أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - موجة 19 نوڤمبر 2011 الثورية الجديدة















المزيد.....



موجة 19 نوڤمبر 2011 الثورية الجديدة


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3553 - 2011 / 11 / 21 - 14:28
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


1: تفجرت الموجة الحالية من الثورة صبيحة السبت 19 نوڤمبر 2011 كاحتجاج مباشر على القمع الأمنى المفرط الذى قامت به قوات الأمن المركزى ضد اعتصام صغير لبعض أهالى شهداء الثورة ولبعض مصابيها. وكان ذلك الاعتصام الصغير موجودا قبل مظاهرات قوى الإسلام السياسى وقوى سياسية أخرى فى يوم الجمعة 18 نوڤمبر 2011، على أنه لا توجد صلة بين مظاهرات الجمعة وهذه الموجة الثورية الجديدة. إذ إن الإسلام السياسى بوصفه القوة السياسية الحاسمة فى مظاهرات الجمعة كان يركز على إجراء تعديلات على وثيقة المبادى الدستورية لتقييد الحقوق المطلقة التى يطالب بها المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية لنفسه، ولتوجيه ضربة قاضية لفكرة "مدنية" الدولة فى مصر، ولجعل الوثيقة استرشادية فلا تكون ملزمة للجنة وضع الدستور، إلى جانب مطلب تسليم السلطة للمدنيِّين.
2: وبالطبع فإن تسليم السلطة للمدنيِّين خلال أشهر، بدلا من الجدول الحالى الممتد حتى 2013 والذى تعمل به الطغمة العسكرية (المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية) حاليا، كان الشعار الأبرز فى مظاهرات الجمعة. ويقصد الإسلام السياسى بتسليم السلطة إلى المدنيِّين (فى دولة يريدونها غير مدنية!!!) تسليم السلطة السياسية فى مصر إلى الإسلام السياسى )أىّ قوى سياسية أخرى قد تضعها إلى جانبه أىّ صيغة "توافقية" فى بداية الأمر؛ على أساس أنه يستطيع أن يتخلص منها فى الوقت المناسب للانفراد بالسلطة). والحقيقة أن هذا هو المضمون الوحيد المستهدف من الإسلام السياسى من ناحية والموضوعى من ناحية أخرى نظرا لميزان القوة بين الإسلام السياسى والقوى السياسية الأخرى فى الوقت الحالى، كما يفهم الإسلام السياسى ميزان القوة الحقيقى حاليا لأنه لا يفهم ولا يريد أن يفهم أن حسابات ميزان القوة بالعامل الوحيد المتمثل فى القوة العددية المباشرة للقوى السياسية تنطوى على مغالطة كبرى بعيدا عن الدينامية الحقيقية للثورة.
3: وتتمثل هذه الدينامية باختصار شديد فى أن الثورة لم يقم الإسلام السياسى بالتمهيد لها ولا بقيادتها ولا بالاستمرار بها فقد مهدت لها وقادتها واستمرت بها قوى أخرى باستثناء أيام قليلة بعد 28 يناير حيث أكدنا بموضوعية غير مرة أن الإخوان المسلمين فى تلك الفترة الوجيزة قوَّوا الثورة وتقوَّوا بالثورة. وقبل ذلك اليوم اتخذ الإسلام السياسى موقف المتفرج أيام 25 و 26 و 27 يناير وسرعان ما هرول إلى المفاوضات مع نظام مبارك قبل تنحيِّه (مع عمر سليمان وغيره) للحصول على الاعتراف والشرعية من نظام مبارك نفسه. وترك الميدان "نهائيا" بمجرّد تنحية مبارك ووقف بعد ذلك موقف معاداة كل نضالات ومبادرات واحتجاجات وأنشطة الثورة من الألف إلى الياء وعمل كاسرا لإضرابات الثورة بصورة كاملة؛ مراهنا على صفقاته مع الطغمة العسكرية متماديا فى افتراءاته ضد قوى الثورة الحقيقية إلى حد وصفها بالعمالة للصهيونية والاستعمار. والحقيقة أن الاعتراف الموضوعى بأن الإسلام السياسى فى تلك الفترة الوجيزة قوَّى الثورة وتقوَّى بالثورة لا يعنى تجاهل خيانة هذا الإسلام السياسى للثورة بجلوسه فى مقعد المتفرج فى الأيام الأولى ثم بخيانته العظمى للثورة من خلال التفاوض قبيل تنحية مبارك وبمعاداة الثورة على طول الخط بعد تنحية مبارك.
4: ويبقى علينا تحليل لماذا قام الإسلام السياسى بتقوية الثورة والتقوِّى بها؟ والإجابة موجودة فى صميم هذه المعادلة فقد قام الإسلام السياسى بتقوية الثورة من أجل وبهدف وعلى أمل التقوِّى بها للحصول على الاعتراف والشرعية؛ وقد فاز بالاعتراف وبالشرعية على السواء، وهنيئا له بذلك! فالهدف من الانضمام القصير جدا إلى فعاليات الثورة من جانب الإسلام السياسى كان عملا انتهازيا مباشرا يستحيل وصفه بأنه كان عملا ثوريا فقد كان بالأحرى عملا معاديا للثورة بدليل التخلى الفورى عنها ثم الوقوف ضدها. ولكن لماذا يتخذ الإسلام السياسى هذا الموقف السلبى من الثورة ضد نظام قام بصورة منهجية بقهرهم واضطهادهم وسحقهم وتعذيبهم وتوجيه أقسى الضربات إليهم منذ 1954 عبر كل الرئاسات التالية: عبد الناصر و السادات و مبارك؛ رغم تعاونٍ فى منتهى الخطورة فى السنوات الأخيرة لعهد السادات بينه وبين الإخوان المسلمين بهدف إحيائهم وتقويتهم والاعتماد على دورهم وعنفهم فى مواجهة قوى المعارضة الديمقراطية والماركسية والناصرية خلال نضالاتها ضد سياسته فى المسألتين الوطنية والديمقراطية فى السبعينات؟ ولماذا كان سلوكهم السياسى فى عهدىْ السادات و مبارك بعيدا تماما عن النضال ضد سياساتهما بصورة فعالة، كما فعلت قوى كثيرة أخرى مثل حركة كفاية و6 أپريل وعمال المحلة وموظفى الضرائب العقارية وقوى وحركات وفئات أخرى متنوعة؟ ولماذا معاداتهم التى لا جدال فيها للثورة الحالية مع نفاق التغنى باسم الثورة ورغم ادعائهم بأنهم هم قبل أىّ قوة أخرى (هامشية فى نظرهم) قادة الثورة والمستمرون بها، ورغم وقاحة مطالبتهم باستلام السلطة باعتبارهم هم وحدهم الثورة مع أنهم لم يفجروها ولم يقودوها ولم يستمروا بها بل تخلوا عنها واتخذوا منها موقف المعاداة على طول الخط وكان سلوكهم فى الشهور التالية للثورة سلوك الذيل للطغمة العسكرية الحاكمة؟
5: ولأن هذا المقال الصغير (الذى يتناول وبإيجاز شديد الموقف الحالى منذ السبت 19 نوڤمبر) لا يفسح مجالا واسعا للمناقشة بصورة وافية لكل هذه الأسئلة حول معاداة الثورة من جانب الإخوان المسلمين والإسلام السياسى رغم المعاداة الوحشية من جانب النظام المصرى لهم طوال عقود وعلى مر عهود رؤساء الجمهورية الثلاثة السابقين، فسأكتفى بإشارات قليلة. وإذا أخذنا الإخوان المسلمين بوصفهم القوة السياسية الأنضج والأبرز بين قوى الإسلام السياسى نموذجا للإسلام السياسى فإن موقفهم السلبى من المعارضة الفعالة لنظام مبارك بالذات قبل الثورة ثم خيانة الثورة ومعاداتها لحساب النظام- الذى اعتقدوا أن مهادنته وعقد الصفقات معه هما سبيلهم إلى السيطرة على السلطة التى يمكن القول إن القفز عليها يمثل أسمى أمانيهم (بالطبع بعد الموت فى سبيل الله)- يمكن إرجاعه قبل كل شيء إلى العامل الأساسى المتمثل فى العامل الطبقى.
6: فهؤلاء الإسلاميون السياسيون كجماعات أو أحزاب أو حركات يضمون فى صفوفهم ككل حزب فى العالم أفرادا من كل طبقات المجتمع وتتكون قوتهم العضوية العددية الأساسية من أبناء الطبقات الشعبية غير أن القيادات والزعامات التى تكونت بصورة تاريخية تتميز بانتماءيْن أساسيَّيْن: انتماء طبقى وانتماء أيديولوچى. والانتماء الطبقى الذى يحدد طبيعة وهوية الإخوان المسلمين ويجعلهم ممثلين سياسيِّين لطبقة بعينها هو انتماؤهم إلى الطبقة الرأسمالية العليا فى مصر. ذلك أنهم ينتمون عضويا إلى قطاع لا يستهان به من الطبقة الرأسمالية المالكة المذكورة (وينطبق الشيء ذاته على أقسام أخرى من الإسلام السياسى). أىْ أن الإخوان المسلمين كجماعة وكأحزاب ممثلون للرأسمالية الكبيرة فى البلاد بحكم انتماء قطاع كبير من الطبقة المالكة الكبرى فى مصر إلى جماعات وحركات وأحزاب الإسلام السياسى وإلى أيديولوچيتهم الدينية السياسية الأساسية مهما تنوعت بعض جوانبها بتنوع هذه الجماعات والحركات والأحزاب. وبالطبع فإن التمثيل الطبقى لحزب أو جماعة أو حركة لا يُقاس بمجموع الطبقات التى تشارك فى عضويتها وأنشطتها ونضالاتها بل يقاس بالقوة الاجتماعية المحركة الأساسية من ورائها، وعلى سبيل المثال فإن الحزبين السياسيين الكبيرين فى الولايات المتحدة ينتميان إلى نفس الطبقة الحاكمة الواحدة الوحيدة ولكن القوة العددية والانتخابية لكل منهما تأتى من الطبقة العاملة والطبقات الشعبية فى أمريكا. كذلك فإن وجود الحزب فى المعارضة لا يعنى أنه خرج من الطبقة أو الدولة أو النظام بل ينتمى الحزب الحاكم والحزب المعارض المنتميان إلى الطبقة المالكة إلى نفس الطبقة ونفس الدولة ونفس النظام. والاستنتاج هو أن الإسلام السياسى بحكم هويته الطبقية الرأسمالية، وبحكم كونه من الناحية الاجتماعية العضوية مع النظام الرأسمالى حتى النخاع، لا يمكن أن يمثل ثورة ضد هذه الطبقة ودولتها ونظامها بل يكون موقفه الطبيعى هو امتشاق السلاح ضد الثورة وقواها، فالإسلام السياسى إذن حركة رأسمالية معادية للثورة، تماما كما هو فى السعودية السنية الوهابية أو الجمهورية الإسلامية الإيرانية الشيعية الاثنى عشرية أو تركيا الإسلامية ذات الوجه العلمانى لأسباب تاريخية معروفة رغم التآكل المتواصل لهذا الوجه العلمانى الأتاتوركى ولأسباب ظرفية تتعلق بعلاقاتها الغربية المطلوب تطويرها عضويا.
7: فماذا عن الأيديولوچية الدينية السياسية لدى الإسلام السياسى؟ هل تعادى هذه الأيديولوچية النظام الرأسمالى والرأسمالية؟ بالطبع لا. ذلك أنه لا يوجد فى الإسلام (كما لا يوجد فى أىّ دين) ما يتعارض مع النظام الاجتماعى الطبقى من إقطاع أو رأسمالية أو الاستغلال الطبقى بالمعنى الاجتماعى-الاقتصادى المحدَّد (باستثناء الفضائل ومكارم الأخلاق والبر والصدقة والإحسان والزكاة وهذه الأشياء موجودة على مر الزمان فى كل الأديان بنفس الأسماء أحيانا وبأسماء مختلفة أحيانا أخرى). وبالتالى فإن أيديولوچية الإسلام السياسى ليست ضد الرأسمالية وليست ضد الرأسمالية العالمية، وباعتبارها أيديولوچية دينية سياسية تنتشر فى العالم الثالث فإنها ليست ضد الرأسمالية التابعة (وهذا ما تُثْبته مختلف تجارب حكم الإسلام السياسى فى بلدان عديدة، وما تُثْبته كذلك اتصالات وعلاقات إسلامنا السياسى مع القوى الاستعمارية). والاستنتاج هنا هو أن الأيديولوچية الدينية السياسية لدى الإسلام السياسى لا تمثل أيديولوچية ثورية ضد الرأسمالية أو ضد نظام رأسمالى أو ضد الرأسمالية العالمية والتبعية الرأسمالية فهى بالأحرى أيديولوچية ثورة مضادة لكل ثورة ضد الرأسمالية بالذات فهى قدس أقداسها وأسمى أمانيها.
8: وإذا كانت الهوية الطبقية الرأسمالية والأيديولوچية الإسلامية السياسية تبتعدان بالإسلام السياسى عن أىّ ثورة ضد الرأسمالية، يبقى أن نتساءل عن السر وراء إضاعتها لفرصة ربما كانت ذهبية وتستحق المحاولة: التصعيد ضد المجلس العسكرى فور تنحية مبارك فى سياق خوض معركة كبرى فى سبيل إقامة جمهورية إسلامية اعتمادا على القوة العددية والتنظيمية للإسلام السياسى وعلى احتلال عشرات الملايين من أبناء وبنات الشعب المصرى للميادين والشوارع ولكل مجال نضالى فى مجرى وفى حماية ثورة شعبية كبرى، بدلا من التفاوض مع النظام للحصول على ما دون ذلك بما لا يقاس؟ والحقيقة باختصار أن الثورة فاجأت الإخوان المسلمين وباقى قوى الإسلام السياسى كما فاجأت الجميع وربما أكثر من الجميع. لماذا أكثر من الجميع؟ لأن أملا غريزيا ما كان يداعب كل من ناضلوا ببسالة ضد نظام مبارك بتمديده وتوريثه واستبداده وفساده وبمجمل سياساته وممارساته، فعندما كانوا ينادون بسقوط مبارك منذ سنوات كان نضالهم يفتح أمامهم أفقا أرحب ويمنحهم خيالا سياسيا أوسع. أما الإخوان المسلمون فإنهم لم يناضلوا وبالتالى لم يحلموا! وكما سبق القول، فاجأت الثورة الإخوان المسلمين كما فاجأت الجميع وربما أكثر من الجميع. وكان هناك عامل آخر ردعهم عن التفكير فى مصلحتهم فى تطوير الثورة لتحقيق أهدافهم وجمهوريتهم الإسلامية وليس لتحقيق أهداف الشعب وثورته: إنه نفس العامل الذى يفسر تقاعسهم عن النضال الحقيقى فى سبيل مصالحهم ضد نظام مبارك وعقد صفقات معه رغم الضربات المتلاحقة التى ظل النظام يوجهها ضدهم وهو الذى يفسر وقوفهم مكتوفى الأيدى فى انتخابات مجلس الشعب فى أواخر 2010 بعد التنكيل البشع بهم. هذا العامل يتمثل فى عقدة الخوف الدائم من استهدافهم من جانب النظام بصورة أكبر من كل ما شهدوه وكان من المنطقى أن كل هذا أصاب قلبهم وعقلهم وخيالهم السياسى بالشلل؛ وهذا متوقع من قوة سياسية تم التنكيل بها على مدى عقود رغم أشهر العسل القليلة ورغم الصفقات المحدودة. وكان يُقوِّى من تأثير هذا العامل خوفهم الطبقى من الثورة الشعبية واحتمالات تطورها ضد الطبقة بصورة تضع نهاية للرأسمالية ذاتها متجاوزة الحدود المنطقية لثورة سياسية بما يتفق مع فهمهم البائس للتاريخ. وما تزال هذه العقدة تحكم سلوكهم السياسى.
9: ونعود إلى موضوعنا الأصلى (وأعتذر عن إطالتى الحديث فى موضوع الإسلام السياسى فى الفقرات السابقة). وقد تفجرت الموجة الثورية الجديدة احتجاجا على القمع الأمنى المفرط الذى ارتكبته قوات الأمن المركزى ضد اعتصام صغير لبعض أهالى شهداء الثورة ولبعض مصابيها فى ميدان التحرير. فهى إذن موجة ثورية فى سبيل إقرار واحترام حقوق وممارسات التظاهر والاعتصام والإضراب دون أىّ تدخل لقمعها من جانب الدولة. ومن جديد تُثْبِت القوى الحقيقية للثورة المصرية إخلاصها الذى لا يتزحزح للثورة وأهدافها. ذلك أن الثورة وضعت الديمقراطية فى مكانة رفيعة بين أهدافها وصارت الآن كما فعلت فى السابق تدافع بكل بسالة عن حق المصريِّين فى الاعتصام على خلفية قمع اعتصام أهالى الشهداء والمصابين.
10: وبصورة منطقية لم يقف الاحتجاج عند حدود حرية وحق و"ممارسة" الاعتصام بل امتدّ ليشمل كل أنواع الاحتجاجات من تظاهرات واعتصامات وإضرابات ومسيرات ووقفات احتجاجية وغير ذلك. بل امتدّ إلى أهداف أخرى متنوعة للثورة ضد حكم المجلس العسكرى وضد حكومته وضد سياسات وممارسات تشمل كل قضايا الثورة والثورة المضادة. ومن هنا شعارات رحيل الحكم العسكرى وحكومته لصالح تسليم السلطة إلى مجلس رئاسى مدنى وتشكيل حكومة إنقاذ وطنى وغير ذلك. وكما امتدت شعارات الاحتجاجات لتشمل العديد من قضايا وأهداف الثورة، امتدت المظاهرات والمسيرات ذاتها إلى تقريبا كل محافظات مصر من أقصاها إلى أقصاها، واستمر اعتصام التحرير، رغم برد الشتاء خاصةً بعد قيام الدولة ممثلة فى قوات الأمن المركزى والشرطة العسكرية بإحراق المخيمات وإحراق الدراجات البخارية الموضوعة تحت خدمة المعتصمين. ومنذ الساعات الأولى تعامل المجلس العسكرى وحكومته بقوات الأمن المركزى والشرطة العسكرية بوحشية كان حصادها المر إلى الآن حوالى عشرين قتيلا وحوالى ألفين من المصابين حسب بعض الروايات. ويعنى هذا مواجهة احتجاجٍ على استخدام القمع المفرط ضد اعتصام صغير ل "أهالى شهداء ومصابين" بقمع وحشى ضد المحتجين على القمع. ولأن الاحتجاج الجديد تظاهُر واسع النطاق يعمّ البلاد واعتصام كبير فى قلب العاصمة فقد تحوَّل إلى موجة ثورية حقيقية لانتزاع حريات وحقوق وممارسات التظاهر والاعتصام والإضراب وهى الأسلحة الضرورية لكل ديمقراطية من أسفل هى الهدف الموضوعى الكبير للثورة قبل وبعد أن تستعد للتقدم إلى أهداف ثورية كبيرة أخرى.
11: واللافت للنظر فى هذه المعركة الدموية الجديدة ضد الثورة هو هذا الاستخدام المفرط وغير المبرر للعنف ضد اعتصام صغير يمكن اعتباره حالة سياسية وإنسانية فى وقت واحد. فلماذا العنف دون ضرورة دون مبرر مع اعتصام لن يمثل بحال من الأحوال تهديدا ضد الطغمة العسكرية وحكومتها؟ وهل فات عليهما أن مصر تعيش الآن ثورة شعبية كبرى وأن الثوار لم يعودوا يقفون مكتوفى الأيدى عند اعتداء جسيم ضد عدد قليل من ضحايا الثورة خاصةً وأن ملفات شهداء الثورة مفتوحة ما تزال ويقوم المجلس بتدبير تأجيلات متواصلة لمحاكمة القتلة؟ ولغرابة الموقف حامت حوله شكوك كثيرة محيِّرة وحائرة وتُبودلت الاتهامات حول مَنْ الفاعل الأصلى وراء الهجوم على الاعتصام الصغير- باعتبار أنه يمكن أن يؤدى إلى ما أدى إليه بالفعل- على أمل أن تعطّل ردود الفعل الجماهيرية الانتخابات الپرلمانية التى صارت على الأبواب. وفى خضم احتدام الشكوك والاتهامات يمكن بالطبع أن يُنْسَى البطل الحقيقى وهو الغباء السياسى، غباء المجلس العسكرى وغباء حكومته. واستمر الغباء ذاته بالهجوم الأمنى العسكرى الشرس على الموجة الثورية الجديدة. وكيف لا نتحدث عن الغباء قبل كل شيء عندما نجد الحكم العسكرى (هذا التلميذ البليد الذى هو من ناحية أخرى فى سنة أولى سياسة!) لا يستطيع حساب رد فعل الثوار والجماهير على قمع أهالى الشهداء بالذات، ثم لا يستطيع بعد ذلك، أىْ حتى بعد أن رأى رد الفعل الجماهيرى الواسع النطاق، حساب النتائج المنطقية للهجوم الأشد شراسة على الموجة الثورية التى أطلقها الغباء الأول!
12: فبعد محاولات طويلة لإعادة بناء ثقة الشرطة بنفسها وإعادة الثقة بين الشعب والشرطة ينسف الغباء فى لحظات النتائج التافهة على كل حال لهذه المحاولات. وإذا كان من الممكن أن يشك بعضهم فى أن المجلس العسكرى يتعمد استخدام الشرطة على هذا النحو لإضعافها بعد فترة طويلة من اعتماد نظام مبارك عليها على حساب الجيش باعتبار أن الشرطة هى التى كانت تواجه الإرهاب، فكيف نفهم ألَّا تكتفى الطغمة العسكرية بذلك فتزجّ الجيش والشرطة العسكرية فى مثل هذه المهمة؟! لقد تبعثرت الشرطة بعد هزيمتها فى 28 يناير 2011 وفقدت الثقة بنفسها وفقدت بصورة شاملة ونهائية ثقة لم تكن موجودة أصلا بينها وبين الشعب، وبعد عجز الشرطة عن حسم مستحيل لهذه المعركة الجديدة فإنها تصير فى موقف لا تُحْسَد عليه؛ فكيف نفهم أن يعمد المجلس العسكرى إلى تعريض الجيش أو الشرطة العسكرية لهزيمة مشابهة ولفقدان نهائى لأىّ بقية ثقة بين الجيش والشعب؛ خاصةً وهو يرى فى ليبيا وسوريا واليمن أن هزيمة الجيوش محتومة ولايمكن تفاديها عند الصدام الواسع النطاق مع شعب أعزل فقد انتصرت الشعوب فى الثورات على جيوش تضربها بكل قوة، وهذا بمثابة قانون من قوانين الثورات الشعبية. وبالطبع فإن مثل هذا التطور يمكن أن يؤدى إلى ما هو أخطر فالجيش يمثل المؤسسة الأمنية المتماسكة الوحيدة التى ما تزال قائمة بعد هزيمة الشرطة وإذا انهار هذا التماسك فإن مصر ستواجه وضعا جديدا بالغ الخطورة وإذا كان المجلس العسكرى لا يهتم كما ينبغى بمصير مصر فكيف نفهم أن لا يهتم بمصيره هو نفسه ومصير طبقته الحاكمة وإذا كان على الشعب أن يتولى أمر أمنه فى مثل هذا الظرف الخطير الذى لا يرغب فيه أحد فكيف سيتدبِّر المجلس العسكرى أمره وأمر طبقته المالكة؟ لا يفسِّر كل هذه الحماقات سوى الغباء السياسى وغياب العقل السياسى (والعياذ بالله)!
13: والحقيقة أنه لا مصلحة لأحد من المشاركين فى العمليات الانتخابية الممتدة القادمة فى تعطيلها: لا المجلس ولا الإسلام السياسى ولا الليبرالية اليمينية المتمثلة بوجه خاص فى أحزابها الكبيرة ولا الحزب الوطنى الذى يسيطر رجاله على كل شيء فى مصر فلم يتحول إلى فلول بل إلى أحزاب متعددة قاعدتها الطبقية هى نفس الطبقة الحاكمة القديمة باستثناء القطاعات التى تنتمى إلى الإسلام السياسى والليبرالية اليمينية. فكلها تريد أن تسارع وبكل صفاقة وجه إلى جنى ثمار ثورة لم تكن فاعلة حقيقية فيها، حتى لا يقطع عليها الطريق ازدياد قوة ووعى ونضج وتسييس قوى الثورة الحقيقية. فلا مصلحة لأحد فى افتعال أزمات بهدف تعطيل الثورة كما أن الغرب الاستعمارى (وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية) يتعجل بدوره- تفاديا لنفس المخاوف- استكمال المخطط الجارى تنفيذه والذى كان طرفا فى تحديد خطوطه العريضة وتفاصيله الدقيقة.
14: هل ستكون الموجة الثورية الجديدة قصيرة أم طويلة؟ والحقيقة أن المدى الزمنى لهذه الموجة سيتوقف على استجابة حكام الأمر الواقع لمطالبها التى منها التعهد بالالتزام الكامل بإطلاق حريات وحقوق وممارسات التظاهر والاعتصام والإضراب وكل احتجاجات كل فئات الشعب والامتناع عن قمعها أمنيا وإعلاميا وإلغاء كل القيود القانونية التى يحفل بها القانون المصرى وحتى الدستور المصرى المعطَّل ومنها القوانين والقرارات التى أصدرها المجلس العسكرى وحكوماته ومنها قانون تجريم ما يسمى بالاحتجاجات الفئوية التى لا تعنى سوى حقوق التظاهر والاعتصام والإضراب وكل احتجاجات فئات الشعب فى مواقع العمل أىْ الطبقة العاملة بالذات بكل قطاعاتها. وهناك بالطبع مطلب حكومة إنقاذ وطنى ومطلب موعد محدَّد يقوم فيه المجلس بتسليم السلطة إلى حكم مدنى ويرتبط به مطلب تحديد موعد لانتخاب رئيس للجمهورية فى موعد لا يتجاوز الربيع القادم. وبالنظر إلى حجم وعمق الاحتجاجات الحالية ودينامية مطالبها وأهدافها يمكن القول إنه بدون تقديم تنازلات مُقْنِعة للمعتصمين من جانب المجلس العسكرى لن يتراجع الثوار عن الاعتصام وكافة أشكال الاحتجاج. ومن ناحية أخرى يجد المجلس العسكرى نفسه بين شقىْ رحى: من ناحية رغبته الأكيدة فى إجراء الانتخابات وهذا ما تلقى عليه الموجة الثورية الحالية وبالأخص تطورها المحتمل ظلالا كثيفة ومن ناحية أخرى مخاوفه من العداء الجماهيرى الشديد والواسع النطاق والمتصاعد ضد وزارة الداخلية وضد المجلس العسكرى الأمر الذى يؤدى إلى مواجهة عنف النظام الحالى بعنف بالغ كما يدل الإصرار على اقتحام وزارة الداخلية وعلى مقارها فى المحافظات وعلى إسقاط المجلس العسكرى والمشير، وبالتالى احتمال تقديم تنازلات واضحة من جانب هذا المجلس.
15: ما هى احتمالات النجاح والفشل فى تحقيق أهداف هذه الموجة الثورية الجديدة؟ وهناك بالطبع مطالب تحتاج إلى التحقيق الفورى (ربما تغيير وزارى ربما يتم التفاوض عليه) ومطالب أخرى تكتفى بالوعود والعهود وأغلظ الأيمان من جانب المجلس العسكرى (مثل تسليم السلطة للمدنيِّين وانتخاب عاجل لرئيس الجمهورية) ومن الجلى أن سخاء الوعود فى مثل هذه الفترة لا يعنى احترامها من جانب المجلس العسكرى فى المستقبل. ولكنْ ماذا يعنى تسليم السلطة للمدنيِّين؟
16: وبالطبع فإن قوى الإسلام السياسى، التى ترى أن الثورة ثورتها وأن جوائزها ينبغى أن تذهب إليها، وترى أنها القوة المدنية رغم إصرارها على رفض فكرة الدولة المدنية وعلى ضرورة حذف كلمة "المدنية" من وثيقة السلمى، تطالب بهذا التسليم للسلطة وتلحّ عليه، بل وتستعد لحكم وإدارة البلاد والعباد كما يعلن الكثير من الناطقين المتنوعين باسم الإسلام السياسى. وبالطبع فإن هذه القوى ما تزال حتى بعد "مليونيتها" (الجمعة 18 نوڤمبر) تراهن على الانتخابات التى يقوم المجلس بإجرائها للوصول إلى الأغلبية وبالتالى إلى الحكم وما تزال تتخذ موقفا معاديا للنضالات الثورية كما تفعل الآن ضد الموجة الثورية الراهنة التى تهاجمها رغم التصريحات المنافقة التى تدين استخدام العنف ضد المظاهرات والاعتصامات.
17: وتنطوى فكرة تسليم الحكم للمدنيِّين على جملة من المفارقات. فالقوى الثورية الواعية التى تجد نفسها بين مطرقة المجلس العسكرى وأحزاب "الحزب الوطنى" وأحزاب الليبرالية اليمينية (الوفد والمصريِّين الأحرار والحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى) من ناحية وسندان أحزاب وحركات وجماعات قوى الإسلام السياسى من ناحية أخرى، أو بين هاتين المطرقتين الثقيلتين فى الحقيقة، تنادى منذ البداية بالمجلس الانتقالى المدنى وتسليمه السلطة السياسية فى البلاد غير أن هذه القوى الثورية الواعية تنادى بهذا كشعار دعائىّ لإدراكها الواضح أن التوافق بين القوى السياسية الموجودة فى الساحة المصرية على مجلس انتقالى أو غيره مستحيل من المستحيلات. لماذا؟ لأن قوى الإسلام السياسى ستتخلص عند أول منعطف من القوى الأخرى التى تتوافق معها (ولم يكن الإسلام السياسى مستعدا على كل حال للتوافق مع أحد باستثناء المجلس العسكرى الذى راهنت عليه فى الفترة السابقة فى سياق الخداع المتبادل بينهما).
18: وما تزال المعادلة كما هى باستثناء أن فجوة قد ظهرت واتسعت بين الفريقين اللذين يخشى كل منهما سيطرة الآخر وخداعه الإستراتيچى. ورغم الموقف السلبى الذى ظل يتخذه الإسلام السياسى على طول الخط إزاء الاحتجاجات الجماهيرية على المجلس العسكرى وسياساته شهدنا عددا من "المليونيات" التى نظمها الإسلام السياسى ضد نفس المجلس العسكرى المقدَّس (من دون الله فى نظرهم) سابقا. ومع اتساع الخرق على الراقع كما يقولون بين المجلس العسكرى والإسلام السياسى يرتفع صوت المبشرين بالتوافق بين القوى الحقيقية للثورة والإسلام السياسى فى مواجهة المجلس العسكرى. غير أن الأهداف المتعادية لا يمكن أن تكون أساسا للتوافق، ولا يجوز مطلقا التحالف مع الإسلام السياسى ضد المجلس العسكرى ولا مع المجلس العسكرى ضد الإسلام السياسى؛ بل يجب النضال ضدهما وضد القطاعات الأخرى للثورة المضادة.
19: فكيف يبقى لقوى الثورة مكان لأمل؟ والحقيقة أن "المعادلات" الماثلة فى صميم قلب الثورة المصرية وحولها تفتح مجالا رحبا للأمل. هناك أولا واقع أن القوى الديمقراطية والوطنية واليسارية والليبرالية اليسارية التى مهدت للثورة وأطلقت شرارتها وقادت قواها الحية واستمرت بالثورة من خلال موجاتها ومبادراتها ونضالاتها المتعددة تملك هذه الميزة، ميزة دورها فى الثورة، وهى بوقوفها الحازم مع نضالات مختلف طبقات وفئات الشعب صارت تملك قلب الشعب بينما تخسر قوى الثورة المضادة (المجلس العسكرى والإسلام السياسى والحزب الوطنى والليبرالية اليمينية) قلب الشعب. سيقول قائل: ولكن قطاعات من الشعب تعطلت مصالحها وأسباب عيشها بسبب الثورة أصابها الضيق الشديد بالثورة؛ وهذا صحيح، غير أن من الصحيح أيضا أن الثوار الحقيقيِّين يقفون دائما موقف التأييد الكامل إزاء النضالات المسماة بالاحتجاجات الفئوية فيكسبون قلب هؤلاء المحتجين فى الوقت الذى وقف فيه الإسلام السياسى موقف المعاداة والشجب والإدانة إزاء تلك "الاحتجاجات الفئوية" وعمل ككاسر إضراب ضدها على طول الخط فظل يخسر على طول الخط أيضا قلب هؤلاء المحتجين. ولكنْ كم عدد هؤلاء المحتجين وما نوعيتهم وما احتمال استمرار احتجاجاتهم؟ هذا سؤال مهم، والإجابة: إنهم يُعَدُّون بمئات الآلاف والملايين؛ ونوعيتهم أنهم فى المحل الأول من أبناء الطبقة العاملة وبقية العاملين الذين تتميز نضالاتهم الإضرابية بالقدرة على إصابة الإنتاج والخدمات بالشلل وبالتالى يُحْسَب حسابهم بكل جدية، والمدى الزمنى لنضالاتهم مفتوح تماما، لماذا؟ لأن ثورتهم الطبقية نابعة من أوضاعهم الاجتماعية الاقتصادية وفى زمن الثورة ستواصل الطبقات العاملة والشعبية والفقيرة نضالاتها واحتجاجاتها إلى أن أن تحقق لنفسها مستويات معيشية توفر حياة كريمة وحريات سياسية ونقابية تسمح لها بالحركة المستقلة للحفاظ عل مكاسبها المحتملة وحراستها والدفاع عنها وتوسيعها (وسأضرب هنا مثلا بسيطا يوضح طبيعة زمن الثورة: كان مواطنو دمياط يضيقون ذرعا بمصنع أجريوم وكانوا يحتجون أيضا وكان مبارك قد وعدهم بنقله- وهو مصنع يمكن أن يؤدى انفجاره إلى كارثة وقد انفجر مصنع مماثل فى 1984 فى مدينة بوپال فى الهند فقتل آلافا وأصاب آلافا أخرى بعاهات خطيرة وما تزال آثاره متواصلة- غير أن احتجاجات مواطنى دمياط وصلت فى زمن الثورة بالذات إلى ثورة حقيقية فى دمياط!). وباختصار فإن قوى الثورة الحقيقية لايمكن فصلها عن قوى ستناضل حتى النهاية من أجل مصالحها الحيوية وبالتالى ينبغى النظر إلى قوى الثورة على أنها قوة كبيرة حقيقية، ويكفى أن هذه القوى أثبتت حيوية ودينامية هائلتين طوال الفترة السابقة؛ ومن إنجازات موجة 8 يوليو الثورية إجبار المجلس العسكرى على وضع مبارك فى القفص متَّهَما بقتل أبناء وبنات "شعبه".
20: وهناك ثانيا تناقضات حقيقية حادة بين قوى الثورة المضادة: بين المجلس العسكرى والإسلام السياسى، بين هذا الأخير وبين الحزب الوطنى، وكذلك بينه وبين الليبرالية اليمينية، وبالطبع وبصورة أقل بين الحزب الوطنى وأحزاب الليبرالية اليمينية، وهناك تناقضات فى صفوف الإسلام السياسى ذاته وهى قابلة للانفجار، أما تناقض قوى الثورة مع قوى الثورة المضادة فهو عدائى بطبيعة الحال. وعلى قوى الثورة بالطبع أن تأخذ فى اعتبارها تناقضات قوى الثورة المضادة فيما بينها وأن تستفيد بهذه التناقضات دون أن تتورط فى التحالف مع أىّ قوة منها.
21: وهناك معادلات مهمة أخرى فى صميم الثورة أو تحيط بها ونشير إليها باختصار لكى نحسب حساب الفرص التى أمام الثورة رغم المخاوف الكبيرة: عندما قام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بانقلابه العسكرى وبتنحية مبارك كان من الواضح أنه، بعيدا عن أسطورة حماية الثورة والشعب، يعمل على حماية النظام الرأسمالى والطبقة الرأسمالية بدون مبارك، إدراكا منه بأن مواجهة عسكرية لتلك الثورة الشعبية الهائلة ستكون خاسرة (وهذا فى الحقيقة هو درس كل الثورات الشعبية الناجحة فى العالم الثالث فقد نجحت فيما كان الجيش يضربها بكل قوته وهذا ما تُثْبِتُه من جديد ثورات ليبيا وسوريا واليمن). وكان هذا يعنى أن الثورة والثورة المضادة فى مصر صارتا موضوعتيْن فى مسار صراع طويل مفتوح تعمل فيه الثورة المضادة على التصفية التدريجية للثورة وتعمل فيه الثورة على الاستفادة من هذا الطابع التدريجى متفادية ويلات "المعجنة" الليبية أو السورية أو اليمنية أىْ هذه المرحلة أو تلك من مراحل حرب أهلية فى كل هذه الحالات، والاستفادة بزمن مفتوح نسبيا تنضج وتنمو فيه قواها من خلال المعارك المتواصلة التى لا يمكن تأجيلها لأن فى تأجيلها موت الثورة. وصار المجلس العسكرى موزَّعا بين ضرورة الوصول بسرعة إلى استقرار ما وضرورة المسار التدريجى الذى تحتمه ضرورة تفادى الحرب الأهلية التى يمكن أن تعصف بالنظام الرأسمالى بكامله، فيما أخذ الإسلام السياسى يدفع التطورات فى اتجاه سرعة وصوله إلى السلطة ليتولى بنفسه مسار التصفية التدريجية للثورة. وبالتالى فإن مصلحة الثورة تتمثل فى استمرار نضالاته بلا هوادة مع الاستفادة بالطابع التدريجى لتطور الصراع المفتوح بين الثورة والثورة المضادة، وتتناقض مصلحة الثورة بالتالى مع إستراتيچية المجلس العسكرى ومع إستراتيچية الإسلام السياسى على السواء.
22: ويتعزز هذا الطابع التدريجى للصراع بمشهد التجربة المفزعة للحرب الأهلية فى ليبيا وسوريا واليمن رغم اختلاف مراحلها فى هذه البلدان، بالإضافة إلى موقف الغرب وحتى العرب ضد مثل هذا التطور. وينطوى هذا الوضع بمختلف معادلاته على حماية اضطرارية للثورة الوليدة. وهنا نعود إلى مشكلة تسليم السلطة لأن القضية العويصة هى مَنْ الذى سوف يستلمها من الناحية الفعلية. وكما يقولون لا خيار فى الشر، والشر الذى ينطوى عليه نقل السلطة إلى الحزب الوطنى أو الإسلام السياسى أو الليبرالية اليمينية لا يختلف عن الشر الذى ينطوى عليه بقاء السلطة فى أيدى المجلس العسكرى. غير أن هذا قد ينطوى على تجاهل أن القوى "المدنية" ستكون متنوعة فى البداية على الأقل حيث ستتقاسم السلطة فى هذه الحالة أحزاب الإسلام السياسى وأحزاب الحزب الوطنى وأحزاب الليبرالية اليمينية، وفى التنوع والاختلاف رحمة حتى وإنْ كانت كلها من قوى الثورة المضادة. غير أن هذه "التركيبة" ستكون فى البداية فقط وفى كل الأحوال ستكون من الناحية العملية تحت السيطرة الفعلية للمجلس من وراء الكواليس وبهذا سيكون نقل السلطة بلا محتوى حقيقى. ولا يبقى والحالة هذه سوى التفكير فى مدى جدية انتزاع قوى الثورة الحقيقية للسلطة رغم كثرة أعدائها، وأعتقد أن الإجابة من جديد هى أن يظل نقل السلطة إلى المدنيِّين فى نطاق الشعارات الدعائية التى تحتاج إلى زمن يشتد فيها عود قوى الثورة فتقوى عدديا وتتبلور أيديولوچيًّا وسياسيا وتتماسك تنظيميا، وهى أشياء يزداد الأمل فيها مع تطوُّر الثورة.
23: على أننا الآن أمام موجة ثورية حقيقية، ويتسع نطاقها ويزداد عمقها بسرعة هائلة، وإذا كانت قد تفجرت كرد فعل مباشر على قمع اعتصام صغير لأهالى شهداء الثورة ومصابيها فإن الإطار العام للنضال الثورى يمنحها عمقا هائلا لتنتقل إلى قضايا أخرى من قضايا الثورة ولتفجِّر نضالات ثورية أخرى ولتطرح شعارات جديدة. وأعتقد أن هذه الموجة الثورية الجديدة يمكن أن تفرض أشياء بالغة الأهمية منها تجريم القمع الأمنى والإعلامى للمظاهرات والاعتصامات والإضرابات وكافة أنواع الاحتجاجات، وتشكيل حكومة إنقاذ وطنى، ووضع حد للحِيَل القانونية لتأجيل محاكمة مبارك للعودة به وبرجاله إلى القفص وسرعة محاكمتهم أمام محكمة ثورية تحكم وتأمر بالتنفيذ العاجل، وإلغاء الانتخابات الپرلمانية والرئاسية، وانتخاب لجنة تأسيسية لإعداد دستور ديمقراطى حقا فى سبيل إقامة جمهورية پرلمانية تحرسها وتحميها وتطورها ديمقراطية شعبية حقيقية من أسفل.
21 نوڤمبر 2011



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مرة أخرى حول مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية فى مصر
- الاحتجاجات المسماة بالفئوية جزء لا يتجزأ من الثورة
- مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية من ضرورات استمرار الث ...
- مذبحة ماسپيرو تضع الثورة أمام التحديات والأخطار الكئيبة
- مقدمة خليل كلفت لترجمته لكتاب: -كيف نفهم سياسات العالم الثال ...
- ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها تقديم للمؤلف خليل كلفت
- كتاب: النظام القديم والثورة الفرنسية
- الثورة المصرية الراهنة وأسئلة طبيعتها وآفاقها
- الديمقراطية .. ذلك المجهول!
- خواطر متفرقة من بعيد عن الثورة العربية
- الحزب الحاكم القادم فى مصر
- الحرب الأهلية فى ليبيا ... تحفر قبر نظام القذافى
- لا للتعديلات الدستورية الجديدة (بيان) بيان بقلم: خليل كلفت
- يا شعب مصر ... إلى الأمام ولا تراجع ... التراجع كارثة
- لا للتعديلات الدستورية فى مصر
- مفهوم النحو (مقدمة عن العلم وموضوعه ( مقدمة بقلم: خليل كلفت ...
- المادة الثانية من الدستور المصرى الدائم (دستور 1971) والعلاق ...
- بين الثورة السياسية والثورة الاجتماعية مقدمة خليل كلفت لترجم ...
- ماذا يعنى حل مجلسى الشعب والشورى؟ [فى مصر]
- الشعب المصرى يريد إسقاط النظام


المزيد.....




- سفير الإمارات لدى أمريكا يُعلق على مقتل الحاخام الإسرائيلي: ...
- أول تعليق من البيت الأبيض على مقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ ...
- حركة اجتماعية ألمانية تطالب كييف بتعويضات عن تفجير -السيل ال ...
- -أكسيوس-: إسرائيل ولبنان على أعتاب اتفاق لوقف إطلاق النار
- متى يصبح السعي إلى -الكمالية- خطرا على صحتنا؟!
- الدولة الأمريكية العميقة في خطر!
- الصعود النووي للصين
- الإمارات تعلن القبض على متورطين بمقتل الحاخام الإسرائيلي تسف ...
- -وال ستريت جورنال-: ترامب يبحث تعيين رجل أعمال في منصب نائب ...
- تاس: خسائر قوات كييف في خاركوف بلغت 64.7 ألف فرد منذ مايو


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - موجة 19 نوڤمبر 2011 الثورية الجديدة