة . لهذا نرى الناس يختزنون خلاصة الشعر وأفضله ، في أيما غرض من الأغراض الشعرية مثل الحب والوطنية ، والغربة ، والجهل وغير ذلك من الأغراض الشعرية . في الشعر ، كما في سواه ، من الفنون الأدبية ، ثمة تجارب شعرية رديئة ، تعكر نهر الشعر الصافي ، وتشوه سمعته وصورته البهية ، ما ينعكس ضررا وظلما للشعر الأصيل ، وكثير من الناس يستسلم للتعميم العامي الخاطئ والجاهل ، فيحكم على الأصيل بجريرة الغث الهجين الرديء ، وبالنسبة للعالم الخبير المتمرس ، فإنه يميز ويصنف ، ولا ينخدع ، ويعطي لكل ذي حق حقه . إن الشعر السيء وواضعه يتحملان المسؤولية دون سواهما ، عن سوء بضاعتهما الأدبية ، والقصيدة الجيدة تبقى كالجوهرة ، لايؤثر عليها الغبار ولا تتأكسد ، ولا تخيس ، بل تزداد قيمتها وثراؤها ووهجها وحيويتها مع مرور الزمن ، وتصبح معتقة كالنبيذ . والميراث الشعري العربي والعالمي حافل بالكنوز الشعرية العظيمة ، التي تظل حديثة وعصرية وتتمتع بصفة الراهنية المستمرة والعابرة للزمن والتاريخ والأحقاب ، ولاحاجة لسوق أمثلة كثيرة : من أسخيلوس وهوميروس وسوفوكليس ويوروبيدس ، وطاغور وشكسبير وآراغون وت . س . إليوت ، والمتنبي وامرؤ القيس والمعري وأبو النواس والخيام ، ممن لاتزال أشعارهم ساخنة حية في ضميرنا ووجداننا ، وتتغنى بها أم كلثوم وصباح فخري وفيروز وغيرهم كثيرون : ( حامل الهوى تعب ...... يستخفه الطرب ......تعجبين من سقمي ..... صحتي هي العجب ... تضحكين لاهية .... والمحب ينتحب .... إن بكى يحق له ..... ليس مابه لعب ...) أبو النواس وتغنيها فيروز . إنه شعر عصري حداثي بمضمونه وشكله وفنيته الراقية ، وكأن أبو النواس هو ابن كل العصور ، وليس ابن عصره وحسب . وشعره هو جواز سفره عبر التاريخ والحضارة والثقافة والفن في كل زمن ، وهذا ينطبق على من ذكرناهم من عظماء الشعر والفن الشعري الخالد ، وميراثم الذي مايزال موردا للبشرية والأدباء والمفكرين والفنانين في أصقاع العالم . إنه الفن والأدب والشعر ، لغات معولمة ، لغات تسهم بعولمة الفكر والثقافة والحضارة منذا أقدم العصور وحتى الوقت الحاضر . في هذه الأيام كثر المزيف الرديء من الشعر ، لدرجة أن أي كلام مبتذل مشوش ومفكك المعنى والمبنى يمكن أن يدعي الشعرية ، ويجد طريقه للنشر بسهولة ، لاسيما إن كان النشر على نفقة المؤلف الخاصة ، حيث في هذه الحالة لاتدقق الرقابة ولا تهتم بالمعايير الفنية ، ولا بسوية العمل من حيث الشكل والمضمون والقيمة الفكرية والفنية . ولقد توفرت البيئة والشروط المناسبة جدا لغزو هذا النوع من الرداءات الأدبية والشعرية ، لدخول سوق النشر والدعاية والترويج ، ماينطبق على شتى حقول االمعرفة والاقتصاد المعرفي . ما يدفع الكثيرين لأن يقعوا فريسة الالتباس وتشوش المشهد . وعدم الثقة به ، وصعوبة الاختيار في ظل طوفان الأعمال المنشورة من كل نوع وصنف ، ومنه الشعر . ومعهم الكثير من الحق في أن يديروا ظهورهم نسبيا لكل مايعرض لضيق الوقت ، أو لأسباب أخرى إضافية . ولايعقل أن يضيع الناس وقتهم في البحث عن الجيد داخل ركام هائل من النتاج والأعمال الرديئة التي تغص بها الأسواق ومعارض الكتب والنشر . وهل علي أن أقرأ مئة مجموعة شعرية كيما أكتشف منها بضعة مجموعات تستحق فعلا أن تقرأ وأن توصف بالشعرية الجيدة ؟ لاسيما في هذا الزمن الذي تتكاثر فيه المطبوعات لدرجة يستحيل معها متابعة حتى جزء يسير منها ، وفي مثل هذه الحالة يختلط الحابل بالنابل والصالح بالطالح ، وتتشوش الصورة في أعين الناس ، الذين يصبحون عاجزين عن فهم ومتابعة وتذوق الكم الهائل من السلع الثقافية ، والأوكازيونات الفكرية والأدبية والشعرية . وهناك آلاف وعشرات الآلاف من الأسماء التي تتعاطى الشعر ، أو تتوهم أنها تتعاطاه ، وأنهم من أهله ، ممن يتعدون على الموهبة وحتى الصنعة الشعرية ، فكيف للمتلقي والمهتم أن يتابع ويفرز ويمحص ، وأنى له الوقت الكافي ليفعل ذلك ؟ إن القصيدة الرديئة ستزاحم القصيدة الجيدة ، وتنافسها ، وبالتالي تخفض من فرصها في البروز والانتشار والتداول الشعري . وربما هذا أحد الأسباب التي تقف وراء انخفاض جمهور الشعر لدرجة خطيرة . ومن الشعر ما يلوذ بالغموض المتطرف ، وهذا وإن كان له مايبرر وجوده عموما ولاسيما من الناحية التشكيلية والتعبيرية ، إلا أن بعضه قد لايظفر بتلك الميزة ، وقد يكون مصدر الغموض الشاعر نفسه ، عندما يريد أن يكتب جزافا وعلى غير هدى ومن دون أدنى وعي للمسؤولية الشعرية ، وقد يكون أيضا عائدا إلى قصور الشاعر الفني والشعري والفكري ، وعجزه عن إدراك مايود قوله ، أو عن عدم تمكنه من أدواته الشعرية ، أو عن قصور وضعف موهبته الشعرية ، وفي هذه الحالة يطلق سيلا من الألفاظ والتعابير والصور المتنافرة التي لارابط يربطها ، أو يربط دلالاتها ، ولاتخدم المشهد الشعري العام للقصيدة ، وبالتالي لو سألته عما يقصد أو عما يود قوله ، فإنه سيتهرب من الإجابة ، لأنه هو نفسه يجهل فحوى ماطرحه وصاغه وقدمه من شعر ، وهذا يشبه لطشات عشوائية لفرشاة رسم على لوحة فارغة ، وبحيث أن هذه اللطشات قد تخلق مضمونا لايتقصده ويتعمده الفنان المزعوم . مع كل ماقلته ، أميل إلى فكرة أن في داخل كل إنسان شاعر ، وإلى مقولة : ( أنا إنسان إذن أنا شاعر ) بالفطرة والطبيعة الناس شعراء غالبا ، حتى في لغتهم اليومية الدارجة ، يمارسون وستخدمون التعابير الشعرية الموحية والبليغة والموصلة وذات الأثر الأقوى من اللغة المباشرة ، وهذا كله يؤكد واقع وجود الذوق الشعري والحس الفني عند أغلب الناس ، وبدرجات متفاوتة ، والأمثلة لاتحصى عن تلك التعابير العامية وغير العامية المتداولة والشائعة بين الناس في حياتهم اليومية ومنها : ( مامنو شي .. دخانو بيعمي ، بكرة بيذوب الثلج وبيبان المرج ، والماء يكذب الغطاس ، بيفهمها وهي طايرة ، يده طويلة كناية عن اللصوصية ، ويده طايلة كناية عن القوة والنفوذ ، أيدو مفتوحة كناية عن الكرم ، أيدو مابتوصل لورا أدنو كناية عن الضعف والعجز ، الفارة بتموت ببيتو ، عينه فارغة ، كعبه أخضر ، الإسكافي حافي ،والخباز جوعان ، روح بلط البحر ، وإلى ماهنالك من كنايات وصور رمزية لها وقع أشد أثرا من اللغة المباشرة التي لاتحمل أي شحنة شعرية أو أدبية أو فنية ) وعليه ، فإن فشل الشعر أو القصيدة في عقد علاقة صداقة متينة مع الأخر ، يتحمل مسؤوليته الشاعر بشكل أساسي ، لأن الغلط ليس بالناس تحت ذريعة أنهم لايفهمون ولا يفقهون الشعر ، بل الغلط بالقصيدة التي لم تتمكن من كسب ثقة المتلقي ، وربما في بعض الحالات بسبب سوء التسويق أو صعوبة التسويق ، والتي لاشك تلعب دورا حاسما ، خصوصا في أيامنا هذه . إن الناس هم المستهلكون ، وبالتالي هم الحكم في جودة بضاعتك الشعرية من عدمها ، فإما أن تكسد أو تكسب المنافسة . والناس لايحبون الشعر الذي يتعالى عليهم ، ويتعبهم من غير أن يترك فيهم نوعا من اللذة والمتعة والأثر في الذاكرة . الشعر الحقيقي ، الجدير بهذه التسمية هو الذي يؤدي وظيفته كحامل للهم العام ، وللتراث الأخلاقي والفكري والوجداني ، وكمرآة لضمير وروح وثقافة الناس ، وسجل ، وذاكرة لتاريخها وحضارتها ووجدانها . والشعر الحقيقي أيضا هو الذي يؤلف بين العقل والوجدان والواقع ( الناس ) عبر تأدية دوره التعبيري الخاص الراقي والمكثف والمصقول . القصيدة الناجحة هي تلك التي تستنفر حواس المتلقي ، وتثيره ، وتغويه للحاق بها كلمة كلمة ، وجملة جملة ، وتلامس أعماقه وذاته وعواطفه وعقله ، فينجذب إلى نكهتها الزكية المميزة ، ويندفع إلى معانقتها بروحه وقلبه وبحميمية ملحوظة ، وبحنان وحب واحترام وإعجاب . والكلام هنا عن الشعر كله بأنواعه وأصنافه ، بقديمه وحديثه وبنثره ، العمودي ،وشعر التفعيلة ، والشعر النثري . نشر في جريدة " الأسبوع الأدبي " الأسبوعية السورية ، في الصفحة الأخيرة ، العدد 730 ، تاريخ -14/10/2000
#رياض_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سوريا وروسيا : تحالف غير مقدس
-
قصائد غزلية قصيرة :(2)
-
قصائد غزلية قصيرة
-
من قصائد الثورة (9)
-
العبور من ثقب الإبرة : قصة قصيرة
-
بوادر حرب عالمية
-
من عينيك : شعر نثري
-
حول البرنامج السياسي للمجلس الوطني السوري
-
من قصائد الثورة (8)
-
الدنس : شعر نثري
-
آية الحب : شعر نثري
-
الشغف: شعر نثري
-
سقوط الخط العروبي الشوفيني الشمولي
-
العثور: شعر نثري
-
من قصائد الثورة (7)
-
وفي عينيك موج الحب: شعر
-
النظام السوري: على نفسها جنت -براقش-
-
الحضور
-
الأنانية
-
الحمار والوردة
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|