|
الدين ملجئ السياسة والثقاقة قبرها / جزء 2
غالب محسن
الحوار المتمدن-العدد: 3558 - 2011 / 11 / 26 - 18:07
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 27
في السياسة تستحي الأخلاق ، فتختفي . أو كما قيل " أذا كنت لا تستحي " فأنشد ما شئت :
ليت أشياخي ببدرٍ شَهِدوا جَزعَ الخزرجِ من وقعِ الأسَل لأهلّوا وأستهلّوا فَرحاً ثم قالوا يا يزيدُ لا تُشَل قد قَتَلنا القِرَمَ من ساداتِهم وعَدَلناهُ ببدرٍ فأعتدل لعِبَت هاشمُ بالمُلكِ فلا خبرٌ جاءَ ولا وحيٌ نَزَل
هكذا أنشد مزهواً ، ومتشفياً ، حفيد أبو سفيان ، مخاطباً ليس الجيوش المنكسرة ، التي تخيل أنه هزمها ، بل سباياه من نساءٍ وأطفالٍ ورجالٍ مُقعَدين بعد واقعة الطف الشهيرة ، بينما بدا رأس حفيد الرسول ، الملقى جانباً ، غيرُ مكترثٍ لهذا " الزهو " و " التشفي " وكأنهُ يعرفُ أن سلالة جده النبي ستعود مرة أخرى للخلافة وتثأر من بني أمية .
فالخلافة كانت بعد السقيفة ، ثارات ، والهزائم صورت أنتصارات ، وأندثرت بعدها حضارات ، وفُتحت الأبواب للسماوات ، وللصلوات أنتصبت القامات ، وأنكسرت بأسمها الهامات ، مخضبة بالإيمان والأَيمان وبالخطابات ، عرفنا وغرقنا فيما مضى وما فات ، والله يستر مما هو آت .
لهذا السبب رفض أبو ذر الولاية حين قال لعمر لا تفتني ( يقصد السلطة تُفسِد ) . وعندما نفاه الخليفة المليونير عثمان بن عفان بتحريض من أبن عمه معاوية * ، طالبه البعض بالثورة عليه فقال : " والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة ، أو جبل ، لسمعت وأطعت ، وصبرت واحتسبت ، ورأيت ذلك خيراً لي " . ما أروع هذا " الأخلاص " الصوفي . أن أستعداد وقبول أبو ذر" الأخلاقي " للموت بأيدي من " عذّبه " أنما هو صورة رومانسية في التضحية ، بل أن خياره العيش في فقر مدقع ( مع أن خزائن الدولة كانت مفتوحة له ) هو أستشهاد بأمتياز ودرساً آخراً في الأخلاق لا يضاهيه سوى عذابات بروميثيوس** من أجل خير الأنسان .
صور في الأخلاق
سقراط ، الملقب عن حق بأبي الحكمة اليونانية ، كان نموذجاً لأسطع مثال في صراع المثقف مع السلطة . قَبِلَ عقوبة " الموت " ، بهدوء ، وهو برئ ، فكأنه ، بأستشهاده يضع اللبنة الأولى لأخلاقٍ جديدة . لم يتفوق على أصالة نبله أحد قبل ظهور السيد المسيح . تلك الأخلاق هي ذاتها ما دفع الأمير الشاب سيدهارتا على ترك الجاه والسلطان ، وليختار حياة الفقر والشقاء ، في بحثه عن الفضيلة ، الحقيقة ، من منابعها الأصيلة ، الطبيعة ، وكأنها الآلآم التي سبقت ولادته ، وهكذا صار بوذا .
هي ذاتها ، كانت سبب مقتل عمر بن عبد العزيز ، وربما كانت سبباً في مقتل جده الفاروق . قَبِلَ الحفيد بالخلافة مكرهاً لأنه عرف مصيره يقيناً ، فالأخلاق عنده كانت تعني لا تنازل عن الحق والعدل ، لا مساومة مع السياسة .
هي ذاتها كانت سبب تعرض الروح العظيمة وأبو الأمة الهندية لخمس محاولات للأغتيال قبل أن يُقتل في السادسة . أن أخلاصه و نزاهته ونزاعه مع السياسة ، العنف ، وأصراره السلمي التسامحي لم يكن يعني سوى خيار الموت والتضحية ، وهكذا صار ماهاتما .
لا يمكنني أن أرى في مصيرهؤلاء ، وممن مثلهم ، وفي خيارهم الواعي للتضحية والشقاء لأجل غيرهم مجرد تشابه في الصفات الأنسانية فقط بل هناك ما هو أعلى و أسمى ، أو فوقأخلاقي ، فوق بشري أن شئتم .
وأذا كان هؤلاء من بين خير مَن مثّل الحكمة الأنسانية عن جدارة فأنهم عبّروا عن تلازم الحكمة مع الأخلاق في أبهى صورها كما مثًلَ ميكافيللي ، وقادة بلادي ، أصدق صورة لتنافر السياسة والأخلاق .
هناك آلاف الأسباب يمكن تعدادها وراء هذه وغيرها من الحوادث والأمثلة المشابه ألا أنه بقدر تعلق الأمر بهذه التاملات فأن أهمها على الأطلاق هو الأخلاق ، غيابها أو حضورها . ليس موضوعنا هنا تحليل أسباب تلك الحوادث ، وبالتأكيد هناك الكثير من الوقائع والدلائل والأجتهادات والمعاني بل وحتى التأويلات وغيرها لمن يريد أن يغترف مما يشاء لكن هذه مكانها السياسة ونحن وأياها في خصام في هذا المقال على أية حال .
المعرفة أخلاق
أبتدأ نزاعي مع السياسة منذ أن أنهار حلم " وطن حر شعب سعيد " وعندما تفتحت عقولنا ، قبل عيوننا ، على المعرفة ، عبر الآخر ، وعنه .
ربما أستطعت تحوير " شكل من التأويل الجديد " فكرة أدونيس في النقد الذاتي والتي تعني أن معرفة الذات تتطلب الأنفصال عنها . والذي أقصده أن معرفة ذاتي يمكن أيضاً أن تتم بالأتصال ولكن ليس مع ذاتي بل بالآخر . هذه تمنح معرفة من " نكهة " مختلفة أو أن شئتم فهي بمثابة " تأكيد " لمعرفة ذاتي في حالة الأنفصال عن ذاتي . وبعبارة أخرى فهي الرقيب على أن نقدي لذاتي هي ليست " ذاتية " خالصة .
أن هذا ، من الناحية الأخلاقية على الأقل ، يحتل شئنا بالغ الأهمية من منظور ممارسة السياسة . فمعرفة الذات حتماً هي الدرس الأول في المعرفة . فليس مصادفة أن سقراط دعا تلاميذه للمعرفة بسؤال " أعرف نفسك " .
لم يعد خبراً أن ليس للسياسة حدود ما دامت المصالح هي محرك الوجود . هذا يشمل كل سياسة صغيرة وكبيرة ( موضوع جزء 3 من هذه التأملات ) . وبالتالي فهي ، السياسة ، ليست قالبة للقياس ، بهذا المعنى ، فلا أحد يستطيع أن يجزم بحدودها . أنها كالتأمل الذي هو الآخر بلا حدود ، غير أنه يختلف معها في الجوهر وفي الحافز ، أي أن ليس للتأمل مصلحة ذاتية ، فحافز التأمل المعرفة التي هي أبعد ما تكون عن المصلحة الشخصية .
الأخلاق تشترك مع التأمل في هذين الجوهرين . فمن جهة هي غير محدودة ولا توجد مصلحة شخصية في هذه الممارسة . أن الأخلاق التي أعنيها هنا وفي كل مرة أذكرها أنما هي الأخلاق الوحيدة ، الحميدة ( أو ما يسميه الفلاسفة بالأخلاق الفاضلة ) ، فليس هناك غيرها مادامت هي موجودة أما أذا أختفت ، حينها تظهر نقيضتها ، الممارسة اللاأخلاقية ، التي تسمى خطأً بالأخلاق الغير حميدة . هذه الأخيرة كالظلام ليس له وجود فقط أذا غاب النور . يعني العاقل يفهم ، عندما تغيب الأخلاق تظهر السياسة .
الأخلاص الوجه المشرق للأخلاق
الفارق الأساسي بين السياسة والأخلاق هو أن المصلحة هي جوهر الأولى بينما غيابها هو شرط الثانية . هذا الشرط يمنح الأخلاق صفاءاً وبهاءاً مميزاً في سلوك الأنسان ، بينما في الأولى يجعله في الظلال .
يعني يمكن القياس على هذه مثلاً بأن الأعمال الخيرية التي يكون باعثها الخوف من عقاب الله وغضبه أو الرغبة في التقرب أليه للدخول في جنة نعيمه والتمتع بحور العين والأستحمام في أنهار من الخمر والأسترخاء على أرائك من الحرير في قصورٍ من زمرد و ياقوت ، أقول لا تطرق هذه الأعمال باب الأخلاق الأنسانية من هذا الجانب وأن عادت بالخير على الأنسان . فالباعث الحقيقي لمثل هذه الأعمال الخيرية هي المصلحة الشخصية ، كالسياسة . و قد عبّر أبن الأنسان بعمق عن هذه الفكرة عندما قال " أن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجرٍ لكم " متي الأصحاح الخامس . والحكمة واضحة لكل حليم .
السياسة أغتالت الأخلاق في كل مرّة تهدد هذه الأخيرة فيها الأولى . فمن عناصر الأخلاق الأصيلة ، الأخلاص ، وهذه غريبة في السياسة . وفي كل مرة تفلح السياسة في التغلب على الأخلاق ، فبالغدر ، نقيض الأخلاص ، ولكن الى حين . في الأخلاق كانت بينيلوبي رمز في الوفاء والأخلاص ، وفي السياسة كان بروتوس*** رمزاً في الغدر .
تقول الأسطورة الأغريقية **** : عندما طالت غيبة حكيم المقاتلين الأغريق أوديسيوس الجبار ، فيما وراء البحار ، حائراً كان تحت الأسوار، المليئة بالحكم والأسرار ، قبل أن تقدح في خياله الأفكار ، حصان طروادة كان منه القرار ، فكان للأغريق سر الأنتصار .
لكن قبل ذلك كثر الخطاب من النبلاء الطمًاعين على زوجته بينيلوبي الجميلة التي تعرضت لمختلف الضغوط لأختيار أحدهم زوجاً . لكنها في كل مرة تختلق عذراً جديداً يبعد عنها هؤلاء " السياسيين " الملاعين فقد كانت مخلصة لزوجها . لكن عندما طالت غيبة بطل الأوديسة زادوا في ألحاحهم ومضايقاتهم مما أضطرها في النهاية للموافقة على أنها ستختار أحدهم حالما تنتهي من حياكة ثوب العرس . فكانت تقوم في حياكة الثوب أمامهم في النهار ، لكنها في المساء تقوم بحل ما حاكته . وعلى هذا الحال أستمرت عشر سنين حتى عاد زوجها وأنقذها من الأشرار .
هكذا كان يؤمن حكيم الصين كونفوشيوس . ففي النهاية ، لا بد أن تسود أرادة السماء في المجتمع ، كما قال ، وهذه الأخيرة لن تنتصر بدون سيادة القانون الأخلاقي الذي هو تعبير عن تلك الأرادة بثياب بشرية . أنه تعبير عن تناغم السماء والأرض . أن في غياب هذا التناغم تفسير لكل الفوضى في المجتمع .
يتبع جزء 3 //
د . غالب محسن ----------------------------------------------------------------------------------------------------- * كان أبو ذر يُحرّض ضد الأغنياء ، والجدد تحديداً ، ومنهم والي الشام معاوية ، وكان يردد على الدوام آية " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، فبشرهم بعذاب أليم " وهو صاحب القول الشهير " عجبت لمن لا يجد القوت في بيته ، ألا يخرج على الناس شاهرًا سيفه " . ** تقول الأسطورة أن بروميثيوس سرق نار الألهة وأعطاها للأنسان ومن أجل ذلك عاقبه رب الأرباب زيوس بأن ربطه في أعالي جبال القوقاس و سلط عليه نسراً ينهش كبده ، وفي كل يوم يجدد له كبده زيادة في عذابه تماماً كما يعذب الله الكافرين يوم القيامة عندما يرميهم في النار ويجدد لهم جلودهم كلما أحترقت وهكذا يكونون في عذاب دائم الى أبد الآبدين . *** بروتوس هو الصديق المقرب ليوليوس قيصر وأشترك في في مؤامرة أغتياله وعندما طعنه بالحنجر مع الآخرين قال قيصر قولته الشهيرة " حتى أنت يا بروتوس " وصارت فيما بعد خير مثال على الغدر في السياسة أولاً ثم أنتشر أستخدامها في ميدان العلاقات الأجتماعية . **** كما جاءت في الأوديسة ، الجزء التالي من ملحمة هوميروس حول حرب طروادة التي أبتدأها بالألياذة وأنهاها فرجيل بملحمة الأنياذة (ما بعد سقوط طروادة) .
#غالب_محسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدين ملجئ السياسة والثقاقة قبرها / جزء 1
-
صوتُ هناء ، جلجلَ في السماء / تأملات 25
-
مقدمة في نقد تأويل التأويل / جزء 4
-
مقدمة في نقد تأويل التأويل // جزء 3
-
مقدمة في نقد تأويل التأويل / جزء 2
-
مقدمة في نقد تأويل التأويل / جزء 1
-
الى المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي العراقي مع أطيب التحيات
-
عندما يكون العنف طريقاً للحق / جزء 2
-
عندما يكون العنف طريقاً للحق / جزء 1
-
تأملات في تقييم الحركة الأنصارية / جزء 2
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 16 / تأملات في تقييم الحر
...
-
التيار الديمقراطي بين الأمل وثقل العمل (2)
-
التيار الديمقراطي بين هَم الأمل وثقل العمل (1)
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 13 / من غير وصايا كان الع
...
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 12 صَخبٌ في العقول
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 11
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 10 /الأيمان في الغربة وطن
...
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 9 / الأيمان في الغربة وطن
...
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 8 تبسيط السياسة دون أبتذا
...
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 7 // الرمز الديني بين مطر
...
المزيد.....
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
-
“ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 بجودة عالي
...
-
طقوس بسيطة لأسقف بسيط.. البابا فرانسيس يراجع تفاصيل جنازته ع
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|