أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نهاد عبد الستار رشيد - في لقاء لي مع ( فيو ميري )















المزيد.....



في لقاء لي مع ( فيو ميري )


نهاد عبد الستار رشيد

الحوار المتمدن-العدد: 3554 - 2011 / 11 / 22 - 21:51
المحور: الادب والفن
    


قبل انتهاء عام 1928 بساعات , انجبت فنلندة واحدا من كبار الروائيين العالميين ، ابن ضابط في الجيش ، درس التاريخ في جامعة هلسنكي ، وترجمت اغلب اعماله الأدبية الى العديد من اللغات . نشأ في عائلة عسكرية. القت الحرب على طفولته وشبابه ظلالا معتمة ، كما تعكسه العديد من اعماله . صدرت له اول مجموعة قصصية تحت عنوان ( خشية ان تزداد الأرض خضرة ) عام 1954 . أما روايته الموسومة ( حبل مانيلا ) التي صدرت عام 1957 ، وترجمت الى العديد من اللغات ، وجعلته يتمتع بشهرة عالمية واسعة ، فقد كانت احداثها عن جندي يقرر اعادة قطعة حبل مانيلا من جبهة القتال لزوجته كي تستخدمه حبلا لغسيل الملابس . يقوم سرا ، بلف الحبل حول جسده تحت ملابسه ، ويبدأ رحلة العودة الى بيته ، حيث يواجه تعقيدات ومشكلات لا تطاق . روايته الموسومة ( الفارون ) التي صدرت عام 1961 تتناول قصة جندي يهرب من خط جبهة القتال ليعود الى البيت فيساعد اهله في عملية الحصاد . وتكون رحلة العودة الى البيت حافلة بالمفاجآت ، وزاخرة بسلسلة من الأحداث المدهشة . تستمر ثيمة الحرب في العديد من اعماله الأدبية الأخرى ، وعلى وجه الخصوص ، تلك التي كتبها في ستينات القرن العشرين . ومع ذلك ، لم تكن الحرب نفسها مصدر متعة ، لكنها تمدنا بهيكل يظهر فيه مدى سخف الأحداث ومنافاتها لمنطق العقل .
شخصيات ميري تخرج عن الطريق ، بطريقة او باخرى . انها دائما في حركة ، تنتقل بالسيارات او القطارات ، تطير ، تركب الدراجات الهوائية ، تركض وتمتطي ظهور الخيل . عندما تكون في مكان واحد ، فانها سرعان ما تشرع في القتال او تبدأ في سرد قصصا عن الناس الذين هم في حركة متواصلة ومنهكة في نشاطات معقدة . مثل هذه الشخصيات توجد ايضا في اعماله التي ينجزها في زمن السلم ، كما في روايته الموسومة ( المرأة في المرآة ) التي صدرت عام 1963 ، و ( سائق الكولونيل ) الصادرة في عام 1966 ، وفي كلتا الروايتين تظهر الأحداث من وجهة نظر سائق : في اولى الروايتين تجري الأحداث في العاصمة هلسنكي ، وفي الثانية في الريف .
اسلوبه في معالجة التفاصيل الفنية له صلة وشبه بمظاهر وتأثيرات الكاميرة السينمائية للمخرج الفرنسي ( فرنسوا تريفو ) والأتجاه الجديد في طريقة صناعة الأفلام الفرنسية لفترة ما بعد عام 1960 والتي يطلق عليها بالموجة الجديدة : تقترب آلة التصوير السينمائية من الشيء أو تبتعد عنه بسرعة بحيث تبدو الصورة وكأنها تزداد قربا أو بعدا من المشاهد ، فترة فاصلة قصيرة ، مقاطع من حوار هزلي مضحك ، ثم مأساة غير متوقعة . للسبب نفسه ، فان اعماله المبكرة يمكن ان تضاهي تقليدا مبكرا لآلة التصوير السينمائية : افلام ( شارلي شابلن ) و ( بستر كيتون ) .
روايته الموسومة ( سائق الكولونيل ) تروي الرحلة الدالة على الحماقة ، بكل ما في الكلمة من معنى ، التي قام بها السائق الى كوخ الكولونيل الصيفي ثم العودة ثانية . تبرز القصة ، السريالية ، من خلال تيار الوعي للسائق ، المعدل بدهاء دائما بتأثير الكولونيل غير المنظور .
كثيرا ما يظهر المضطهد ، والخنوع ، والمتوحد في اعماله ، لا من اجل انتزاع او اثارة شفقتنا ، بل لأظهار مدى حيويتهم وتجاربهم واخطائهم وسلسلة اسفارهم ، وتصميمهم على البقاء .
كتب في سبعينات القرن العشرين رواية واحدة فقط ، تحت عنوان ( ابن الرقيب ) التي صدرت عام 1971 ، وحازت على جائزة المجلس الشمالي للآداب . اما روايته اللاحقة ، والمعنونة ( صيف لاعب هوكي الجليد ) ، التي ظهرت عام 1980 ، حول احداث جرت في مدينة صغيرة عام 1954 . الشخصية المركزية في الرواية هي لاعب هوكي الجليد ، الذي دفع ثمنا غاليا بسبب حلول فصل الصيف . شخصياته ضحايا دوافعهم الجنسية ، وآمالهم ، وفزعهم . انهم يندفعون بتأثير حوافزهم التي هي ما دون الوعي ، بوتيرة سريعة تفوق سرعة قدرة عقولهم الواعية على الأدراك . ومع ذلك ، فانه لا يكتب من زاوية التحليل النفسي ، ولا يحاول تفسير السلوك الأنساني .
يعتبر هذا الروائي الفنلندي استاذ القصة القصيرة دون ادنى شك . ظهرت اولى مجاميعه القصصية عام 1954 ، اعقبتها مجموعة بعنوان ( حالات ) عام 1962 ، واخرى تحت عنوان ( المعسكر ) في عام 1972 . بالأضافة لذلك ، فان العديد من رواياته توفر اطارا لسلسلة من القصص ، وافضل مثال هي ( حكايات ليلة ) التي صدرت عام 1968 .
تتسم موضوعاته بطابع الحرب وما تخلفها من ويلات وكوارث . واسلوبه موضوعي وغير مألوف . دعابته مروعة وغير متحيزة . تعلم من ( فوكنر ) الأعتقاد في القوة العظيمة الكامنة في موضوع الموت على نحو استثنائي . تضمنت رواياته على حكايات ونوادر حربية ، اصبحت فيما بعد نموذجا قياسيا لمثيلاتها . كما احتوت ايضا على نوادر ذاتية يشعر مؤلفها انها ذات اهمية عظيمة في تعميم هدفه . تعيش شخصياتها السلبية تحت رحمة ظروف غير معقولة . ويمكننا ملاحظة نفس الحاجة الى حياة يسودها النظام في رواياته ( ذات الطابع غير الحربي ) . في مسرحياته ايضا استمرت موضوعات الحرب وأخذت حيزا كبيرا فيها ، حتى ان مسرحية ( اجازة زواج يوكنن الخاصة ) والتي صدرت عام 1965 ، تناولتها الأقلام بمزيد من التفصيل ، وكان لها صدى واسعا خارج فنلندة .
وفي احدى لقاءاتي مع الروائي فيو ميري ، أخبرني عن حادثة حصلت له عندما كان مشاركا في الموكب الجنائزي للفقيد ( ف . ا . سيلانبا ) ، الحائز على جائزة نوبل للآداب ، قائلا : " كنت احد حاملي بساط الرحمة في الجنازة ، باعتباري ممثل جيل الشباب من الكتاب الفنلنديين . كان التابوت ثقيلا وبدأ ينزلق فجأة من ايدي حامليه حال وصولهم الى ابواب الكنيسة . أخذت أشعر بألم مبرح في قدمي بسبب دخول حجر صغير جدا في حذائي ولم أستطع اخراجه . لقد كانت لحظة حرجة جدا . الروايات ، والقصص القصيرة والمسرحيات التي كتبتها غنية بمثل هذه المواقف المحرجة . الشخصيات تخطيء وتتعثر وتكون مضطربة . "

القناص

تربص بلا حراك في منطقة المستنقع على شاطيء النهر منذ الفجر حتى الغسق ، ثم توارى عن الأنظار . ظل هناك لمدة اسبوع تقريبا دون ان ينكشف موضعه . ملابسه الثقيلة المصنوعة من الجوخ كانت خشنة النسيج وممزقة ، يبدو فيها كشجيرة ( جار الماء ) ، تحدث حفيفا في الريح ، تنفتح وتنغلق ، لكنه لا يدعك أبدا ان تدرك مراميه تماما .
الآن تبحث عينه المفتوحة بقساوة ، هنا وهناك ، من خلال مصوبته ذات المرقب عن هدف في الشاطيء المقابل للنهر ، وكذلك في الضفة الرملية التي ترتفع ثلاثين ياردة . كان متشوقا بشكل خاص للقمة المتموجة التي تفصل السماء المتألقة عن الأرض المكشوفة . بين الفينة والفينة ، كان يدع نظرته المحدقة بعينه المفتوحة على مداها تنزلق الى اسفل المنحدر ، لتغيير المنظر ، رمل رمادي واكوام من الصخور الرمادية المختلفة الأحجام ، حتى ظهر فجأة رصيص من جذوع الأشجار المعدة للنشر والذي اعاق النهر وكأنه يهوي عليه . ثم رفع ببطء نظرته المحدقة بعينه المفتوحة على مداها ، فأبصرت شيئا صغيرا جدا لكنه كان جميع المدى الأكثر بعدا والذي انتهت عنده الأرض وانفصلت السماء . رفع سلاحه ، الذي كان مكسوا بنفس نوع الملابس الخشنة النسيج والممزقة كسيده ، ببطء ، كي لا تبدو عليه الحركة .
كان يغير موضعه ، بين حين وآخر ، لكي لا يدب في جسمه الخدر ، ثنى ركبتيه وفي وقت واحد قوس ظهره ثم عدل نفسه فيما كان يمد ساقيه . ربما استغرقت هذه الحركة نصف ساعة ، ولكن بعدها يستطيع ان يتمدد ساعتين دون اثارة .
لم يبد ايما انتباه لنيران القصف المدفعي لأن الأهداف كانت بعيدة عنه ، وعن الجبهة ومؤخرة الجيش . في اليوم الثالث ، برغم ذلك ، حاول العدو ان يبيده بنيران مدافع الهاون من خلال توجيه قصف مكثف الى مجموعة من الشجيرات الراتنجية الحديثة العهد على شاطيء النهر مباشرة . أطلق العدو موادا شديدة الحساسية انفجرت في الجو ، لكنه كان يتوقع ذلك فغير اتجاهه نحو المستنقع المكشوف . انقلب الى تمويهه فتمدد هناك مثل بركة مستنقع صفراء ذات بقع زرقاء .
كانت الجبهة هادئة جدا . غالبا ما كان يحدق الى جندي معاد مباشرة الى عينيه اللتين تبدوان كأنهما على دراية به وتتفحصانه بعناية ، لكن اصبعه لا يضغط على الزناد . كان بوسعه تحديد الهدف بدقة كي يتسنى له اطلاق النار .
حاولوا استغواءه لأطلاق النار . نصبوا له فخا : خوذة ستزحف ببطء على امتداد الضفة كالسلحفاة . عندما يتحرك شخص ما فان رأسه يرتفع وينخفض على نحو طفيف . عندما تكون قدماه متباعدتين فانه يكون أقصر مما لو كانتا متقاربتين . لا يبدو على ناصبي الفخ أبدا أنهم تعلموا كيفية تدبير حتى مثل هذا الأمر البسيط . لقد تعلم جميع الحيل المحتملة الوقوع . وفوق ذلك ، فانه لا يصوب شخصا في الخوذة ، بل في الوجه دائما ، في مركز الوجه . كان يصوب سلاحه نحو تقاطع محوري الأنف والعينين ، نقطة الأصل في الوجه . يكاد لا يطلق النار ابدا حين يكون الرأس مائلا الى الجنب لأن الهدف حينئذ يكون مبددا ويتعذر الى حد ما ايجاد موضع محدد للهدف في عشر ثانية . كانت الأذن هي الأحتمال الوحيد ، ولكن لأحراز نتيجة حاسمة كان من الأفضل التصويب نحو مؤخرتها . ومع ذلك ، كانت مساحة الهدف ضيقة . وعلاوة على ذلك ، فقد كانت للخوذة صفيحة عنق معدنية طويلة . عندما يرتدي شخص خوذة فانه لا يصوب من الجانب او المؤخرة الا اذا كان المدى قصيرا جدا . بسبب تركيبها المنحني فان الخوذة سوف تحرف الطلقة عمليا من اية زاوية .
بميسور المرء القيام بهذه المهمة حين يكون مقتدرا على اصابة هدف بحجم رأس الأنسان اصابة أكيدة مئة بالمئة من مسافة (650 ) ياردة ، لكن ذلك غير كاف . اذ يمكنك اصابة الوجه تحت العينين ولم تكن النتيجة سوى تبذير بالبارود . اذ حتى في الرأس توجد مناطق ليست الأصابة فيها مميتة . الا انه كان على دراية تامة بجميع المواضع الحساسة والدقيقة في مجاله –ويعرف تركيب رأس الأنسان تماما . اذا لم يكن قد حقق اصابة مميتة وفورية فانه يكون قد فشل وفسد يومه كله . ان صرخة الألم الطويلة وصمة عار في سمعته . لم يكن مطلوبا منه اقل من نتائج تامة . بوسع حتى من يخطيء الهدف باستمرار ان يلحق العجز في شخص باصابته في احد اوصاله او اعضائه . كانت الأصابة المميتة فورا ظاهرة نادرة جدا ، حتى انه لم يعد يصدق وقوعها احد . من يصب اصابة مميتة في الحال لا يطلق حتى صوتا واحدا ، اذ تتجمد اوصاله في منتصف الحركة .
في اليوم الخامس لم يقتل احدا . لقد اصبح العدو حذرا جدا . اكتملت مهمته في هذا القاطع . قدما كان الأنتقال الى مكان آخر . لم يسبق له ان مكث في هذا القاطع مدة تزيد على الأسبوع . كان يتنقل كلما دعته الحاجة الى ذلك ، حيث قد تصل الى حوالي خمسين ميلا . غادر المستنقع بعد هبوط الليل دون ان يطلق رصاصة واحدة . ارتفع سديم من النهر ومن واد ضيق عميق وغمر المساحات المكشوفة داخل الغابة . مثلما تنطلق نفخة سحابة دخان مزرق في الدخان الأبيض المنبعث من نار قش ، انساق الى هناك ، بنفس سرعة السديم البطيئة .
شاهده الجنود الرابضون في الخنادق مارا في محاذاتهم . لم يتجرأوا على ارباكه بالأسئلة ، وانقطع حديثهم فجأة وكأن مسامير صغيرة قد دقت في أحناكهم المتحجرة . لكن ملازما من كتيبة المشاة رافقه على الطريق وقدم له سيكارة ، لكنه لم يدخن ابدا . ثم طفق الملازم يتحدث معه عن موضع المدفع الرشاش الذي انزل بوحدته اصابات فادحة بنار رمي الأنتظام . كان يتكلم بسرعة ، وعلى نحو متواصل ، مكررا كل جملة .
العدو على الشاطيء الآخر على قمة ضفة عالية . كان رجاله تحت في مستنقع منبسط . الشاطيء الغربي لجميع الأنهار مرتفع كالجبل ، لكن الشاطيء الشرقي مستنقع . لقد أعد الله الأمة لتثبت في مواجهة الجهة الأخرى ...
وصلا طريق الغابة . كان وجه الملازم الشاحب وعيناه الخافقتان واضحة في الضوء . كان فمه وعيناه في حركة مستمرة . اوضح بانه حين كان في السابعة من العمر سقط في الثلج . ومنذ ذلك الحين استمرت عيناه في الأرتعاش . لا يعرف تماما ما أصابهما ، الا انه اعتقد بان الماء الجليدي اصابهما بضرر . كان أعشى لا يستطيع ان يرى شيئا في الليل .
قدم له الملازم بعض الشكولاته عندما ذهبا الى الدراجة النارية ، لكن القناص اعتلى المقعد الخلفي مديرا ظهره اليه ووضع عقب البندقية على قدمه . كانت البندقية بدون حمالة جلدية ، ووجد ان ذلك لا يسبب سوى العناء ، ولو ان الرماة البارعين يعتبرون وجودها مع السترة الجلدية الضيقة من شأنهما تثبيت الهدف بشكل ملحوظ . لكن هذه المسألة كانت اكثر شبها بالتصويب على جناح طائر . لم يكن بميسوره وضع بندقيته على ظهره بل توجب عليه حملها بيده . عندما شرع السائق برفس الدراجة النارية لتشغيلها ، رددت صدى الضجيج مئات الدراجات النارية في الغابة ، وانطاق بموازاتها في الأجمة ، فكانت اشبه بعدد ضخم من حرس الحماية . كان القناص مقيما في قرية على بعد عشرة اميال . في كل صباح ، وقبل بزوغ الفجر ، كانت تأخذه من هناك الى الجبهة دراجة نارية وتتم اعادته في كل مساء بعد هبوط الظلام . كانت له غرفته الخاصة في نادي الضباط الى جوار الغرف المخصصة لهيئة اركان حرب الفوج . كان يمضي لياليه هناك على سرير لائق وكان سائق الدراجة النارية يجلب طعامه الى هناك .و كان مخولا عن الأرزاق الملحقة بالضباط .
عندما بعث تقريره اليومي هاتفيا الى آمر الكتيبة ، بدأ الآمر بالتحدث عن موضع المدفع الرشاش الذي أوقع به اصابات فادحة . لم يجد نفسه قادرا على ان يأمر القناص ، الا انه طلب منه تدميره او مراقبته .
قال القناص انه لاحظ المدفع الرشاش امام ملتقى النهر برافد صغير يجري من الشرق تماما ، ومهمته ، على ما يبدو ، منع التحركات العسكرية الجانبية من عبور الرافد المستنقعي . هناك جسر فوق الى مسافة ابعد ، ولكن ليس بالمستطاع استخدامه حتى في الليل لأنه كان مرئيا بوضوح تجاه سطح الماء . كان من الممكن توجيه نيران المدفع الرشاش نحو الجسر حتى في الظلام التام . لم يستطع اطلاق النار على الموضع من منطقته الخاصة لأن شاطيء الرافد مستنقع عميق جدا لا يمكنه تحمل وزنه . علاوة على ذلك ، لم يكن بوسع بندقيته تدمير مدفع رشاش ، وان المخاطرة بالذهاب داخل منطقة محرمة بمدفع مضاد للدبابات غير مجدية .
ذهب الى غرفته ، تناول الطعام ونظف بندقيته بعناية ، رغم انه لم يستخدمها . وضع اطلاقات جديدة في المشط ، لقد اعدت خصيصا ، تم عد حبات البارود بدقة . ربما امتصت هي والبندقية الرطوبة في المستنقع . كان يولي سلاحه اعتناء نابعا من الضمير كما يعتني بنفسه تماما . تأكد من متانة نظام حميته . في الصباح عندما يتفرغ تماما كان بميسوره قضاء يومه دون الحاجة للتفكير في ارضاء شهوته او متطلبات الطبيعة .
عندما ايقظه جندي قبل بزوغ الفجر ، ارتدى ملابس التمويه وغطى بندقيته بلباس التمويه . لقد صمم ان يستولي على موضع المدفع الرشاش . بدا الحل جليا بذاته – وكأن دماغه قد حل المسألة في منامه ، ولو انها كانت معادلة صعبة ذات مجاهيل عديدة . لم يفكر حتى لمرة واحدة في قراره بالتحرك الى قطاع آخر ، كان قد طلب منه التوجه اليه توا ، حيث كانوا يعتمدون عليه هناك الى حد بعيد . ولكن كانت لديه ايضا مهمة في انتظاره هنا وعرف تماما كيف ينبغي ان تنجز .
تناول الخريطة من صندوق الخرائط الخاص به على الجدار وتأكد بانها تظهر فعلا الطريق الذي يحتاجه للألتفاف حول الرافد الى قاطع الفوج الثاني .
كان يجهل وجود مثل هذا الطريق ، لكنه كان عاملا مفترضا في حساباته .
بالمناسبة ، لاحظ ان الملازم الثاني ظل مرهقا في الليلة الماضية في تفكيره بخطورة المدفع الرشاش . اذا لم يكن بوسعه الرمي الى داخل موضع المدفع الرشاش من منطقته فكيف سيكون بوسعه الرمي من هناك الى داخل قاطع الملازم الثاني ! لكن ينبغي على الملازم الثاني ان يقدم بيانا عن سبب وقوع خسائر في سريته بطريقة او باخرى . أخذ يصدق قائد الكتيبة ، بالتدريج ، بتلفيق الملازم الثاني .
توجب عليهما الأنعطاف لمسافة تزيد عن العشرين ميلا قبل ان يصلا الى المكان المقصود . ارسل سائق الدراجة النارية وأمره بنقله الى نفس المكان في ذلك المساء ، ثم زحف الى الأمام بموازاة الرافد حتى اصبح عند مصبه ، مواجها الموضع .
هذا الشاطيء من الرافد أصلب من الشاطيء الآخر . في المساء ، آخر شيء ذكره الملازم الثاني هما ( هاتان الضفتان التعيستان ) .
صوب بندقيته نحو الموضع وحدق اليه من خلال المرقب . عند بزوغ الفجر تكشف شكل المدفع الرشاش المبرد بالماء في الفتحة السوداء . لم يستطع تدمير السلاح نفسه ، بل طاقمه ، اجل . حتى من هذا الموضع كان بميسوره تزديد ضربات موجعة للعدو بحيث تعيق تطلعاته وقدراته لفترة طويلة . أحدثت رصاصات عريضة متناثرة ضجيجا حادا وطنانا .
يبدو ان النهار سوف يكون هادئا جدا . كان بالأمكان سماع دوي المدفعية الثقيلة بعيدا الى الشمال فقط .
لم تجلب انتباهه الصرخة الحادة التي انطلقت من وراء الرافد – ولا اطلاق نار البندقية المتقطع المنبعث توا والذي تعاظم اخيرا ليتحول الى فرقعة تصم الآذان ، وكأن دورية للعدو يجري صدها . لاحظ الرجل الذي يسبح تحت سطح النهر فقط عندما جرف التيار الرجل معه على نحو مطرد تقريبا . كانت الرصاصات ترتطم بالماء وترتد الى الضفة المقابلة حيث احدثت فجوات عميقة بيضاء في زنود الخشب الداكنة امامه مباشرة . رأى ذراعا تلتف حول زند الخشب ، لكنها اختفت حال مشاهدته لها .
كان التيار اشد واسرع مما قد يستدل من حركات زنود الخشب . مع ان الملازم الثاني اندفع بسرعة داخل النهر عند الحد الشمالي من قاطع سريته فقد حمله الى المدفع الرشاش تقريبا . بغطسات طويلة وسريعة ، لا تصدق ، شق طريقه بحذر عبر الماء . كان يستريح بين كل غطسة واخرى ، وراء زند خشب مستبقيا وجهه فقط فوق السطح . في الواقع ، ظلت يد بادية للعيان فأفشت سر مكان اختفائه ، لكنه غطس وتوارى عن الأنظار ثانية عندما بدأت الرصاصات تصفر في اذنيه . على الرغم من ضوء النهار ، كان بميسورك تمييز مسارات بعض الرصاصات المذنبة من خلال ذيل الدخان الذي تتركها خلفها .
عندما شاهد السباح مندفعا بعنف نحو الشاطيء ، ميز القناص الشعر الأشقر الطويل ، اذ كان المجندون حليقي الرأس ، ويرتدون الأردية السروالية ، بينما كان الرجل عاريا . اختفى الملازم الثاني في القصب الطويل بسرعة بحيث لم يكن لدى القناص الوقت اللازم ليلاحظ المكان الذي اختفى فيه . رصاصات متفرقة ضربت الضفة فأثارت سحابات صغيرة من الغبار تكاد تكون غير مرئية .
يبدو أن الملازم قد أتقن حساباته تماما . حين لم يأتي القناص الى قاطعه فقط ، قام الملازم بتنفيذ محاولته ، بثقة كبيرة وعلى الفور .
القناص هو الشخص الوحيد الذي لاحظ الهارب يبرز فوق المنحدر . كان على بعد بضعة مئات من الياردات عن الرجل فحسب . كان أقرب جنود المشاة على بعد ثلثمائة او اربعمائة ياردة الى الخلف وقلة منهم الى الجانب . انطلق الملازم الثاني بقفزات طويلة كأنه ماعز جبلي . تلاءم مع لون الرمل على نحو وثيق حتى لا يستدل احيانا على وجوده الا بالأثر الرملي الأبيض الذي تخلفه خطواته المتقدمة بثبات . استجاب القناص بسرعة للمؤثر . رفع مصوبته مباشرة نحو قمة الضفة استباقا للحدث . بعيدا عن المصوبة , كان ثلاثة جنود للعدو وموضع المدفع الرشاش ظاهرين للعيان في المرقب . أحد وجوه الأعداء صلب بشعرتي تعامد مصوبته . كانت اجساد الجميع مكشوفة من الخصر فما فوق ! أطلق ثمة عدد أكبر من الرجال ، الى مسافة أبعد وعلى امتداد الضفة ، النار عاليا لملاحقة سير الأحداث . شق الهارب طريقه بحماقة – عندما بدأ يشعر بالتعب كانت اذنا القناص تستطيعان سماع صفير تنفسه المتواتر . عندما وصل الرجل قمة الضفة الشاهقة واندفع فوقها بقوة ، فقد كانت خطوة هادفة للقناص للتحرك . رغم سرعته المسعورة ، توقف الهارب في مكانه للحظة محسوسة جراء البرد ، وبرز بوضوح تجاه السماء .
نظر الرجال المرتبكون على امتداد قمة الضفة بحثا عن مصدر الرصاصة . من أطلق النار على الهارب ؟ أكان الخائن واحدا منهم ؟ بالتمييز من صوتها ، فان الرصاصة جاءت من موضع مجاور . تأثير الضجيج حثهم لتفحص المستنقع الأسفل الذي امامهم ، الا انه فارغ . من الخطأ عدم السماح للمرء بان يعيش الحياة التي عرضها للبيع في وضح النهار . لعشر دقائق شق الرجل طريقه هنا وهناك في النهر محدثا رشاشا مائيا ، وراح يعدو على امتداد الشواطيء وفي اللحظة التي وثب فيها للأحتماء وهبط الى قاع الخندق ، وصل الى هدفه ...
اصيب ( هوتونن ) بضربة في جبينه وسقط الى قاع الخندق . كان الآخرون يحدقون نحو المستنقع الذي ارتد منه صدى الرصاصة . هناك ، في جوار بعض أجمات العشب الطويل ، يبدو أن الضجيج الجهير ما زال يتردد صداه . غطسوا في الماء ، ورؤوسهم الى تحت ، باسرع ما امكنهم . قال احدهم : "قناص " . لكن ( هوتونن ) ما زال حيا .
" اني أحتضر ، " أطلق أنينا ، وتمدد بلا حراك ، وكانت عيناه مفتوحتين . " اللعنة ، انا لم أحتضر ، " ثم أطلق أنينا وجسّ جبينه . " انظروا فيما اذا توجد ثغرة في المؤخرة ، رفاق السلاح . "
كان بوسعهم جميعا دون امعان النظر ملاحظة وجود ثقب في مؤخرة رأسه .
" لا أستطيع أن أرى أي ثقب " قال شخص ما . جلس ( هوتونن ) منتصبا . وقف ( هوتونن ) .
" انا ذاهب الى مركز الأسعاف ، " قال بهدوء ، ولم يكن واثقا من كلامه .
ذهب ( هوتونن ) الى داخل فندق الأرتباط ، وشوهد ليختفي عند منعطف .
كان هناك قناص للعدو مواجها لهم تماما في المستنقع ، لأن " الرصاصة أصابت ( هوتونن ) في وسط الوجه تماما . "
( ماينبا ) ، هدّاف المدفع الرشاش ، كشف عن نفسه الآن باعتباره المدمّرلهذه الآلة المقيتة . دون تردد ، ولكي لا تكون للآخرين اية فرصة ، استولى على المقابض وبدأ باطلاق نيران كثيفة داخل المستنقع بضغطة واحدة على الزناد . نفذ هذه المهمة فجأة وكرد فعل لا ارادي ، حتى ان الخوف ، الذي ازيل بشعور من الطمأنينة ، لم يعد له المجال ليدب في نفسه . اطلقت رصاصة على عجل دون تسديد الى جبينه ، كان مخرجها من الرقبة غير ملحوظ بسبب شعره الطويل . رفع ( ماينبا ) نفسه وكأنه يحاول الخروج الى فوق وتوقف على المدفع الرشاش فيما استمر سيل القذائف النارية دون انقطاع . تقعقعت الأجزاء المتحركة من هذه الآلة عندما كررت نفس الحركات الرتيبة تماما . عندما انتهى ( ماينبا ) وبدأ يهبط كي يرى الأرض التي سقط عليها دون ان يطلق صوتا او يثني اصبعا .
عندما تجرأ الرجال للنظر الى ما وراء النهر بعد فترة طويلة ، ظهر هناك كدس متلولب بشكل غريب ، لم يكن موجودا هناك قبل مدة قصيرة . حين برز ( ماينبا ) بوضوح لينشج ، لم يشعر به أحد ، الا انه ما زال حيا ونقله رجلان .
" سوف لن أموت في ساحة المعركة ، " دافع عن حقه . كان دائما يردد مطالبته بهذا الحق ، فهي لذلك لم تكن مدعاة استغراب بذاتها ، لكنه ، في نفس الوقت ، انتزع نفسه بقوة من اذرع حارسيه . لكنه فقد وعيه بينما كان يخفض رأسه عند مدخل مركز الأسعاف . أكد طبيب " أنه اصيب برصاصة في الرأس وسحبه الى خلف الخيمة مع مجموعة من الجرحى . كان يرقد هناك اربعة رجال ، ثلاثة منهم اصيبوا باطلاقات بين العينين : انهم ضحايا القناص
في غضون ذلك ، فحص الطبيب الجراح ( هوتونن ) ورفض تصديق المستحيل . ( هوتونن ) لم يحتضر لأنه لم يمت بعد فحسب . كان بمقدور الموت النهائي ان يجيء في اية لحظة ، بهدوء ودون تطفل . زحف ( ماينبا ) عائدا الى الخيمة .
" لماذا تزحف الى هنا ؟ " سأل الطبيب الجراح .
" سوف أموت عندما أحني رأسي ، " قال ( ماينبا ) ، مترنحا من هفواته في اللاوعي . " اذا لم أحن رأسي فان الموت سيدركني . "
ترك الجراح ( هوتونن ) وأمر الطبيب بوضع بعض الضمادات على رأسه . بدأ في فحص ( ماينبا ) . هزّ رأسه . أجل ، هذا الرجل ، ايضا ، سوف يموت بالتأكيد في اية لحظة .
جاء الأصيل سريعا . لم يكن هناك آخرون في الخيمة سوى هوتونن و ( ماينبا ) . لقد كان أصيلا هادئا خاليا من الأضطرابات بحيث يجعلك تعتقد ان أصيلا كهذا سيتكرر دائما . اضطجعنا جنبا الى جنب على الحشايا . ترشح ضوء النهار عبر جدران الخيمة ، انتظرا . بدأ رأس ( هوتونن ) يتألم شيئا فشيئا وأبلغ ( ماينبا ) بذلك ، وسرعان ما دب الألم في رأس ( ما ينبا ) ايضا .
بعد شهر فقط التحق كل من ( هوتونن ) و ( ماينبا ) بوحدتيهما . لقد تمّ فحصهما من قبل طبيب واسع المعرفة حيث عرف سبب عدم موتهما . بين الفينة والفينة في الزمن الماضي – خلال الحرب العالمية الأولى – حدث أن اصيب رجل برصاصة في رأسه في موضع حساس جدا لكنه بقي على قيد الحياة . ينبغي أن توجد في الدماغ قناة ما – منطقة تستطيع الرصاصة أن تمر من خلالها دون أن تحدث ضررا . يجب أن توجد .
كان هدّافا ماهرا للغاية . أخفق في اصابة ( هوتونن ) و ( ماينبا ) في الرأس .
----------------------------------------------------------------



#نهاد_عبد_الستار_رشيد (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- واخيرا التقيت بها


المزيد.....




- السوق الأسبوعي في المغرب.. ملتقى الثقافة والذاكرة والإنسان
- مبادرة جديدة لهيئة الأفلام السعودية
- صورة طفل فلسطيني بترت ذراعاه تفوز بجائزة وورلد برس فوتو
- موجة من الغضب والانتقادات بعد قرار فصل سلاف فواخرجي من نقابة ...
- فيلم -فانون- :هل قاطعته دور السينما لأنه يتناول الاستعمار ال ...
- فصل سلاف فواخرجي من نقابة فناني سوريا
- -بيت مال القدس- تقارب موضوع ترسيخ المعرفة بعناصر الثقافة الم ...
- الكوميدي الأميركي نيت بارغاتزي يقدم حفل توزيع جوائز إيمي
- نقابة الفنانين السوريين تشطب سلاف فواخرجي بسبب بشار الاسد!! ...
- -قصص تروى وتروى-.. مهرجان -أفلام السعودية- بدورته الـ11


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نهاد عبد الستار رشيد - في لقاء لي مع ( فيو ميري )