أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رحمن خضير عباس - الذكرى العاشرة لرحيل الشاعر عبد الخاق محمود















المزيد.....

الذكرى العاشرة لرحيل الشاعر عبد الخاق محمود


رحمن خضير عباس

الحوار المتمدن-العدد: 3548 - 2011 / 11 / 16 - 08:45
المحور: الادب والفن
    



اليوم , تمرّ الذكرى العاشرة لرحيله . انه عبد الخالق محمود , شاعر عاش في الظل بمليء إرادته . اعتكف في صومعة شعره واحزانه . اختار أن يكون وحيدا متجردا من بهرج الحياة , فوجد في الكتب متسعا لنشوة روحية تبعده عن ضجيج المدينة , بأتراحها وهمومها وافراحها . هذا الشاعر البصري الذي كان يصدح با لفرح , يمشي بإنتشاء هازءا بالحياة , اصبح منكسرا , منهزما , حتى تمكن المرض من جسده ومن روحه , فأقرّ بعجزه عن مقارعة الموت , مستكينا بسخرية حزينة قالها وهويستمع لنصيحة الطبيب الذي قال له بأنه سيعيش سنة اخرى اذا امتثل لشروط السلامة ( سنة كاملة .. إنها كثيرة , يا دكتور! ) هذا ما نقله عنه صديقه الأستاذ جاسم العايف .
كان يكتب الشعر بصمت . وهو ينحت الكلمات , يجردها من عريها مستبطنا نواتها غير المرئية . لذا كان مقلآّ , لاتخرج القصيدة الى النور الآ بعد ان تمر بشبكة من رقابته الذاتية الصارمة . وكأنه لايثق بقدرته الشعرية . فهو لاينشر الآ بتحريض اصدقائه المقربين .
عبد الخاق الشاعر والأنسان إنطفأ مبكرا , وكأنه على عجلة من أمره . قيل لي انه كان يعاني من التهاب الكبد , الذي لم يتحمل تلك الرشاقة الروحية العالية التي يتحلى بها , حتى أجبره على الترجل من صهوة ابداعه وتألقه . فسقط في هوّة الموت السحيقة .
كان يزاوج بين الموروث من الشعر ومابين الحديث لذالك فهو مفتون بعبقرية المتنبي والسياب او المعري وادونيس , لذالك تشكلت لديه ذائقة شعرية , فكان ينتقي عيون الشعر , فيشنف أسماعنا مما يحفظ من شعر السياب او سعدي يوسف, كما استطاع ان يحيط نفسه بثقافة موسوعية أثرت قابليته الأدبية ومنحته حصانة لأن يكون مدرسا متميّزا بين أقرانه , ولكن هذه الثقافة كانت عبئا عليه من ناحية اخرى . فهو شديد الحساسية , خجول , غير قادر على المواجهة .كان معجبا بالشاعر الشيلي نيرودا , حتى انه في احد تجلياته الليلية تمنى ان تدفن مذكرات نيرودا معه في القبر .
لقد حمل شاعرنا الراحل حزنا كبيرا , تغذيه طموحات شخصية محبطة , وواقع بائس , وروح متشظية حالمة , تهفو الى الخلاص . وفي نفس الوقت يحمل فرحا هائلا يشيعه بين الأصدقاء , فرحا يتسرب من مسامات روحه , بعذوبة وبتلقائية . حيث الدعابة التي ترافقه بين تلامذته ومعارفه وزملاءه , دعابة شفافة لاتجرح الآخرين , وسخرية لاذعة متهكمة لاتثير سوى الفرح والضحك المتواصل . كان يعرف النكتة الذكية , ويجيد إلقاءها , ويحبك من صياغتها , حتى ان السامع يود سماعها اكثر من مرة . فهو لايكتفي بتلاوة الطرائف . بل يلجأ في كثير من الأحيان الى إنتاجها . مرة كان يحكي عن نفسه حينما يقوم باعطاء الدروس الخصوصية الى بعض الطالبات . يقول : حينما ينتهي الشهر تسلمني تلميذتي مظروفا فيه ثمن محاضراتي , فاحاول ان اضع المظروف في جيبي بدون اكتراث , ولكنني حينما اصل الى اول لوفة ( منعطف ) اقوم بفتح المظروف بسرعة واقوم بعد النقود . مما اثار قهقهاتنا فسميناه (ابو اللوفة)
كانت متوسطة الخليل بن احمد الفراهيدي في البصرة مهد لقاءي الأول وألآخيربه . كان ذالك عام 1976 وكنت منقولا من مدرسة اخرى . تقدمت بخطوات مرتبكة الى مكتب المدير , لأعلن وجودي , فحاول المدير ان يقدمني الى بقية المدرسين . لكن احدهم مزق الصمت وازاح الخجل بنكتة جعلت الجميع يسقطون من الضحك , ثم تقدم مني وهو يحدق بالكتاب الذي احمله . وكان الأخضر بن يوسف .. ومشاغله ثم قرأ منه بصوت رخيم قصيدة عبور الوادي الكبير .لقد اصبحت مدرستنا الصغيرة حضنا دافئا , نلملم فيها بقايا الروح. وكانت الأستراحة القصيرة بين حصتين فرصة لأقامة قدّاس الفرح من قبل عبد الخالق الذي يمتع الجميع بحلو دعابته, اوبروعة غناءه . كان يقلد اغاني سيد درويش , واغاني عبد الحليم كنا نشاركه الغناء ( اهوك .. أهواك , واتمنى ان انساك .. ) ومن تلك اللحظة احسست بأني عثرت على توأم روحي . ولم استطع أن افارقه الآ حينما قررت السفر النهائي من العراق . اوكما قال في قصيدة بعثها لي حينما كنت في الجزائر
" حانة في أقاصي المدينة
مرة جمعتنا معا .. كان بين الشجر
افق من سماء الجنوب الحزينة
كان بيني وبينك كأسان طافحتان
كان عندي وعندك قلبان يحترقان
كان بيني وبينك وجه السفر ..."
البصرة في تلك الأيام تمتلك سحرا لايقاوم . اغلب من حلّوا فيها وجدوا ان من الصعوبة مبارحتها . انه البهاء لمدينة ذات كبرياء تختزن التأريخ في اسمى معانيه . كما تختزن جغرافية ملونة بزرقة البحر وخضرة النخيل وعنفوان الشط . على مرمى عصا من الحدود , لذالك فثمة توهج ثقافي وفني وفكري . حتى المقاهي كانت تحمل نكهة إنسانية وعمقا , فمقهى ابو مضر أو (الدجة) كانت ملتقى القوى الوطنية والمتنورين من المثقفين والفنانين , وكانت بعض النوادي تشكل مايشبه المدارس الفنية والأدبية . مثل نادي الفنون . في هذه الأجواء كنا نلتقي كل يوم , وكأننا نهجس أننا لن نلتق ابدا .
كثيرا ما يدعوني الى بيته . كان بيتا عتيقا متواضعا , ولكنه كان جنة من المودة تغمرنا به امه الطيبة التي اغرقتني بحنانها , وكانت تحب اصدقاء عبد الخالق .. واعتقد أن موتها قد ترك فراغا هائلا في حياته .. اما مكتبته فهي بحد ذاتها تحفة فنية لما تحويه من الجواهر . ورغم ملامح الأهمال التي تبدو عليها وعدم التنظيم , لكنه كان يعرف كل نبض فيها .. احضر لنا قنينة الزحلاوي وهو يردد ابيات حسان بن ثابت " ان التي عاطيتني فرددتها قتلتْ قتلتَ فهاتها لم تقتلي " .. قدم لنا كؤوسا من الكريستال الفاخر وكذالك إناء الثلج تحف به صينية مذهبة .. قلت له مداعبا : إن هذه الفخامة لاتتلائم مع ما يحيط بها . أجابني وهو يرفع نخبنا : إنه غذاء روحي . ثم صمت برهة واضاف : ينبغي أن نحتفي به من خلال أناقة ادواته .
من خلال عبد الخالق احسست بالنبض الحقيقي للمدينة , لامست أغوارها . كنا نتسكع في ازقة البصرة العتيقة . نقرأ الشعر , ونتصفح الوجوه النضرة . كنا نعبر اسوقها نستنشق غبار الطلع , ونحن نتطلع الى عذوق النخل المتهدلة .. مرة كنا نتطلع الى الوجوه المتعبة في احد اسواق البصرة . استوقفني فجأة وهويقرأ قصيدة السياب (في السوق الكبير) ثم قال : إن ابا غيلان يقصد هذا السوق .
انتهت السنة الدراسية , وبدأت العطلة الصيفية , أكملت إجراءات السفر وسافرت الى البصرة لوداع الأصدقاء . سهرنا في نادي المهندسين في شارع الوطني , والتقينا بأصدقاء كثيرين في تلك الليلة . ومن سوء الحظ فقد حدثت مشادة كلامية بين صديقين , سرعان ماتحولت الى ندافع مما جعلنا نتدخل للحيلولة دون تدهور الوضع . وبينما كنّا منهمكين في حل الموضوع , إنزلقت قدم عبد الخالق على الرصيف , فتعرض الى تمزق عضلي شديد . حملناه الى المستشفى , وفي ساعة متأخرة جلبناه الى بيته وهو يتكأ علينا . سهرنا الى الصبح , حيث يتأوه من الألم .. في الصباح ودعته وانا احمل حقيبة السفر الطويل .
حينما حللت في الجزائر , كتبت له رسالة فأجابني برسالة جوابية مؤرخة بتاريخ 25/04/ 1977 , يقول في احداها . "امي تسألني : ماذا عن رحمن
قلت لها : البعد لقاء
قالت لي : إنك تنسى .
عيبك أنك تنسى , فلتذكر ملح الخبز
صمتُّ قليلا , ومضيت وحيدا
أغرق في حزني
واكلم روح الأشياء "
تفرقت بنا الدروب , في هجرة تصوّرتها نزهة . فإذا بها تحتكر سنوات العمر , وتلقي به في غياهب النسيان . محطات كثيرة من الجزائر الى المغرب الأقصى ثم اخيرا الى كندا . مرت احداث هائلة, خيم غبارها على ذكرياتنا الصغيرة . الحروب الطاحنة . الحصار .. وفي غمرة ذالك كنت اسأل عن الصديق محمود عبد الخالق , دون إجابة .. وفي مرة كنت اتصفح صحيفة الكترونية فإذا بملف عن رحيل الشاعر , والذي توفي يوم 15/ 11 /2001 . لقد كان الخبر حادا كالسكين , مؤلما كالجرح , ولكن الفقيد الذي رقد في مقبرة الحسن البصري وهويعانق ثرى مدينته التي احبها . ستبقى ذكراه حية , لن تتلاشى



#رحمن_خضير_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شموع كهرمانة وشيزوفرينيا الشعر
- إمرأة من اقصى المدينة
- أنامل ومخالب
- سوق النساء
- جرح ومنفى.. مرارة النأي عن النخل
- الكرة..وولاية الفقيه
- احزان على ضفاف الذاكرة
- ليس دفاعا عن علاوي
- الرجل الوحيد
- درعا تتألق
- فجيعة الغياب
- سيدات الفصول
- بين الشطرة وتارودانت ...... متاهة غربة
- الحجارة الثلجية
- قهوة الروح الجديدة
- شكوك حول الديمقراطية
- من دوّار الؤلؤة الى بنغازي
- الكتاب الأخضر وشجون السلطة
- خريف البطريرك
- طعنات اليفة


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رحمن خضير عباس - الذكرى العاشرة لرحيل الشاعر عبد الخاق محمود