أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - حلمحقيقي















المزيد.....



حلمحقيقي


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3543 - 2011 / 11 / 11 - 12:45
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
المجموعات القصصية (4)

د. أفنان القاسم

حملحقيقي
قصص


الطبعة الأولى الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 1990
(ضمن كتب وأسفار)
الطبعة الفرنسية تحت عنوان الرجل الذي يحول الكلمات إلى ماس دار لارماطان باريس 2003


























إلى باولو بازوليني
إلى إنغمار بيرغمان



















حلمحقيقي
لم يوقظ الكاتب لوي مالرو زوجه في الصباح الباكر كما اتفقا، كان يريد العودة إلى صنعاء القديمة وحده، ليعيش في أجواء روايته الجديدة، ليعيش تلك الأجواء. رفع الستارة، ونظر من النافذة العالية لفندق ملكة سبأ. كانت صنعاء لم تزل تنام مشوبة بالضباب، صامتة، غامضة، غارقة في الزمن، وكان مالرو كمن يعود ألف عام إلى الوراء، ألفي عام، ثلاثة... اخترق مشهد الماضي، ورأى في الخيال كل المعارك التي دُفع فيها ثمن الانتصار غاليًا، كل النساء التي استبيحت حرمتها من أجل إخضاعها، كل السدود التي أقيمت على أنهار من الدم والدمع لم تجف إلى اليوم. كان يريد الضحك، الابتسام، الصراخ ربما، لم يكن يعرف على التحديد. كيف كان يمكنه التعبير عن فرحه، خوفه، جنونه؟ انتفض دهشًا لقوة الانطباعات التي أثارها فيه مشهد بسيط للمدينة العريقة. التفت إلى زوجه النائمة نومًا عميقًا، وعلى شفتيها تطفو ابتسامتها الرصينة، الابتسامة ذاتها التي كانت تلصقها في باريس، بينما هو لم يكن قد أغلق عينه طوال الليل. كانت غرابة هذا المكان الذي لا شبيه له تكفي لبلبلته حتى أبعد نقطة في أعماق كيانه. تذكر ما كان قد قاله لها عشية أمس، وهما في زقاق قديم:
- أنت لا تعرفين، يا ماري-كريستين، كيف تقدرين هذه المدينة حق قدرها. تنظرين من حولك كما لو كنت لم تزالي في باريس بينما أنت في قلب صنعاء، وما صنعاء لك سوى ديكور غريب، قلادة حميرية، تمثال نحاسيّ لوعل قرنه مكسور، قدم حيوان خرافي، ربما كان من سباع الطير. تضعين صنعاء على صعيد واحد وكل ما سمحت لك الحياة الباريسية بمعرفته، أو كل ما قدمه لك زوجك – والحال هذه أنا – بفضل كتاباته، من أجمل الفساتين إلى أغلى الماس، من الفندق الخاص إلى الفيراري. أنت أكثر ظاهرية من أية امرأة أخرى! ومع الأسف، (( الفائض )) جوهر متعتك، هل أقول جوهرك؟
سارع لوي مالرو إلى مغادرة الحجرة، كان يريد أن يصل إلى جوهر الأشياء ليصل إلى متعته. تمنى، وهو في المصعد، لو يأخذ بساط الريح ليعجل الوصول، وابتسم هذه المرة على فكرة الوصول إلى جوهر الأشياء عن طريق الخيال، ما كان يريده هو الخيال الصادق. ومرة أخرى، قال لنفسه إن هذه ليست حال زوجه المجردة من كل خيال. دفع باب الفندق الضخم الخارجي، ورأى سائقه شملان يقف تحت آخر درجة من الدرجات الأربع. راوده الشك في عبارة ((الخيال الصادق))، فهل هناك حقًّا خيال صادق؟ إلى أي مدى يكون الخيال صادقًا؟ أو بالأحرى، إلى أي مدى يكون الصدق خياليًا؟
وضع في رأسه أن يعيش التجربة من الداخل، سواء أكانت هذه التجربة ممتعة أم لا، ليمكنه التعبير عنها بأكثر دقة، ويجعل من قارئه يشعر بها. فكر أنه ليكتب رواية ناجحة عليه أن يكسر العلاقة بين الواقع والخيال، أن يمحو المسافة الموجودة بينهما، أن يصهرهما ليعيد تجسيدهما بشكل أفضل. كان من السهل قول ذلك. لتحويل الكلمات إلى ماس – بمعنى ليحرز النجاح لدى قرائه ويغدو غنيًا وبعد أن يغدو غنيًا أن يمكنه تقديم كل ماس العالم لنفسه – لا بد من المعاناة. الكتابة عن الموت كما لو كان موت الكاتب. الموت مجازًا، ولم لا الموت بكل بساطة، الوقت الذي توصف فيه هذه اللحظة التراجيدية، غير المجردة من المتعة.
حيّاه شملان، ثم سأله عن زوجه ماري-كريستين:
- والست مريم، ألن تأتي؟
- الست مريم تنام.
كان مالرو يتأمل السائق باهتمام، شعره الأجعد كخروف، وعيني الصقر، ولحية التيس. كان ينظر إلى قميصه المفتوح عن صدر مشعر، وإلى مئزره الجلدي، وخنجره المعقوف، المشدود بحزام عريض مزين بخرز ملون. فكر الكاتب في بطله، بطل من لحم وشحم كشملان، لكن الظاهر فيه لم يكن حقيقيًا مع ذلك. كان شابًا دومًا، على عكسه هو الذي قضى حياته في الكتابة عن الآخرين، والذي لم يكن لديه الوقت ليكون شابًا. كانت أجواء روايته تقتضي بطلاً كهذا، بطلاً يؤثر في الأشياء، مع الأشياء.
أوضح:
- الست مريم تنام نومًا عميقًا.
ماذا سيحدث لو يبعث شملان إليها ليوقظها؟ كيف ستتصرف وهي ترى هذا الرجل الميثولوجي قرب مضجعها؟ هل ستُفاجأ؟ لن يكفي هذا محو المسافة بين حقيقتها وخياله. كان كل منهما يعيش التجربة نفسها على طريقته. كانت العلاقة بينهما تظل نائية على الرغم مما كان يبديه من إرادة لتحطيم هذه المسافة، لأنه لن يضفي عليها أكثر من بصماته الخاصة: (( الفائض )) مرة أخرى. مما كان يتلف قيمة الأسلوب. كان قد وصل إلى سؤالِ كيف توصف التجربة. كان على البطل أن يختلج في مكان يختلج بدوره في أقصى الريشة. ابتسم على فكرة قديمة كانت تتسلط عليه. كان يقول (( القيمة، كل القيمة في الأسلوب! )) ليرد على الذين كانوا يؤكدون أن (( كل القيمة الأدبية في المعنى )). أي معنى والمعنى ما هو سوى قارب في بحر الأسلوب؟ لم يكن هذا يعني أن موقفه لم يتغير في ذلك النقاش القديم حول الشكل والمضمون، لكن ذلك يعيده بشكل ممتع إلى اهتمامه الأول بالعلاقة بين الحقيقة والخيال، المعروضين ككل واحد، وككل واحد منسجم.
أخذ مكانًا قرب شملان في (( التويوتا )) المجملة بكل ما أبدعته العقول الخرافية من زينات: رسومات لحيوانات خيالية وطيور بائدة وآيات قرآنية وتعاويذ مهترئة وسلاسل مذهبة وقلائد زجاج ملونة وصور ممثلات وراقصات نصف عاريات. فجأة، أخذ هذا العالم الخيالي يتحرك، فأصاب لوي مالرو الدوار، ثم جاءه صوت المؤذن من بعيد، من بعيد جدًا، خفيضًا، عميقًا، شجيًا، كأغاني الأولين. أحسَّ بكونه في حالة معاكسة للحالة التي كان قد شعر بها على نافذة الفندق قبل قليل. لم يكن يذهب إلى الماضي، كان الماضي يأتيه. تصاعد دواره. كان الحاضر ينسحب مع انسحاب الضباب عن قباب صنعاء القديمة، وكان عالم التويوتا الميثي يفيض من كل جانب ليجتاح العالم. رفع رأسًا مثقلاً، وهمهم كالغائب:
- لا تسرع!
بعد مسافة وجيزة، توقف شملان على باب أحد الأزقة الضيقة جدًا، وقال:
- لا أستطيع الذهاب أبعد.
لحظات من التردد، ثم غادر لوي مالرو السيارة. وجد صعوبة في المشي على أرض الزقاق الحجرية التي بدت له قاسية بغرابة، ففهم أنه كان يمضى بحاله من الغيبوبة لا تخلو من المتعة. لكن أن يمضي بحالة من الغيبوبة لا يعني مع ذلك أنه كان يصل إلى الخيال المطلوب. لم يكن ذلك سوى حدس الخيال، المجمل بالخضوع والعجز، ثم السقوط. لحظات مؤقتة. وبسبب ما يكمن في هذه اللحظات من سعادة عابرة لم تكن سوى لحظات فائضة: الفائض مرة أخرى وأخرى! مقابل فضاء يغلي بالتعقيد، كان يفضل الرسم بدلاً من أخذ الملحوظات، فأخرج مفكرته ليرسم تصميمًا للزقاق ببيوته المتراكبة كالصناديق العجيبة، وانتهى به الأمر إلى رسم بطن امرأة فوق فخذين مرتفعتين تستعدان للولادة. صعقته الدهشة. كيف أمكن ذلك؟ كيف أمكن للفن أن يعبر عن الحقيقة بمثل هذه الطريقة؟ بمثل هذا الخيال؟ كان قد اقترب بمكر وحيلة من العلاقة بين الخيال والحقيقة، وكان في بدية الانشطار الذي سيسمح بالاندماج. تقدم من إحدى النوافذ، ووجد أنها كانت مزخرفة بزخارف على شكل طيور وعناقيد عنب، وعلى جانبها العلوي بِقِرَب لحفظ السوائل، ربما تكون شعارات للعبادة الحميرية. ذهب في خياله إلى الوراء، كان يلقي محاضرة يقول فيها: (( الفن هو التعبير اللاعادي عن واقع عادي، اكتشاف ما هو لاعادي، هنا تكمن خصوصيته التي تبين القطع والانسجام. الواقع حتمًا هو مادة الفن، ولكنه في الفن ينتقل من حالة إلى أخرى، من حالته خامًا إلى حالته معدلاً فكريًا )).
توقفت ريشته عن إتمام الرسم عندما شاهد في الظل امرأة كانت تحمل على رأسها إكليلاً يطابق حدود شعرها الجعد المتساقط على كتفيها. كانت تلبس ثوبًا طويلاً أبيض رقيقًا، وعلى كتفها ترمي شالاً أخضر مطرزًا بخيوط من الفضة يلتف حول ردفيها، وعندما انقشع الضباب، أدرك أن ذلك كان تمثالاً من تماثيل الرومان. ومن جديد، عاد إلى الوراء. استعاد حوارًا مع إحدى معجباته: (( اكتشاف الواقع أفهمه كالخيانة الزوجية، إنه اتحاد استثنائي ومدهش بين طرفين غريبين... )). لم يستطع لوي مالرو البقاء أكثر أمام المرأة الحجرية، عاد إلى السيارة، وطلب من شملان أن يقوده إلى الفندق. لم يكن رد فعله يفسر بأية خيبة من الحقيقة، ولا بتراجع أمام هذه الحضارة القديمة، ولا بعجز ريشته التي بدأت عملها مع ذلك بداية حسنة. وتوصل إلى أن سبب كل هذا كان الابتسامة المعروفة لزوجه، تلك التي اعتادها في باريس، والتي لا تنفصل عنها.
سألت ماري-كريستين:
- آه! لماذا ذهبت دوني؟
وهذا العذر المعد منذ زمن سلفًا:
- كنت نائمة، كنت نائمة نومًا عميقًا، ولم أشأ إزعاجك.
ابتسمت ماري-كريستين، وهي تميل على صدره:
- أنت لطيف أحيانًا إلى حد اللوم!
- لا تلوميني، يا حبيبتي!
- حرمتني من متعة كنت أريدها حقيقية.
هل يطلعها على ما كان قد فكر فيه؟ وفي لحظة من اللحظات، ظن أنها كانت تهزأ به، فحاول أن يكون صادقًا:
- لم أظفر بأية متعة حقيقية.
ابتسمت ماري-كريستين من جديد:
- هذا لأنني لم أكن معك.
حاول مرة أخرى أن يبدو صادقًا:
- كان ذلك بسبب تمثال حسبته امرأة.
أمام الحيرة التي كان يقرأها على وجهها أوضح:
- تمثال روماني أو يوناني، من الحجر البارد، دون أدنى حرارة، في زقاق ضيّق ضِيق خصر إحدى الحور.
وتردد قبل أن يقول فجأة:
- لم ألاحظ إذا ما كان للزقاق مخرجًا، ربما كان هناك مخرج له، لكني لم ألاحظ ذلك. كان هناك ضباب، وكان التمثال يمنعني من رؤية طرف الزقاق.
في الليل، أخذ لوي مالرو التويوتا، وعاد إلى الزقاق. أن يكون للزقاق مخرج أم لا، لم يكن ذلك سوى ذريعة. لم يجد التمثال. فكر أنه أخطأ المكان، وتابع في خياله الحديث مع الفتاة التي كانت معجبة به:
- أحيانًا يكون الاكتشاف أحاديًّا باردًا بسبب تمرد الواقع الذي يتضح أنه أقوى من الفنان. فقدان التجانس يفسر جزئيًا لماذا الفن لا يكفي لبلوغ هدفه. هل وصلنا إلى هذه اللحظة من انحطاط الحضارة؟
وقبل أن يعود إلى الصعود في السيارة، وجد امرأة ملتفة بالبياض من الرأس إلى القدم، حسبها تمثالاً، التمثال الآخر. لكن هذه كانت تعطي يدها لطفلة في الثالثة عشرة هي أيضًا ملتفة بالبياض من الرأس إلى القدم. أشارت الطفلة إليه ليقترب، فلم يحرك ساكنًا، وأشارت المرأة بدورها إليه ليقترب، فلم يحرك ساكنًا. فجأة، خلعت المرأة حجابها، فإذا بها عارية كما ولدتها أمها، ليس هناك من النساء أجمل منها على وجه الأرض، وكذلك فعلت البنت، فإذا بها عارية كما ولدتها أمها، ليس هناك من الحور أجمل منها على ظهر الجنة. اقترب لوي مالرو، وكأنه مشدود بحبل. كان يريد الهرب، في الوقت ذاته، والنفاد بجلده. وهو منهما على مد الذراع، اختفتا. سقط من إحدى النوافذ حجر أخطأه، وما لبث أن تبع ذلك صياح رجل خشن ومهدد، فهرب الكاتب حتى السيارة ليهرب من تلك الحالة اللامتوقعة. ولوي مالرو يسير على الطريق المحفرة الممتزج الليل فيها بالغبار، راح يضحك بأعلى صوته. كان يضحك من الخوف، بعد أن كان قد شعر بكونه مهددًا فعلاً.
لم يكن كل ذلك من الخيال شيئًا، كانت الحقيقة التي أولدها التهديد، وها هو يفشل مرة أخرى في مهمة صانع الكلمات التي له. عاد يضحك لأنه اكتشف في نفسه من المشاعر ما اعتقد أنها انتهت منذ كان طفلاً، اكتشف أنه لم يزل يخاف من الأشياء. الخوف، نعم، والهرب مما ليس متوقعًا. لماذا الكتابة إذن؟ لن يقول أبدًا إن القيمة في أسلوب يترجم تسلط الواقع عليه، إلا أنه حصل على متعة ما من تلك التجربة: متعة الخوف، تمامًا كمتعة الهرب، أو متعة الابتسامة الطفيفة الدائمة الملتصقة على شفتي زوجته وإن كانت زائفة. وبعد لحظة من التفكير في كل هذا، كان مَغيظًا. إذا كان قد شعر بالرضاء قبل بعض اللحظات، فهو لا يشعر بشيء في الوقت الحاضر. لا بسعادة، ولا بتعاسة... لا يشعر بشيء. لم يكن للماس في تلك الحالة أية قيمة. لم يكن يمكن لمالرو استغلال هذا الشعور بكونه مهددًا. كان معنى الكلمات والأشياء يفلت منه، وكان يطارده الأسلوب، كان يطارده البحر، وكان مركب محطم يبتعد، وهو لا يكل عن اللحاق بالمركب، ليس من أجل الوصول إلى الشاطئ، بل ليتحطم كالمركب، وليكسر التهديد.
* * *
في اليوم التالي، كان شملان يقودهما على الطريق اللامتناهية المنطبقة مع الأفق باتجاه تعز، لكن تعز لم تكن سوى إشارة، ففي اليمن لا تتحدد الاتجاهات. كل شيء كان مفتوحًا على كل شيء. كل شيء كان حرية. كل شيء كان جمالاً، أصالة، حقيقة روائية. كل شيء كان جميلاً، كل شيء كان زائفًا، كل شيء كان كذبًا! لم يعد مالرو يشعر بكونه مهددًا. سمعته ماري-كريستين يقول:
- اليمن هو الجنة على الأرض.
هتفت ككل مرة كانت تفهم فيها فكرة زوجها:
- ألسنا في بلد الألف ليلة وليلة؟
كانت تفهمه أفضل ما يمكنها الفهم. طرف الجنة هذا كان يوجَز في عينيها إيجاز كليشه من الكليشيهات. للباريسية التي كانتها، لم يكن المكان سوى مكان للتغريب لا أكثر. ظن لوي مالرو نفسه مضطرًا إلى التحديد:
- أريد القول إننا في بلد الخيال.
تأمل سلسلة جبال سُمارة العظمى التي تتشكل وتتبدل بلا انقطاع: حيوانات خرافية أعلاها إنسان وأسفلها حصان يثب في الفضاء الأزرق الشاسع، أو أعلاها حصان وأسفلها سمكة يختلج ذيلها الأحمر المدمى، أو هي أسود مجنحة، صقور ليست مجنحة، ثيران ليست ناطحة. ومع ذلك، القرون منتصبة، والأجنحة ممتدة. أية أجنحة! أية قرون!
عاد مالرو إلى القول:
- إنه الخيال في حالته الخالصة، هذه الحقيقة هي الخيال، هذا البلد هو الفن تحت كل أشكاله الممكنة. العالم الذي يبحث عن التعبير عنه لهو هنا، فما العمل عندما يُكتب كل شيء بيد الطبيعة ذاتها؟
قبل أن يكون مشهورًا، كان يأخذ الأوتوروت كل يوم من الضاحية الكبرى حيث كان يسكن إلى باريس التي كانت تمتد إلى ما لا نهاية. كانت السيارات كثيرة بطيئة، وكانت تتقدم بصعوبة. كان البرد بالحدة ذاتها التي على طريق قطب الشمال. كانت طبيعته التي له، جحيمه بشكل من الأشكال. جحيم لم يكن يستطيع التخلص منه حتى عندما كان يوجد في قلب الجنة. هذا التعايش المفارق للحظتين من حياته كان يثقل عليه، وكان الشيء نفسه مع زوجته. لم تكن لهذه المرأة السطحية أية سمة تجمعها والمرأة التراجيدية التي في قلب اهتماماته الأدبية. كان يلامس بإصبعه إذن مسألة يعلق عليها أهمية كبيرة، مسألة علاقته بالفن من ناحية، ومسألة علاقته بزوجته من ناحية ثانية:
- بالنسبة إلى ما عشت، أعيش الآن حالة متنافرة تعطيني شعورًا بكوني غير قادر.
احتجت ماري-كريستين:
- أنت من هزَّت كتابته الجمهور عندنا! أنت، الفنان الحقيقي!
بدت على شفتيه ابتسامة مريرة:
- لو لم أكن فنانًا حقيقيًّا لما اعترفت بعجزي في اللحظة التي تفرض فيها الطبيعة نفسها من حولنا بمثل هذه القوة.
أحسته، ذلك العجز، فنظرت إلى شملان الذي يسوق التويوتا باطمئنان، ثم قبضت على ذراع زوجها:
- عليك أن تتغلب على ضعفك، عليك أن تكتب روايتك الجديدة!
لم تكفّ سلسلة جبال سُمارة العظمى عن التشكل والتلون والتألق، ففكر مالرو في أمه، السمينة الربعة، وهي تحلب إحدى إناث الخنازير، وكان أبوه، الضخم العملاق، يجبره على مناطحتها، تلك الخنزيرة المقززة. كان طفلاً، ترهبه فكرة الاقتراب منها، شمها. كان يبكي، وأبوه يشبعه ضربًا، ثم أجبره على النوم معها. ومنذ ذلك الحين، أخذت تطارده تلك النتانة، تلك الرائحة الطاعونية دون توقف، كان يشمها أينما ذهب، في أنفه، في كيانه.
قرصته زوجته ليفيق، فوجد تعبير الخائفة على وجهها.
قال لها:
- هذه هي المرة الأولى التي تعيشين فيها التجربة من الداخل، فهل تكون الأخيرة؟
- أحس باليأس.
- إنه اليأس الصادق.
- ولكني لم أزل متعلقة بك. أن تكتب روايتك الجديدة أم لا، سأبقى متعلقة بك.
- ولهذا السبب.
تركت دمعة تسيل على خدها، فنظر إليها شملان باستغراب:
- ما لها الست مريم؟ هل أخفف السرعة؟
وكادت السيارة تنزلق في الوادي، وهي تمر على جثة كلب ملقاة في عرض الطريق.
- لا، لا تخفف السرعة.
أخذ لوي مالرو يتفرس في شملان، هذا البطل الميتافيزيقي الذي كان قد قطع العصور بقي فتيًّا وقويًّا كأجنحة الصقور، حقيقيًا ككل شيء من حوله، ما عدا النظرات التي كان يلقيها على ماري-كريستين، كان يخبئ في نظراته الشهوة والفِسق.
قال الكاتب لبطله:
- لقد كذبت عليك، الست مريم هي أختي!
تفجرت الشمس على شفتيه، بينما عرى ماري-كريستين بعينيه، فميز مالرو ومضة الشبق المدمر فيهما.
- الست مريم ليست زوجتك؟
لم تنفِ ماري-كريستين، وهي ترمي زوجها بنظرة مثقلة بالعتاب، بينما كان مالرو سعيدًا، لأن شملان تحرر من علاقة سطحية. كان يخفي شهوته طوال الوقت، وفسقه، ولكنه الآن، يبدي وجهه الحقيقي، ومن الآن فصاعدًا، يغدو جزءًا من هذه اللوحة الخالدة التي كانتها الطبيعة. لم تتأخر ماري-كريستين عن اللحاق به. كانت تقترب قليلاً قليلاً من المرأة التراجيدية التي يحلم بها زوجها متخلصة من زيفها. تابع لوي مالرو نظرة شملان المباشرة إلى فخذي زوجته، ثم إلى وَرِكَيها، نهديها. كلمة واحدة كانت كافية لتجعلها عارية ومشتهاة! هل سيعريها بدوره؟ عماد الكتابة الاكتشاف. كانت لعبته خطرة ومثملة. كان يريد أن يطلق لخياله العنان حتى المرض، لأن الخيال أمام العجز في الكتابة هو كل ما يتبقى للكاتب، إنه سلواه في الألم. كان يريد أن يذلل ضعفه أمام الطبيعة بالألم، الطريقة الوحيدة للخروج مما هو فيه، ولقدرته على الكتابة من جديد.
أوقف شملان السيارة، وطلب إليهما أن يأخذا صورة للجنة التي هم فيها. تظاهر مالرو بالتصوير، فلم يكن يريد صورًا لطبيعة ميتة. كان يرغب في الاحتفاظ بكل جمال الطبيعة الحية في ذاكرته. نست ماري-كريستين لحظةً أين كانت توجد بين شجر الرمان، وسط شجر العقيق الأحمر، وغدت في جرح العقيق قطرة ندى. تحت أثر الدهشة، أخذت تجري بصخب، مسحورة، وأخذت أم مالرو تجري هي أيضًا بنفس الطريقة. كانت ناحيتها الطبيعية التي تعبر عن نفسها بتلك الطريقة، وإن كانت الأقل جذبًا، الأقل قربًا من النفس. ثم رمت ماري-كريستين بنفسها على الأرض المخضبة بدم الغزوات التي صنعت التاريخ. رفعت ثوبها حتى خاصرتيها، وارتمى والد مالرو على والدته ليدمر صورة العناق القديمة، بينما كانت ماري-كريستين تحك فخذيها العملاقتين من الجليد الجمريّ، وتأتي بعواصف البحار البعيدة. فتحتهما، وأسقطت مالرو بينهما. لقد كانت زوجته، زوجته، وليست أخته. على الأقل عندما يكونان بعيدين عن نظرة شملان. ودفعته لتمحقه في نار القمح.
* * *
قال لهما شملان:
- إنني أدعوكما على الغداء في القرية القادمة.
ابتسمت ماري-كريستين:
- بل سندعوك نحن.
ظل لوي مالرو صامتًا. كان يتابع إصبع شملان، وهو يشير إلى القرية القادمة: بيوت قديمة محفورة في كشح الجبل، بيوت نمل عملاقة، لا تتحرك، مهما دارت التويوتا بهم، تبقى راسخة أمامهم.
- ماذا قلت، يا لوي؟ سندعوه نحن.
- بالطبع.
أطلق شملان ضحكة مستفزة:
- الست مريم كريمة، حتى أنها أكرم من ملكتنا أروى وأحلى!
وأطلقت ماري-كريستين نفس الضحكة التي للسائق، ولوي مالرو يفكر في الملكة أروى، العاشقة والمستبدة، التي كانت كل شيء ما عدا الكريمة، الحاكمة بالحب والنار. كانت الملكة أروى بالنسبة له أكثر عظمة من الملكة بلقيس التي لم يقطف نهديها إلا الملك سليمان، أما الملكة أروى، فكانت لمن تشتهي، للراعي الخشن، إذا ما وقع أمر الحب عليه، أو للقاضي الرقيق، وحتى لبعض المجرمين الأقوياء الذين هم في أسرها.
- ومتى سنصل إلى قبر الملكة أروى؟
لم يجب شملان. أعاد بفظاظة العاشق الوقح:
- الست مريم أكرم من الملكة أروى وأحلى!
كان يختلس النظر إلى ساقيها البيضاوين المختلطتين بأخريين سمراوين في ذاكرته. وهو صبي، كان شملان يختلس النظر إلى ساقي امرأة القاضي الذي أمسكه متلبسًا بجرم العين، فضربه بالسوط، وضرب أمه، وضرب أباه، وعلق الولد من ساقيه على شجرة، وضربه، وضربه...
وكما قال لهما، أوقف شملان السيارة في ساحة القرية. كان الناس يبيعون القات ويشترونه، وبعضهم قد بدأ يلوك أوراقه الطرية، وكان في المطعم بعض المسافرين، وفي اللحظة التي دخلوه فيها، جاء فوج من القرويين، وجلسوا على طاولة قذرة قريبة من جهاز (( فيديو )) بالألوان عليها أطنان من الذباب والعظم وبقايا الطعام. غاب شملان في زاوية من زوايا المطعم، وراء قدر أسود ضخم يتصاعد منه البخار، وفرن للخبز يتصاعد منه الدخان، وعاد بخرقة متسخة نظف بها الطاولة، وهو يلقي بالأوساخ بين قدميهما. كانت لماري-كريستين ابتسامة غير مألوفة، بينما مالرو يتابع بعينيه امتطاء ذبابة على ذراعه. فجأة، أهوى عليها بكفه، فانطلق شملان يصهل كحصان. بعد لحظة من التردد، انطلق لوي مالرو يضحك هو أيضًا، وبالمقابل، اختفت ابتسامة ماري-كريستين الغريبة، وراحت نظرتها تضيع في الفراغ بغرابة. وضع الطباخ في جهاز (( الفيديو )) احتفاء بالسائحين شريطًا فلكلوريّ النوع حول رقصة (( الجنابي ))، وأتاهما بأطباق المرق والسلتة وشرائح الخبز. أمام مط ماري-كريستين لشفتيها اشمئزازًا، أوضح شملان:
- هذا مرق من لحم عجل حديث الولادة، وهذه سلتة. أتعرفين ما هي السلتة؟ حلبة مطحونة مع طماطم.
بدأ يمزق شرائح الخبز، ويغمسها في المرق الدسم، وفي السلتة المخاطية، ثم يفسخ اللحم الناهي بأصابعه، ويأكل كوحش. تبدت للوي مالرو صورة لأم الكاتب وأبيه، وهما يأكلان خنزيرًا مشويًّا كوحشين، وتبدت لشملان صورة للقاضي ورئيس القبيلة، وهما يأكلان عجلاً مشويًّا كوحشين. كانا يقذفان ببقايا الطعام وبالعظام لصبي، كان شملان، وكان شملان مع أمه وأبيه وبعض الكلاب. كان لوي مالرو يحاول تقليد سائقه في أكله، وبين تارة وأخرى، كان يلقي النظر على ماري-كريستين التي كانت تفعل كل شيء لتجنب سقوط أقل قطرة مرق على ثوبها الحريري، ويقول لنفسه: (( هي بعيدة! ينتزعها القرف من هذه الحقيقة الأخاذة! ))
فسخ لها شملان قطعة لحم شهية، وقدمها لها، فأخذتها بطرف أصابعها، ونقرتها بطرف شفتيها. وعن مقربة، كان القرويون يغوصون بأيديهم وخراطيمهم في طبقهم الموحد كأنه مستنقع انتشرت التماسيح فيه، وتدافعت، وتصارعت، وراحت تفجر البول والدم والصديد.
نهضت ماري-كريستين بعد أن اعتذرت، ومن خلف التويوتا، أخذت تتقيأ بشراسة.
أخفت الأمر عن زوجها عندما سألها:
- لماذا قمت؟
- نسيت شنطتي في السيارة.
- لا أحد يسرق هنا، لا أحد عاطل عن العمل. أريد القول، كل واحد يشغل حياته كما يمكن له، يحياها.
أحاطهما بعض الصبية والبنات:
- صورة، يا صديق! صورة، يا صديق!
كان شملان قد اشترى حزمة من القات، وزجاجة كوكا، وزجاجتي ماء معدني، أعطى إحداهما لماري-كريستين، بينما كان مالرو يأخذ الصور للأطفال. كانوا أطفالاً يشبهون كل الأطفال في العالم، دون أي رابط بجمال الأرض.
- لماذا يقولون لي (( صديق ))؟
كان شملان يلف حزمة القات بعناية فائقة:
- يحسبونك روسيًّا. أوائل الأجانب الذين جاءوا إلى اليمن بعد خلع الإمام كانوا من الروس، والناس هنا يدعونهم بالأصدقاء.
سألت مالرو بنت سمراء جميلة جدًا:
- هل ستظهر صورتي في التلفزيون الليلة؟
كان مشدودًا إلى ابتسامة الحورية التي لها، وتساءل إذا ما كانت البنت ذاتها التي كان قد رآها في الزقاق الصنعائي؟ رفع رأسه إلى شبابيك بيوت النمل علَّه يقع على المرأة التي كانت تصاحبها، فلمح خيالاً خلف إحدى الستائر. اقتربت التويوتا منه، والبنت تلح:
- أنت لم تجبني، هل ستظهر صورتي في التلفزيون الليلة؟
انحنى مالرو، وأمسكها من كتفيها:
- ما اسمك؟
- أروى.
نظر إلى عينيها السوداوين، فتراجعت البنت عدة خطوات قبل أن تذهب جارية، وتختفي في الظل. طوال الطريق إلى مدينة (( أب )) بقي لوي مالرو صامتًا، كان يوهم بأخذه الصور للجنة التي يقطعونها. تبدت له صورة للنورماندي، صورة من الصور الحية التي كان يحتفظ بها في رأسه. كان أبوه قد أنشأ في قلب النورماندي مصنعًا للحوم الخنازير، وكانت ماري-كريستين تنام على كتفه، ومن وقت إلى آخر ترمي حولها بنظرة سريعة. جعل أبوه من العمال طوع حذائه، وخلال ذلك، كان شملان يضع شريطًا، أو يفتح الراديو، أو يشرب الماء، وهو يختلس النظر إلى الساقين البيضاوين المصبوبتين كالسبائك الثمينة. عادت زوجة القاضي تقتحم على شملان الخيال، وقد كان في ذلك الوقت شابًّا قويًّا، ولما كان في مخدعها، فاجأه القاضي بقدومه، فقتله شملان قبل أن يهرب إلى الجنوب. أوقفهم جندي في أحد مراكز التفتيش، وفحص الترخيص بالتجوال. سأل إذا كان شملان ينقل أشياء مهربة أو أسلحة، واختلس النظر إلى ساقي ماري-كريستين، وسأل إذا ما كانا من الروس، فأجاب شملان أنهما فرنسيان، وسمح لهم باستئناف الرحلة. في باقي مراكز التفتيش، كان الجنود يلوكون القات بخدود انتفخت كالكرات الكبيرة، فلم يتحرك واحد من مكانه، وإصبع مثقلة تشير إليهم بالعبور.
- إنها ساعة (( التخزين )). في هذه الساعة القات أهم من الوطن.
- ماذا؟
- يمكن احتلال اليمن في هذه الساعة، (( الجبهة )) تعرف هذا تمام المعرفة، ومنذ عدة أيام، شاهدت بأم عيني هجومًا ناجحًا ضد أحد معسكرات الجيش.
سكت قبل أن يضيف:
- لقد كنت ثوريًّا في البداية.
لاحظ على لوي مالرو عدم الاهتمام:
- لا يهمك أن تسمع منى كل هذا.
أكد:
- بلى!
ثم علل:
- لكن الحرارة شديدة!
نظر شملان إلى شفتي ماري-كريستين النائمة، وأوضح:
- كنت أريد أن أصنع هنا ما صنعوه هناك في الجنوب، لكنهم ألقوا القبض علي، ورغم ذلك، لم يفلحوا معي، كنت عنيدًا كجحش! ثم ألقوا القبض علي مرة ثانية، وثالثة، ورابعة، حتى يئست، وصرت كالجميع. الناس هنا يفضلون القات على الثورة، يبيعون الوطن بحزمة قات.
أطلق ضحكة متشنجة، والتويوتا منطلقة على طريق تغطت بجثث الحيوانات: كلاب، حمير، وعول، ذئاب، صقور، أو معزات، بقرات، أو غربان. كان مالرو يتساءل: القات أم الثورة؟ القات أم الكتابة؟ كانت الكتابة، بالنسبة له، عملية معقدة كالثورة، ولكنه حينما ييأس لم يكن يستسلم كالجميع، كان يحتفظ بالتميز. أراد أن يصيح به: الثورة هي أن تحتفظ بالتميز دومًا حتى في أتعس اللحظات. أخذ بعض الثوار التقدم في رأسه صفوفًا من صخرة، ورموهم بالرصاص.
سأل مالرو ملحًّا:
- ومتى سنصل إلى قبر الملكة أروى؟
لم يجبه شملان، كان جبينه المسطور بتجاعيد الهم يفرز عرقًا غزيرًا، وكانت قبضتاه القويتان تحتويان المقود بعنف، ويحدق في نقطة ثابتة أمامه، والشمس ترتفع، وترتفع في السماء. كانت ماري-كريستين تغمض عينيها وتفتحهما لثوانٍ كي تلقي نظرة إلى اليمين ونظرة إلى الشمال، وكان الأوتوروت، طريق العقاب هذا، يمتد، ويمتد. كانت له بداية، ولم تكن له نهاية، وكانت التجمعات السكنية في (( لاكورنيف )) تنتصب في هذه الرؤية كعلب الإسمنت المسلح. استعاد مالرو ما قالته له فتاته المعجبة:
- روايتك الأخيرة، جعلتني أعي، وأنا أقرأها، أن هذه التجمعات السكنية في (( لاكورنيف ))، المنعزلة عن باقي العالم، المنعزلة عن نهاية الأشياء، تشكل (( غيتو )) حقيقيًا، مما دفعني إلى الغضب.
همهم لوي مالرو وقتها:
- إذا غضب القارئ وصل الفنان إلى هدفه.
وإذا بهم في قلب مدينة (( أب )) دون أن يحسوا بذلك، مدينة على طريق السفر، قائمة قاعدة، واقعة في الدخان والغبار، مدينة جاءت إلى العالم في يوم الحشر. وهم يخرجون منها بسرعة، أشار شملان إلى قمة خضراء غائبة في الضباب، وقال في الأخير:
- هناك يوجد قبر الملكة أروى.
على باب قرية (( جبلا )) الصاعدة على كتف الكون، أوقف شملان السيارة. وفي اللحظة ذاتها، جاء أحد الشبان الصغار يجري صوبهم، فطلب إليه شملان أن يصطحب السائحين ليزورا قبر الملكة أروى. كان المطر يتساقط رذاذًا، والكاتب ينظر بمتعة إلى الدرج الطويل اللامتناهي، بينما يبدو على ماري-كريستين كمن لا تريد التقدم:
- هل تظن أنها ستمطر؟
لم يأبه مالرو بسؤالها، وعلى العكس فهم شملان ما ترمي إليه:
- خذي سترتي لتغطي شعرك.
كانت سترة من جلد العجل، تفوح منها رائحة مدوخة، رمتها على رأسها، ولحقت بزوجها، وكان الشاب الدليل يقفز كالمهر، بينما طال بهما الصعود على الدرج القديم. مدت ماري-كريستين يدها لتعتمد على زوجها، وانتهى بهما الأمر إلى الوصول إلى أزقة طينية، على جانبيها دكاكين معتمة وضيقة: الحداد، والنجار، والمنجد، والوشام، والبقال، والنقاش، وبائع الخناجر، وبائع الحلوى، وبائع الأقمشة. اشترت زوجة الكاتب شالاً مطرزًا بخيوط من الذهب والفضة دفعت ثمنه مائة ريال، وربطت شعرها به بعد أن رمت بالسترة الجلدية على ظهرها، ولم تمتنع عن القول بتعجب:
- الحياة هنا أغلى من باريس!
ورغم ذلك، اشترت أيضًا عقدًا من العقيق زيّنت به صدرها، بينما اشترى لوي مالرو خنجرًا من الفضة علقه على خصره، وعادا إلى الصعود على درج قديم آخر ينتهي بالجامع الكبير. كان الشاب الدليل قد سبقهما إليه جاريًا، وعلى بابه راح ينتظرهما، والأولاد والبنات يعجون من حولهما كالديدان:
- صورة، يا صديق! صورة، يا صديق!
في فناء الجامع، ترك بعض المتوضئين البركة القديمة، وتحلقوا بالشقراء التي تبادلهم الابتسام. كانوا يثبتون نظرتهم على محاسنها أو يطأطئون الرؤوس، ويهمسون فيما بينهم. وفي داخل الجامع، جاء أحد الشيوخ ليحييهما بالفرنسية، وقدم لهما جوهرته الحجرية:
- هذا هو قبر الملكة أروى المعظمة، إنها قديستنا الجليلة!
بدأ لوي مالرو يأخذ للضريح الصور من كل الجهات، نعم، الصور، الكثير من الصور. عبر هذه الصور الميتة لميتة تنام تحت الحجارة سيبدع أجمل صورة للملكة الدموية التي غدت قديسة. ركع على الأرض، وأخذ يصور المحراب المنقوش باللغة الحميرية.
قالت ماري-كريستين:
- لم تأخذ لي صورة مع الملكة أروى.
- سآخذ لك صورة مع الأولاد.
لأن أروى لن تكون إلا له، وأخذ لها صورة مع الأولاد كما قال لها، والكل يبتسم، ثم عادا يهبطان الدرج، والشاب الدليل يقول لهما:
- هناك... بقايا القصر حيث كانت تسكن الملكة أروى.
وإذا بامرأة سمراء أجمل من القمر تنبثق من بين الأطلال هارعة، ورجل من ورائها يتبع، ويطلق الرصاص، إلى أن تمكن من قتلها. صرخت ماري-كريستين، وسارعت وزوجها الذهاب نحو جسد البائسة. دفنت وجهها في صدر مالرو، ومالرو يظن أنه عرف فيها المرأة التي كان قد رآها في ذلك الزقاق الصنعائي الملعون. هجم الرجل عليها، ونفذها بطعنات خنجره، وانتهى به الأمر بدفعها بقدمه حتى ألقى بها من فوق الهضبة. جاء شملان يجري على أثر الطلقات، وذهب بحثًا عن الجسد القتيل، فخاف أهل القرية من الورد الدموي، وتخبأوا في بيوتهم، مما اضطره إلى ترك جثة المرأة على الحجارة...
في التويوتا، قال شملان لهما:
- ارتكبت الزنى، فقتلها زوجها.
أخرج لوي مالرو مفكرته، وكتب في الهامش بخط صغير: القتيلة هي أروى، والقاتل هو أبي! فتح آلة التصوير خلسة، وهو يهمهم: دوستويفسكي لديه الحق! دوستويفسكي لديه الحق! وألقى بالفيلم من نافذة السيارة. كانت الملكة أروى قد ماتت للمرة الثانية أمام عينيه، بنفس الطريقة التي كانت تميت فيها عشاقها، ولم يكن بحاجة إلى صورة أخرى لها.
* * *
كيف يمكنه أن يصف صعود الليل في (( تعز )) على جبلها (( صبر )) الأسطوري؟ بيوتها الزاحفة حتى حافة السماء؟ أضواءها الذائبة مع النجمات، الماحية للامتدادات ما بينها؟ كيف يمكنه أن يصف اللحظة السابقة لليل؟ عندما تتحول الشمس إلى نسر، والقمر إلى ثعبان، والنسر والثعبان يتحاربان؟ اشتهى كأس نبيذ، وثغر امرأة بشعر غزير أسود. قرر لوي مالرو أن يمضي الليل في أحد قصور الإمام التي أعدت كفنادق. في صنعاء، كان قد قبل النزول في فندق حديث ليشبع رغبة زوجه، أما في تعز، فرغبته هو. كان صاحب الفندق غائبًا، فاهتمت بهما زوجه التي يعرفها شملان تمام المعرفة، حسبما بدا من حديثه معها. صعدت معهما الدرج اللولبي الحجري المعتم، ورائحة الطعام والبخور والغائط تفوح بالمكان. مروا بحجرات مفتوحة فيها بعض اليمنيين الجالسين على الأرض، وهم يحتسون الكوكا كولا، ويخزنون القات. كانوا يتفرجون على التلفزيون، ولا يبدو عليهم أنهم يرون شيئًا. على عتبة الحجرة التي خصتهما بها زوج صاحب الفندق، حجرة الإمام حسبما ادعت، كانت جيوش من النمل تقطع عليهما الطريق، فتقدم شملان بقدمي العملاق اللتين له، وسحقها. دخلوا الحجرة لاهثين للجهد الذي بذلوه، وعلى السجاد القديم تهالك مالرو وماري-كريستين. أضافت زوج صاحب الفندق فرشة من القش وبعض الأغطية، وأحضرت الماء إلى المرحاض البدائي في تنكة بعد أن غسلته دون أن تتوقف عن إلقاء النظر على ماري-كريستين، وهي تبتسم. وعلى العكس، كان لوي مالرو ينظر إليها هي، وكان مستعدًا للنوم معها، رغم جهلها وفظاظتها. لم يكن لها من المرأة ذات الشعر الغزير الأسود التي يغتذي بها خياله شيء، وكان لها ثديان طويلان، يطلقان رائحة حريفة. ومع ذلك، كان مستعدًا للنوم معها. كان ذلك ما ينقصه ليستطيع الكتابة، قوة الحب الحليف لبدائية خلاقة. وابتداء من هنا، سيخترق الجمال الأول لطبيعة مسيطرة ليسيطر عليها. لاحظ أن شملان لم يكن يتوقف عن التكلم معها دون كلفة، كان يتكلم معها، وهو يرمي ماري-كريستين بنظرة مواربة، أو بابتسامة، ومن وقت إلى آخر، كان يمسكها من يدها أو يأخذها من كتفها، لا شيء إلا ليثير غيرة الشقراء التي كان يشتهيها. كانت للكاتب وبطله نفس المشاعر، إلا أنها لم تكن لنفس المرأة.
قال شملان:
- الجماعة جائعة!
علقت زوج صاحب الفندق:
- لكن الساعة متأخرة.
- حضري شيئًا لأجل الست مريم.
فكر لوي مالرو بخصوص بطله: إثارة الغيرة لا تمنع الخيانة. كان مستعدًا لأن يخون إحداهما بالأخرى كي يصل إلى أهدافه. سمعه يحكي لزوجة صاحب الفندق عن الحادثة التي وقعت في قرية (( جبلا )). كان يحكي بصوت حياديّ، وكانت المرأة لا تكف عن إطلاق صيحات مكتومة خلف يدها، متأسفة تارة، وتارة أخرى مستنكرة. ما جدوى كل هذا؟ كانت الملكة أروى ميتة، وكانت قوة الطبيعة الأقوى دومًا. تتابعت في عقل مالرو الصور: المحاضرة، المعجبة، الأوتوروت، التجمعات السكنية في (( لاكورنيف ))، الشبان الذين يغتصبون امرأة، الذين يحرقون سيارة. كانت الصور تتساقط الواحدة تلو الأخرى، وعاد إلى ذهنه حواره عن (( خيانة )) الواقع مع فتاته المعجبة التي يخون بها زوجته، فاشتعلت لديه رغبة عاجلة في رمي زوجة صاحب الفندق على طراريح الإمام، في مخدعه، وفي الاحتراق معها في مجمرة للبخور. وفي الأخير، وجد نفسه وحيدًا مع زوجته، فأراد أن يقوم باغتصابها، وهو يفكر في الأخرى. لن يدجن شهوته، بل على العكس سيزيدها توحشًا. لن يدجن الطبيعة، وسيزيد من ألمه. كان عليه أن يتألم. عندما قال لشملان إن ماري-كريستين أخته، كان ذلك لأجل هذا السبب المحدد، ليتألم. لكن بطله قد بقي عند مرحلة النظرة، ولم يمض إلى الفعل الموجع، الفعل المعذب.
قالت ماري-كريستين:
- أنا تعبة، فاتركني!
لكنه لم يتركها، بل رفع عن فخذيها، ووضع رأسه بينهما.
أعادت وهي تدفعه:
- أنا تعبة، وهما سيعودان بين لحظة وأخرى!
وبالفعل، سمعا خطوات تصعد الدرج، فاعتدل لوي مالرو، بينما كان شملان يتقدم بصينية بين يديه ملأى بالطعام: بنت الصحن، وعسل، وبيض بالبندورة، وأرز، وشاي.
- هل تريدان شيئًا آخر؟
أجاب مالرو بنبرة مقتضبة:
- لا شيء.
- هل آتيك ببعض القات؟
- لا، أشكرك.
- إذن، ليلة سعيدة.
وقبل أن يذهب أشار إلى المكان الذي كانت توجد فيه سيارته، عبر النافذة المصنوعة من زجاج من كل الألوان:
- سأنام في السيارة كالعادة.
كالعادة، ألح القول كما لو كان يريد أن يقول لماري-كريستين إنه مخلص للمرأة التي يحبها. في نهاية الأمر، لم يكن قادرًا على الخيانة، على استحداث حالة غامضة من أجل الخلق. حالة ناضجة. الفن هو هذا، حالات ناضجة.
- إذا كنتم بحاجة إلى أي شيء، فلا تترددا عن طلبه من أم محمد.
تأمل للحظة ماري-كريستين، كان يبدو عليها التعب، وذهب مع ابتسامة أخيرة لها.
سألت ماري-كريستين زوجها:
- هل تريد قليلاً من العسل؟
كانت هي من يشتهي بعنف، فصعد عليها، دمويًا كليث، شرسًا كفهد، لكنها ضربته بحذائها، والتفت بغطاء قبل أن تنام في زاوية رطبة. طوال الليل لم ينم لوي مالرو، كان ينظر من النافذة إلى التويوتا التي ينام فيها شملان، وكلاهما لم يحظ بجسد عار، جسد ماري-كريستين. وعلى عكس الكاتب المطارد بصورة امرأة صاحب الفندق، كان السائق الذي خزّن كمية من القات لا بأس بها مطاردًا بأطياف المرأة القتيلة. أغوته، فقتلها رجلها. أغواها، فقتله رجلها. اتفقا على فعل العشق معًا، فقتلتهما القبيلة. صعدا من الموت، فوجدها طفلة في الثالثة عشرة، اغتصبها، فقتلته القبيلة. آه! كم القتل كثير، كم الدم غزير في هذا البلد، كم الاغتيال يسير! حتى الأحلام تدمي!
راح لوي مالرو يعاود الإصغاء إلى فتاته المعجبة في اللحظة التي كانا فيها في السرير.
سألت:
- والمعرفة؟
- المعرفة لا تكفي الفن، إنها تكتفي به تمامًا كما ترتضي بالواقع دون الخيال. حقيقة أن أكون معك هي كما لو كان غوته وفاوست يوجدان معًا بعد الانتهاء من هذا العمل المتفوق. يتبدد الاكتشاف، وترصد المعرفة على باب الفن بقصد خيانة جديدة، ومن ثم اكتشاف جديد، يتبعه تبديد جديد.
- تبديد أم تجريد؟
- كلاهما حالة خاصة.
- حالة مطلقة؟
- حالة واعية. في لحظة الخلق، كل حالة مطلقة حالة واعية. إنه إبداع وليس فلسفة. إبداع ذو فلسفة.
كان لوي مالرو يشك في كل شيء: لم تكن للخلق فلسفة. زد على ذلك، لم يكن هناك خلق واحد بل عدة، وكانت لكل خالق فلسفته. فلسفة كانت تتبدل تبعًا للموضوعة، وخاصة تبعًا للحالة. وأية حالة مهولة كان يعيش! أخذ بممارسة العادة السرية، فاقتربت زوجته منه بجسدها الجليدي، ملتهبة، وبدأت بالصعود عليه والهبوط بشراسة حتى اللحظة التي فيها فرّغ. أطلق نفسًا، وتبدت له من الأفق البعيد أرتال من العربات التي تجرها وعول النار، وهي تقذف النهار على العالم. اصطدم بضوء النهار، ورأى تعز، وهي تبتعد في حضن المستقبل المتحطم المعالم. رأى قصورها المنهارة، وأزقتها المحفرة، وناسها الذين لا يفكرون إلا في التجارة. ورأى رهطًا من النساء، وهن يلطمن، ويولولن، عند قدمي أحد الموتى، وأخريات، وهن يصفقن، ويغنين، عند قدمي إحدى العرائس. رأى تعز، وهي تهجر نفسها من نفسها، واحدة تهجر عينيه، وأخرى تقتحمهما.
وماري-كريستين تجلس في المقعد الأمامي إلى جانب شملان، كانت تطلق صيحات متواصلة على مرأى جمل يجر عربة بين الجموع الصارخة بالبضاعة، وطلبت أن يأخذ لها زوجها صورة معه:
- لم يعد لدي فيلم.
- ماذا؟ لتشترِ فيلمًا!
أطلقت صيحة جديدة على مرأى امرأة ملتفة بالسواد من قمة الرأس حتى أخمص القدم ، وهي تسوق سيارة، فعلق شملان:
- المرأة في تعز متحررة أكثر من المرأة في صنعاء أو المرأة في عدن.
- هل أنت من تعز، يا شملان؟
- أنا من صنعاء.
- لا بد أن الغيرة تأكل قلبك.
ضحك شملان بعنف، كان لا يعرف الغيرة. وقف أمام مصور قائلاً لمالرو:
- بإمكانك أن تجد فيلمًا هنا.
هبط الكاتب دون حماس، فلا صور بعد موت الملكة أروى القديسة والدموية. على كل شيء أن ينقش في الذاكرة الحية. الملكة أروى، بلد الخيال، الطبيعة الأولى، ستبقى إلى الأبد خارج الكتب إلا إذا ولد كاتب بعقل شديد الشمول كهوميروس، قادر على خط الكلمات الأولى المقالة على شرف الإنسان والطبيعة، كلمات تكون الطبيعة نفسها، بمعنى الوحيدة التي تبقى ما بقي العالم. حتى كتاباته التي كانت تساوي كل ماس الكون لن يكون لها أية قيمة. ما لبث أن عاد، وترامى إلى جانب زوجه:
- لم أجد فيلمًا.
مما أغضبها:
- هناك مصور آخر على الرصيف المقابل.
- لا يوجد عندهم فيلم، يقولون إنهم لم يروا أبدًا آلة تصوير مثل آلتنا العتيقة. كل آلاتهم حديثة جدًا!
تدخل شملان:
- سنجد فيلمًا في مكان آخر.
سارت التويوتا في الأزقة المحتشدة بالبشر، والسائق لا يتوقف عن إطلاق النفير، ولا عن تمثيل دور الدليل: هذه نجمة داود على حمام، وهذا نبع عمره ألف عام، وهذا قصر، قصر على قصر، للإمام. وعندما مضوا ببائعي القات الحاملين لضممهم الخضراء الندية، سأل السائق:
- من يريد أن يخزّن معي؟
ابتسمت ماري-كريستين، بينما ضغط لوي مالرو آلة التصوير الفارغة على صدره متأملاً السوق المكتظ بالناس المتحركين إلى أبد الآبدين، فتابع شملان:
- الست مريم ستخزن معي.
ركّز عليها عينيه، فأحست بنفسها عارية. بحثت عن زوجها بعينيها، فوجدته غائبًا. سألته عندما ذهب شملان:
- أنت زعلان لأنك لم تجد فيلمًا.
تظاهر لوي مالرو كمن لم يسمع شيئًا، فقالت ماري-كريستين:
- كان علينا أن نشتري من باريس كمية كافية، لماذا لم تفكر في هذا؟
عاد شملان بزجاجة كوكا وزجاجتي ماء معدني وضمة قات سعيدًا كما لو كان يعود بامرأة. لف الضمة بكوفيته بعناية شديدة، ثم أنامها قرب ماري-كريستين، فتسربت نداوتها إلى فخذها. دفع السائق إليها بزجاجة ماء بارد، وقال:
- الطريق إلى الحديدة ستكون جهنمية!
لم يبد مالرو أي تعليق، كان لا يريد أن يجد فيلمًا، ويتمنى لو تجعل الحرارة شملان ينسى ذلك، ولكنه توقف أمام مصور قرب جامع ذي أعمدة كثيرة، فقالت زوجة الكاتب:
- يا ليتك تجد فيلمًا لتأخذ لي صورة بين الأعمدة.
بعد عدة لحظات، عاد الكاتب ليتهالك على المقعد الأمامي:
- هل وجدت فيلمًا؟
دمدم مبتسمًا:
- لم أجد.
خاب أملها، ومالرو يقطع، مرة أخرى، شوط الخيبة، سعيدًا تعيسًا في آن. كانت المتعة التي تثيرها خيبة زوجته سلواه. أخذ شملان الطريق الخارجة من تعز، وغدت الحرارة أكثر فأكثر ارتفاعًا. ألقى لوي مالرو الكاميرا بين قدميه، ونسيها تمامًا. راحت الحرارة تصارع أفكاره، فسمع شملان يقول:
- منذ عدة أيام، كانت هذه المنطقة نهبًا للمعارك، معارك استعملت فيها الأسلحة الأوتوماتيكية والدبابات، وبقيت (( الجبهة )) سيدة المنطقة لأيام قبل أن تنسحب. الناس هنا منقسمون، الذين مع الجبهة والذين ضدها، الذين مع الحكومة والذين ضدها.
تبدت لمالرو وجوه الثوار الضامرة وأفراد الجيش، كانوا يسوقون بعضهم البعض إلى الموت، وكانت العواصف تقتلع الشجر من جذورها. همهم مالرو:
- الموت هو البداية، تمامًا كالثورة!
عندئذ قالت ماري-كريستين لشملان:
- أفترض أنك مع الجبهة.
- أنا مع الحكومة.
بعد مسير دام أكثر من ساعة في طريق مقفرة، توقف شملان ليملأ خزان البنزين. طلب من لوي مالرو أن يقدم له جزءًا من الأجرة، فاستجاب فورًا. دفع السائق ثمن البنزين، وسأل الكاتب:
- هل تريد قناني؟
- قناني؟
- هنا يهربون الويسكي. القنينة غالية، لكن الماركة جيدة.
- لا، أشكرك.
تابعت ماري-كريستين شملان بعينيها، كان يتحدث إلى أحد الأشخاص الذين كانوا يوجدون هناك، وكان لوى مالرو يحدق بعيني ذهنه في المرأة التي كان قد رآها في الزقاق الصنعائي، والتي قتلها رجلها في (( جبلا )). كان يحدق في الملكة أروى التي كانت هناك في قلب الصحراء منتصبة، ملتفة بالبياض من قمة رأسها إلى أخمص قدمها، ثم خلعت حجابها. انطلق شملان، وراح يعمل دورات كثيرة من حول المرأة العارية، والكاتب عاجز عن التصديق. عندما توقفت السيارة، هبط بسرعة، فلم يقع على أحد. بعد قليل، لحقت بهم سيارة مرسيدس، هبط منها الرجل الذي تحدث شملان إليه، وأعطاه كيسًا من البلاستيك عليه صورة لوي مالرو، مما جعل ماري-كريستين تطلق صيحة اندهاش:
- انظر إلى صورتك، يا مالرو!
قال شملان بابتسامة باردة:
- هي حقًّا صورة السيد لوي.
- إنها الأكياس التي كانت دار النشر قد طبعتها بمناسبة صدور كتابك الأول. أتذكر؟
لم يجب لوي مالرو. كان كل ما كتبه لا يساوي في الوقت الحاضر أكثر من زجاجة كحول، والبرهان على ذلك، ها هو يقع، في هذا البلد البدائي، على كتابه الأول الذي يتمنى حرقه من كل قلبه. مر شملان بيده على الكيس، وأخرج زجاجات الويسكي التي أخفاها تحت مقعده. أوضح:
- لهذا الويسكي رائحة النفط، إنه آت من بلدان الخليج.
- ومن يبعث به؟
- أحد الشيوخ الذين لهم نفوذ.
وقهقه:
- يمنعونه عندهم، ويهربونه عندنا! لكن الحكومة الآن تغمض عينيها على كل شيء يخصهم. وعلى العكس، تفتح ذراعيها لكل المهربين من الأمريكيين إلى السعوديين إلى الصينيين إلى الروس، ولا تقف الأمور عند هذا الحد. ألم أقل لك؟ أحد شوارع العاصمة شقته مصر، وعبدته الصين، ورفعت أرصفته روسيا، وزرعته أمريكا. الأراضي التي من حوله يبيعها رؤساء العشائر بالذهب، يهدمون كل ما هو قديم، وفي كل يوم، ترتفع عمارة حديثة. هذا شكل آخر من أشكال التهريب.
بعد مسير أكثر من ساعة في الصحراء، عاد لوي مالرو يرى امرأة الزقاق الضيق في صنعاء، وهي تنغرس في ضباب الرمل، فينوس حقيقية، جمالها كان سببًا كافيًا لشن حرب بين رؤساء العشائر، وكان بمقدورهم أن يشتروها بالذهب أو يستبدلوها بعمارة حديثة. غدا مالرو شيخًا عاجزًا دميمًا، وما لبث أن أغفى، وهجم عليه الحلم الشرس من جديد. قوس النصر راح يتحطم، وبرج إيفل راح ينهار، والمسلة راحت تتصدع، والسين بأمواجه راح يتفجر في الشانزلزيه، ورجال الشرطة راحوا يكسرون الأبواب في (( لاكورنيف ))، يهدمون كل شيء، ويسوقون العائلات بعنف إلى سيارتهم المصفحة، والخنازير راحت تهجم على أبي مالرو، وهو يعدو بأقصى قواه، إلى أن سحقته بحوافرها.
نظر شملان إلى لوي مالرو، فرآه ينام نومًا عميقًا. كانت ماري-كريستين مستسلمة للحرارة، تراخت، وجعلت رياح جهنم تهب بجسدها. تطاير ثوبها دون أن تأبه بذلك، وبانت فخذاها البيضاوان الطويلتان. ضاعف شملان من سرعة السيارة وأنفاس الريح. هل يمد أصابعه إلى بطون السمك الغريضة، ويجبل البحر والنار والعسل؟ وإذا ما صحا مالرو ماذا سيفعل؟ نظر إليه ذاهبًا في نومه العميق، ونظر إلى الجسد الأبيض المندمج بالحرارة والريح. كانت ماري-كريستين تفتح عينين ثابتتين، كانت تنتظر ما لا تريد الانتظار، وكل شيء الآن كان يتوقف على الاقتحام. صاحت في جسد شملان كل شهوات هارون الرشيد وأنفاس شهرزاد الصانعة للحلم، واحترقت أصابعه رغبة في لمسها. وفي الأخير، مد أصابعه، وأراقها على فخذها، فأحست بها أشد من الجمر وأطرى من الحليب. تحركت أصابعه حركة قوائم العنكبوت العاصية، وقبضت عليها من أعلى فخذيها، فقرضت شفتيها، وسقطت في الانتشاء، وغرقت في التخلي. لم يكفها لسع الريح، ولا غضب الشمس، وشملان لم يعد شملان، غدا نصفه حصانًا مجنونًا، ونصفه الآخر صقرًا أعمى: أحس بأصابعها تداعب عنقه، فخصره، فخنجره، وتسحب خنجره، وتجعل قبضته في قبضته، وتلقي بقبضته على بطنها، وتخنق قبضته تحت بطنها، والحرارة تسحق الحرارة، وهو يدق قبضته، ويحفر في الخطيئة. دمرتها القبضة العاصية، وجرفها الرحيل القاتل في المتعة القتيلة. انهدم مرة أخرى برج إيفل العظيم، والقبضة المتوحشة سيطرت على العالم. طرق شملان شيئًا في الطريق، وكادت السيارة تفلت من بين أصابعه، فصاحت ماري-كريستين على رؤية جسد يلفظ الدم من رأسه، ومن قلبه، ومن فخذيه. توقفت السيارة، هبطت إليه بخفة، فانشل لوي مالرو على منظر الدم. نظر شملان إلى القتيل بين ذراعي ماري-كريستين البيضاوين، فاحتج، وحثهم على الهرب:
- لم يرنا أحد، وعلينا أن ننفد بجلدنا!
فتشبثت المرأة البيضاء بالمائع الأحمر، ورفضت:
- نتركه يموت دون أن نسعفه؟
بدا لوي مالرو غارقًا في تأمل لوحة الدم على الذراع البيضاء، وحنان الجليد الحار. بحث عن سبب للحنان، وعن سبب للالتهاف، وقال لنفسه، سعيدًا: هي مأخودة بمشهد الدم. كانت تبدو خائفة، مرتعبة. حجب ابتسامته، لأن الحادث أفقد امرأته رشادها. كان كل هذا الرشاد يكمن في هذا اللحم الأوروبي الملون بدم يمني متخلف لم يكن ينتظر الموت.
سمع لوي مالرو ماري-كريستين تهتف به:
- قل شيئًا، يا لوي!
فسبقه شملان إلى الكلام:
- ما هو سوى كلب، واحد من الحيوانات الكثيرة التي رأينا جثثها ملقاة على الطريق.
لكنها شدته إلى صدرها بحنان، وقالت مصممة:
- سآخذه إلى أقرب مستشفى.
ضرب السائق جبينه بحذائه، وانفجر:
- أين هو المستشفى في هذه المنطقة المقفرة!
- سننقله إلى الحديدة!
- لكنه سيموت في الطريق!
توجهت إلى زوجها:
- سنأخذه إلى المستشفى، يا لوي، ولن ندعه يموت.
هز لوي رأسه، وقال لشملان:
- تعال، احمله معي، سنضعه إلى جانب الست مريم.
أطاع شملان عن غير رضى. غدا اليمني كتلة منفرة من الدم، وأخذ السائق يشتم بصوت خافت. سبقت ماري-كريستين شبه القتيل إلى التويوتا، وطلبت إليهما أن يريحاه في حضنها. أخذ لوي مالرو مكانًا في الخلف، وانبجست أمه أمامه، عارية، عارية كخنزيرة، في حضنها خنزير شيخ جريح يقذف الدم من فمه. وقبل أن تنطلق السيارة من جديد، وضع شملان شرطًا:
- إذا مات قبل أن نصل إلى المستشفى، رميناه في الطريق.
كانت نبرة شملان حاسمة، فلم يحتج منهما أحد. كانت ماري-كريستين تبدو مأخوذة بالجسد المدمى الذي لا يتحرك. كان يبدو عليه عدم الوجع، وبالأحرى كانت ماري-كريستين هي التي تتوجع. كان زوجها ينظر إلى الرأس الجريح بين ذراعي زوجته كتحفة من التحف الفريدة، ويفكر أنها تتوجع وجع الرجل. أية سعادة! بدت قلقة، تمسح بيدها على شعره، وهي تفكر في وصولهم إلى المستشفى. كان مالرو هو أيضًا مأخوذًا بمشهد الدم، فأخرج مفكرته، وكتب هذه الكلمات: الفن يعجز عن إنقاذ الإنسانية، لكنه يبدو جبارًا بخصوص قتلها!
فجأة، تحول فم اليمني إلى نافورة حمراء، وغدا رأسه ثقيلاً كصخرة. اجتاح ماري-كريستين خوف يَعْجِز عنه الوصف، وحاولت إبعاد الرجل دون أن تفلح. أوقف شملان السيارة، وبعون مالرو جذب الميت من قدميه، ورأسه يضرب في كل شيء، ثم ألقيا به إلى الوادي. عندما أراد لوي استعادة مكانه إلى جانب زوجته، أمرته بتركها وحدها. بعد مسافة طويلة لم يتبادلوا فيها كلمة واحدة، رمت رأسها بين كفيها، وانفجرت باكية. استبدت بشملان شهوة جامحة، ودون تردد، رفع ذراعه، وجذبها إلى كتفه. أسكرتها رائحة العرق التي تنبعث من إبطه، رائحة الموت، رائحة الموت تجتاح العالم أخيرًا. رأى مالرو زوجته تسحل تحت ذراع شملان، ولم يبد أي تعليق. كان يشمها، هو أيضًا، رائحة الموت الحامزة تلك. كانت رائحة موته. لهذا لم يكن يتألم. كان قد فعل كل ما بوسعه لأجل الوصول إلى تلك اللحظة التراجيدية بحدة، ولم يكن يتألم. كان الموت يغدو قوة إضافية بين يدي الطبيعة الجبارة. شعر بضياعه الأبدي. راحت السيارة المنطلقة في الفضاء الرحيب تذهب ناحية اليسار وناحية اليمين إلى أن تمكن السائق من السيطرة عليها وإيقافها. هبط لينقل لهما أن إحدى عجلات السيارة تصدعت، وليس لديه دولاب تبديل، فنظر مالرو إلى الشمس الغاربة، ونزل بدوره ليطأ بقدمه أرض الصحراء التي كانت لم تزل تلفظ الهواء الساخن. عندما أخذ ثلاثتهم في السير تحت الجمال الوحشيّ المطلق للغروب، ولم يعد الكاتب يرى سوى خيالاتهم الضائعة في الفضاء الفسيح، راح يدمدم بعض ما حفظه عن هوميروس:
- يا زوجة عوليس المصون، يا ابنة لائرت، إذا كنت لا تزالين راغبة في سؤالي عن أصلي، فإني مخبرك بذلك، ولكنك بهذا تجلبين لي من الحزن أكثر مما أطيق، فمن المؤلم للرجل الذي طوف بعيدًا، وعانى كثيرًا، أن يتكلم عمَّا قاساه.
إن في وسط البحر جزيرة تدعى كريت، وإنها لأرض جميلة خصبة، يقيم فيها الكثير من السكان، وفيها من المدن تسعون... إلى هناك قدم عوليس حينما كان مبحرًا إلى طروادة، فقد حادت به الريح عن سبيله... إني أذكر أنه كان يرتدي معطفًا مزدوجًا من الصوف، بلون الأرجوان البحري، شبك بمشبك من الذهب نقشت عليه صورة كلب أمسك ظبيًا من عنقه، وقد صيغ صوغًا عجيبًا وضح به تشبث الكلب بفريسته وجهاد الظبي للإفلات. وكان يلبس ثوبًا أبيض ناعمًا يشبه أديم البصل الجاف، كانت النساء يعجبن به كثيرًا، ولا أعلم هل أعطاه هذه الأشياء أحد، فقد قدم له كثيرون العطايا، وأعطيته أنا أيضًا سيفًا وثوبًا.
لا تقولي هذا، يا زوجة عوليس، وكفي عن الندب لأن عوليس ما زال حيًّا، وهو جد قريب يقيم في أرض التسفروتيين، ومعه الكثير من الهدايا... ذهب إلى ذوذونا حينما كنت هناك، ذهب يستوحي زوس، إذ له هناك هاتف غيب وسط سنديانة. هل يرجع إلى بلده جهرًا أو خفية، كوني على يقين أيتها السيدة أن عوليس راجع في هذه السنة العاشرة، عندما يدخل القمر القديم في المحاق، ويولد القمر الجديد.
رأى مالرو في ضوء القمر يد زوجه، وهي تذوب في يد شملان، عدة أمتار من أمامه، أو هي يد شملان التي تذوب في يد زوجه، ولم يتوقف عن إلقاء النشيد. كان كل شيء يصغي إليه: السماء والأرض والدم وكل أبطال القصص، كل حشرات العالم وطيوره وحيواناته، كل الأنهار والزهور، الشلالات والبحار، والجبال البعيدة الشاهقة بدأت تتحرك. سمع تأوهات لذة زوجه وشملان، ولم يكن يحلم. بل كان يحلم، كان يحلم (( حُلْمَهُالحقيقي )) أخيرًا. ذوبان المحتمل واللامحتمل. تقدم من التأوهات، وتبدت له صورة من صور ألف ليلة وليلة. صورة فاسقة، جميلة، جميلة لأنها فاسقة. وبعد أن لعق شملان الدم عن الجسد الأبيض، وجده منشغلاً في بناء بيت حجريّ صغير. ادعى مالرو أنه بيت طفولته بعد أن وجده، عالمه الماضي، فهدمه شملان بقدمي العملاق اللتين له، وسار به وبزوجه إلى أحد الأكواخ التي يندر الوقوع عليها، والتي وجدوا فيه بدويًّا شيخًا ضائعًا في ضباب الكيمياء. كان يحول الماس إلى كلمات، ومن فترة لفترة، يصغي إلى صداح الريح الآتية من بعيد.
كان البدوي الشيخ يقول:
- للتوصل إلى كتابة الطبيعة، إلى وصفها، يجب عكس طريق الخلق. بمعنى، تحويل الماس إلى كلمات. والحالة هذه، تحويل كل ما هو أغلى في الحياة. هكذا يكون التنافس مع الطبيعة، وإلحاق الهزيمة بها.
على مقربة منه، كانت نارجيلة ضخمة مزينة بنقش لامرأة عارية، في يدها اليمنى قطعة من البخور، وفي يدها اليسرى سراج مقدم للآلهة. ترامى لوي مالرو على إحدى الطراريح التي تغطي الأرض، ووضع رأسه على إحدى المخدات، بينما وقفت ماري-كريستين أمام المرأة المنقوشة، وهي تلاحقها بعينيها عاجزة عن ملاحقة نفسها في مرآتها. أخذ شملان يتنقل في بيت الرجل، وكأنه يتنقل في بيته. وبعد قليل، عاد ليقول لزوج الكاتب:
- هناك بئر إذا أردت الاغتسال.
لكنها طلبت:
- اغلِ الماء أولاً، فأنا أخشى الميكروبات.
أطاع شملان بينما كان البدوي الشيخ يضحك في عبه، رمى مالرو بحزمة قات، فراح يفصل فروعها الطرية، ويلوكها. أشعل الرجل البخور، ووضع في (( الفيديو )) شريطًا ملونًا لامرأة أمريكية تهز مسدسًا هزات متواقعة مع تخلع الوَرِكَيْن، وقدم للجميع كوكا كولا. نظر الكاتب مرة أخرى، ولم ير سوى خيالاتهم. وبدلاً من إلقاء بعض سطور لهوميروس، سمع أبياتًا للمتنبي تخرج من فم الشيخ، فانجذب إلى صُنعها البسيط بغرابة، الغريب ببساطة:
اليوم عهدكم فأين الموعد
هيهات ليس ليوم عهدكم غد

الموت أقرب مخلبًا من بينكم
والعيش أبعد منكم لا تبعدوا

إن التي سفكت دمي بجفونها
لم تدر أن دمي الذي تتقلد

قالت وقد رأت اصفراري: من به؟
وتنهدت، فأجبتها: المتنهد

فمضت وقد صبغ الحياء بياضها
لوني كما صبغ اللجين العسجد

فرأيت قرن الشمس في قمر الدجى
متأودا غصن به يتأود

عدوية بدوية من دونها
سلب النفوس ونار الحرب توقد

وهواجل وصواهل ومناصل
وذوابل وتوعد وتهدد

أبلت مودتها الليالي بعدنا
ومشى عليها الدهر وهو مقيد

أحس مالرو باختراقه الطبيعة، بالطير على بساط الكلمات. ترك الصور المتراكبة لقوس النصر المتحطم وبرج إيفل والأوتوروت والمحاضرة ومظاهرات الأول من أيار. كانت زوجه قد ذهبت ليغسلها شملان، فوصلت ضحكاتها إلى أذنيه، ووصلته بالمعرفة القديمة، ابن رشد والرازي وابن سينا وابن طفيل... ولوي مالرو يذهب دومًا إلى مطلقية الكائنات والأشياء، يطلب مزيدًا من الخدر، مزيدًا من الوهم، مزيدًا من المحال. قال له البدوي البصير إن السر الخفي من الصعب الكشف عنه، والهوى من الصعب إشباعه. حكمة رجل الصحراء هذه لم يسمعها مالرو من نفس الأذن، ترك نفسه يذهب نحو المطلق، أراد أن يمسك المتعذر إمساكه. أخيرًا، جاءه فم المرأة العارية من زجاج النارجيلة تحت معالم امرأة زقاق صنعاء الملعون. هكذا كان مالرو يراها. كائنة الحلم هذه اتضح أنها ابنة البدوي الشيخ. في تلك اللحظة، قطعت ماري-كريستين سحابة البخور كناسكة تخرج من الخرافة، لتمسك زوجها بالخطيئة الأولى. لكنها هي، امرأة كل الملائكة وكل الشياطين، لم يكن باستطاعتها مع ذلك أن تدرك في كل هذا طرف الحقيقة، عندما يختلط الزائف بالحقيقي وعندما لا يكون الحقيقي سوى نتيجة للزائف. وقعت في الخطأ في اللحظة التي قبضت فيها على خنجر شملان، وطعنت البدوي الشيخ. كان البدوي الشيخ في ظنها وراء كل هذا، سقوط زوجها، سقوطها، وخيانتها. كان هو، هذا الساحر الآتي من عصر آخر. قتلته إذن، وقلبها يفيض بالحقد. كأم مالرو، على الطرف الآخر من العالم، عندما قتلت الخنزير الشيخ في مكان زوجها المستبد، المحرك الحقيقي، والمنفذ لكل الآلام التي عانتها. طعنت الخنجر في الظهر، وفي القلب، وفي جمجمة الحيوان المسكين. ضربته أكثر فأكثر، بخنجرها، خوفًا من أن يبقى نفس واحد له. سالت أمواج الدم. سالت في بحار الكون.
كان مالرو يهمس في أذن البدوي القتيل، وهو يتخبط في الدم، ويبدو كمن يعبث به:
- كما قلت أحسن قول، نستطيع التنافس مع الطبيعة المسيطرة، ولكن ليس دون تراجيديا.
نقل شملان خنجره القديم، كان يسطع دمًا وضوءًا، وكان شملان خائفًا، خائفًا بشكل مرعب، كان خائفًا خوفًا فوطبيعيًا. لم يكن سوى علاء الدين والمصباح السحري قادرين على وضع حد لهذا الخوف. بيد أنه ليغطي المرأة التي كان يعتقد أنه يحبها، صرخ: أنا القاتل! أنا القاتل!

صنعاء في 7 سبتمبر 1981




























الابن والبحر
السبب الأول لوجودي في جزيرة (( بالما )) هو أن أرتاح، وألا أفكر في شيء، أن أستمتع بالشمس وبالبحر، وأن أنظر إلى النساء. لهذا ابتعدت عن باريس التي لم أغادرها منذ أعوام، باريس الجليد، باريس الضباب، باريس الأضواء والعمل الدائب، باريس البرد والكتابة، باريس الأفكار. رافقتني زوجتي وابنتي لعدة أيام، ثم بقيت وحدي. كنت أريد البقاء وحدي، كنت أريد الشعور بمولدي.
اليوم أنهض باكرًا في الصباح الإيبيري تاركًا فندقي بعيدًا من ورائي، وأشق شوارع (( الأرينال )) الضيقة المنحدرة نحو البحر، والبحر بحيرة كبيرة صامتة، فرس أليف، ومرآة زرقاء. الشاطئ على التقريب خالٍ من الناس، شماسي القش مزروعة في كل مكان، وامرأة تخلع ثيابها أمام عيني، ورجل ينام على الرمل، وبنت ترسم مركبًا. المراكب راسية، والبحر يمتد كأنه النهاية البداية، وأنا أنظر إليه، ولا أفكر في شيء. أنظر إليه قبل أن أذهب باحثًا عن الأمواج التي جاءت بي، وأستمتع بحالة التماس بين جسدينا، لحظة عابرة يجهلها الرمل. وعلى الرمل أستلقي، وأعطي وجهي للشمس، وأعطي كل جسدي، وأحس بإبرتها المخدرة، وأحلم. من يمنعني من الحلم، ومني البحر على مقربة؟
ويناديني البحر، وهو يمتلئ بالأجساد وبالأمواج، فأخضع لتجريد المعاني، وتشعشع الألوان. أشعر بتحديه، أشعر بأنه امتلاك مستحيل، وأن في أعماقه قلبًا ينبض ليس قلبي. يتركني على سطحه أحدق في القادمين، هم دومًا قادمون إليه، وهو دومًا هارب نحو الآفاق. أحدق في القادمين، فأرى نهودًا تحدق فيّ، وأعناقًا، وشفاهًا، وعيونًا تتحدى عينيّ، وسيقانًا تنبثق من قلب الموج، وأفواهًا تصرخ، وأخرى تضحك، وأخرى لا تضحك ولا تصرخ، يكتفي أصحابها بالنظر إلى غيرهم، وهم يلعبون الكرة الطائرة. يغدو البحر فرسًا شرسة تهتز على أدنى إيقاع، وكلما ازداد شراسة ازداد عظمة وامتدادًا وصراعًا. أيها البحر خذ الريح، واتركني معك! ولكن الريح هي التي تأخذني، وتخفيني في الرمل، تاركة كل شيء من ورائي.
في مطعم الفندق، آكل (( البايلا )) على العشاء، وأنظر إلى كارمن التي تسألني:
- هل أعجبتك البايلا؟
- أعجبتني.
تبتسم لي كارمن السمراء، ثم أنهض بعد أن أتحلى: بوظة أو حلوى أو كمثرى. أعود إلى شوارع الأرينال الضيقة المنحدرة نحو البحر، وأرى أناسًا لم تزل فيه من كل لون، وهم مصرون على البقاء في الأمواج وتطويع صراخها، والريح تغدو صاخبة، والناس مصرون على البقاء في الصخب وفي الأمواج. يغدو لون البحر أخضر قاتمًا، ويلفظ الأجساد، والأجساد تقفز، وتقهقه، وتصرخ. والأجساد تلتطم أحيانًا، فتغدو كتلة عظيمة متراصة، أو تنفصل أحيانًا، وتتجزأ. أتابع بعينيّ انفصال الأجساد، وأقيّم الحركة والوزن. أشارك البحر في تماثلها: أجساد عارية أو نصف عارية، أجساد ضخمة أو نحيفة، أجساد نشيطة كالأسماك، أجساد مترهلة أو مشدودة، أجساد عجوزة، أجساد شابة، أجساد قصيرة، أجساد عملاقة، أجساد مثيرة، أجساد مغيرة، أجساد لا مثيرة ولا مغيرة، أجساد تخرج من الماء، أجساد كالكمثرى، كالحلوى، كالبوظة، أجساد كزجاجات الكوكاكولا، أجساد كالموز، كالأشرعة، كالبنادق، كالألغام، أجساد كالأنعام، كالخرفان، كالغزلان، وأخرى كالأفراس، أجساد كالفراشات، أجساد كالثيران، أجساد كشجر الجوز، كشجر الصفصاف، كشجر الخنشار، أجساد كالأفيال، كالأرانب، كالفئران، كالجراد، كالحمام، أجساد تذهب وتأتي، تنهض وتنام، ترتمي في الماء، أو هي تزلق على سطحه، أو تتسلق الأمواج، أو تنكسر على كتاب، أو تتفتح على منشفة، أو تئن، أو تكتم الأنات، أو تبتسم، أو لا تبتسم، أو تكشر، أو تنادي، أو تؤنب، أو تغتاب، أو تتأمل، أو تحسب، وربما كانت تحاسب أو تتمنى. تتكاثر الأماني قرب البحر، وتتنوع، تهطل كالأمطار: فتى أسمر، أو فتاة سمراء، أو امرأة تتقن فن الحب وبعض الأوضاع الصعبة الإجراء، أو جملة من النساء، وربما جملة من الرجال، أو بيت مريح وسيارة مريحة، أو أحد عشر شهر عمل بالانتظار، وراتب آخر الشهر، وزيادة متوقعة، وآلة قاطعة، وعلاقة قديمة، علاقة بعيدة، علاقة مستحيلة أو ممكنة، علاقات، نعم، كثير من العلاقات.
في مساء اليوم التالي، تسألني كارمن على العشاء:
- هل أعجبتك الشوربة؟
- أعجبتني.
تبتسم لي كارمن السمراء، ومع ذلك ، شوربة ساخنة لا تعجب أحدًا في مثل هذه الحرارة الخانقة. وللمرة الأولى، المطعم على غير عادته يغص بالناس، مما يحثني على تعجيل الخروج دون أن أتحلى. أتجه إلى شوراع الأرينال الضيقة المنحدرة نحو البحر، المحاطة بالفنادق والمطاعم وعلب الليل. وأسمع كثيرًا من الأغاني الألمانية، وكأن الألمان يحتلون الجزيرة. كثير من الدكاكين لا تغلق أبوابها في الليل، معظمها يبيع أشياء البحر الملونة، وبعضها يبيع فواكه الصيف، المفروشة على الأرصفة. وعلى الأرصفة، آثار الأقدام الرملية، وفي الأجواء يحتفل الناس بقدوم الليل المنفصل عن جسد البحر. على الكورنيش، العديد من المتنزهين. وفي الأمواج، اثنان أو ثلاثة يعومون عرايا، أو هكذا يخيل إلي، فضوء الموج ليس قويًّا كالموج، وصخب الموج بقوة دقات قلبي. أراقب البحر، وهو يقذف اللجين بين فخذي بالما العملاقتين، وأسمع انسحاق الزبد وصيحات الاشتياق. أرى المراكب الراسية صاعدة هابطة مع صعود الموج وهبوطه، ثم تختفي المراكب في حركة للموج متمردة. البحر هناك، هناك دومًا، هو كل شيء. وأنا، أقف وحيدًا. أنظر إليه بخوف، وأعزم على العودة إلى فندقي بسرعة ماضيًا بحانات تصدح بموسيقى (( الديسكو )). ماذا لو أدعو إليها كارمن ذات مساء؟ أتردد أمامها، وهي لا تكف عن الابتسام لي. أطلب مفتاحي، وأصعد للنوم. أما بالما، فهي لا تنام. تصلني صيحاتها، ضحكاتها، حركاتها. تودع المدينة ليلة من ليالي الصيف الذاهب مع البحر، والبحر يصلني هديره المستمر في الذهاب. نعم، الاستمرار. كل شيء يتوقف على الاستمرار، على حركة البحر التي لا تتوقف عن التقدم والتراجع الدائمين! كل شيء يتوقف على حركة الأمواج!
فجأة، أسمع كارمن، وهي تصرخ، وتشتم بالإسبانية كما لو كانت تدافع عن نفسها. يحاول رجل خنق صوتها. أستطيع فهم كلمة واحدة تتكرر عدة مرات، (( ليبرتاد )). ثم تنفجر ضوضاء تنتهي ببكاء كارمن.
في الصباح، لا تقدم كارمن لي قهوتي كالعادة، أشعر بالحزن، وأذهب إلى البحر بسرعة. أغتسل فيه دون أن أفلح في غسل حزني. ولم أرَ أبدًا كارمن.
* * *
عدت في الشتاء إلى بالما لأجد البحر، وأرى كارمن، لكني لم أرَ كارمن، ووجدت البحر يصب جام غضبه وموجه على الشاطئ المستسلم. كانت بالما مدينة ميتة، كل شيء فيها يتخثر، وكان الفندق مغلقًا، على بابه لافتة كتب عليها: يفتح في الصيف. كانت دكاكين شوارع الأرينال الضيقة المنحدرة نحو البحر مغلقة، هي أيضًا، لا أشياء الصيف الملونة على الأرصفة، ولا الفواكه الطازجة، ولا آثار الرمل. كانت علب الليل لا تغني، ولم ألتق إلا بضابط عائد من البحر... كان كل شيء يموت. في الميناء، كانت طبقات من الزيت تميد، وطبقات من النباتات الميتة، والقاذورات، وطبقات من أجنحة الطيور القتيلة. كانت المراكب راسية أو محطمة، والجبل الذي كان أخضر في الصيف، يغطيه الضباب، ويغرق في البحر بالتدريج.

بالما دي مايوركا/ أوت 1981




























الله والنقود
استيقظت كريستينا على صراخ زوجها عبد الرسول:
- يا الله نقودًا! يا الله نقودًا!
كان جاثمًا بجسده الضخم المترهل على الأرض، في قميص النوم الفضفاض، على رأسه طاقيته المطرزة، وفي يده مسبحة عقيقية كان يرفعها ضارعًا إلى السماء. أخذ قلب كريستينا يدق بأمل وروع، حتى أنها قبل أن تصل قربه، استثار بولونيتها العطوف، وهي تسمعه يقول:
- يا الله نقودًا، لحبيبك عبد الرسول!
أخذته كريستينا بين ذارعيها كطفلها الأوحد، ومسحت دمعته السائلة على خده بخدها، وبصعوبة أعادته إلى الفراش، وهمست في أذنه بصوت كله عناء:
- عد إلى النوم الآن، وغدًا سيبعث لك الله بالنقود.
وكأن ذلك كان شرطه للعودة إلى النوم:
- نقود كثيرة.
طمأنته:
- نقود كثيرة.
- ملايين!
- نعم، ملايين، أيها الغالي! أنت تستأهل كل مال الدنيا.
عند ذلك، غدا طيعًا ككلب شبع من المداعبة. انزلق في فراشه الوثير، وبعد بضع لحظات، دوى شخيره في كل الدائرة السادسة عشرة.
في الصباح، كان عبد الرسول يطلب (( الرياض )) بينما خرجت كريستينا تنزه كلبها في شارع (( باك )):
- أنا عبد الرسول، يا أستاذ جفري، ما هي أخبار الصفقة؟
- أية صفقة، يا أستاذ عبد الرسول؟
- أنسيت الصفقة، يا أستاذ جفري؟
- هناك صفقات، يا أستاذ عبد الرسول.
- صفقة أنابيب التابلاين الزجاجية... آخر اختراع، يا أستاذ جفري!
- الأمير مشغول جدًا هذه الأيام، يا أستاذ عبد الرسول.
- قل له رفعنا العمولة، يا أستاذ جفري.
- أخيرًا صرت فاهمًا وفهيمًا، يا أستاذ عبد الرسول!
- وما هي أخبار صفقة البترول، يا أستاذ جفري؟
- الأمير مشغول جدًا هذه الأيام، يا أستاذ عبد الرسول.
- قل له بدل أن يخفض سعر البرميل سنتيمين اثنين، فليخفضه سنتيمًا واحدًا، يا أستاذ جفري.
- أخيرًا صرت فاهمًا وفهيمًا، يا أستاذ عبد الرسول!
- وما هي أخبار صفقة البَيْض، يا أستاذ جفري؟
- الأمير قال كلمته في هذا الأمر قبل أن يجد نفسه مشغولاً جدًا، قال لا للبيض الفرنسي، ونعم للبيض الأمريكي، يا أستاذ عبد الرسول.
- وما هي أخبار صفقة (( الذي بيني وبينك ))، يا أستاذ جفري؟
- آه! صفقة الحريم البِيض، يا أستاذ عبد الرسول؟
- أخيرًا صرت فاهمًا وفهيمًا، يا أستاذ جفري!
- أنا والأمير موافقان على الثمن الذي تطلبه، ونقول لك المليون المطلوب خذه وعجل، يا أستاذ عبد الرسول.
راحت النقود تهطل على عبد الرسول بالملايين، دولارات وماركات وفرنكات... سويسرية. وفي اللحظة التي قطع فيها المخابرة الهاتفية دون أن يصدق أذنيه للخبر الأخير، أبلغه كبير الخدم أن الوزير السابق معالي الأستاذ عبد الرزاق على الباب، فتضايق عبد الرسول لا لأنه وزير، فهو أولاً وزير سابق، وثانيًا كل الوزراء السابقين واللاحقين في جيبه، ولكن لأن الوزير السابق جاء مبكرًا، وهو يريد أن يستقبل مسيو ريمون أولاً.
- ومسيو ريمون؟
- لم يجئ مسيو ريمون بعد.
- اطلب من معالي الوزير أن ينتظرني في الصالون.
انتظر عبد الرسول بقلق وصول مسيو ريمون، كان قد تلفن له في البيت، وفي المكتب، وعند عشيقته، دون فائدة.
انتهى الأمر مع مسيو ريمون بالمجيء، وفي وقت واحد، أخرج كل منهما دفتر شيكاته. وقع مسيو ريمون لعبد الرسول شيكًا بمائة ألف فرنك فرنسي تدفع في الحال، بينما وقع عبد الرسول لمسيو ريمون شيكًا بمائة وعشرين ألف فرنك فرنسي تدفع بعد حين. ابتسم عبد الرسول، وكذلك فعل مسيو ريمون. كان عبد الرسول يفكر في الملايين التي ستصله عما قريب، ويخاطب بهذه الكلمات مسيو ريمون في سره: (( سأنكحك ذات يوم! فلتنتظر! ))
بعد ذلك، استقبل عبد الرسول مضيفه المنتظر في الصالون بحرارة، واعتذر:
- تأخرت على معاليك، فاسمح لي. كان بصحبتي أحد كبار رجال الأعمال الفرنسيين، وعقدنا صفقة ستدر عليّ ما يزيد عن عشرة ملايين دولار. أنا لا أتعامل إلا بالدولار حتى وإن كان المتعامل معي تركيًّا، فالدولار عملة عالمية، وأنا عالمي في أشغالي، ثم الدولار في صعود دائم، وحتى في هبوطه يبقى، بالنسبة لباقي العملات، في صعود دائم. خذ، يا صديقي...
أخرج من جيبه الشيك الذي أعده باسم الوزير السابق:
- هذا هو دينك المشكور: خمسون ألف أعيدها ستين.
شربا كأس ويسكي معًا، وحددا موعدًا في مقهى (( الفوكتس )) في المساء، قبل ذهابهما إلى (( الراهبة المستهترة ))، علبة ليل ليست شهيرة، للتخفي فيها، واقعة في أحد الأزقة المتفرعة عن الشانزلزيه.
ومرة أخرى، نهضت كريستينا على صراخ زوجها:
- يا الله نقودًا! يا الله نقودًا!
رأته في وضعه الضارع ذاته، وفي اللحظة التي اقتربت فيها منه، أخذ يضرب بالمسبحة جبهته، ويولول. أخذته بين ذراعيها كطفلها الأوحد، ولم تستطع، هذه المرة، تهدئته، فاستنهض بولونيتها العاجزة، وهكذا أخذت بدورها تصرخ، وتنهل الدمع:
- يا الله نقودًا! يا الله نقودًا!
تذكرت ما كانت من العادة قوله عندما تلتقي بأحدهم: إنها ليست شيوعية، ولكنها تعتبر نفسها اشتراكية- ديمقراطية أو ديمقراطية – مسيحية. الآن، تكتشف، وهي تنهل الدمع، وتصرخ ضارعة: (( يا الله نقودًا! يا الله نقودًا... )) أنها رأسمالية- مسيحية. وفي الأخير، تساءلت لم كل هذا الإلحاح على كلمة مسيحية، كانت تعتبر نفسها رأسمالية – مسلمة على صورة زوجها المسلم. أحست أنها تحبه كثيرًا، وتمنت لو يرفعها على كرشه الضخمة، لتجد نفسها خفيفة كريشة طاووس. لكنه لم يفعل شيئًا من هذا، صمت فجأة، وعاد إلى فراشه، ونام كالجِرم رغم لحاقها به، والتصاقها بشحمه، وتعلقها بثديه.
أرسل عبد الرسول الصفقة المتفق عليها من الحريم البِيض، وانتظر أسبوعين كاملين وصول المليون الموعود دون أن يصل. في كل مرة كان فيها يتلفن، يطمئنه الأستاذ جفري، ويقول له: النقود في الطريق، يا أستاذ عبد الرسول، النقود في الطريق! لم يعد عبد الرسول يستطيع الخروج إلى الطريق لكثرة المطالبين من دائنيه، فقد عادت إليهم الشيكات التي وقعها لهم وخاتم عليها من البنك يقول: حساب بلا رصيد. لم تعد كريستينا تجرؤ على التنزه مع كلبها في شارع باك، فطلب عبد الرسول القاهرة، وعلى التحديد كباريه (( الوحش )) الذي اشتراه بخمسين جنيهًا يوم كان الجنيه المصري يساوي اليوم ألفًا. هدد ابنه المدير، إذا لم يبعث له عشرة آلاف دولار في الحال، باع الكباريه، وباعه ببلاش، وأرسله في ستين داهية.
- بعثت لك عشرة آلاف دولار منذ أقل من شهر، يا بابا!
- طارت في نصف نهار!
- كن متفهمًا، يا بابا! الناس لا يجدون حتى الخبز ليأكلوا!
- فليذهبوا إذن إلى الكباريه لينسوا بؤسهم.
- هنا مليون كباريه، و(( الوحش )) لم يعد على الموضة كما كان في أيامك!
- ليست هذه مشكلتي! ابعث عشرة آلاف دولار في الحال وإلا بعت (( الوحش ))، وأبو (( الوحش ))، ورميتك بين أسنانه!
ضرب عبد الرسول السماعة، وفي الحال طلب بيروت، وعلى التحديد مطعم (( الأسنان الماضية )) الذي ربحه مقابل ألف ليرة على طاولة (( البكاراه )) في ليلة حظ لم تتكرر ثانية. هدد ابنته المديرة إذا لم تبعث له عشرة آلاف دولار في الحال باع المطعم، وباعه ببلاش، وأرسلها تشحذ في زحلة.
وكانت المفاجأة:
- سأبعثها لك حالاً! عشرة آلاف دولار فقط! تكرم عينك، يا بابا!
أطلق عبد الرسول ضحكة رنانة:
- أنت ست البنات! وفي يوم قريب، يا رب (رفع رأسه ويده إلى السماء) سأبعث لك بسيارة طولها من هنا لهناك!
- كي تطالبني ببيعها عندما تتأزم أحوالك، يا بابا.
أطلق عبد الرسول، مرة أخرى، ضحكة رنانة، وشتمها بدعابة:
- يا بنت الكلب الذكية على أبيك لا تفضحينا!
ضحك وضحك قبل أن يضيف:
- أحوالك كما يبدو في العلالي، يا بنتي الذكية!
- كل شيء سيء بسبب الحرب إلا المطاعم، الناس يأكلون بشراهة، وكأنهم يتوقعون حصول مجاعة!
- يأكلون بشراهة أم يحششون بشراهة؟
- بلا إحراج، يا بابا، التلفون مراقب.
- ابعثي المبلغ بسرعة.
- سأبعثه لك بتيلكس حالاً، يا بابا.
جاءت سيارة الرولز رويس، التي كان عبد الرسول قد استأجرها نكاية بأخته، ابنها هي المليونير الحقيقي، جاءت ساحة الجمهورية بسرعة هائلة، فأوقفتها جمهرة من المتظاهرين المطالبين بالعمل. أخذ المتظاهرون يضربون السيارة بأكفهم، ويشددون على عبد الرسول الخناق صارخين:
- عمل! عمل! عمل!
عنّف عبد الرسول السائق طالبًا منه فتح ممر، ثم داخ، وأخذ يضرع إلى الله:
- يا الله النجدة!
جاء رجال الشرطة، وفتحوا ممرًا للسيارة الفخمة.
أخيرًا وصل المليون الموعود لصفقة الحريم البِيض، فأجرى عبد الرسول حفلاً طنانًا دعا إليه (( نخبة )) البلد، وحضره وزير الاقتصاد الفرنسي. قدم رجال الاستقبال الشهيرون لدى (( لونوتر )) للمدعوين المختارين بدقة أشهى المأكولات وأفخر المشروبات، حتى أن كريستينا ليلتها قد أعلنت للملأ أن خير بولونيا لن يكون إلا إذا سارت في الطريق الرأسمالي – الديمقراطي للعالم الحر، فصفق لها الحضور بحرارة، ولم يتفاجأ أحد برؤية وزير الاقتصاد الفرنسي، وهو يقبل يد كريستينا، ويراقصها في الظل.
في ذلك المساء، كان الكل يفكر في المليون دولار الذي جناه عبد الرسول من عرق جبين الحريم البِيض، وعبد الرسول يفكر في أمر آخر أخفاه حتى عن زوجته البولونية الطائعة كريستينا، ومع ذلك هي التي أبقاها في عهدته رغم ثلاث مرات طلاق من فلسطينية وألمانية وهولندية، ورغم ثلاث عشيقات فرنسيات تعرف عليهن في علبة الليل غير الشهيرة، ولكن ليس غير الشهيرة جدًا بعد أن غدا عبد الرسول واحدًا من أهم زبائنها، (( الراهبة المستهترة )).
كانت قضية الإرث التي استطاع أن يعلقها طوال سنوات بفضل محامٍ ذكي أكسبه جيدًا، هو وبعض الموظفين، فقد حكمت المحكمة عليه بدفع مليون دولار تسديدًا لما لطشه من الإرث، وتعويضًا عما لحق إخوته وأخواته من خسائر. كانت المصيبة التي لا يعرفها أحد سواه، وهو لهذا، أراد أن ينساها، فشرب حتى تختخ، وأكل حتى بخبخ، واضطروا إلى حمله إلى الفراش.
في الصباح، استيقظت كريستينا على عبد الرسول، وهو يجثم على الأرض، ويصرخ:
- يا الله نقودًا! يا الله نقودًا، لحبيبك عبد الرسول!
فلم تمنع نفسها عن لطمه:
- أيها الطماع، يا عبد الرسول! مليون وأعطاك البارحة، واليوم تريده أن يعطيك مليونًا آخر! كفاك طمعًا وجشعًا!
فسقط ميتًا.

باريس/ فبراير 1981






39 شارع لانكري
قبل أن ننتقل إلى رقم 39 شارع لانكري، كنا نسكن في مدينة صغيرة هادئة من ضواحي باريس تدعى (( فونتنيه سو-بوا ))، وكان لنا ستوديو كبير ومريح، في الطابق الرابع من عمارة جديدة، مع بلكون يطل على حديقة. ومن كان قد دفعنا، أنا وزوجتي، إلى ترك مسكننا حيث كنا نعيش هانئين، أخو زوجتي، ابن الأسرة الوحيد بين سبع بنات، والذي كان في ذلك الوقت لم يزل يدرس في الثانوية. نظريًّا، كان يسكن وحده في شقة ذات ثلاث غرف، ولكن في الواقع كان يعيش محاطًا بحشد من الأصدقاء والأقارب، دون حساب معارفه الجدد الذين لم يكن يستطيع مفارقتهم، فقلنا إذا اكتفى بسكننا وبغرفته الوحيدة أنقذناه من تلك العشرة (( الرديئة )) أو على الأقل من بعضها. أضف إلى ذلك، سنوفر على الأب نفقات لا ضرورة منها في الوقت الذي ستكسب فيه زوجتي رضاه. ونجحت خُدعتنا، بما أن أخا زوجتي، ابن الأسرة الوحيد بين سبع بنات، اكتفى بوجود ابن عمه في مسكنه الجديد. تلفن لنا حماي معبرًا عن شكره، إلا أن (( مأساة )) بدأت تصاغ، مأساة حقيقية!
قلنا سنقيم يومين عند صديقة اسمها كارول ريثما نجد، أنا وزوجتي، شقة (( مريحة )) و(( هادئة ))، وعلى الخصوص ألا يكون إيجارها غاليًا، وبكلمة واحدة، شيئًا يشبه ستوديونا القديم. في ذلك الوقت، كنت أبحث عن عمل، وكانت زوجتي تعمل بضع ساعات هنا وبضع ساعات هناك. ومع ذلك، أوقفتُ البحث عن العمل، وأخذتُ أبحث... أريد القول أخذنا نبحث، أنا وزوجتي وكارول وخطيب كارول وعدد لا يعد ولا يحصى من الأصدقاء والصديقات عن السكن المثالي الذي سنأوي إليه، أنا وزوجتي ، دون اللجوء إلى وكالة عقارية تسلخ منا ما لم يكن معنا: عمولة وضمانات وأشياء أخرى. وفي طويتي، كنت ألعن أخا زوجتي، وحيد الأسرة بين سبع بنات، فما الذي جنيناه من رضاء أبيها غير التشرد وعدم الثبات؟ والمأساة أننا نزلنا عند كارول ليومين، فمكثنا ستة شهور. كان وضعنا المادي سببًا من أسباب هذا الغزو القسري، هذا صحيح، ولكن، ستة شهور طويلة... مما أضاق مضيفتنا ضيقًا هائلاً: كانت على وشك الزواج، وبيتها تحول إلى ورشة حقيقية. كانت تريد تجديده، وليل نهار تعمل دون أن تلب. غيّرت ورق الجدران، صبغت الأبواب، أصلحت البلاط، فتحت الحمام على المرحاض، ضاعفت الأضواء، علّقت اللوحات... أقامت الدنيا وأقعدتها، ونحن، أنا وزوجتي، قاعدان دومًا عندها كالعظمة في الحلق!
في النهاية، قلنا لأنفسنا بلا قلة حياء: استدنا، وذهبنا إلى أقرب وكالة عقارية، حتى أننا قبلنا بأول اقتراح: ستوديو صغير في شارع قذر ليس بعيدًا عن (( مونبارناس ))، شارع (( سلس )). كان حماس كارول وخطيبها لا يصدق في نقل أمتعتنا، ودَّعانا بابتسامة عريضة لم أزل أذكرها إلى اليوم، لأنها كانت آخر ذكرى منهما، بعد أن ذهبا، ولم يحاولا الاتصال بنا فيما بعد على الإطلاق.
عندما نظرنا، أنا وزوجتي، من حولنا بعد أن أغلقنا علينا باب مسكننا الجديد، أدركنا أن أمتعتنا الملقاة كالجبال المهدمة كانت تملأ كل الأنحاء، ولم يبق مكان لنا، فأين سننام؟ قَنِعنا بالوضع بأفضل ما استطعنا عليه، وحاولنا النوم، ولكن عبثًا. كان جيراننا، كلهم من الفيتناميين الهاربين من بلدهم، لا يكفون عن صعود الدرج الضيق وهبوطه، لا يكفون عن الغناء، لا يكفون عن الرقص، لا يكفون عن محاصرتنا بنظراتهم وحركاتهم. أضف إلى ذلك، سمعنا صوت محرك يدوي دون انقطاع، كان مصدره مصنع. أقول مصنعًا، وحتى الوقت الحاضر لا أعرف دومًا إذا كان مصنعًا. فتشنا أنا وزوجتي الحي رأسًا على عقب عن المصنع المفترض دون أن نجده. في الليلة الثانية، لم نستطع النوم كالليلة السابقة. بسبب ذلك الضجيج الذي لا يتوقف للمحرك، وأولئك الفيتناميين الذين هربوا من بلدهم، والذين كانوا يسعون عن غير قصد منهم لدفعنا إلى الهرب من نظراتهم وحركاتهم.
عدنا إلى الوكالة العقارية نصرخ احتجاجًا قائلين إننا مثقفون وحساسون وسريعو الغضب والعطب! ولإصرارنا، وليس إشفاقًا علينا، اقترح المسؤول غرفتنا هذه التي نسكنها حاليًا في شارع لانكري. قبلناها في الحال. وإخلاصًا مني للحقيقة، ليس فقط وضعنا المأساوي هو الذي دفعني، أنا على الخصوص، إلى قبول مسكننا في شارع لانكري. كان الليل، وكانت الأضواء قليلة، والأشجار ظليلة في ساحة (( جاك-بونسيرجان )). لمحت شابًا ينتظر عند فم المترو، وعلى مقعد هناك، رجلاً عجوزًا مع كلبه، وفي الجهة الأخرى، عاشقين يتعانقان. كان الوقت شتاء، فشعرت بالدفء. نظرت إلى الشارع في تلك الساعة التي كانت تقفل فيها الدكاكين، كانت الحركة تخفت، وكان الشارع طويلاً كنهر يمضي. أضف إلى ذلك، كانت قد شدتني البوابة الحديدية التي تغلق ساحة البناية، والغرفة التي كنا سنشغلها، أنا وزوجتي، أعلى الغرف، في آخر طابق. أطللت من النافذة، ورأيت سطوحًا لا تعد ولا تحصى، ولكني لم أرَ شارع لانكري.
أمضينا رغم كل شيء لحظات سعيدة الأيام الأولى لإقامتنا في الحي، كل ما نريده موجود في شارع لانكري، وشارع لانكري موجود في قلب باريس. باريس، شتاءاتها الدافئة وأضواؤها، باريس وأرصفتها! في تلك السنة، كان الشتاء دافئًا في باريس، وأرصفة شارع لانكري مغتسلة بالمطر الكريم. اعتدنا وجوه الناس الذين نلتقيهم، وهؤلاء اعتادونا: هذا بقالنا، وذاك لحامنا، وتلك خبازتنا، وذلك مقهانا. وإذا رغبنا، كنا نتمشى في شارع ماجنتا حتى ساحة الجمهورية حيث نأخذ قهوتنا، أو نوغل في السير حتى شارع سان دني الذي ما زلت أدعوه بشارع الغرام، فننظر إلى عاهراته الجميلات والأقل جمالاً: كنا ننظر إلى دكاكين الباعة المغاربة أو ذوي القدم السوداء، ونسمع أغاني بعض الأفارقة الآتية من شبابيكهم المفتوحة دومًا. وأحيانًا كنا نصعد شارع ماجنتا حتى محطة الشرق لننظر إلى المسافرين. كانت زوجتي تتوزن على ميزان عام حاثة نفسها على عمل (( ريجيم )) لم تنفذه أبدًا، وأنا، كنت أشتري جريدة.
أمضينا رغم كل شيء لحظات سعيدة الأيام الأولى لإقامتنا في الحي، لحظات ملأى بما ليس متوقعًا، خاصة يوم اكتشفنا في الطرف الآخر من شارع لانكري قناة سان مارتن. قناة كان ماؤها يسقط في الصمت، ككل شيء يحيط بها، الحدائق والناس الذين كانوا يتنزهون فيها. كان كل شيء صامتًا في عالم القناة، ولكنه كان صمتًا يبعث على الطمأنينة. كان عالم القناة بعيدًا عن دخان المصانع الهاجم على سماء باريس الواطئة، حتى أن طفلاً صغيرًا كان بإمكانه أن يرفع أصابعه، ويلمس شفتيها.
في ليلة من الليالي، أيقظتني صرخة مائلة إلى الثأر انبثقت من شارع لانكري الممتد كنهر طويل، فلم أشأ إيقاظ زوجتي، لكني خرجت بصدري من النافذة لأقف على السبب، ولم أستطع رؤية شيء. تكررت الصرخة بحدة أقوى من المرة الأولى، وسمعت لغطًا وسبابًا ومبضعًا يمزق الهواء، تبعت ذلك أصوات مختلطة لنساء ورجال بدوا لي من لهجتهم أنهم سود أفريقيون. انطلق ضحك صاخب، ثم أصوات طبول صعدت إلى السماء، وأصوات راقصين على إيقاعها. ومن جديد، وصلتني ذات الصرخة، وقد عمقت أكثر هذه المرة، وبدل حدة الاحتجاج كانت حدة الوجع. ومن جديد، اللغط والسباب. ومن جديد، المبضع الممزق للهواء، بل المباضع، بل السيوف التي كانت تقطع وتمزق، بينما البقر الذبيح كان يجأر. ثم، فجأة، سقط كل شيء في الصمت.
عندما استيقظت زوجتي، وجدتني أحدق في السقف، لكن قصتي أدهشتها. أكدت لي أن ما كان ذلك إلا حلمًا، فهي لم تشعر بشيء من كل هذا، بل تشعر بأنها قضت ألذَّ وأهدأ ليلة في حياتها.
وبالفعل، لم تكن تبدو على شارع لانكري أية إشارة ظاهرة مما كنت قد سمعته ليلة أمس، الناس متفرغون لأشغالهم، وهم يعملون ببشاشة وابتهاج. وكعادتهم، كانوا يبتسمون. لكني رغم ذلك، أخذت أنقب عن قطرة دم واحدة على جدار أو رصيف، فلم أقع على أية قطرة. ابتسمت حائرًا من أمري، وعدت إلى النوم في الليلة التالية، وأنا أمنى النفس بقضاء ألذ وأهدأ ليلة في حياتي على غرار زوجتي، إلا أن ذات الصرخة المائلة إلى الثأر جعلتني أستيقظ مذعورًا. بعد ذلك، كان اللغط، الرقص، الطبول، السباب، ضربات السيوف، والصرخة التي تعبر عن أقصى الوجع. ثم اللغط والسباب وتقطيع البقر، والرؤوس المنفصلة التي كانت تجأر في شارع لانكري، وتبصق براكين الدم.
طبعًا لم تصدق زوجتي كلمة واحدة مما رويت، حتى أنها نزلت معي سلالم الطوابق السبعة التي عليها بعد ذلك صعودها على القدمين، لعدم وجود مصعد، كي تدقق البحث عن قطرة دم واحدة، دون فائدة. غريب حقًا كل هذا! أفقت من حيرتي على منشور يمده لي أحدهم ضد مشروع ردم قناة سان-مارتن، فتركت زوجتي، وذهبت لأرى الجرافات الجاثمة هنا وهناك. ناداني آخر، وجعلني أوقع على عريضة يحتج السكان فيها ضد هذا الفعل البربري. نظرت إلى ماء القناة الأخضر الراكد، وككل مرة، شعرت باجتياح صمت عالمها لي. سمعت أحدهم ينظر إلى الماء الأخضر الراكد مثلي ويقول:
- أمس حاول أحدهم الغرق.
ابتسم الرجل لي، وابتعد.
في الليلة التالية، بقيت واقفًا من وراء النافذة، مصارعًا النوم، منتظرًا تلك الصرخة المائلة إلى الثأر التي لن تلبث أن تتحول إلى صرخة تعبر عن أقصى الوجع، وإذا بطرقات على الباب. أيقظت زوجتي، وفتحنا بقلق. كان الطارق أخاها، وحيد الأسرة بين سبع بنات. انهار بين ذارعي أخته، وأوضح لنا:
- ابن عمي ذهب، وتركني!
طمأنته زوجتي رغم استغرابها:
- ذهب لكنه سيعود.
- لن يعود.
رأيت الطفل الذي تمسح له أخته دموعه السائلة على خده، والرجل الذي في جسده يخرج رويدًا رويدًا. أعطانا ظهره، وعاد من حيث أتى.
صاحت أخته بعد فوات الأوان:
- لماذا لا تبقى معنا؟
سمعنا خطواته تدوي على السلالم، ثم في شارع لانكري إلى أن صمتت.
في الصباح، قلت لزوجتي بسعادة:
- قضيت ألذ وأهدأ ليلة في حياتي!
فضحكت مني، أعادت ما كنت أرويه لها عن شارع لانكري، وتهكمت في الأخير:
- ألم أؤكد لك أن ما كان ذلك إلا حلمًا؟
اعتبرنا ذلك فأل خير، وعزمت على مرافقتها إلى عملها للاحتفاء بما لم يكن سوى وهم من الأوهام، ولكن، ما أن خطونا، أنا وزوجتي، خطوة واحدة خارج بوابة عمارتنا الحديدية، حتى وقفنا في مكاننا، ونحن يدقنا الذهول. كان الدم في شارع لانكري يهدر على رصيفيه، والجثث تحدق فينا، كلها ممزقة، والسيارات محطمة، والجرافات قد هدمت بعض البنايات، وهناك بقرة ذبيحة كانت تجأر، وتعجز عن النهوض.

باريس يناير 1980























الطفل الآتي من هناك
(( إلى أخي الشهيد بيان القاسم ))
أتيتَ باريس مريضًا ومبتسمًا، فابتسمنا لك، ونحن لا نعرف خطورة مرضك، ولكن، بعد حين، عرفنا خطورة ابتسامتنا. كان الشتاء في باريس. كلما فكرت في باريس أفكر في الشتاء، وكلما فكرت في الشتاء أفكر فيك. كان الشتاء ثوب باريس القديم، وأنت، بثوبك الجديد أتيتنا. كنت جميلاً، أجمل طفل. كنت أجمل لحظة في حياتك. في العاشرة. لحظة انتهاء الطفولة واكتمال الفصول. لكنك لم تكمل سنتك هذه من حياتك معنا نحن البعيدين عن طفولتنا وقصتنا، القريبين منك اليوم رغم بعدك. هل مت حقًّا، ونحن نعيش في باريس شتاء آخر؟ هل ذهبت حقًّا، ونحن نأتي إليك بالفصول والذكريات؟ هل ودعتنا حقًّا، ونحن نطرد بابتسامتك أحزاننا؟
ومع ذلك، مذ كنت في بطن أمك كنت ترفض أن تتركنا وحدنا أمام تعاساتنا. كنا عديدين، عناقيد من الصعب إرواؤها، إعلاؤها، عصرها. كانت أمك في الجزائر تضرب بطنها مرددة: يجب أن أسقطه! يجب أن أستأصله من لحمي! يجب أن أتخلص منه! كنت تقاومها. ثم تلك الأقراص الصفراء التي كانت تبتلعها في الحمام. تلك الأقراص الصفراء التي دمغت حياتك وحياتنا. تلك الأقراص المدورة. تلك الأقراص المدورة وخاصة الصفراء، صفراء بالقدر المرعب ذاته لذاكرتنا سنوات ما بعد موتك. لقد وقعت مريضة، أمك، بعد كل محاولاتها لإسقاطك، دون أن تنجح. وكان أبوك يجلس إلى جانبها ليقرأ القرآن بصمت. كان يعتقد أن الله يزود كل وليد برزقه. ووقت الصلاة، كان يذهب إلى المسجد.

قرب ستراسبورغ، بعيدًا عن التاريخ الذي صنع السلالات والحروب، كانت أم تكابد الألم كأمك. هل هو قدر كل أم بائسة؟ كانت كأمك حبلى، وزوجها تركها منذ بعض حين. صاح بها: بؤس ثلاثة أمر لا يحتمل، فقررت التواري وراء الأفق، نهائيًا. دون رجل، ودون إله، لم يكن هناك خيار آخر لها غير الإسقاط. وهذه الأقراص الصفراء التي تترك آثارها على وجوه النساء التعيسات خلال كل حياتهن. لون أصفر دون لمعان، كامد، مُخَشَّن. لون أصفر يهمس بالموت، يدمدم بالعدم. لون الألم!
ومع ذلك، ولد جوهان. مثلك، كان يكره كل ما هو أصفر. كان حقده على لون الخريف يمده بالقوة على عدم الاستسلام. ولأنه كان يحب أمه كثيرًا. هذه الأم التي دمغ الألم وجهها. وجه دمويّ. وجه دون وجه بما أن مرضها كان داخلها. وهي في القطار الذاهب إلى باريس للعلاج، كانت تسعل سعالاً قويًا. جوهان الذي كان يحاول النوم، رفع رأسه، ونظر إليها. هل ستموت، أمه؟ هل ستتركه وحده مع هذا اللون الأصفر الذي يكرهه؟ هل ستخضع، هي، لإرادة هذا اللون الذي كان قد نجح في التغلب عليه بقوة إرادته؟ لم يكن هناك مسافر آخر في العربة، ففضل اللعب، بينما داومت أمه على السعال. أراد العودة إلى جانبها، لكنها أشارت له بأن يستمر في اللعب. لم يكن الهواء ساخنًا ليس إلا، لكنها كانت مريضة جدًا.
وهي على عتبة مستشفى سان-فنسن دو بول، بدلت رأيها. طلبت من سائق التاكسي أن يقودها إلى فندق صغير، وهي تخبئ ألمها خلف ابتسامة تعبة. لتوهم ابنها أنها في صحة أفضل، وقبل الدخول إلى المستشفى، يجب انتهاز فرصة وجودهم في باريس. التماثيل جميلة في الليل. الناس يلهون أحسن لهو. المتع عابرة، الرغبات قصيرة وخاطفة. لم تكن تعلم أن رغبتها تلك في عيش ليلة في باريس كانت الأخيرة. على عكس ما يقال، يمكن للموت أن ينتظر. وعلى أي حال، رغبتها هي، لن تكون الأخيرة.

بيان، اسمك، بوح بالحب. وبأشياء أخرى يمكن أن تكون من أسرار الوجود. استدعاني الطبيب، ولم يقل لي إنك ستموت. قال لي فقط إن الورم الذي في أمعائك يكبر، ويتحجر. وابتسم. لم تحو ابتسامته نفس الضوء الذي تحويه ابتسامتك. هل أقول له إنك أخي وإن عليه واجب إنقاذك من أجلي؟ هل أحدثه عن أبيك الذي يبكي؟ هل أقول له إنك أتيت من هناك، وإني أتيت لأراك، وكنتَ تبتسم، وجعلتني ألمس بطنك القاسي، وكنتَ تبتسم؟ لم تكن تتوقف عن الابتسام، والنظر إليّ، فغرقت بعينيّ في نظرتك العميقة، وقلت لنفسي لن أدعهم يقتلونك. لم تنجح أمك في قتلك، فعليك العيش. عليك أن تعيش الحياة التي اخترتها حتى النهاية. لما كان عمرك عدة أسابيع في بطن أمك، أرادت أمك قتلك بكينينها، عبثًا. ولما كان عمرك عدة أشهر في أحشائها ضربت بطنها بالمدق لتسقطك لكنها هي من سقطت على الأرض، بساقيها المزاحتين، وهي تواصل ضرب بطنها، وهي تدق، وهي تدق كيانها. أم جوهان أيضًا ضربت بطنها بمسند السرير، ضربت نفسها، ضربت نفسها حتى الإنهاك. أنت وجوهان كنتما قد قررتما العيش.

من وراء نافذة الفندق، كان جوهان وأمه يراقبان الحياة ((العادية)) لأحد الشوارع. ثم ابتعدت أمه كظل أصفر شاحب ورقيق. لم يدر الطفل رأسه. كان اللامتوقع يتهيأ في ظهره. كان الشارع ضيقًا يعج بالحركة، يؤدي إلى كنيسة. مكان للعبادة مقفل بقُفل، كان يبدو معزولاً عن العالم. كان يفلت منه صوت البحر. صوت مخنوق. صوت أشبه بصرخة أو بضحكة مقموعة. صوت لم يكن في الواقع صوتًا. كان على البحر أن يبدل صوته أو مكانه إذا ما عاند. وأولئك الناس الذين لم يكونوا يركضون من وراء متعهم، كما كانت تعتقد الأم التعسة. كأمك، ككل أمهات هذا العرق اللعين الذي هو عرقنا، نحن، بؤساء هذا العالم أجمع، هذه الأم تخدع نفسها عندما يتعلق الأمر بإشباع رغباتها. كان الناس الذين يتحركون على الأرصفة يتحركون لأسباب أخرى غير الركض من وراء متعهم، حتى أن كثيرين منهم كانوا مضطرين إلى النزول على الطريق المعبدة للالتفاف حول الخط الطويل للسيارات المصفوفة على ظهر الرصيف. هذا ما يدعى بخطوط جهنم. ومع ذلك، كانت الجنة على بعد خطوتين من هناك: قاعة عرض وحلم للذين هم مثلك، مثل جوهان، للذين كانوا قد نجوا من الموت في الرحم الخائن. وإعلان للأقزام... توأم أمك عادت إلى السعال بقوة، بقوة كبيرة، فاضطر جوهان إلى ترك النافذة. كان يريد أن ينادي طبيبًا، فهزت أمه رأسها سلبًا. كان الفندق ساخنًا أكثر مما يجب، مما جعل الأمر غير محتمل. لهذا السبب كانت تسعل. لا شيء خطير. اتجه توأمك نحو النافذة، كما لو كان يريد فتحها. أخذ يلعب بالستارة. كانت أمه تعلم أنها كانت تموت، فما فائدة الذهاب إلى المستشفى. متع باريس ستكون للمرة القادمة. من يدري؟ ستعود على شكل ملاك. بنفس عمرها. ستعود على شكل ملاك بنفس عمرها. ستعود مع صغيرها جوهان، وقد غدا شابًا. آه! لو يمكنها الراحة قليلاً، ستغادر غدًا في الليل، ويوم الاثنين صباحًا، ستكون في البيت. البيت، الريف، الطفولة. أنت ولدت في المدينة، وجوهان في الريف. كان الريف مهده. ومثلك ولد رغم إرادة أمه. عصى. عانى، لكنه عصى. ولأنه تحمل كل آلام العالم، لم يصرخ، وهو يخرج من بطن عذاباته. لم يعد يمكنه العذاب. لهذا نظرت إليه أمه كأمك بحقد، لم تكونا طفلين كباقي الأطفال، لم تبكيا عند عناق الحياة. كانت الحياة لكما دمعة زائفة، ولنا بسمة زائفة.

في اليوم التالي، أتيتك بحذاء جديد، غير أنك، ابتداء من تلك اللحظة، لم تعد تمشي. كان الورم في بطنك قد ازداد تصلبًا، ولم تعد تستطيع الأكل. كنت تأكل نفسك كالحجر يأكل نفسه، أو أنه الوحش في أعماقك هو الذي كان يأكلك. وكنت تبتسم. لمست الحذاء الجديد بأصابعك، وطلبت مني أن أحتفظ به في البيت حتى عودتك، قائلاً لي إنك ستلبسه، إننا سنذهب معًا إلى باريس، وإننا سنتمشى. لكنك لم تعد، وحذاؤك الجديد بقي جديدًا.
لم تكن تستطيع أن تقول الوداع للحياة بطريقة أخرى. وعلى العكس، كانت توأم أمك تريد أن تقتل لحظاتها الأخيرة على طريقتها. تركها جوهان لقلقها الرهيب، وخرج. وما أن انغلق الباب، عضت إصبعًا، ثم لعقتها. كان دمها، وكان الحق معها. أخيرًا، تركت نفسها تسقط على السرير، وهي تتعلق برأسه، وهي تنتحب، وتئن، وهي تهز رأسها في كل صوب. كانت طريقتها كي تقول الوداع للحياة: نوبة هستيرية، وجرعة كحول كبيرة، ثم جرعة ثانية، ثم جرعة ثالثة. كانت تئن، كانت تسعل، لكنها كانت تحتفل بالموت.
لم تزل تسعل، توأم أمك. أسقطت القنينة على السرير. حاولت القبض عليها برعونة في الوقت الذي كانت فيه تتكلم مع نفسها. عند غياب جوهان، كانت تتكلم مع نفسها. كانت تتكلم مع أمك دون أن تعرفها. كانتا أختين دون أن تكونا أختين، كسمك البحر، كالطيور المهاجرة. كانت تتشبث بالفراش بعناء. كان من اللازم أن تبقى صاحية. كان لها صيت المنطقيّ. لم تعش أبدًا حياة سهلة. كانت لها بعض الأحلام، بعض المغامرات، بعض المشاريع التي فشلت كلها دون عاقبة. رغم أنها كانت تفكر بشكل عقليّ. أو ربما بسبب ذلك. في حالتك، في حالتها، كان لكما مرض عضال، هذا كل ما في الأمر. كان ذلك دون منطق. لكن هذا ما كان. عضال. مرض يُعطى اسمًا لنوهم بمنطق. دون دواء، ليس هناك أقل مكان للعقل. كان الطب يهذي بخصوصك، بخصوص أم جوهان. كان الموت الذي ينتظركما المنطق الوحيد. أضف إلى ذلك، سقطت من السرير، يائسة، وأخذت بالنحيب، بالأنين كالهالك اللعين. كانت على ركبتيها، ويداها ممدودتين على السرير. كانت تهمهم: يا إلهي، اجعلني أصل إلى البيت قبل موتي! وبعناء نهضت. بصقت دمًا، لوثت العالم، قبل أن تعود إلى السقوط، ساكنة دون حراك. كان نفير سيارة الإسعاف يدوي من بعيد. صورة واحدة بقيت حية في رأسها: جوهان وهو يركض في حقل من القمح الذهبيّ. كانت تنادي. كانت قلقة. كان مفاعل نووي يبصق الدخان. أما أنت، أيها الصغير، فلم تكن تتوقف عن الركض. كنت تسلك شارعًا بعد الآخر. كانت أمك تركض من ورائك، كانت تمسك بك، كانت تضربك. كانت تضربك، وتبكي معك. في النهاية، كنت تفلت منها إلى ذراعي أبيك. وكلاكما، مع مصلين آخرين، كنتما تدخلان المسجد. كان آخر ملجأ لك. لم يكن جوهان يبدي أية مقاومة، وأمه تضربه، وهي تبكي. لم يكن يستطيع أن يجد ملجأ لدى أحد، لا إنسانًا، ولا إلهًا. ثم كانت أمه تضمه بحنان. وبحركة خاطفة، كانت تختطف سنبلة قمح تفركها بين أصابعها. دون حَب. حقدها كان المفاعل النووي. كانت قد أخذت بالسعال قويًا جدًا، وهي تجر جوهان من ذراعه للرجوع إلى بيتهم، في ريف قتيل.

أسابيع مضت. حجرتك المزججة كانت إلى جانب حجرة توأم أمك. كنت تبتسم لها بلا كلل رغم أنها كانت تغمض عينيها، وكانت مخدرة. كنت تبتسم لها. كنت تبتسم لي. كنت تنحف يومًا عن يوم. الصخرة في بطنك كانت تقوى من لحمك، وأنت، كنت تبتسم. كنت تتشبث بابتسامتك، بطفولتك الذاهبة، وبصخرة الموت في ذات الوقت. كان الألم لم يأت بعد. كان اليأس لم يهاجم بعد. وفي لحظة أمل، تركتك إلى الطبيب. قال لي هذه المرة إنك ستموت، قال لي إنك ستموت. بكل بساطة. كان إله الألم يتأهب للعمل بكل قسوة. رجوته أن يفعل شيئًا، لكنه حدثني عن العجز المالي لمستشفى (( فيلجويف ))، هناك حيث يعالج السرطان، هناك حيث كنت تستطيع أن تجد حظًا، حظًا صغيرًا، حظًا صغيرًا جدًا، فمن يدري. كان أمل اليائس. اللاأمل، في الواقع. لم لا نحاول؟ كان العجز المالي لا يسمح بذلك. المفاعل النووي لم يكن يطرح أي مشكل للنقود. لشفائك، كانت النقود تنقص. أمل شفاء مستحيل.

أما جوهان، فلم يغادر نافذة الفندق. كان ينتظر عودة أمه. لم يكن يعلم أن الأمل ليس أبدًا إلى جانب اليائس. سقط الليل، وهو لم يزل يترقب دومًا عودة أمه. لقد وعده الطبيب. سيكون سريعًا، قال له. ستكون عودتها سريعة. لم يكن الطفل يعرف التفكير في الموت. يبقى طفلاً رغم كل شيء. بالنسبة له، البشر لا يموتون. كانوا كلهم ملائكة الأرض. كانوا كلهم خالدين، خاصة الأقزام، أولئك الأطفال الذين لا يكبرون أبدًا. هذا ما كان الطفل يفكر فيه. هذا ما كانت البراءة تفكر فيه ببراءة. أضاء إعلان الأقزام. تمنى جوهان ألا يكبر. ترك النافذة ليجول في ممرات الفندق. سينتظر أمه قرب الباب، فكر الطفل. هكذا سيمكنه أن يأخذها بين ذراعية بأكثر سرعة. ثم قال لا، لن تأتي. تذكر أنها بصقت دمًا كثيرًا. بحر من الدم أكثر غَدَقًا من المرة الأخيرة، عندما كانا في البيت قرب دخان المفاعل النووي الذي يقتل. كان عليه هو أن يذهب لإحضارها. لن يفعل كما فعلت أمك عندما اكتشفت الورم في بطنك للمرة الأولى. كانت أمك قد بكت، وشدت شعرها. كان أبوك قد حمل القرآن، وأخذ يتلو الآيات الأكثر رحمة. سيذهب لإحضارها، أمه، هناك حيث كانت، ويعود معها. توقف على بساط أحمر بلون الدم. رجل صغير جدًا، بأنف كبير معوج، وعينين مدورتين، وغرة على الجبين، مر بسرعة من أمامه، فعاد جوهان يسير نحو جدار علقت عليه لوحة في إطار ذهبي. كان يمثل لوحة لامرأة سمينة عارية تتضارب مع شخص يرتدي سروال جلد كثير الشعر وحذاء مفلوقًا. كانت المرأة زهرية كلها، والشخص أسمر الأديم مثلك ومثلي، مثلنا أبناء شمال إفريقيا. كان شعر على كل بدنه. وجوهان ينظر إلى المشهد عن مقربة، لاحظ أن المرأة لم تكن ساخطة بما أنها كانت تبتسم ببلاهة.

في شوارع باريس كان الناس يركضون من عمل إلى آخر كالعادة، ولم يكن أحد يعرف أنك تحمل صخرتهم في بطنك. كانوا الجبل العاجز أمام موتك، أنت تدري! بين قنبلة هيروشيما والبحث العلمي سيختار الجلاد القنبلة. بين قتلك والبحث العلمي سيختار الجلاد قتلك. بين قطع ذراعه والبحث العلمي سيختار الجلاد قطع ذراعه، بعد أن يقطع كل أذرع العالم. وهذا ما فعل، بشكل من الأشكال، هذا الكائن اللاإنساني، حين عمليتك الأولى. انهارت أمك على مقعد. بكى أبوك، ودعا. كانا يتألمان ألمك قبل وصوله بوقت كبير. كان انتظارك للألم جريئًا. لم تتوقف أبدًا عن الابتسام. أتقاتله بابتسامة؟ كانت الابتسامة سلاحك. أتقاتله بيأسي؟ كان اليأس سلاحي. أتقاتله بصيف الجزائر؟ كان أبوك يبكي في الجزائر، ودموعه كانت سلاحه. لكنك لم تكن تعلم أنك ستموت، وكنت تحلم بحذائك الجديد يوم تعود إلى البيت لتلبسه، ونذهب إلى شوارع باريس لنتمشى.

وجوهان يفحص اللوحة، كان يحدد بصره إلى الحيوان، وهو يداعب فخذ المرأة. إنه جلادك الذي تدبر أمر عدم قطع ذراعه. أدار توأمك ظهره للوحة ليذهب نحو باب مفتوح، لكن الأقزام هم الذين كانوا هناك. خمسة رجال صغار منشغلين بحمى وانفعال كانوا لا يقفون في مكان، وهم ينتقلون بسرعة، ويتكلمون، ويومئون. على طرف السرير، كان قزم عجوز سمين جدًا يجلس بشعر أبيض وعيني عصفور. كان يخيط ثوبًا صغيرًا لعروس، ويشير إلى جوهان الذي دخل الحجرة لتوه. وكما هو الأمر في الحكاية، انغلق الباب وحده من ورائه. أخذ الطفل يضحك، بينما كنت تصرخ، وأم جوهان تبكي، عاجزة، في سريرها. كان جوهان يضحك، كان يضحك. ارتدى ثوب العروس الصغير. كان الأقزام يضحكون، كانوا يضحكون. كانوا قد أحاطوا به كما لو كانوا يحضرون عرضًا مسرحيًا. قفز أحد الأقزام المرتدي لقناع قرد على السرير وعمل سلسلة من الحركات التي أظهر فيها خفته ومهارته. كانوا يضحكون، كانوا يضحكون، إلى أن انفتح الباب فجأة، وظهر رئيس الأقزام. أخذه الغضب على منظر الحجرة. أعطى أمرًا بصوت جاف وساخط، ورمى بقبعته أرضًا. استداروا كلهم، مذعورين، بينما كان رئيسهم ينذرهم بترتيب الحجرة. أطاعوا، وتوأمك المرتبك قليلاً يتقدم من الجلاد، الذي خلع عنه الثوب، وأشار إلى الباب بطريقة شرسة جدًا. فهم جوهان هذه المرة أن أمه لم تكن موجودة خلف الأبواب المفتوحة، وأن عليه الذهاب للبحث عنها في مكان آخر. لكنه لم يكن يعرف ما يفعل للحاق بها. عاد إلى حجرته، ونظر من النافذة. كان الليل مخيمًا...

سقط عليك الألم دفعة واحدة بعنف وضراوة، وكأنك غدوت شعبك، وكأنك غدوت مكانك الآخر، ذلك الذي يعذب، وهو يبتسم، وكأنك غدوت كفارتنا إلى خراب الحضارة، وكأنك كنت تريد إطلاقنا من حضارة الخراب، من ذنوب آدم، من قاتل هيروشيما، من ذابح الجزائر الذي يبقى غير مسمى، وكأنك غدوت صرختنا المسموعة أخيرًا، وكأنك غدوت كل هذا على الأقل في غرفتك الصغيرة التي في مستشفى سان-فانسن دو بول، الواقع قرب مترو بور-روايال، هناك حيث تصمت التماثيل... وعلى العكس، كان توأمك يبدو الوحيد الذي يريد أن يقول شيئًا في حالتك، الذي يستطيع أن يحكي عنك، دون أن يصل رغم ذلك إلى صياغة الكلمات التي تعبر عن فاجعتك. كان جوهان يقف دومًا وراء النافذة، لم يكن جوهان ينام، كان ينتظر عودة أمه بيأس. هل ستعود إلى وضع حذائك الجديد ذات يوم؟ هل سنتمشى في شوارع باريس كما كنت تحلم؟ هل ستشتري من الشانزلزيه شوكولاطه وتطعمني؟

في آخر عرض الأقزام، غادر المشاهدون القاعة مع ضحكهم غير اللائق، وفرحهم الزائف. تفرقوا، واستعاد الشارع هدوء ما بعد منتصف الليل. طلب الأقزام الفندق ما عدا رئيسهم. أشار بيده إلى جوهان بالنزول، فنزل توأمك. كان على رئيس الأقزام أن يأخذه إلى المستشفى بما أن كليهما قد ذهب معًا اليد باليد. وأنت الذي كنت تصرخ، كنت تصرخ. كنت تصرخ... قال لي طبيبك من الأفضل أن تموت في الجزائر، هناك حيث يبكي أبوك. أمام سُخطي، أوضح لي كيف أن ترحيلك، وأنت ميت، سيكلف الدولة غاليًا. وعندما قلت له ما أنت سوى طفل، وإنك غدوت ضامرًا بسبب الصخرة التي تنهشك في بطنك، إنك غدوت خفيفًا كعود زيتون يابس، أجابني أن الوزن لا حساب له، أن الميت ميت أولاً وقبل كل شيء، سواء أكان ضامرًا أم بدينًا، طفلاً أم بالغًا، وهو سيكلف الدولة غاليًا، غاليًا جدًا. حتى طفولتك لم تشفع لك.

قاد رئيس الأقزام جوهان إلى المستشفى. في الممر الطويل المؤدي إلى غرفة أمه، سقطت عليه صرختك كالصاعقة. رآهم، وهو يمر أمام غرفتك، وهم يخدرونك، ثم دخل، مع هذا الشخص البَئِس، غرفة أمه. خانتك الطفولة والرجولة، وغدا موتك أمرًا مهمًا من أمور الدولة. هل أتركك تذهب؟ كانوا قد اتخذوا قرارًا دون أن يأخذوا برأيي. وجوهان، وهو يرتمي على صدر أمه المخدرة في سريرها، لم يفهم أنه لم يكن يمكنه شيئًا أمام قرارهم. سرطان رئة، قرأ رئيس الأقزام على البطاقة الطبية. بلا أمل. مثلك. بلا أي أمل. يعني لا أمل في الشفاء. أبعد الشخص البَئِس توأمك عن أمه الغائبة عن الوعي، وبيد عزومة رمى الغطاء على الأرض. كانت توأم أمك عارية كما ولدتها أمها. صعد عليها، واغتصبها تحت النظرة المستقرة للطفل. بدأت تبصق الدم، لكن هذا الشخص الخسيس واصل اغتصابها حتى أسلمت الروح. انسحب جوهان دون أن يفوه بكلمة. تردد قليلاً أمام بابك، ثم دخل. كنت مخدرًا تمامًا. ومع ذلك، ارتمى على صدرك منتحبًا. كان الدمع يسيل من عينيك المغلقتين. كان يسيل... أخذ جوهان بالسعال كأمه. كان يسعل سعالاً قويًا، قويًا جدًا. لم يتوقف عن السعال أبدًا.
* * *







أتيتك إلى الجزائر بعد موتك، وبكيت. قالوا لي إنك انتظرتني طويلاً، إنك بحثت بعينيك عني، ثم يئست. كنت محاطًا بأقزام يرددون الشهادتين كي تعيد كلماتهما، وتموت مسلمًا صالحًا. جلسوا طوال ليلة احتضارك، وهم يقبضون على يدك بين أيديهم، ويأمرونك بقول القول الطقسيّ. أبوك، أبوك التقيّ، لم يعد يحتمل أن يراهم، وهم يعذبونك أكثر مما فعل الشيطان فيك، فطردهم جميعًا، ثم تقدم بيده نحو فمك المفتوح قليلاً، وضغط بكل قواه.

باريس/ أبريل 1980


































أطول ليلة في الحي اللاتيني
التقينا، أنا وعبد القادر، صدفة، في مقهى (( القديس سيفران )). كان شاعر يلقي قصيدة، والناس يسمعون أو لا يسمعون. عندما انتهى، قمنا، أنا وعبد القادر، في وقت واحد، لنضع في صحن الشاعر قطعة فضية، فوقع أحدنا على الآخر.
صاح عبد القادر، وهو يعانقني:
- تحية للشعر الذي يعيدك إلى صديقك القديم.
حمل كأس نبيذه، وجاء ينضم إليّ.
كان الليل في أوله، والصيف في أوله، والناس في الحي اللاتيني يحتفلون بمقدم الليل والصيف، وزنودهم عارية. كان شارع ((القديس ميشيل)) يضيء، كان يصرخ، ويضحك، ويغني، ويعانق، ويلقي الشعر، ويسافر. وكنا، أنا وعبد القادر، نحتسي نبيذ (( البوجوليه ))، وننظر إلى بعضنا، ونتذكر، ونبتسم.
أقول له:
- أنت، أيُّها الصحراوي التعس!
ويقول لي:
- أنت، أيُّها الفلسطيني المباع!
ويطلب لنا النبيذ مرة ثانية.
يوم التقينا لأول مرة، في الجزائر، كان ذلك غداة الاستقلال. كنت أعلّم وإياه العربية لصغار الصحراء، في قرية قرب حاسي مسعود. وفي كل مساء، كان عبد القادر يلقي الشعر، له، وللمتنبي، ولأبي نواس. وكنا نشرب النبيذ، ونشم رائحة النفط، ونحلم. أو، على أي حال، كنت أحلم، أنا، وعبد القادر كان يحلم، ويتفجر. أحلى أشعاره كانت عندما يتفجر غضبًا. وكان عبد القادر يثور، وعندما كان يثور عبد القادر كان يضرب نفسه، وكان يبكي. كنت أعلم أنه كان يبكي، ويضرب نفسه لأنه لم يكن يستطيع ضرب أبيه. ومع ذلك، لم يكن يتردد عن شتمه ولعنه. كان يريد أن ينعتق من عبوديته. هذه الكثيبات التي كانت عذارى كالنساء البيض الصاعدة من الرمل، لم يعد يحبها. كان يكره الصحراء، وكانت تطارده رائحة النفط المنبثقة من أعماقها. كان يريد الخلاص منها، ولا يعرف إذا ما كان يمكنه الخلاص منها، فيثور، ويضرب نفسه، ويشرب النبيذ، ويلقي الشعر، ويبكي.
كان يصرخ سائلني:
- كيف يمكنني أن أخلص من هؤلاء الذئاب؟
- أي ذئاب؟
- كلهم! أولهم أبي، وثانيهم مديرنا الأمي، وثالثهم مسؤول القسمة، ممثل حزبنا الأوحد! أقسم أنه خائن من خونة الثورة! ورابعهم بئر النفط الذي لا يكل عن مطاردتي أينما ذهبت، وخامسهم البنت همجية التي أحب!
كنت أقول له:
- يعذبك الحلم الرابض هناك!
فكان ينهض، ويرعد:
- هناك يمكنني أن أكون شيئًا آخر!
كان عبد القادر قد ترك الصحراء إلى باريس، أمَّا أنا، فتركتها إلى عمان، لألتحق بالمقاومة.
وأذهب مع عبد القادر إلى الرصيف، وباريس عاهرة صغيرة، كل فتياتها جميلات، كل فتياتها مستحيلات.
وأسمع صديقي يهتف:
- لم تولد فتاة مستحيلة على عبد القادر!
ويأخذ في مغازلة أول قادمة، المهم ألا تكون عربية، فهو لا يطيق العربيات ولا الإسبانيات، فهؤلاء الأخيرات، حسب قوله، هن بنات عماتهن! ويبحث عني بعينيه، فيجدني مختبئًا خلفه.
ويقول لي:
- غازلت تلك الفتاة لأجلك.
وأكتفي بقول:
- فضحتنا، يا عبد القادر!
وتنادي إحداهن رجل الشرطة، فيذهب عبد القادر إليه، ويقول لرجل الشرطة:
- لم أقل لها إلا الكلمات اللطيفة، إنني أحب النساء!
ويهدده رجل الشرطة:
- ولكن النساء لا تحبك، فحاذر!
ولا يحاذر عبد القادر:
- خذ هذه، أيها الفلسطيني المباع، وليلتئم جرحك. وإن أردت، خذ تلك، وليزدد عذابك!
وجدنا أنفسنا ذاهبين في بعض الأزقة، ومنها نفذنا إلى شارع ((بوسي)). جلسنا على رصيف إحدى الحانات الصغيرة، وطلبنا البوجولية.
دق عبد القادر كأسه بكأسي:
- بصحة حاسي مسعود والذئاب الذين قهرتهم!
ماذا سيقول لو أكشف له عما كنت؟ هل سيدق كأسه بكأسي؟ أقلقني الكأس الذي شربه عبد القادر نخبي. هل أقول له إنني مناضل ((مجمد))، لأنني في نظر بعض قادة الجبهة، سأبقى ذئبًا من الذئاب الذين لم يقهروهم. أراعتني صورة رفاقي الذين احترقوا في أحراش جرش، وكذلك صورة رفاقي الآخرين الذين سلموا أنفسهم للجيش الإسرائيلي خوفًا من الاحتراق. احتسيت جرعة نبيذ، وقلت لنفسي: أثبت التحقيق أنني لم أهرب. ولماذا تراني هنا الآن؟ لأنني لم أهرب، ولأن أعصابي منهارة، وعليّ أن أستريح في باريس. آه منك، يا باريس! معك لا طريق إلى الإحساس بأقل راحة! التفت عبد القادر إليّ بوجه عمقت فيه التعابير، فأخافني. ظننت أنه كان يريد أن يلقي شعرًا. وبعد عدة لحظات من الصمت، كشف لي:
- لو خيرت بين الاحتراق في أحراش جرش أو تسليم نفسي للعدو لاخترت تسليم نفسي. أولئك الذين يصرخون على الأسطح أنهم مع الاختيار الأول طوال حياتهم لم يلسع عود كبريت واحد لهم الأصابع. إنهم لا يعرفون ما هو طعم النار، ولا كل آلام البشرية الكامنة في احتراق الجسد! إنهم يبيعون لحم البشر ويشترونه بثمن مقالة (( ثورية)) أو كأس نبيذ رديء، ولن ينجحوا معي، أنا لن أدينك!
فاجأني عبد القادر، فقلت:
- ولكني لم أسلم نفسي لأحد.
انحنى عليّ، بوجه يحترق حنوًا، فرأيت في عينيه دموع الصداقة:
- كل الجرائد تكلمت عنك.
- ولكن الأمور معي لم تجر هكذا، أنا لم أسلم نفسي.
ثم بلهجة حاسمة:
- لم تكن لدي الفرصة على الاختيار بين أن أترك نفسي أحترق بنار الأردنيين، أو أن أسلم نفسي إلى الإسرائيليين.
كنت على وشك أن أقول له: الآن أجد أنني أعطيت لنفسي الفرصة على ((الهرب)) أبعد ما يكون إلا أنني تناولت كأسي، وجرعتها حتى الثمالة. طلبت مزيدًا من النبيذ، دون أن أفطن إلى عبد القادر الذي كان ينادي أحدهم يمضي بنا:
- فرناندو! تعال، يا فرناندو!
وقدمه لي:
- هذا فرناندو من تشيلي.
وقدمني لفرناندو:
- وهذا هو الفلسطيني المباع.
حياني فرناندو بحرارة. طلب له عبد القادر كأسًا من البوجوليه، وفي الشارع نصف المعتم، كانت فتاة تمشي مع شاب. سمعت ضحكتها اللذيذة، وحفيف ثوبها، واجتاحت رائحة النفط منخريّ. فرضت صورة سقوط الشمس في الصحراء نفسها على روحي، وأحراش جرش ليلة الحريق، الأحراش الصامتة التي كانت تسقط في صمت عميق، وفي عتمة أعمق. أفقت على صوت عبد القادر مشيرًا إلى فرناندو:
- سيعود إلى تشيلي.
- لماذا الآن؟
- منذ مدة يريد العودة إلى تشيلي، ولكن...
- بسبب ما حصل لأليندي؟
هتف فرناندو:
- يحيا أليندي!
أوضح عبد القادر:
- فرناندو اشتراكي.
صاح فرناندو:
- أنا اشتراكي!
انحنى عبد القادر على أذني، وباح لي:
- فرناندو لن يذهب إلى تشيلي، كلما التقيته يقول لي أنا عائد إلى تشيلي، لكنه لن يترك باريس.
- لماذا؟
- لأن باريس عاهرة صغيرة!
انفجر عبد القادر يضحك، وأخذ ينشد ارتجالاً. وفي الأخير، أنهى:

إلى الأمام، يا تشيلي الزهور الحمر،
سترويك دمعاتي!

أخذنا ثلاثتنا نصفق، فطلب صاحب الحانة منا الهدوء، لكن عبد القادر ضاعف من صخبه، ثم فتح سرواله، وراح يشخ على الكراسي، وأنا وفرناندو نحاول منعه دون أن نفلح إلى أن وجدنا أنفسنا نحن الثلاثة ندب في زقاق معتم.
قال فرناندو:
- سأدعوكم لشرب كأس نبيذ في الحانة القادمة.
أوضح لي عبد القادر:
- فرناندو رسام، له لوحات أروع بكثير من لوحات بيكاسو، لكنه لا يجد من يشتريها.
وأطلق ضحكة طنانة قبل أن يضيف:
- يبيعها في سوق (( البراغيث )) بالكيلو!
ضحك فرناندو هو الآخر، وهتف:
- ولكني سأرحل غدًا.
سأله عبد القادر متهكمًا:
- إلى أين؟ إلى قفاي؟
مما جعل فرناندو وعبد القادر يصرخان من كثرة الضحك.
علق فرناندو:
- سآخذ معي قفاك إلى تشيلي.
- تريد لقفاي أن يحتكر سوق الرسم، فلا أحد يشتري لوحاتك؟
ومن جديد، صرخا من كثرة الضحك.
سألني عبد القادر:
- لماذا لا تضحك، أيها الفلسطيني الذي لم يختر! اضحك وإلا ضحكت عليك باريس!
عاودني صوت المحقق:
- تضحك علينا، وتقول ذهبت في طلب نجدة.
كنت قد أكدت:
- هذه هي الحقيقة.
- نحن الذين ستضحكنا حتى ينفجر الغائط في أمعائنا في اللحظة التي سنعلقك فيها من بين فخذيك!
- هذه هي الحقيقة، أقسم لك!
وكان قد صفعني:
- لا تردد ما تقوله كالأسطوانة المخددة، أيُّها الجبان!
وكان قد رماني تحت شمس الصحراء المحرقة كي أغدو أرنبَ أو جرذًا، كي أفقد الوعي، فمشيت على حافة جهنم، وسقطت مغميًا عليّ.
صحوت على عتاب عبد القادر لي:
- قلت لك اضحك، أيها الفلسطيني النكد!
وهجم عليّ مدغدغًا إياي من خاصرتيّ، وجعلني أضحك من كل قلبي، وأنا أرجوه التوقف، لكن فرناندو جاء لعونه إلى أن قال عبد القادر لي:
- أتذكر مديرنا الأمي؟ صار المدير العام للبرامج في الإذاعة، رحمها الله!
رفضت الخمارة التي وجدناها في طريقنا تركنا الدخول، كانت هناك بنات لم أرَ في حياتي أروع منهن جمالاً. بنات متوحشات، يزيدهن الضوء الأحمر والأسود شراسة وفتنة. أراد عبد القادر أن يدخل الحانة بالقوة، فدار بنا حرس الحانة الخاص من كل جانب. كانوا مستعدين لدق قبضاتهم، وربما أمواسهم، وتفجير قنابلهم المصرح بها للحالات المشابهة، في أجسادنا. احتدمت غضبًا، وغدوت مستعدًا للنزال، لكن عبد القادر بدل رأيه. التفت إلي، وقال مبتسمًا:
- إنني أختار الجانب الأقل شراسة!
وانسحب بخفة، وأنا وفرناندو نتبعه، ونهيل على رأسه الشتائم، خاصة التشيليّ، الذي كان مستعدًا ليضحي بحياته.
صاح فرناندو بالجزائريّ:
- أيُّها الجبان! أيُّها الشاعر الفاقد لليأس!
ومن جديد، عاودني صوت المحقق:
- هل هي الحقيقة ما تقوله لنا دون توقف: (( إنك ذهبت في طلب نجدة، وكلام فارغ! اعترف أنك تخليت عن رفاقك، أيها الجبان! ))
وعلى فكرة أن يرموني في شمس الصحراء المحرقة كان قلبي ينقبض من الرعب، فكنت أقول رغمًا مني:
- ذهبت لأن لم تعد هناك فائدة من القتال.
كانت ضحكة المحقق المجلجلة المنتصرة التي تعاودني في الوقت الحاضر، وعبد القادر ينشد أبياتًا يحيي فيها صمود القائد الشيوعي السوداني (( محجوب )) ورفاقه. ثم أنهى:

إلى الأمام يا سودان الزهور الحمر،
سترويك دمعاتي!

احتسينا نبيذ كل مقاهي الحي اللاتيني، وتحدثنا مع الناس عن الجنس، وعن الفن، وعن الحرية! ضحكنا على السياح الذين يأخذون لباريس الصور، ويشربون الكوكاكولا، واستمعنا إلى مطربي الشوارع، وعازفي الجيتار. انضممنا إلى حلقات القمار، وتفرجنا على الألعاب البهلوانية. والحي اللاتيني لا يحس بالتعب، ولا يدفعه الليل إلى النوم. كانت الحيوية تزداد، والضوء، والحركة، والظلال. وفرناندو الذي شرب كثيرًا، تمدد على الرصيف، ورحل إلى عالم الأحلام. على الرغم من صفعات عبد القادر، لم يستيقظ. أشار عبد القادر إليه، وهمس في أذني حزينًا:
- انظر إليه، إنه أجمل لوحة رسمها في حياته!
سار صديقي الجزائري بي لأنام عنده، فلم يعد هناك مترو، وحجرته، كما قال لي، على بعد خطوتين. أخذنا ندب على الأرض، في قلب الأزقة، بقدمين مثقلتين، في قلب باريس. كنت أحتفظ بالصمت، وعبد القادر يحطم مرايا السيارات الارتدادية.
همهم عبد القادر:
- ولنفكر أن هناك من يمكنهم اقتناء سيارة، وآخرين مثلي على الحديد. هم عندهم نقود، كثير من النقود، وأنا، لا أملك ما يكفي شراء حذاء!
في شارع بونابرت، كفّ عن تحطيم المرايا الارتدادية، وهمس:
- هناك مخفر للشرطة ليس بعيدًا.
فجأة، مال عبد القادر إلى الأمام، وأخذ يتقيأ. بعد عدة أمتار، تقيأت بدوري. شعرت بأني أقذف من حلقي كل كياني. ودون أن نعرف، وجدنا أنفسنا في المخفر، والمحقق يردد، وهو يرفع في وجهينا إصبعًا متهمة:
- ليست هذه هي الحقيقة!
ونؤكد له:
- كنا نسهر في الحي اللاتيني، و شربنا كأسي نبيذ، فقط.
- فقط؟
- نعم، فقط.
ويزعق الشرطي:
- أيها العربُ الكلاب!
دفع عبد القادر بكل قواه على الحائط، وأنا أسمع لهاثه، واصطكاك أسنانه، وأرى دمعته، وهي تنبثق من عينيه.
- سنحكم عليكما بالسجن المؤبد!
- لكننا لم نفعل شيئًا!
- ليست هذه هي الحقيقة!
هجمت عليّ أحراش جرش وجحيم الصحراء ورائحة النفط ورائحة الموت، فقلت دون أن أشاء:
- وضعنا لغمًا في (( قوس النصر)).
عند ذلك، صاح المحقق منتصرًا!
رموا كلاً منَّا في زنزانة دون أن يتوقفوا عن قذفنا بالشتائم والبصقات. وفي الأخير، عندما تأكدوا من أن ما قلته لم يكن سوى كذبة بخسة، أطلقوا سراحنا على مضض منهم.
ونحن على بعد عدة خطوات من المخفر، انفجرنا نضحك، ثم ذرفنا الدمع بغزارة. تعانقنا، وعدنا أدراجنا بحثًا عن حانة تسقينا النبيذ، فنشرب، ونشرب، ونلقي شعرًا.

باريس أبريل 1980













انتحار الشاعر
النار تصلني بجسدك
جسدك المنجبل بالألم والنجوم
عند مصهر الحديد الصُّلب
تستحيلين إلى بركانٍ يقذف أنهار الجمر من جسدي إلى جسدك
في لحظة تشكيل الجرح
نذوب في وردة محرقة
ثم ننهض لنرى العالم الذي يتقدم
نحو ذهابنا في الغد القادم
الإشراق هو شرطك الجديد!

ترك الشاعر قلمه يسقط على سرة حبيبته، اقترب بخده، وأنامه على نهدها، تاركًا أصابعه تزلق على وَرِكِها. براحتها، راحت مارغريتا تمسح شعره، وتبتسم.
في اليوم التالي، كان عمال المصنع يستمعون إلى الشاعر. كانوا مشدودين إلى نبرته، إلى حركاته، إلى تعابير وجهه:

ليس القلب وحده صانع العواطف
اسألوا يدي مارغريتا تقولا لكم
بيديّ هاتين أقطف الزهر من الحديد
ومن الحديد أصنع الدرب إلى أرجوحة طفل على شجرة
يصعد منها نشيد نحو السماء
سماء زرقاء فوقكم
تنظرون من الحلم إليها
فترون ابتسامة مارغريتا
اسألوا شفتي مارغريتا تقولا لكم
بشفتيّ هاتين أنفخ الحياة في الحديد
الحديد وحده ليس مادة للتشكيل
وأنا وحدي لا أستطيع القرار الأخير
رغم أني تركت حبيبي يعبث كما يشاء بشفتيّ
حبيبي قاطف الكرز
اسألوا نهدي مارغريتا يقولا لكم
بنهديّ هذين ينهار الجبل عند أبواب المناجم
والسهم المتجه نحو الدرب الذاهب إلى أرجوحة طفل على شجرة
يشير أيضًا إلى سلطة رب العمل الجشع
فخذوها
ليشعر جسدي بحريته!

صفق العمال تصفيقًا حارًا. هجموا على الشاعر، وحملوه على الأكتاف، ومارغريتا تحاول التعلق به دون أن تنجح، ثم تركت نفسها تنجرف بحمية البدلات المزيتة، وما لبثت أن غرقت فيها، والشاعر يمتطي الأكتاف، وقلبه يدق دقًا عنيفًا. جمد في مكانه فجأة، على رؤية سيسيليا، ابنة رب العمل، وهي تقف على عتبة مكتب أبيها، تصفق له، وتبتسم. بحث الشاعر عن النزول، ووضع قدميه على الأرض، لكن العمال أصروا على حمله حتى أبواب الجحيم لو أمكن، فأخذ يضرب، ويضرب، إلى أن فقد كل قواه. في الأخير، وضعه العمال على الأرض، وتركوه لاهثًا، فتقدمت سيسيليا منه في اللحظة التي ابتعدت فيها مارغريتا كغيمة، لتغيب في المصنع.
قالت سيسيليا للشاعر:
- تركوك لاهثًا بعد أن رفعوك إلى الأعالي!
أجاب الشاعر:
- كان عليهم العودة إلى العمل.
ضحكت سيسيليا بأعلى صوتها، وأطرته:
- كانت قصيدتك جميلة، إنني أهنئك على موهبتك!
اكتفى الشاعر بقول:
- أشكرك!
- أنا سيسيليا، ابنة رب العمل الجشع الذي لا يطاق!
- أعرفك.
هتفت:
- أن يعرف الشاعر سيسيليا، هذا شرف يسقط عليها من السماء!
لم يعلق. لو أجابها بعنف لكان ذلك أفضل لها.
- لا بد أنك تجدني كريهة كأبي ومسئمة!
كان الشاعر يلتفت بحثًا عن مارغريتا دون أن يجدها:
- على العكس، ليس ذنبك أن تكوني ابنته، عندما تجعل الصدفة من الشيطان أمنا وأبانا!
فتحت له باب سيارتها، وانطلقت به في شوارع باريس الشتائية. كانت السماء غائمة، والأرض مضببة، والأشجار عارية، ورجال شرطة المرور غارقين في معاطفهم الثقيلة، والناس يطلقون أنفاسهم البيضاء، وهم يعبرون على الأرصفة، فأخذ الشاعر يدمدم:

شتاؤك لم يعد يخيفني باريس
بل أجد فيه لذة
لأن ضبابك مندمج بدخان المصانع
الخالقة للربيع القادم
وأنا أنظر إلى شتائك أقول لنفسي
من معطفك سيظهر جسد أبيض
أجمل جسد لامرأة عاصية
ستطلق الربيع من بين ساقيها
انتظاري للقادم من ضبابك باريس إذن أقوى من شتائك
وشعري أقوى من جبروتك
وقصيدتي القادمة أقوى من مستقبلك
أنت اليوم قيدي أما غدًا
فأنا قيدك
غدًا أيتها الغيداء في ثوب الضباب المتمزق بين يديّ
سأنزعه عنك
وألقي بمفاتنك في مجمرة عملاقة
لأحرقك ثم أصنعك على هواي!

وإذا بالسيارة تقفز من الشارع إلى رصيف السين، وتستقر على ظهرها، فطلبت سيسيليا بعد أن وجدت نفسها بين ذارعي الشاعر:
- أريد أن تتزوجني!
- تريدين أن أحرقك!
- إذن احرقني!
قبلها بعنف كوكب يندق بكوكب، وأصوات سيارة الإسعاف وأقدام رجال الشرطة تصلهما، كانوا كلهم يهرولون إلى نجدتهم.
في يوم العرس، كانت كل باريس تشرب الشمبانيا، وترقص بكل أبهتها، مزينة بأثمن مجوهراتها، وأكثر ثيابها أناقة. طلبت سيسيليا من الجميع الصمت والاستماع إلى آخر قصيدة للشاعر تقال من فمه. وضع قدمًا على كرسي من مخمل، وأخرى على فخذ إحدى المعجبات، وعلا من فوق رؤوسهم كملك يعتلى العرش، وألقى:

أراكم عرايا في ثيابكم الثمينة أيها السعداء!
جميلون كلكم لكن مارغريتا أجمل
نهدها أجمل من كل النقود
وشفتها أجمل من كل باقات الورد
وقدمها الصغيرة أحلى قدم
تَذْكُرُني الآن كما أذكرها بلا ندم
هل يندم الشاعر وفي قصائده كل مرايا العالم تشتعل؟
هل يندم الشاعر عندما يعرف أن مارغريتا تبكي
ومن دمعها تصنع العطر
ومن عرقها تصنع ثياب السهرة
هي أيضًا لن يطالها الندم
لأنها أحبت قاطف الكرز
ومشعل الورد في الجسد
لن تندم مارغريتا لن تندم
وإلا ما انصهر الحديد
وما خلع الشعر ثوب الشتاء!

صفق المدعوون للشاعر بحمية، هجم بعضهم، وحملوه على أكتافهم في أجواء الموسيقى وصيحات الإعجاب. أخذوه إلى زاوية، وشرب الويسكي معهم، ثم جرب الحشيش، وعرج على النبيذ، ثم عاد إلى القصيد من جديد. ومرة أخرى، علا على الأكتاف، وقلبه يهتز، وسيسيليا تحاول التعلق به دون أن تنجح. فُتحت كل الأبواب للشاعر، أبواب المسارح، وقاعات الشرف، والنوادي الخاصة، الخاصة جدًا، وذاعت شهرته في أوربا وآسيا وأمريكا وإفريقيا... فذهب لينشد قصائده في كل مكان في العالم، في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين القائمة على وًرِكِ جنوب لبنان، في بلدان النفط، في القرى السوداء، وفي جامعات كاليفورنيا. وبمناسبة وجوده هناك، أخرجت له هوليود فيلمًا تسبيحًا له. عند عودته إلى باريس، قالت له سيسيليا:
- لقد أصبحت شاعرًا عالميًّا.
ارتمى على الكنبة تعبًا. جاء خادمه، وساعده في خلع ثيابه. نظر الشاعر إلى سيسيليا، ثم همهم:

مارغريتا سأدفع الثمن
ثمن هواك
كفاني عذابًا
المجد هنا وأنت هناك!

وإذا بسيسيليا تصرخ منتحبة:
- كفاني أنا عذابًا، أنا المعذبة وحدي!
ارتمت على صدره، وراحت تضربه بقبضتها، وهو يسألها:
- هل جننتِ؟
مسحت دمعها، وهددته:
- إذا لم تنسَ تلك الفتاة قتلتك!
أراد الشاعر أن يلقي قصيدة عن الغيرة، ولكنه فضل السكوت. ومنذ ذلك اليوم، لم يفتح فمه ثانية، لا ليقول شعرًا، ولا ليأكل الكافيار.
في أحد الأيام، وهو يحدق في الليل، ويسقط في الصمت، دفع عليه بعض المقنّعين الباب، وألقوا في حضنه رأس مارغريتا، ثم صدرها، ثم بطنها، ثم حوضها، ثم فخذيها، ثم ساقيها، ثم قدميها، وتركوه منشلاً بين أشلائها.
بعد سنة من الزمن على تلك الحادثة، جاءت سيسيليا لترى الشاعر الذي كان قد بقي طوال كل تلك المدة في نفس المكان، وهو يحدق في الليل، ويسقط في الصمت، فلم تجده. كان يقف فوق قنطرة، ويحدق في نهر السين، وكان أثر غياب الشاعر على سيسيليا مدمرًا، فسبب لها الجنون، وقضت باقي عمرها في مستشفى الأمراض العصبية بجوانفيل، وهي لا تكف عن ضرب نفسها بحجر ومناداته.
وبعد قرن من الزمن على جنون سيسيليا، سارت مظاهرة من ساحة الجمهورية إلى ساحة الباستيل، والغاضبون من شتى أنواع الطيور فيها ينشدون:

النار تصلني بجسدك
جسدك المنجبل بالألم والنجوم
عند مصهر الحديد الصُّلب
تستحيلين إلى بركانٍ يقذف أنهار الجمر من جسدي إلى جسدك
في لحظة تشكيل الجرح
نذوب في وردة محرقة
ثم ننهض لنرى العالم الذي يتقدم
نحو ذهابنا في الغد القادم
الإشراق هو شرطك الجديد!

باريس مايو 1981
العاطل عن اليأس
سيذهب إيريك إلى الوكالة الوطنية للعمل غدًا في الصباح الباكر! نظر من حوله، فلاحظ أن الأشجار وحدها في الليل معه، وحديقة اللوكسمبورغ صامتة، الماء في بركها ساكن، والعصافير التي كانت تصدح خلال النهار قد رحلت. إن لم يجد عملاً هذه المرة، فلن يعود إلى الوكالة ثانية. في البداية، كان إيريك يبحث عن وظيفة في مطبعة، ومع كرِّ الأيام، أصبح يطلب أي عمل، أصبح مستعدًا لقبول مهنة عامل تنظيفات أو حارس. لسعته نسمة معادية للصيف، فلف نفسه بسترته، وتمدد على مقعد، وهو يرفع رأسه إلى النجوم البعيدة. هل سيتوج ذهابه إلى الوكالة الوطنية للعمل غدًا بالظفر؟ هل سيجد أخيرًا في هذا العالم المنتفخ بالمصانع مكانًا صغيرًا؟ كان جائعًا، لكنه فضل التفكير في النجوم، وفي الحال، فرضت عصا من الخبز الطازج نفسها عليه. لو كان لديه ما يكفي لشراء عصا واحدة من الخبز لالتهمها بنصف دقيقة. أرغم نفسه، مرة أخرى، على التفكير في النجوم، لكن دون فائدة. قرصته معدته كعقرب، فجلس، وهو يلتوي بشكل يضغط فيه بطنه، عندما فجأة، رمته معدته أرضًا. تدحرج على العشب، فاغترف قبضة منه، وأخذ يلوكها، ثم فتح فمه على سعته، وتقيأ.
أيقظته، بعد ساعة، عصا حارس الحديقة، فنهض إيريك خائر القوى، وأخذ يسير في شارع سان ميشيل المضيء إلى ما لا نهاية. كان هناك بعض المارة وواجهات الدكاكين التي لا تنطفئ، وكانت هناك بعض السيارات وأصوات التليفزيونات التي تتساقط من النوافذ. رفع إيريك رأسه إليها: ماذا لو يصعد ليطرق باب إحدى الشقق، ويطلب شيئًا للأكل؟ كان يرغب في سد الرمق حتى غدًا صباحًا، لأنه غدًا في الصباح الباكر سيجد العمل الذي انتظره منذ شهور طويلة. كان يريد وجبة طعام واحدة، وبالمقابل، سيعمل حفلة طنانة يدعو إليها الجميع. ولا بأس لو كلفته الحفلة مرتبه كله! كان يريدها طنانة، يهرق فيها النبيذ، ويحرق الشمع، ويفرش الأكل، ويصدح بأجمل موسيقى تَطرب لها القلوب. ستكون إلى جانبه حبيبته التي هجرته لويزا. هل ينساها وقت الجوع؟ بدا غاضبًا، لأن لويزا هجرته يوم غدا عاطلاً عن العمل. كانت لويزا جميلة، وقد أمكنها أن تجد بسرعة شابًّا أحسن منه، على الأقل يعمل، ويعمل عملاً نظيفًا، نظيفًا وليس بسيطًا. كان مسؤولاً في إحدى النقابات، من أولئك الذين لم يكونوا يكلون عن ترداد: نطالب، نطالب، نطالب! نريد، نريد، نريد! يجب، يجب، يجب! لهذا السبب، وضع إيريك في رأسه أن يسترجعها. سيراقصها في الحفلة التي سيقيمها حتى الصباح، ثم سيأخذها إلى السرير، ويعريها. دومًا ما كان هو من يعريها، من يخلع فستانها، معلقها، سروالها، ويبدأ في أخذها من فخذيها، فبطنها، فنهديها، فشفتيها، ثم ينطلق فيها كفحل يتقن فن العدو تمام الإتقان حتى فقدان النَّفَس.
مرَّ عند تقاطع سان جيرمان وسان ميشيل أمام بعض المهرجين، كان الناس من حولهم يضحكون، والمهرجون يبكون. بدأ موسيقيٌّ بالعزف على نايه، والناس دومًا يضحكون. دخل إيريك في أزقة الحي اللاتيني، حيث روائح المرغاز وباقي الأطباق الشمال الإفريقية تديخ الشبعان، فكيف من هم على جوى مثله؟ غافل إيريك البائع العربي، واختطف فطيرة، وانطلق يجري، والعربي يجري من ورائه، ويصيح. استنفر صياحه الحاد المارة، فعملوا سدًّا منيعًا في وجه اللص الذي أراد أن يرمي الفطيرة بسرعة بين أسنانه، لكن أصابع العربي كانت أسرع، اختطف الفطيرة من يد اللص، وكما لو كان ذلك لا يكفي، أعطاه العربي بعض اللكمات، وفي قفاه بعض الضربات، ضربات شاركته إياها أحذية المارة، ثم قهقه كل ذلك العالم الجميل مسرورًا من شدة الرضى، بينما كان الدم يسيل من أنف إيريك، ومن صدغه.
عند مدخل السينما، كان صف طويل من الجمهور يتشكل لحضور الحفلة القادمة، عرف إيريك من الإعلان أن الفيلم رومنسي، فتردد، وهو يرى أحد الشحاذين المخمورين بقبعة يمدها من أجل قطعة فضية صغيرة. ماذا لو يفعل مثله؟ سيحصل على ما يحتاجه من نقود لشراء عصا الخبز المشتهاة؟ ستكون المرة الأولى والأخيرة، لأنه غدًا في الصباح الباكر، سيذهب إلى الوكالة الوطنية للعمل، وسيجد العمل الذي يبحث عنه منذ شهور. لم يتردد أكثر، تقدم من محبي السينما بأصابع نصف مفتوحة، لكنها انغلقت على الفراغ في اللحظة التي وجد فيها إيريك نفسه وحيدًا تحت مصباح. كانت خيالات المتعانقين تمر أمامه، وضحكاتهم تنفجر حوله. حثَّ الخطى وراء رجل وامرأة يلف أحدهما خصر الآخر بذراعه، رجل وامرأة يقول الظل الصادر عنهما إنهما أكثر العاشقين وداعة في العالم. وما لبث الأمر أن تحول بين إيريك وبينهما إلى سباق حقيقي، إلى أن فاجأ الرجلُ العاطلَ عن العمل في زقاق معتم، وزرع موساه في صدره، قبل أن ينطلق كالسهم هاربًا. انحنت المرأة على إيريك، ورفعته إلى صدرها، دون أن تبالي بنداءات صاحبها، وانفجرت تبكي. سارت بالضحية بضع خطوات، وقلبها يدق بعنف على منظر الدم الذي كان يتفجر كالنبع. أخذ صدر المرأة يعلو ويهبط، ففكر إيريك في البحر، وفي العمل الذي سيجده غدًا، ولم يمنع نفسه عن رفع أصابعه، وضغط النهد الجميل. دفعته المرأة، فسقط على الأرض، بينما هرب النهد بعيدًا عن وجع الأصابع.
سار إيريك حتى نافورة سان ميشيل، وغسل دمه بماء التنين المقذوف من فمه، فإذا بشرطي ينبثق من اللامكان، ويهوي بعصاه على ظهره، وإذا بإيريك ينقض على الليل، ويأخذ في تمزيقه، وبعد ذلك يهرب راكضًا على الرصيف المعتم، ويختفي في زقاق. وهناك أطلق صرخة متحجرة، فعوى كلب مفقوء العينين في وجهه، ودخل الإنسان والحيوان في معركة حامية الوطيس، خرج إيريك منها مهزومًا.
وهو يعود إلى المرور أمام المهرجين، ويتأرجح كالمخمورين، كان إيريك يريد الابتعاد عن الناس بأي ثمن، لكن المتفرجين أشاروا إليه، وهم يضحكون. فتحوا أصابعه، ورموا في كفه بعض القطع الفضية. وبعد ذهابه بعيدًا عن (( محسنيه ))، نظر إيريك بعين زائغة إلى أصابعه النازفة، وانهار، والمارة يرمونه بنظرات حذرة، ويغذون السير.

باريس يناير 1982







ناتاشا والفنان
كانت لهم ناتاشا كلمة السر، أيها المتفرجون الكرام! لراؤول الهوى الرجيم، ولرونيه الحامل للمنجل، وللغجري أنطوان، وكانت لهم ناتاشا التفاحة! ورغم اسمها الروسي، كانت ناتاشا فرنسية، ورغم شعرها الأشقر، كانت ناتاشا برنزية، وكان لون عينيها أخضر، يحبها راؤول، ويحلم بها رونيه، ويضرب لها دفه أنطوان.
كانت لهم ناتاشا وردة الحقل، أيها المتفرجون الكرام! قبل أن يلقي النازيون القبض عليهم، كانوا يلفظون اسمها، ويهمسون من وراء الأبواب. وعندما يجدون أنفسهم معًا من حول طاولة، كانوا يبتمسون لظلها. وفي اللحظة التي كانوا فيها يتخذون قرارًا بالهجوم على الأعداء، كانوا يتضرعون إليها في طويتهم: لأجل عينيك، يا ابنة الوهم!
هل تذكرون ناتاشا كما أذكرها، أيها المتفرجون الكرام؟ ناتاشا الوردة والتفاحة! كيف يتردد البعض بينكم في البحث دون أن يجدها شجرة في ذاكرته؟ ادفعوا على المقاعد ظهوركم، وأنعموا النظر إليها عبر عينيّ... بدمعي أروي لكم قصتها، أنا الفنان. ومن قلبي، بدلاً من لساني المجرح بالكلمات عنها، أروي لكم كل شيء.
ورونيه مع حبيبته، كان يغيب وراء السحاب، تسأله إذا ما كان يفكر في موعده القادم معها، فيدفن وجهه بين نهديها، ولا يقول لها إنه يفكر بالأحرى في موعده القادم مع ناتاشا. يطير في خياله بعض الجنود الألمان في الهواء، وتصله صرخة منبثقة من المستقبل. يخبئ وجهه في كفيها، وعما قليل يحس بأصابعها على عنقه. يرفع إليها رأسه، ويبتسم لها، وفي بسمته دعوة إلى العناق.
هل سيحبها راؤول أكثر من زوجته؟ كان يلاحق زوجته بعينيه، وهي لا تكف عن العناية بطفلهما، فيسأل راؤول نفسه: هل أحب ناتاشا أكثر منها؟ هل أحب ناتاشا أكثر مني؟ كان الأناني والمتفاني! كان نفسه وغيره! كان القرار وقوة الفصل! ويطبع قبلة على خد زوجته، فتعهد إليه بالطفل الذي يأخذه بين ذراعيه، ويداعبه.
وماذا عن الغجري، أيها المتفرجون الكرام؟ قارع الدف والمغني! في الليل لم يكن ينام، كان يبقى ساهرًا في الليل، يقرع الدف، ويغني للغائبة، ويصعد على سلالم الخيال إلى النجمات. يتحول إلى طائر يحلم بالعودة، ويشتاق إلى الذين تركهم على الأرض، ويأتي صوته مع الريح:

ناتاشا، يا ابنة الحقيقة الغائبة!
سأكون حضورك في اللحظة الحرجة!
ثم يحترق الصليب المعقوف!
فأجدك، أنت، العاشقة!
في اللحظة النيرة
تصبح للحرية والحب صورة واحدة!

كلمات كهذه تهز حتى الصخر، هل تهزكم، أيها المتفرجون الكرام؟ ناتاشا كنتم لها عشاقًا! كانت سعادتكم الغائبة! أراكم ثملين كقارب أسكره الموج! ذكراها تحفر عميقًا في صدوركم، والابتسامة على شفاهكم تجمد. غنوا معي أغنيتها:

ناتاشا، يا ابنة الحقيقة الغائبة!
سأكون حضورك في اللحظة الحرجة!
ثم يحترق الصليب المعقوف!
فأجدك، أنت، العاشقة!
في اللحظة النيرة
تصبح للحرية والحب صورة واحدة!

كانوا يتقنون كل فنون اللعب، أيها المتفرجون الكرام! لعبة العشق كلعبة الكرات الحديدية أو لعبة الرصاص. صغارًا كانوا في ثياب الكبار، أو كبارًا كانوا في ثياب الاشتياق، وناتاشا دومًا تحديهم.
ناتاشا القلب!
ناتاشا النبض!
ناتاشا الورد!
ناتاشا المستحيل!
كانت ناتاشا دومًا تحديهم الأخير!
يغزو القلق وجوهكم! لا بأس من الخوف وقت التحدي! عند الشعور بالخطر نجد الغبطة، ونرغب أكثر في الرغبة. الرباط فيما بينكم الآن أقوى، أنتم غيركم بين أصابع ناتاشا التي تخافون عليها من الريح! لن يسقط الفنان على الخشبة، معكم لو كان السقوط محتمًا، فليكن، ولكنه سيكون لازمًا.
وبكى راؤول في أوشفتز، كيف لا يبكي المبعد عن وطنه وناتاشا ليست معه؟ كيف لا نبكي على باب الجحيم؟ وناتاشا تصبح صرخة ألم. كان طوال الوقت يفكر في الموت لأجلها، إلا أنه كان يفكر في الموت وفي شفتيها، وكان يعجز عن التفكير بطريقة أخرى. كانت ناتاشا ألمه وأمله، ونافورة صغيرة في حديقة باريسية قرب تمثال. أبدًا لم يفكر راؤول في الاحتراق! كان الجحيم بعيدًا، كان يقبع بعيدًا عن عالم الآلهة المستبدين، والطريق إلى ذلك العالم لم تكن طريقه إلى ناتاشا الأغنية على قيثارة غجري يحصد الزعتر في الصيف. وقبل أن يلقوه وصحبه في الأفران كالأحطاب، صرخ راؤول (( ناتاشا ))! وفي اللحظة ذاتها، نطق ابنه في مهده كالمسيح، ليقول ما ستكونه آلام طفل قادم من أم فلسطينية. هل احترقت لكم إصبع من أصابعكم في النار صدفة، أيها المتفرجون؟ كيف كانت آلامكم؟ ما قدرها في ميزان آلام راؤول الذي رضي بأن يكون عاصيًا في كل شيء إلا في حبه لناتاشا الشقراء البرنزية ذات العينين الخضراوين، والتي في سمائها يحلق اليوم طائر الفنان؟
ورونيه قبل رميه بالرصاص لأنه لم يعترف إلا باللون الأحمر ناداها. كان جنود الموت قد ربطوه على جذع شجرة، فقال لحبيبته: من الجذع أصعد إليك! ورفض أن تنزل ناتاشا إليه خوفًا عليها من النازيين المنتشرين في العشب. كانوا لا يفرقون بين العشب وظل العشب، بين الفراشة وظل الفراشة. كانوا لا يفرقون بين العاشق وعشقه الدفين، بين القلب وخفق القلب. وهو، لهذا، رفض أن تنزل ناتاشا إليه من الأغصان، ولأنه كان خائفًا عليها من السقوط في الارتياب: كانت بانتظارها مهمة أخرى في الغد.
أمَّا الغجري، فهم صنعوا من جلده قنديلاً يضيء بعد أن انطفأ. انظروا، أيُّها المتفرجون: على طرف المسرح قنديل يرسل الضوء! هل ترون هالته الذهبية؟ أيها الإله! هل تسمعون تلك الضربات العاشقة على الدف؟ وضحكة ناتاشا الآتية من الشجرة؟ وصياح باريس المنبثق من النافورة كطفلة تسترشد الفنان بعد ضياع؟ أيُّها الإله! الشجرة تسير في ثوب من دم رونيه الأحمر، وهالة أنطوان الذهبية تنتشر، وجحيم راؤول يتحول إلى أرض موعودة! لنذهب معًا، أيها المتفرجون! لنذهب معًا نحو المستقبل! اذهبوا مع الفنان، أيها المتفرجون الكرام! ناتاشا بانتظارنا! انظروا كيف يفر العالم من أمامنا، كيف لا يرى آلامنا. لكن آلام راؤول هي الأقوى. آلامنا تذهب وآلامه تبقى. آلامه كل الآلام. وفي لحظة الفرار الفرديّ لا بد من التقدم نحو القرار الجماعيّ، فقرارنا الجماعيّ أن نقطع الطريق، وعندما نقطع الطريق سيجيء العالم ليجدنا. يجيء عصر الفهم! كل القوة في الألم الماضي! أنا الفنان الصائح في وجه الطاغوت، سيخضع لي كل البرابرة الذين ارتكبوا أبشع الجرائم باسمك، أيتها الحضارات السابقة واللاحقة. لنذهب إذن كي نحترق من أجل المجد الآتي، وعلى أبواب جنتنا، لنهرق الدماء. هكذا نخلص من ذنب الأجداد، ولا بأس، بعد ذلك، أن نترك للأحفاد ذنبنا. لنذهب، أيها العصاة، إلى الوجع! ألم يتوجع راؤول قبلنا؟ هكذا يشتري الآخرون خطاياهم، ونهدم أسوار الرومان! أنا الفنان! أنا الأشجع! على المسرح أبقى، وفي ظل ناتاشا العاشقة أتقدم! هل ترون ظلها؟ تجيء من الهزيمة إلى الانتصار. أيها الإله! يحضر بحضورها راؤول الصارخ. هاأنذا أطلق صرختك اليائسة! صرخة كل المعذبين! أطلق صرختنا الحادة، المديدة، صرختنا المريرة. نطلقها كلنا معًا، أيها الممثلون الكرام! لم تعد حاجة بنا الآن إلى البحث في الوجوه العديمة التأثر عن معنى حارق، ولا في النظرات الزائغة عن مستقبل سعيد. ها نحن الآن كلنا نعيش في عهد بلا براءة آلام راؤول البريء! لا تترددوا! تعالوا، أيها الممثلون! نحن على أبواب جنتنا. لتكن ناتاشا ثوبنا الحيويّ! هل تعبتم، أيها الممثلون؟ ماذا جرى لكم؟ ألا تؤمنون بما يقوله لكم فنانكم المخلص؟ الفنان المخلص كالشاعر الذي لا يكذب. تعالوا، أيها الممثلون! تعالوا! تعالوا! تعالوا! تعالوا! تعالوا! تعالوا!...

في لحظة إلهام أو جنون، يستل الفنان مسدسه، ويأخذ في إطلاق النار على المتفرجين كي يرغمهم على اللحاق به، إلى أن يقتلهم عن عمد جميعًا، ويقتل نفسه عن خطأ.
لكن ما أدهش الكاتب- وهذا لم يكن واردًا في فاجعته- أن الفنان، قبل أن يموت، وجد نفسه بين ذراعي إحدى المتفرجات، والدم يتفجر كالنوافير من جسدها، وعندما سألها عن اسمها، أجابت (( ناتاشا )). في تلك اللحظة، ابتسم، ثم أسلم الروح.

باريس يناير 1982







وحيد وجوديت
عند خروجه من مصنع رونو للسيارات في بولوني بيانكور، بحث وحيد عن جوديت دون أن يقع عليها، والغيوم تزاحم شمس الغروب، والعمال من حوله يسعون في طلب بيوتهم. كانت جوديت تعمل سكرتيرة في المصنع نفسه، ومن العادة أن تنهي عملها قبل وحيد. وصله نفير سيارة دوشيفو صغيرة، فرأى جوديت تتجه نحوه، وهي تبتسم. أركبته إلى جانبها، فطبع وحيد قبلة على شفتيها، وداعب شعرها، ثم أخذا الأوتوروت باتجاه باريس.
مثل كل مرة، سألته جوديت سؤالها الطقسيّ:
- هل تحبني كما أحبك؟
وليناكدها، سألها بدوره:
- وأنت؟ هل تحبينني كما أحبك؟
ضربت جوديت بيدها على ساقه:
- يا لك من مناكد!
قدمت له ثغرها في لحظة من لحظات تعقد حركة السير، فقال وحيد:
- آه! أنا تعب. أتمنى لو أنام بين ذراعيك.
تنهدت جوديت قارصة إياه من ذقنه:
- يا طفلي الكبير!
ثم سألته:
- كم سيارة صنعت اليوم؟
- سيارات كثيرة.
- ومتى ستشتري لي واحدة مريحة أكثر من هذه المتعبة؟
- قريبًا.
- قريبًا متى؟
- متى تلدين فاطمة.
لمس بطنها، فصاحت:
- اتركني! سأعمل حادثة.
دخلا باريس كفاتِحَيْن، باريس الليل القادم، والغيوم المعاندة، باريس الطابق السابع، وحي بيلفيل!
وهما قرب باب عمارتهم المتداعية التي على وشك الانهيار، أراد وحيد حملها بين ذراعيه، فمنعته، لكنه أصر:
- أنا على أي حال سأحملك.
- لن أدعك تفعل.
- طابقان فقط.
حملها، فوضعت رأسها على صدره، وداعبت بأصابعها قرآنه الذهبي الدائر بعنقه. فتحت قميصه، ورشفت بشفتيها حشائشه السود:
- لا تشعر بالبرد؟
- الخريف دافئ، وأنت معي.
- لا تشعر بالتعب؟
- كنت أشعر بالتعب، أما الآن، وأنا أحملك، فقد ذهب عني تعبي.
- يا لك من كاذب صغير!
التقيا بالجيران على الدرج دون أن يبتسم الجيران، فقفزت جوديت من بين ذراعي وحيد، وهي تبتسم للجميع.
على العشاء، سخن وحيد كسكسي البارحة، وقطعت جوديت سُجُق الكاشير، وشربا خمرًا زهريًّا.
بعد العشاء، استلقت جوديت على البساط، وكشفت عن فخذيها، فخلع وحيد ثيابه بجنون العاشق الذي كانه، واندفع فيها. تأوها، وعرقا، وحصدا الشموس. وفي الأخير، انفصلا، وارتميا كسمكتين منهكتين إلى جانب بعضهما.
همس وحيد:
- عندما تجيء فاطمة، علينا أن نستأجر مسكنًا بحجرتين.
همست جوديت:
- لا أستطيع أن أتركها تنام في حجرة لها وحدها.
- إذن سأترككما أنا، وأنام وحدي.
- لماذا لا نبقى ثلاثتنا معًا؟
- وإذا ما رأتنا فاطمة ونحن نعمل الغرام؟
- ماذا يهم أن ترانا؟
- على أي حال، لن أبقى في هذه الحجرة البائسة!
- ماذا يهم أن نبقى؟
- كنت تقولين لي هذا قبل الزواج.
- وبعد الزواج أقول لك هذا.
- لا أريد لفاطمة إلا الراحة!
هجمت جوديت على وحيد مدغدغة:
- ستكون فاطمة كل راحة العالم!
- هل تغارين منها؟
هجمت جوديت على وحيد مرة أخرى مدغدغة:
- آه! يا ليتني كنت فاطمة!
دغدغها بدوره، ثم مس ثغرها بأصابعه مسًا خفيفًا، وهمس في أذنها:
- يا فاطمتي الكبيرة! يا فاطمتي الكبيرة!
سقط على نهدها، وتناول حلمتها بثغره. أحاط بيديه إليتيها، وجذبها إليه، فأطلقت جوديت صرخة، قبلته، وقضمت لسانه.
بعد أن يعملا الحب للمرة الثانية، كانا يذهبان عند جارهما المغربي، فيشربان الشاي الأخضر، ويستمعان إلى أم كلثوم، وقصص الغربة. ثم كانا يتمشيان في الخريف، وباريس باردة في الليل، جالدة، نسمتها قارسة. كان وحيد يقبل جوديت من شفتيها، وجوديت تتعلق على عنقه. وفي الأزقة المعتمة، كان يمد أصابعه إلى بطنها، ويقول لها:
- سنأخذ فاطمة إلى تونس، سنأخذها إلى البحر، وسأعلمها العوم كما علمتك في السنة الماضية.
- أنا، سأستلقي في الشمس.
وكانت جوديت تقشعر على مجرد فكرة الاستلقاء في الشمس.
- هل تشعرين بالبرد؟
- لا أشعر بالبرد وأنا معك.
- لكنك تقشعرين، ويبدو عليك التعب.
- لا أشعر بالتعب وأنا معك.
- يا لك من كاذبة صغيرة!
- هل نعود إلى البيت؟
- سنعود بعد قليل.
كانا يجولان في أزقة بيلفيل، والأزقة نصف مضاءة، والشقق نصف صائحة، وكان اختلاط روائحها اللطيفة يعوم في الهواء. روائح مختلفة، من كل الرياض، من كل الأديان، روائح كثيرة، لذيذة، مدوخة!
في اليوم التالي، ودون سابق إنذار، أعلمت الإدارة وحيدًا ومائة من العمال بأمر تسريحهم، والسبب تحديث المصنع بالرجال الآليين. وبعد انتهاء العمل، جاءت جوديت لتصحب زوجها. وهما في السيارة الصغيرة، قالت له:
- كنت أعرف أنهم سيأتون برجال آليين، ولكني لم أكن أعرف أنهم سيسرحونكم!
لم ينطق وحيد بأقل كلمة، كان مطاردًا بوحش البطالة، وبرعب فكرة البحث عن العمل، وبساعات الانتظار الطويلة في ممرات وكالة التشغيل. كان يفكر في كل هذا بيأس الحامل لصليبه، في فاطمة التي ستأتي خلال عدة أشهر، في الشقة ذات الحجرتين التي يتمنى الحصول عليها، في السيارة المريحة التي تريدها جوديت.
سمعها تقول مبتسمة:
- نحن الموظفين الإداريين سنحاول كل ما نستطيع عليه مع الإدارة من أجل إعادتكم، وإن لم يفلح مسعانا، ستجد عملاً آخر.
أمام تجهمه، أضافت لتخفف من وطأة الجو:
- ولكنك ستعود إلى عملك، لا تنس أنك وعدتني بشراء سيارة أخرى تصنعها بيديك مريحة أكثر من هذه المتعبة.
هجم وحيد عليها، وأخذ يعانقها، مهمهمًا، متوسلاً، بينا جوديت تحتج، وترغمه على التوقف، لأنها لم تعد ترى الطريق. وبعد قليل، رأته يبكي، فضغطت على الفرامل. صعدت على الرصيف، وشدته طويلاً بين ذراعيها.
لم يتوصل الموظفون الإداريون إلى شيء مع الإدارة، ونتيجة لذلك كان الإضراب العام الذي شاركوا فيه، بمن فيهم جوديت، إلى جانب العمال. انتشرت فرق المضربين في أركان المصنع الأربعة، إلا أن الإدارة توصلت إلى كسر الإضراب بالقوة، وطردت عددًا لا يستهان به من الموظفين، بمن فيهم جوديت.
في وسط الليل، استيقظ وحيد على زوجته، وهي تبكي. كانت تبكي بمرارة، وعندما أراد جذبها إلى صدره، لاحظ أنها تشد بين أصابعها نجمة داود المعلقة على عنقها، كانت طريقتها في الصلاة.
- تعالي، يا حبيبتي!
لكنها نهضت إلى النافذة، وفتحتها، فدخلت أنسام الخريف. كان الليل باردًا، وفي السماء، كانت الغيوم تعدو كالأحصنة. وجد وحيد نفسه مضطرًا لسحبها إلى السرير، وجوديت لا تتوقف عن البكاء.
* * *
مضت شهور طويلة دون أن يجد وحيد العمل الذي يبحث عنه، وكذلك جوديت، خاصة أن بطنها قد انتفخ كثيرًا، وغدت ضخمة كبقرة. عندما كانت تسير في الشارع، كان الرائي يظنها جبلاً متحركًا في أرض جرداء.
ذات ليلة، قالت جوديت:
- فاطمة تتحرك بعصبية.
والعرق يتصبب غزيرًا من جبينها، فسأل وحيد:
- هل آخذك إلى المستشفى؟
- ستأخذني عندما أقول لك.
- بانتظار ذلك، سأنادي إحدى الجارات.
- لا أعرف واحدة منهن. في هذا البلد، كل واحد يعيش لنفسه كما تعلم.
- إذن، سأنادي جارنا المغربي.
وهب واقفًا، لكنها أوقفته:
- ستناديه عندما أقول لك. تعالَ!
وذهب إليها.
- اخلع ثيابي!
وخلع ثيابها، ثم راح يتأمل بطنها الضخم كالجبل الناهض على ساقين آدميتين.
- خذني!
وأخذها.
أخذ بطنها بأصابعه وبشفتيه، وجوديت تتأوه كحوت مهيض الجناح، فأين الطريق إلى البحر؟ وأين الطريق إلى القبر؟ بدأ يرتقي هضاب سيناء العاصية، ومن حول جسدها يقيم الأسوار، فأخذت تصرخ، وهو فيها. وفي اللحظة التي دار فيها القتال المستميت، إذا بها تطلق من بين فخذيها وفخذيه، وليدًا رأسه انفصل عن جسده، هولوفيرنَ عائدًا من أنهر الدماء.
تلاقوا ثلاثتهم في حصار البِتولا، فنظر وحيد وجوديت إلى جسد ابنتهما فاطمة، وإلى رأسها المنفصل عن جسدها، وهما يمسحان براحتهما عليهما، ويضعانهما على لحمهما، ويبكيان عليهما، على الجسد وعلى الرأس المنفصل عن الجسد، والفم في وسط رأس فاطمة يضحك، ويضحك ملء شِدْقيه.

باريس يناير 1982
تم تصحيحها يوم الاثنين 23/7/1990








الفتاة الممنوعة
هل ستكون دوروثيه نهاية هذا الحلم المتآكل منذ اليوم الذي أخذتُ فيه أحلم بنهدي المرأة وشفتيها؟ سؤال من بين أسئلة عديدة طرحتها على نفسي، غابة من الأسئلة التي لم يكن إنسان مثلي يستطيع أن يتفادى الضياع فيها، إنسان وصل إلى الأربعين من العمر، ولم يصل، بعد، إلى تحقيق كل ما يريد. المرأة، ربما، هنا، تقوم بدور إلى أن تكتمل باقي الأحلام الأخرى، هذا إذا ما اكتملت يومًا، وهكذا تستطيع أن تغدو وردة.
مع زينب كانت حياتي مكعبًا من ثلج. كل شيء معها كان يجري على نسق مطرد. حديثها وقت العشاء، رقادها في المساء، شفتاها في الصباح. لم تعد تعطيني شفتيها، ووقت العشق لم تكن تتمرد. خلال الحيض، كانت لا تطاق. كانت تعمل، وكنت أعمل، لكني دومًا ما كنت كالعقرب المتوترة. كنت أريد الكتابة والعشق، وتحدي النوم بالعمل أو الحلم، والانتصار على الزمن. كنت أريد الوصول كي أستمر، والاستمرار كي أبتدع. وزينب كانت تغط في الليل، تقضي نهاية الأسبوع أمام التلفزيون، أو تعمل أكلة ليست ناجحة. عندما كنت أحتج، وأهدد، كانت زينب تعد بأنها ستفعل كذا أو كذا، بأنها ستتغير، ولم تكن تتغير. كان لي انطباع معها أنني أشيخ مجانًا. يا للروع! أن يشيخ المرء بثمن الأمر مقبول نوعًا ما. أما أن يشيخ بدون مقابل. أي رعب! أن يشيخ المرء، وهو يوسع حقل وعيه، شيء معقول نسبيًا. أن يشيخ مجانًا، هذا هو الذعر بعينه! أن يدرك المرء أنه يفقد أحلى لحظات شبابه، وأنه يضحي بها على مذبح شفتين تمتنعان عن القبلات، جسد لا ينطق أو حوار مستحيل، فهذا مذل! كيف يمكن الخروج من حال كهذه؟ الذهاب إلى شفة مغرية، ويد تفهم الدقة، ومغامِرَة تخوض مخاطر النقاش؟ إذا ما عجزت عن الوصول إلى كل هذا، فهل أواصل قطع هذا الحقل المجدب؟ إذا ما عزمت على قطعه وحدي، فهل أترك زينب، وهي تذرف الدموع؟
سقطت دوروثيه كما يسقط المطر، فقلت لها: ارويني! لكنها تركتني ظامئًا. كنت أنظر إلى شعرها الأحمر، وعينيها الخضراوين، وحبتي الكرز، وأقول لنفسي: هذا هو حلمك الممنوع! كانت دوروثيه قد أحبت منذ اليوم الذي أخذت فيه تحلم بصدر مشعر وذراعين قويتين. كانت في الثالثة عشرة، كما قالت، وكانت قد أحبته كالموت الداخل على مدينة حتى تدمر نفسها بنفسها. مع الوقت، كانت قد فهمت أنها غدت تمثالاً مكسورًا.
طاردت دوروثيه في أحلامي كالعقرب المتوترة: عطر الليمون، شعر النار، شفتا الكرز، نهدا الرمان، عينا التفاح الأخضر. لم يكن جسدها في الليل يغادر جسدي، كانت دوروثيه تعانقني، وهي تئن، ثم كانت تنهض. هكذا كنت أمضي لياليّ قرب زينب، زينب الفم الخشبيّ، والجسد الجليديّ. هكذا أخذت أشعر بشيخوختي أكثر، بضعفي، وبالزمن اللانهائيّ. كيف أدمر أجمل لحظات خيالي؟ كيف أقطف الكرز دمًا أدفعه من جسدي؟
انطفأت كل نشاطاتي. لم أعد أكتب، لم أعد أنطق، لم أعد أفكر. سقطت مريضًا مرتين. كنت مريضًا بسبب زينب، وغدوت مريضًا بسبب دوروثيه. عندما أقلق غيابي صديقي مارسيل، قلت له إنني كنت مريضًا، مريضًا مرتين. لم يكن يعرف سبب هذا المرض المزدوج والغريب. غريب لأنه كان مزدوجًا. بالنسبة له، لم يكن مرض كهذا، مزدوج فضلاً عن ذلك، لم يكن يوجد إلا في الرأس. أخرجني من البيت، وذهبنا إلى الحي اللاتيني لنشرب قهوة. ثم تركني مارسيل، وعدت إلى البيت. تركت كلمة لزينب أقول فيها إنني ذاهب، وطلبت منها ألا تبكي.
مضت الأيام بطيئة، طويلة، قاسية. كنت وحدي، وما لبثت أن اعتدت وضعي. كنت أفكر أحيانًا في زينب، وأحيانًا في دوروثيه. كنت أتمرد أحيانًا على الاثنتين، وأحيانًا على نفسي. مضت سنة أو أكثر، وأنا أعمل دون توقف. أحيانًا بيأس، وأحيانًا بأمل، خاصة عندما لا أريد أن أكبر.
بعد ذلك، التقيت بستيفاني. عندما ازدادت معرفتي بها، حكت لي أنها كانت مطلقة من زوج لم يكن يحسن اللثم، لم يكن يفهم في جسد المرأة، لم يكن يهتم بشيء ما عدا نشرات التلفزيون الإخبارية، لم يكن يخشى الشيخوخة، عندما كانت تصمت.

باريس مايو 1982




























وقائع نشرة مكثفة عن التلفزيون الفرنسي
كان القمر يصعد بدرًا في سماء باريس، سماء بلون الفضة الفاحمة. أغلق برونو النافذة، بعد أن نظر إلى الشرق، ثم إلى الغرب. كان الشرق أسود، والغرب فضة، وكانت الحيرة تتجلى بين هذين اللونين. أسدل ستارة المخمل، وأطلق آهة عميقة لأوجاع الظهر، والحوض، والساقين. هكذا كان برونو يريدها آهة عميقة بعمق بئر يعقوب في مخيم بلاطة، وبقوة عمر أمضاه في الوحدة، في البرد الأسود، ثم بين المخمل والفضة، بعد أن كانت زوجه قد هجرته إلى عشيق لم تكن تستهويه الألوان والأوجاع. بدأ برونو بتحضير جرعاته ومسكناته، كل أنواع المسكنات، الزرقاء والحمراء والصفراء والخضراء والسوداء والسفرجل والزنجار والعناب. عزم على أن يأخذ كأس نبيذ، رغم تحذيرات الطبيب: ممنوع شرب الكحول مع الدواء. لكنه عزم رغم ذلك على أن يأخذ كأس نبيذ أولاً، ثم أن ينظر إلى التلفزيون لبعض اللحظات. فمن يدري؟ ربما سيشاهد آخر لحظات أوجاعه. كانت ساعة نشرة الأخبار. قدم المذيع فيها أشياء كثيرة، أشياء غريبة إلى درجة عالية، لم ير برونو عبرها إلا فاجعة تتلو فاجعة، هجومات ساحقة، هزائم ماحقة. كان الصحفي قد دار حول العالم بحثًا عن خبر يسلي القلب، ويبعث على الأمل، دون فائدة. عرض لبرونو ما صعق الناس بالناس، وجثث الناس، وما حرق الناس بالناس، وما كان من ذبائح ومشانق. لكن لا حقائق عرفتها دماء الناس، ولم يكن المذيع الأنيق يريد أن يعرفها برونو، لئلا يعدل عن أخذ النبيذ مع الدواء. وفي لحظة تردد تبعتها لحظة ارتياب قبل لحظة يأس، خرجت يد الصحفي من الجهاز إلى علب الدواء، وأفرغتها في الكأس السحرية. وبعد ذلك، أفرغت الكأس في الجوف المرمرية، فابتسم برونو، وهو يشعر بذهاب أوجاعه، إلا أنه لم ير، في اليوم التالي، صعود القمر، لا بدرًا ولا مِحاقًا. نقل رجال دفن الموتى جثته في سيارتهم الرولز رويس البيضاء التي شقت طريقها بصعوبة في شوارع باريس الصاخبة كطفلة مغتصبة. وبين المتناهي واللامتناهي، انتهى الأمر بالناس إلى منعها من العبور، وهم يعيدون قتل جثث بعضهم البعض من أجل بعض التفاح.

باريس/ مارس 1987













الأطفال يتكلمون لغة واحدة
بين فصل وفصل، كنت أذهب إلى الحديقة العامة القريبة من منزلي في شامبينيي، كنت أريد الابتعاد قليلاً عن قلمي، ومن ألوان الأزهار وصيحات الأطفال اغتراف هدوء بعض لحظات ما قبل العودة إلى الكتابة عن مواضيع للرجال وعن صور للأزهار المحطمة. كانت الأمهات يجلسن على المقاعد، ويرصدن صغارهن. لم يكن يسمحن لهم بالركض من وراء طفولتهم، أو يحدن عنهم بالحديث بشكل أفضل عن شيطناتهم. كن يخترن ما يدغدغ أكثر ما يدغدغ أمومتهن، وكنت أبحث في عيني إحداهن عن كدر يغبطني، وفي تفاصيل شخصها عن ممنوع جسدي أصل إليه في حلمي. هكذا لا أنضني، وأنا ألهث من وراء لغة تصلني بما أسعى إليه من صور، تصلني بالصورة التي كنت أظن نفسي قادرًا على الابتكار، أو تجعلني قادرًا على الانكسار، العذاب، الانصهار، ثم الانهيار.
بين الصورة المحظورة والصورة المشروعة، كان أحمد الأسود، وماتيو، وبابلو، وماريلين، بيضاء الحديقة، يتكلمون بلغة واحدة، وهم يلعبون معًا. كانوا يضحكون من بعضهم البعض أو يغضبون... كانوا يصلون إلى بعضهم أو ينفصلون عن طريق تشكيل آخر للصورة الآتية من كلمة، جملة، ضحكة، أو صيحة. لم تكن ماريلين، بيضاء الحديقة، ترى إلا بابلو، من تلعب معه، وليس الآخر، من ستقتله رصاصة جندي في تشيلي عشرين سنة فيما بعد. أما بابلو، فلم يكن يرى إلا أحمد الأسود الصغير، من يعبث بالطين، وتاريخ أحمد، الممتد من البصرة إلى تطوان، في اللحظة التي كان فيها ماتيو يركض ليمسك أحمد بين الصخب والضحك والاحتجاج.
كنت أتابعهم بعينيّ في ربيع الألوان، والربيع يتحداهم إذا ما كبروا ألا يتركوه، فيتركهم إلى اجتماع الضدين. كان الربيع يعرف أن واحدًا اسمه جان-ماري، أقوى منه ومنهم، يختبئ في الورق، ويلعب بقصف الأغصان، بتدمير مخبأ كان لهم في النهار، وفي الليل للعنادل. كنت أعتقد أنني أرى جان-ماري في حلمي، لكنه كان هناك. كانت لحظة إخراج نفسي من تفاصيل جسد امرأة أنتظر من الممنوع فيها أن يكون على مرمى حجر من يدي، إلا أن لا الجسد ولا الكلمات الباحثة عن تحولها إلى صورة على أحسن وجه ممكن كانت تستطيع أن تمنع تدخل الرجل مدمر الورق في حلم الصغار القصير. كان يبتسم لهم مثل قمر بريء، ويناديهم، ليقولوا قولته، وليتباروا معه. وفي ظله الهائل، كان يغير الروح إلى احتقار، اللغة إلى اتهام، كان يغير الربيع الذي يتغير: براعم أكثر، ومطر أغزر، وريح أشد. لن يكون إلا ربيع غير ربيع، وستكون الصحراء دون نهاية أو الجليد.
تقدمت من جان-ماري الذي كنت أعرفه في الواقع، ونسيته. تجعلك صناعة الكلمات تنسيك ابنك، فما بالك الغريب؟ سألته لم كل هذا العبث المدمر؟ أجاب لألغي عن شفاههم اللغة المشتركة، ولا أسمح منها إلا للاختلاف المقيد بظلي. سألغي الطفولة الكاسرة للصورة، وعدم تباهي الزهر. قلت له سيتحدونك بألا يكبروا، لكنهم إذا كبروا في أجسادهم، فلن يسمحوا للطفولة الكاسرة لصورتك أن تغادر روحهم، لن يسمحوا للقمر أن يختطفها من مخالبهم، ولا للطائر العنيد أن يغدو الغير، سيتفقون على أن يشربوا الماء من نبعه، أن يأكلوا الثمر من غصنه، أن تبقى الفرنسية لغة صباهم، فكهولتهم، كما كانت لغة طفولتهم، لغتهم والعنادل... كان يرتعد من الغضب والرعب، وسقط قناع الحضارة عن وجهه كاشفًا عما كنت قد رأيت في حلمي، وجهَ بربريٍّ دميم. كنت غير قادر على رسم أقل صورة له، لكني كنت فرحًا لتحديد معالمه حين يقظتي. لم يبق لي إلا أن أعود سريعًا إلى قلمي، بعد أن استعدت من المجرم قوة الوصف.
ولكي يلغي الرجل المدمر تفاهم الصغار في صالح انتصار الوسيلة، ويمنع اللغة أن تغدو همًّا من همومهم اليومية الكثيرة في الضباب الحزين للضواحي، رمى أحمد الأسود في السجن، وقطع يد ماتيو، وقتل بابلو بعد عشرين سنة فيما بعد، وعهر ماريلين البيضاء ذات الأصل من لوس أنجلس. أضف إلى ذلك، محا الربيع من دورة الفصول، ووضع مكانه جهنم التي في فضاءاتها غالبًا ما كانت تعود صرخات ما بعد المعرفة، وما قبل مصرع البراءة.
سجلت في قصتي أن الرجل المدمر اسمه جان-ماري الفرنسي أو أوغستو التشيلي أو سعيد العربي... وغمرتني السعادة.

باريس مارس 1987





























لقاء الأصحاء في مستشفى هنري موندور
من حول سرير أفنان القاسم
تلك الليلة لن أناسها... كان الألم يبرق في جسدي، ويرعد، وكانت الصاعقة تدكني حتى أولى أضواء الفجر. بعد أن قطعت كل أمل في سكون العاصفة، أخذوني إلى مستشفى هنري موندور، الشهير بأطبائه النطاسيين وتجهيزاته الحديثة. كان المستشفى إذن مهمًا، وأهلي حريصين كبير الحرص على صحتي. سألني الطبيب أسئلة كثيرة، ليبدي لي مهارته، ويعبر أحسن ما يكون عن ضميره المهني، ليمسك بالداء، ويجد الدواء. في الأخير، قال لي إنه (( عرق النَّسا )).
- ما يسببه لك من ألم يبدأ من ظهرك، ويغوص في ساقك اليسرى حتى أصابع قدمك. سنبقيك عدة أيام.
في الغرفة رقم ألف وواحد، كان مكاني يوجد بين سريرين آخرين. إلى يميني، كان فرنسي هرم تدعوه الممرضة بمسيو روسو، وإلى يساري، جزائري عمره من عمري اسمه عزيز. ما أن بدأت بأخذ المسكنات حتى شعرت بالتحسن، ورغبت في مغادرة المستشفى في الحال، إلا أن ما أولانيه الطبيب من اهتمام كبير جعلني أتبع تعليماته كلها على الرغم مني: عملت راديو وتحاليل، وأخذت حبوبًا في اليوم أربع مرات. بعد مضي ثلاثة أيام، كنت قد عدت إلى جودة وضعي الصحي. لم يعد برق الألم ورعده سوى ذكرى من الذكريات الرديئة، ورغمًا عن ذلك، ركب الطبيب رأسه عازمًا على ضربي بإبرة في نخاعي الشوكي، وقضى بذلك بعد عدة أيام.
خلال ذلك الوقت، توصلت إلى معرفة النزيلين اللذين كانا معي في نفس الغرفة بشكل أفضل. لم يعد مسيو روسو ينهض في الليل صارخًا: اقصفوهم! اقتلوهم! كان يبدو في صحة جيدة، تمامًا مثلي، ومثل عزيز. كانت قد سقطت على يد عزيز قطعة حديد في الورشة التي يعمل فيها، فبقيت أصابعه مشلولة. وكان عزيز يبقى في الممرات في ذهاب وإياب أو في غرف المرضى الآخرين، كان يمضي وقته في التنقل من غرفة إلى غرفة حتى ساعة الزيارات، فيعود إلى سريره، ويتمارض. عندما يغادر أهله، كان ينهض، ويأتي معي إلى الكافتيريا لنأخذ قهوة.
عاد مسيو روسو في الليل إلى الصراخ: اقصفوهم! اقتلوهم! ثم هدأ، فأعلمني عزيز أن مسيو روسو كان في شبابه ضابطًا على رأس كتيبة مدفعية في الجزائر، وكان قد دخل المستشفى تحت ذريعة عظمه الذي يتفتت، بينما عظمه بقوة عظم الجن! في الواقع، لم تكن زوج ابنه الأوحد تريده، فكان المستشفى أحسن حل بانتظار أن يجدوا له مكانًا في مأوى للعجزة.
- ولماذا يصرخ الآن في الليل، هل صار مجنونًا؟
- لقد صيروه مجنونًا.
- لقد صيروه مجنونًا!
- إنه دواؤهم.
- ماذا؟!
- إنه دواؤهم الذي يفعل هذا!
ضحكت في سري على عزيز: أهو الدواء أم ماضيه البعيد الذي يدك له الروح كالبرق المفاجئ؟ في الليلة التالية، صرخ مسيو روسو صراخًا حادًّا مديدًا، وقال: اقصفوهم! اقتلوهم! فغرزت الممرضة في جسده إبرًا شتى جعلته ينام إلى ما قبل منتصف الظهر بقليل. عندما نهض، كان يأسن، فهرع عزيز لينادي الممرضة، وهو يزجر مسيو روسو، ويرغي ويزبد.
عند ساعة الزيارات، تظاهر عزيز بالمرض. توارى في أعماق سريره، حتى أنني سمعته يئن. كان يهيئ نفسه لاستقبال عائلته، وبالمقابل، منذ وصولي المستشفى لم يزر مسيو روسو أحد، لا ولده الأوحد، ولا زوج ولده الأوحد، ولا أحد. اقترب مني في اللحظة التي غادر فيها زوار عزيز مع عزيز الغرفة، وأخبرني بصوت متهدج أن ابنه الكادر العالي في مصنع سيارات كان سيأتي ليراه، وعبر عن قلقه فيما يخصه. بدا لي كنخلة جفت على رمل الجزائر، ترفض الأمواج نقلها مع فضتها. ثم سمعته يتأوه ألمًا كما لو كان البرق يدقه في أعمق نقطة من نفسه:
- لا بد أن ولدي بقي إلى جانب زوجه التي عملت حادثًا، تحطمت سيارتها تمامًا، وقُتلت الصغيرة آن، أما هي، فقد خرجت من الحادث نصف مشلولة. آه، أية مصيبة! آه، أية مصيبة!
رأيت دمعة تضيع في ثلم خده، بينما كان يردد: آه، أية مصيبة! آه، أية مصيبة! تركني، ورمى بنفسه على السرير. ثم انطوى على نفسه كطفل في الثالثة، وظننت سماعي له يبكي.
قبل انتهاء الزيارات بقليل، وصل ابن مسيو روسو. انبثق من الضوء الأصفر للممر كشبح يحاول الابتسام، وعبر من أمامي كغيمة من السائل المعقم. كان مسيو روسو يشع من الفرح كما لو كان هو نفسه الابن لولده. أكل حلوى وشكولاطه، وارتدى الروب دي شامبر الحريري العتيق الذي اهترأ دون أن يُضيع مع ذلك أبهته العسكرية، ورافق ابنه. بعد حوالي عشر دقائق، عاد مع ممرضة وضعته في السرير، وذهب مسيو روسو نائمًا دون أن يأخذ العشاء معنا.
في صباح اليوم التالي، استيقظ مسيو روسو ملوثًا، فشتمه عزيز. دفعه إلى الحمام، وأمره بالاغتسال. نظفت الممرضة سريره، وشتمته هي الأخرى، وهي تطلق صيحات الاستنكار تارة، وتارة صيحات الاستهزاء. في المساء، عندما ذهب عزيز ليرافق زائريه إلى باب الخروج، اقترب مسيو روسو من سريري. كان غاضبًا، نخلة تتوق إلى الفضة في بحر الجزائر. قال لي إن عزيزًا هذا بلا حياء، وإنه يحقد عليه. ووكل إليّ أنه في ليلة قبل وصولي، زلق بنفسه في سريره، لكنه دفعه دون لين، وأخذ يصيح بالممرضة: اقصفوهم! واقتلوهم! وحسب ما قال لي إن المدفع الذي كان جنوده يستعملونه سيدمر عزيزًا ذات يوم. سينتقمون له، وسينتقمون لابنه الأوحد ولزوجته المشلولة وللصغيرة آن التي كانت هذه الأخيرة قد قتلتها. حاولت تهدئته، لكنه لم يطعني. في تلك الليلة، بحثوا عنه في كل مكان إلى أن وجدوه في غرفة الموتى، وهو يأسن في نومه، وأمضى باقي الليل صارخًا: اقصفوهم! اقتلوهم! فأتوه بشتى أنواع الإبر التي زرعوها في جسده، ولم ينم عزيز إلا بفضل قرص منوم.
لم ينهض مسيو روسو في صباح اليوم التالي، فنادوا على الطبيب الذي أثبت وفاته.
لم يبق سوانا، أنا وعزيز، في الغرفة، إلى أن جاءوا بشاب أجمل من قمر وأقوى من إله. كان عزيز سعيدًا لأن الطبيب سينقذ يده من الشلل عما قريب، لم يكن يعرف بعد أنه سيزرع له إبرًا في منبت الأعصاب، فرأيت بعينيّ، عبر عزيز، ما سيفعلونه فيّ، ودقني برق الرعب. أردت الهرب كمسيو روسو، فأنا استعدت صحتي، وذهب عني الألم تمامًا. أما عزيز، فبعد الإبرة، بقي لا يمكنه تحريك أصابعه، وامتد الشلل إلى ساعده، إلا أن الطبيب شجعه، وقال له:
- إبرة أخرى، وستبرأ.
عرفت اليد الثانية المصير نفسه لليد الأولى، بسبب خطأ في تحديد موضع العصب، وكان من أثر الإبرة الثالثة شلل ساعده الأخرى. ثم تركوا عزيزًا الذي بقي ملقى في سريره دون حراك، وانقطع أهله عن زيارته.
عندما جاء دوري، أخذت بالصراخ: اقصفوهم! واقتلوهم! فخدروني، وقلبوني على بطني، وغرزوا في نخاعي الشوكي الإبرة المهلكة. عادت كل صواعق آلامي الأولى، وتكرر ضرب الإبرة، وصحتي راحت تتدهور. كانت تسوء أكثر فأكثر مع كل إبرة جديدة. وضعوني في قفص من الجبس، وجعلوني أخرج من المستشفى نهائيًا.
في قصة كنت قد قرأتها منذ زمن بعيد، كان طائر يبدي رفضه للموت بضرب جناحيه في قضبان القفص دون توقف... لكنني أنا، كنت مقطوع الجناحين.

باريس/ مارس 1987


























الحزب والموسيقى
في كل صباح، يوم كنت حزبيَّا شابًّا في لبنان، كنت أستمع إلى موزارت، كان السكر في قهوتي السوداء الروحية. عند الظهيرة، كنت أستمع إلى باخ، كان الملح في حَلوتي الشقراء الروحية. في المساء، كنت أستمع إلى عبد الحليم وأم كلثوم وعبد الوهاب، كانوا الغرام والانتقام في كؤوس نبيذي الصهباء الروحية. في كل وقت، كنت أستمع إلى فيروز، كانت الجبل الأبيض الذي كنت أعانق فيه الحياة والحرية... ثم مضت الأيام، وغدوت عضوًا قياديًّا في الحزب ذا أهمية. كنت أمارس شكلاً من الخطاب المصاحب للكمان، فتعلقت بنظرة الفنان التي لي عيون القاعدة. أطربتها الموسيقى والكلمات، ولم تفرق بين الكلمات والطلقات، في اللحظة الحاسمة. غدت المجزرة دون حاجة إلى أمر من أحد، فالقتل كان لحنًا، والأنغام كانت تقول:

لتقتل ولتستمع إلى الموسيقى!
أو
لتستمع إلى الموسيقى ولتكن قتيلا!
أو
لنستمع إلى الموسيقى ولنكن قتلى!

في الحالة الأولى قتلت لبنان!
في الحالة الثانية قتلك لبنان!
في الحالة الثالثة قتلتنا فيروز!

وأنا أتمشى على ضفاف نهر السين، يوم كنت حزبيًّا ليبراليّ النزعة في فرنسا، كنت أنظر إلى أمواجه الخضراء الصفراء، وأرى سمكًا أسود أزرق. خلال ذلك، تقدم مركب، على متنه فتاة عاجية عارية، وهي تعزف على كمانها لحنًا مأساويًّا، فأخرجت مسدسي من القِراب، وقتلتها.
عندما خرجت من السجن بوصفي حزبيًّا اشتراكيًّا- ديمقراطيًّا في ألمانيا، وغدوت وزيرًا شعبيًّا، أمرت بعيد وطني في يوم تعزف فيه طوال الليل الموسيقى السوداء الإفريقية، وترقص عليها الفتيات والفتيان بوحشية بدائية.
في تلك الليلة، لم تعد ابنتي إلى البيت، فأمرت، في اليوم التالي، برميها في السجن، لكن رئيس الشرطة جاء ليقول لي إنها انتحرت.
بعدما استمعنا، أنا ورئيس الشرطة، إلى باخ، تحت ضوء القمر الأغر الغبيّ في الحديقة، اعترف لي بأن ابنتي انتحرت لأنه اغتصبها، فنهضت، وقتلته. ثم... أصدرت مرسومًا بتخفيض ثمن الأسطوانات لأجل شبيبة الحزب.

باريس أكتوبر 1987




السيدة التي لم تقرأ الجريدة
أكتب إليك، يا مبدعة النزف، على صفحات الجريدة، لعل رسالتي تصل إليك، فتقرأينها، لتعودي إليّ، بعد عشرين عامًا دون قمر فضيّ. كنتِ قد ذهبتِ على مركب أبحر، فانطبق البحر على الجبل، ولم أعد أجدك إلا في عناق المكان مع المكان. كنتِ هنا، وكنتِ هناك، لكنك لم تكوني هنا، ولم تكوني هناك. لم أكن أجدك إلا في الرؤيا، والرؤيا في المطلق، فعذبتِني عذاب طير دق البرقُ جناحَهُ، وجناحَهُ الآخرُ الحجر. لزمت الفراش مريضًا بحبك، وأنا أسعى إليك في الخيال، والخيال ليل أبيض.
أتذكرين بداية حبنا؟ لم أكن أعرف أني أحبك أنت، لم تكوني تعرفين أنك تحبين غيري. كان الوهم أقوى منا. كنتُ قد صددتك بعنف الولادة الشديدة، فالأخرى التي كنتُ واهمًا أني أحب الحمام الأسود في شعرها قد دفعتني إلى رفض النمرة في جسدك. كانت آلهتي، في ذلك الوقت البعيد، تعدني بتماثيل الغبار، وكنت قبل غرامك أخشى مرور الجمر على جسدي. كنت من اللوز مصنوعًا، وشبابي الأول من الورد والسكر. كنتِ قد حاصرتِني لتنقذيني من ورطة الحب النقيّ، وقد رميتِني بحرير أصابعك عندما تركتُها تحرق أصابعي المترددة... أكان الحرير أم نار الحرير؟ كنتِ قد أحرقتِني بنار نهدك عندما تركتُه يعبث بخاصرتي المنكسرة خلال لحظة خاطفة... أكانت النار أم حرير النار؟ كنتِ قد امتددتِ على جسدي، وأنت تختطفينني من ذل الحمام، وقد ألقيتِ بي بين مخالب نسر العناق. لقد اشتهيتك قبل أن أحبك، ولقد أحببتك بعد أن اشتهيتك. ثم غدوتِ الرماد، فما ذوى مني هوى، وما غدوتُ هواك. كنتِ قد منعتِ عني جسدك في سخاء عريه الفاطر، ولم تسمحي لي إلا بصورة جسد قاتل الجمال، صورة كانت تجيء روحي في كل لحظة، وهي تبحث عن قتلي، فأتركني قتيلاً بين يديك. عند ذلك، كانت تأخذني يداك القاسيتان مثل عطر، المدمرتان مثل قمر، وكنت تتحولين إلى فتاة خجلى تتعرى. هذا نهدك أمر عليه، وهذا خصرك أحرق فيه، وهذا وَرِكُك أنهض به، وهذا فخذك أكوّن منه. كانت يداك ترقان مثل ورد الضوء، وأنا آخذ فمك بفمي، فأطبق عليه برعب طفل يطبق على جمرة عنب أحمر بين أسنانه، وأذوق لسعة نار العنب، وأنت، كُلُّكِ في حضني جسد عبقريّ، أحتويك عاجًا ينطق، وأنهارًا تخون، وبرتقالاً لا يتأوه، فأطأ بقدمي عتبة الجنة أم أنها لحظة الدخول إلى الجحيم؟ فاللذات التي يهرقها عناقنا كانت من عسل وجمر وعقرب وهدم وخراب، وكنت أخشى خروجك من الصورة، أخشى خروجك من الحلم، أخشى خروج الصورة من الحلم. كنت أريده طويلاً أبديًّا، وكنت أريده مدمرًا بينما أنت فيّ بناء، فتشهدين على أني بقيت لك وفيًّا... ولكن أين أنت؟ يا أنت الضائعة في الزمن الضائع! ضيعتُ العمر انتظارًا لمركب يعود، ثم ضيعتُ النظر بحثًا عن مركب لا يعود. وبعد عشرين عامًا، وجدتك: شعرك الخروبيّ، لونك الصهبيّ، عيناك اللتان بلون العسل الرماديّ، ابتسامتك، نظرتك، قوامك... كنتِ أنت، ولم تكوني أنت. وأنا أريح نفسي على نهديها، كانت نفسي تشتاق دومًا إلى نهديك، إلى بطنك، إلى سرتك، إلى شلالك. وجدتك فيها، لكني لم أجدها فيك. إلى أن كان يوم تحطم فيه المركب، فقد قرأت رسائل منك إليها، كنتِ أمها، وكانت ابنتي. اشتريتُ سمًا من صيدلية وضعته في حلواها المفضلة، الألف ورقة، وقتلتها. حاولت الانتحار دون أن أستطيع تحرير حلمي منك. منعتني صورتك، وأصرت على أن أواصل خدري، وها أنا أفقد رغبتي في كل النساء، وأموت موتًا بطيئًا. هل ستقرأين هذه الكلمات لتعودي إليّ، لنموت معًا، ونخلع عن الموت معنى العدم؟

بعد نشر هذه القصة، جاء رجال الشرطة عند الكاتب، وألقوا القبض عليه.

باريس أكتوبر 1987


























الرسامة الصغيرة
لم يكن يقلقني، في البداية، وقوف ابنتي الطويل على النافذة. كانت ترسم ما يجري عند الجيران، وكنت أقول تعلقها بالرسم أمر جيد سيساعد على نضجها النفسي، ويعمق لديها حدة الذهن وحب الاطلاع. وعدتها، عندما تكبر، أن أسجلها في معهد الفنون الجميلة، لتغدو بيكاسو آخر أو سوريكوف جديد.
إلا أن قلقي بدأ بالتفاقم حين داومت ابنتي على رسم ما كان يجري في الشقة المقابلة ليل نهار، فأعلمتها أن من العيب النفاذ إلى خفايا الغير، وأنها تنفق جهدًا أكبر مما تستطيع عليه. لم تعد تأكل معنا، مفضلة قضم تفاحة، والريشة بيدها، ونظرتها المدارة نحو الجيران، المتواصلة والثابتة، تخترق الفضاء والجدران والأجساد. لاحظت استهلاكها الكبير للون الأحمر القاني واللون الأصهب، وكانت تطلب مني أن أشتري لها منهما أنابيب جديدة دون انقطاع.
منذ ذلك الوقت، كنت في تنبه دائم، بينما كانت تمزق دماها، وتقطعها، وتضربها بالأرض. عندما كنت أسألها عن سبب ذلك، كانت تتعلق على عنقي، وتبكي. ثم كانت تبتسم لي، وتذهب لتنام أو ربما لئلا تنام. بدا لها شكل امرأة، مع أنها لم تبلغ العاشرة. غدت بشعة، وأخذت تصطحب معها إلى البيت أولادًا وبناتٍ أكبر منها سنًا. كانوا يشبهون الدمى المتحركة، وكانوا يبقون في غرفتها، وهم ينظرون إلى ما رسمت، ويعلقون هامسين همسًا منتشيًا، بينما تبدو على محياهم سمات المعذب المنتقم.
كنت أحاول من ناحيتي أن أرى رسوم ابنتي، لكنها خبأتها عني. وفي إحدى الليالي، نهضت عليها، وهي تمزق ثيابها، وتقطعها، وتحرقها في الفرن. لم تتعلق على عنقي، هذه المرة، عندما سألتها عن سبب ذلك، لم تبك، لم تبتسم، وذهبت لتنام أو ربما لئلا تنام. خلال وجودها في المدرسة، بحثت عن رسومها في كل مكان دون أن أجدها، ووجدت مزيدًا من أنابيب اللون الأحمر القاني، مزيدًا من أنابيب اللون الأصهب، وتحت مخدتها سكينًا.
في الليلة التالية، سمعتها تضرب زجاج النافذة بسكينها حتى كسرته. خرجت لأراها فزعًا، فوجدتها تعوم في مستنقع من الدم. كان الدم يسيل من قبضتها إلى الرسوم، إلى الأرض. رفعت السكين باتجاهي، وهي تريد تشخيص ما داومت على رسمه الساعات الطوال. نظرت إلى الرسوم التي تدوسها بذهول، وتناولتها واحدًا واحدًا، وأنا أرى جثث جيراننا الذين أعرفهم تمام المعرفة مقطعة ممزقة، جثثهم هم وأطفالهم. اندفعت صوبها لأنزع السكين من يدها، لكنها كانت أسرع مني. غرزت النصل في قلبي، فهويت قتيلاً. أخذت ابنتي بتقطيعي عضوًا عضوًا، وأنا أبذل ابتسامتي الأخيرة. في الصباح، بعد ذهاب ابنتي إلى المدرسة، وصلت الخادمة، فغسلت الأرض الملوثة بدمي، ووضعت أعضائي في كيس بلاستيك رمته في القمامة.

باريس أكتوبر 1987





العاملة التي أحبت الكاتب
- ما اسمك؟
- روز–ماري.
- روز–ماري كيف؟
- روز–ماري.
- تريدين أن أكتب عنك قصة؟
- أريد.
- لماذا؟
- لأني أحبك.
- لأنك تحبينني؟
- لأني أحبك. أنت كاتبي المفضل.
- حبك لا يكفي.
- عفوك؟
- كي أكتب عنك قصة، الحب من طرف واحد لا يكفي.
- لأني عاملة، وأنت كاتب ثوري.
- سأفكر في المسألة.
- فكر في المسألة وفي حبي.
- لكني لا أحبك، يا روز–ماري، وأحبك.
- تحب العاملة فيّ؟
- أحبها.
- حبها يكفي.
- أتظنين ذلك؟
- هكذا أفهم الحب.
- حبها يكفيها هي، ولا يكفيك.
- هي أنا، وأنا أحبك.
- سأكتب عن حبي لها.
سحبتني من يدي لنتفرج على الفترينات، اشترت حذاء وشالاً وكلسات، ودخلت مقهى لتلعب (( اللوطو ))، وتشرب (( الريكار ))، ثم عرجت على محلات (( دارتي )) لتشتري بالتقسيط غسالة للأواني، وتأوهت، وهي تلمس بأصابعها جهاز (( الفيديو ))، وقالت في المرة القادمة سيكون لها واحد مثله. في الأخير، دخلت وكالة للسياحة، وحجزت لاثنين إقامة في محطة تزلج على الجليد أدفعتني تكاليفها.
وبينما كان كلانا يتبرنز تحت شمس (( الألب ))، ويتنهد، ويتشهى، أخذت قلمي، وكتبت قصتي عن روز-ماري، العاملة العازمة الواقفة من وراء ماكينة جبارة. كانت تفلُّ الحديد، وتحوله إلى غسالات للأواني وثلاجات وفيديوهات. في المساء، كانت تمسح عرقها، وتعرق من جديد خلال الاجتماعات. طوال المظاهرة التي كان يشارك فيها مئات الآلاف من العمال، لم تتوقف روز- ماري عن إطلاق صرخات الاحتجاج، علم بيمينها، ولافتة بيسارها، وكانت تضرب في الموج دون خوف ولا ندم بعد أن اعتدت عليها كتيبة من تماسيح البوليس تريد الفتك بها. ألقيت قلمي، في الأخير، وأنا أزفر كغارق نجا من الموت بأعجوبة، فأخذت روز-ماري القصة، وقرأتها جملة جملة، وهي تطلق الضحكة تلو الضحكة.
نشرت القصة جريدة الحزب، وعلق عليها الناقد الأدبي، فأثنى. وتحت ذريعة احترام روح الحزب، وبدافع الموضوعية، افترش الأيديولوجية، وبها تغطى. غدوت تعسًا إلى حد المرض، بعد خيانة الكلمات لي، فقالت روز–ماري:
- تحب البورجوازية فيّ؟
- أحبها.
- حبها يكفي.
- أتظنين ذلك؟
- هكذا أفهم الحب.
- حبها يكفيها هي، ولا يكفيك.
- هي أنا، وأنا أحبك.
- سأكتب عن حبي لها.
وصفتها كإنسانة متحضرة. كانت تعمل، وكانت تحلم. كانت تصل إلى حلمها بالتقسيط، عن طريق ألعاب اليانصيب، ونصب شرك لكاتب على شاكلتي. وكانت تتقن اختيار العطر في المساء، وعلى الفراش تثبت أنها أنثى. ومثل المرة الماضية، أطلقت روز–ماري الضحكة تلو الضحكة، وهي تقرأ القصة جملة جملة. نشرتها أكثر من جريدة ليبرالية، وعلّق عليها الناقد الأدبي، فأثنى. وتحت ذريعة الترويج لضد-التعصبية، وبدافع الموضوعية، هرس الأيديولوجية، وبها تخبص: الفن للفن، والإنسانية عصفور أحمق، والخلود لي والعبقرية! غدوت تعسًا إلى حد المرض، أكثر تعاسة من المرة الماضية، وأكثر مرضًا، بعد خيانتنا، أنا والكلمات، لي، فقطعت صلتي بروز–ماري.
لم أعد أكتب، لم أعد أحلم، لم أعد أحب. وجدتني وحدي ألهث من وراء التعاسة في عالم الطغاة المجرمين. لم تكن الكلمة تنقذ، لم تكن الصورة تخلق، لم تكن القيم الأخلاقية تعيق زحف التماسيح. رأيتني مضطرًا إلى البحث عن مخرج تحت ضوء قنديل في الأزقة الضيقة، المعقدة، المتشابكة للحي اللاتيني. لمحت ظلاً أصفر في ضوء أسود ينشر العطر الرخيص، ومن الظل انبثقت روز-ماري بشعة، حلوة، أحلى أبشع عاهرة رأيتها في حياتي. أرادت الهرب مني لما عرفتني، فأمسكت بها، وتعلقت بها، فجعلتني أعتمد عليها، وانتقلت بي من ضوء أسود إلى ضوء أسود إلى أن تركنا العالم من ورائنا. كانت حجرتها مبعثرة، تشبه سفينة طافحة برائحة خبيثة للعناق الخسيس، رحت أسحب منها إلى رئتي بعنفِ برقٍ يدق الصخر، ويفلقه. خلعت سروالها القصير الدموي اللون الأحمق، ووقفت على مقربة مني، وهي تبكي. ضمتني، وتفجرت بالدمع، وهي تشهق، وتزفر، والبركان الصامت منذ أن أغلقت المصانع في وجه روز-ماري أبوابها قد أخذ يطلق الحمم والعصافير. راحت العصافير تحلق، وتضيء، والدم في عروقي يغلي، ويقاوم، ويدمر. كل قوة الدمار هذه التي كانتها روز–ماري بين ذراعيّ أخذت تبني أول كلمة مجبولة بالدم السائل في قلم آدم القرن الحادي والعشرين.

باريس أكتوبر 1987



شمس مراكش تحرق الأصابع
- أي الفنادق أقرب إلى قلب مراكش؟
- فندق التازي الكبير.
أجابني الشرطي، وهو يلقي رغم ذلك نظره على نادي البحر الأبيض المتوسط المزدحم بالسائحين. كانت الشمس تغيب عن مراكش، وريح الجنوب تجيء بالرمل والمطر من حين لحين، والأطلس الكبير، في ثوب من الثلج الدائم، يرنو إلينا في مدينة العجائب.
- مدينة العجائب؟
- شهرزاد مضت من هنا.
أجابني عبد القادر، وهو يلقي رغم ذلك نظره على قبور السعديين المزدحمة بالسائحين. كان رجلاً نصف مجنون، ومراكش في عينيه تبدو المدينة الأكثر عقلانية. كان يقول لي: يكشف الموتى عن مجدهم في القبور!
أيعقل قول إن الموتى يكشفون عن مجدهم في القبور؟
كان أول من أدخلني (( ساحة جامع الفنا ))، ساحة البعث والنشور! كانت زوجتي إلى جانبي مندهشة، منذهلة، منجرفة مع حركة التعارض التي تجرف الساحة، وكانت تبتسم كطفلة ضائعة أمام عالم كان عليها اكتشافه. كانت تكبر مع كل خطوة تخطوها، دونما نهاية، والطبول قريبة وبعيدة، والحلقات صغيرة وكبيرة، والصرخات دقيقة وعميقة، وكان الراقصون يختزلون التاريخ في لحظة من عمر الإنسان زائلة.
من بعيد، نظرت إلى الساحة التي يجتاحها الليل شيئًا فشيئًا. كانت أضواؤها كالشموع المعلقة في الفراغ، ومنارة جامع الكُتُبِيَّة بحجرها الأحمر، المتعالية، المستفزة، تنظر معي، منذ مئات الأعوام، إلى المدينة القديمة، وهي تنغلق على نفسها بعد اكتمال النهار. بعد ذلك، رحنا نتجول في أزقتها التي لا تنتهي، وعبد القادر يقول لي: مهما تقدمت لن تقترب أبدًا من قلب مراكش، يبقى الأمر في حالة الأمنية الصالحة!
أيعقل قول إن الأمر يبقى في حالة الأمنية الصالحة؟
ومضت الأيام...
اعتدنا حجر المدينة الأحمر وأهلها وأكلها وبوابات أسوارها وصفوف دراجاتها الطويلة، ولم نتمرد مرة واحدة، ونحن نجد أنفسنا فيها، فتمردت علينا تاركتنا، ولم نفعل سوى أن نتبع سرابها.
- لا تلهث!
قال لي عبد القادر، وألقى بنظرة مجنونة على ما حوله قبل أن يحكي:
- في الليلة الماضية، استيقظنا على عويل أطفال في قماطهم تركتهم أمهاتهم في الزقاق. وما قبل الليلة الماضية، ضربت امرأة بطنها بحجر حتى سقط مخلوق بشع مهشم من بين فخذيها. ومنذ عدة ليالٍ، ذبح رجل أطفاله، طفلاً طفلاً، ثم سلم نفسه إلى الشرطة. أمَّا في الغد...
توقف قليلاً، أبهمت عيناه الحادتان، وما لبث أن عاد إلى القول:
- أمَّا في الغد، فشاعر فقط سيقتل القمر!
أيعقل قول إن القمر سيقتله شاعر فقط في الغد؟
بعد عدة أيام، عرفت أن زوجه الحبلى بكم ما لست أدري من شهر قد دخلت المستشفى لتفقد فيه جنينها، وأن أمه قد ماتت لأن لم يكن دواء لديها، وأنه هو نفسه قد جند بوصفه متطوعًا.
- هناك على الأقل سآكل لأبتعد عن الموت!
اعترف لي عبد القادر، ولم ينس إضافة أنه مستعد للتضحية بنفسه من أجل الصحراء الغربية، فالواجب فوق كل شيء، والحرية هي الموت. لكني رأيته ذات يوم، وهو يجري بهيئة المعتوه الكامل. كان يقطع شارع محمد الخامس من (( جيليز )) إلى (( الكُتُبِيَّة ))، وكانت الشمس جهنمية، وهو يجري تحت سياطها، قادرًا على الجري والوصول. لم أره أبدًا بعدها، فأخذت أبحث عنه بين وجوه الناس الباحثة عن خبزها اليومي، في وجوه طلبتي، حسن ولابجاني وحسن الآخر والداهي والمبتسم، وابتسامة مراكش في الصيف نار من جهنم! مدينة النار كانت مراكش، كانت تذكرني بجبل النار القابع هناك تحت الاحتلال، الصامت كبركان سينطق بالكلام اللازم، في مدينتي الثانية.
- من الجدير تسميتها مدينة ألف نهار ونهار.
قال لي حسن، وذهنه الوقاد يحثه على مداراتي عندما أضاف:
- لكن حقيقتها تنجلي في الليل!
حكى لي قصة صديق له من أغادير، كان يقرأ الجريدة كل يوم، إلى أن نزلوا عنده، وأحرقوا كل كتبه، ذات ليلة. حدثني عن رجال ((الأواكس )) في الجامعة، رجال المخابرات، وعن العميد الذي يعتبر شتائمه للطلبة تهانيًا لهم. قال لي إنه كان يحلم بالذهاب إلى (( أوريكا ))، حلمي أنا الذي سيظل حلمًا.
- توجد الجنة هناك!
قال لي.
- هي دومًا هناك، يا صديقي.
أجبته.
سمعت أحد السائحين يقول لزوجته:
- خذي لي صورة وأنا في الجلابة.
وتطلق الزوجة ضحكة رنانة.
- خذي لي صورة وأنا في العربة.
وتطلق الزوجة ضحكة رنانة.
- خذي لي صورة ومراكش الحلم والخيال كلها من ورائي.
سارعت الخطو، ومراكش الجمر والرماد كلها من أمامي. كنت أبحث عن عبد القادر تحت شمس محرقة، ماحقة للذهب والعقل. وفي باريس، كانت وكالات السياحة تتعلل بفارغ الكلام: تعالوا وخذوا الشمس في عز الشتاء! تعالوا إلى مراكش! لم يكن هناك سوى فصل واحد في مراكش، فمراكش، ككل المدن، كانت تعرف كل الفصول، وخاصة صيفها الحارق.
كانت فطيمة العظيمة تشتم:
- تعالوا وخذوا قفاي!
بصقت دخان سيجارتها بغضب، ثم سحقتها بنعلها.
فطيمة الجميلة غاضبة!
فطيمة الغاضبة جميلة!
عندما كانت فطيمة تغضب تصبح جميلة مرتين!
- لست عاهرة!
قالت لي، وابتسمت عيناها الكاسفتان قبل أن تضيف:
- كنت طالبة، تزوجت من أستاذي، ثم طلقته عندما عرف فتاة أخرى. بعد ذلك، تزوجت من زميل، ثم طلقني عندما عرفت رجلاً آخر. لما كان الرجال يوقفون سياراتهم لم أكن أطلع في البداية، ثم بدأت أطلع مع من يعجبني. كنت أختار. وهكذا اخترت ما أنا فيه الآن. هذا العالم الأسود المفتض البكارة الذي يصدم ويحرق هو اختياري، أمَّا الأشياء النسائية الأخرى، فهي من اختراع الرجل، كلها ليست حقيقية.
- لكنني لم أخترك، يا فطيمة، ولن أختارك.
- هذا لأن عبد القادر وحده المجنون.
أيعقل قول إن وحده عبد القادر هو المجنون؟ وإن وحده قاتل القمر هو الشاعر؟ وإن وحده المطارد برجال (( الأواكس )) هو المناضل؟ وإن وحده من يقبل فطيمة من خدها هو الشهيد؟ كانت كل هذه الأسئلة تدور في رأسي، وأنا أضرب في شوارع مراكش، من شارعها السعيد في (( جيليز )) إلى زقاقها التعيس في المدينة القديمة. ألقيت نظرة نحو الشمس الفاتكة التي لا تتمكن رغم ذلك من إذابة الثلج على قمة الأطلس الكبير، والأطلس الكبير يرنو إلى مراكش مذ كانت... عاليًا، عنيدًا، هائلاً.
أعادني صوت زوجتي إليّ:
- علينا أن نغادر مراكش.
لم تكن المفاجأة الأولى.
- لماذا نغادر مراكش التي نحبها كمحكمة؟
- لأن حسابنا في البنك يكون بلا رصيد مع بداية كل شهر بعد أن غمطوك حقك.
- إلى أين تريدين الذهاب عندما نغادر مراكش التي تحبنا كعقاب؟
- إلى بلدك.
- وأين هي بلدي؟
- فرنسا بلدك، وباريس مدينتك، ألست فرنسيّ الجنسية؟
لم تكن المفاجأة الثانية.
كنت أضيع بين بلدين، الذي كنت أوجد فيه، والذي كان يوجد فيّ، فأخذت أهرب من أمام السائحين وآلات التصوير والأشياء التقليدية، أقطع شارع محمد الخامس، من (( الكُتُبِيَّة )) إلى (( جيليز ))، ثم خارج جيليز، خارج المدينة، خارج القانون. كانت الشمس جهنم، وأنا أجري تحت سياطها، غير قادر على الوصول أبدًا.

5 أكتوبر 1984





بركات
تذكرني به نخلة مقتلعة، أو مارد محترق، أو حجر أحمر يبني قصرًا متهدمًا في مراكش. كان بركات ينهض من التهدم منكسرًا، يكسر ألف نخلة، ويمضي، يحرق ألف مارد في زمن أتى، أو أنه سيأتي، ويمحو اللون بعد أن يوغل في الحجر. كيف أصف لقائي الأول معه؟ كأنني انتهيت من قراءة كتاب أو أنني بدأت القراءة. كنا نعرف بعضنا معرفة السطور للسطور في رواية تعرض للغربة الروحية وقصد صاحبها الغرابة، وغدونا نعرف بعضنا معرفة الصور للصور في ذاكرة المرايا الغائبة.
كنتَ كثير المعرفة، وانتصرتَ لفلسفتك. لم تكن تعذبك الحياة، عذبتك الحمائم، وطفلك حاتم، وماضٍ نصفه في مصر، ونصفه الآخر في الجزائر. كان الاتفاق حولك أنك العاشق الخالد، وحول ابتسامتك أنها مجاز الساخر. طلابك أبطالك الذاهبون إلى الانتصار، وأنت تترصد الهزيمة القادمة.
كنت تقول لي:
- أضعت كل شيء. أبدأ الآن من الشعر الجاهلي.
وكنت تبتسم، ثم كنت تقول لي:
- هل سأنتهي في مراكش؟
كنت أقول لك:
- تحب مراكش.
- أحبها.
وبعد صمت قليل، كنت تبتسم من جديد، ثم كنت تقول لي:
- أحب مراكش، ومراكش لا تحبني.
كانت ابتسامتك تتسع، وكنت تضيف:
- هو طريقي الفاجع منذ مغادرتي الخليل. أحببت مصر، ومصر لم تحبني. أحببت دمشق، ودمشق لم تحبني. أحببت بيروت، وبيروت لم تحبني. أحببت الجزائر، والجزائر لم تحبني. أما الخليل...
كنت تسكت قبل أن تضيف:
- لم أحب الخليل، والخليل أحبتني.
كنت أقول لك:
- كنت صغيرًا.
لم تبتسم هذه المرة، قلت، وأنت تغضب مني:
- كنت صغيرًا، واليوم أصبحت كبيرًا.
ثم ابتسمت، لكنني ظننت أنك كنت تبكي.
أذكر مشاويرنا الطويلة في الغروب، كنَّا نترك مراكش من ورائنا لنذهب إلى الشعر، وإلى السياسة، وإلى الخبز. كنا نحب مديح الظل، وكنا نعجب بجرير، والمتنبي. أحببت أنا كل الشعراء، وكرهت أنت كل الساسة، فقد ظلمتك السياسة، لأنك جعلت منها فصلاً في علم الأخلاق.
كنت تقول لي:
- كنت واحدًا كثير النزاهة.
وكنت أقول لك:
- لم يكن يمكنك إلا أن تكون واحدًا كثير النزاهة، كبير المثالية، لم يكن يمكنك إلا أن تكون نفسك في السياسة، السياسة كما تراها أنت، وهذا ما كان دومًا خطأ العالم الحر والفيلسوف الشقيّ.
وكنت تحتج:
- أنت أيضًا تعارضني؟ أنت الآن إلى جانبهم ضدي؟
- هناك سياسة وسياسة، لكن في عصرك لم يكونوا يريدون أن يروا إلا سياسة واحدة، أو على الأقل لم يكونوا يريدون أن يروا إلا التماثل بين سياسة وسياسة، فكنت أنت الضحية، وكانوا هم الجلادين.
- وأنت أيضًا، الروائي، أنت الضحية.
- لأنني أرى التباين بين سياسة وسياسة، بين رواية ورواية.
ابتسمتُ في مكانك، وسألتك:
- هل ستغادر مراكش؟
- سنغادرها، أنا وأنت. لن أترك هؤلاء البيروقراطيين والجهلة يحيلون عن أنفسهم كل ذنوبهم على ظهرك، وكل العقد التي تكلم عنها العلماء النفسيون. أنت فنان، وإنسان حساس، وأعصابك تلفانة.
- وإلى أين سنذهب؟
عندئذ، ابتسمت، ونظرت إلى الشمس. بعد قليل، تكلمت عن حبيبتك. سمعتك تقول فجأة إنك ستذهب إلى السعودية، بالطبع إذا ما قبلتك السعودية. وغضبت مني، فلم يكن بإمكاني اللحاق بك بعد آخر خطوة لي في الطريق المغربي الطويل.
في اليوم التالي، ونحن في مقهى (( النهضة ))، ونحن ننظر إلى الشمس والفتيات الجالسات هناك، قلت لي:
- شهرزاد لم تمت.
- الآن تعرف هذا؟
- أحب الشمس والنساء في مراكش، أحب زوجتي أكثر، وأنا، لهذا، لن أتركها.
شربت أنا قهوة، أنت (( سفن أب ))، وكنتَ سعيدًا كأنك تشرب نبيذًا. كنتُ أنا أيضًا سعيدًا لأنك كنتَ سعيدًا، أفكر في الشمس مثلك، وأفكر في الضباب مثلي، وفي رحلة أخرى ستبدأ في الشتاء.
- هل سنفترق إذن؟
- ولكنك ستبقى، هذا البلد أسطوري!
لم نر بعضنا خلال عدة أيام، ثم أتيتني في البيت على غير موعد. كانت لحيتك سوداء، فظننتك مريضًا. رميت بنفسك على كرسي، ورميت كلماتك في وجهي:
- أنا شهادة عظيمة، وكرسي جامعي كبير، وماضٍ سياسيٌّ عريق، وليس في جيبي ثمن دواء لابني المريض! هذا البلد المفلس يطاردني ككلب، يعمل كل ما بوسعه لطردي. لهذا سأذهب. لا تتفاجأ! الحياة في السعودية ليست أهون مما هي عليه هنا، لكني هناك سأحل على الأقل مشاكلي المادية. سأصبح غنيًّا، سأصبح غبيًّا، سأسمن، سأكبر، ستتكسر أسناني، سيتحطم ظهري، سيجف مخي، سأصبح حيوانًا ككل الحيوانات الأخرى الجبانة التي تحيا بعدما نسيت أنها لا تحيا، ثم... سأموت.

19 نوفمبر 1984


الحجر
منذ طلع القمر بدرًا أخضر وأزرق في السماء السوداء، ثم سقط في غياب وضح الليل ذي الألوان، وأبراهام لم يعد ينام. ابيضت السماء في الليل المنسحب فوق مراكب غزة المحملة بالنجوم، وأخذ أبراهام ينتظر شراع قمره الذي خفق مرة واحدة في حياته، أخضر وأزرق، كما كان يشتهيه قلبه. وعلى الرغم من أن الممرضة قد أعطته حبة منوم، في تلك الليلة، لم ينم كما لم ينم في الليلة السابقة، وفي كل الليالي الأخرى، منذ طلع القمر بدرًا، أخضر وأزرق، في السماء السوداء، ثم سقط في غياب وضح الليل ذي الألوان. دعاه أطباء مستشفى الأمراض العقلية بمجنون القمر، وبحثوا عن علاج يعيد للقمر الفضة في عينيه، وعن نظرية تفسر الاختلال من احتلال الألوان للألوان. لم يجدوا، على الرغم من كل ما بذلوا، فقرروا الإفراج عنه... إلى أين يمكنه الذهاب، والليل أبيض، والبحر أسود، والمحار يعض المحار؟ اتجه نحو الرمل، وجلس متوحدًا، وهو يبحث عن حجر فلّ الزمن. حفر في الرمل، ووجد منحوتات للسمك، أراد أن يقدمها للقمر، لكن أين القمر؟ وأين أبوللو؟ وعندما شخص ببصره إلى السماء التي تأخذ شكل البحر، رأى أعمدة رخام تنهار. حاول رفعها، في البداية، دون فائدة، ثم سمحت له قوة فوق طبيعية برفعها دون جهد، وغدا بطلاً مريعًا. حكى قصته لأخته سارة التي بكت لأنها صدقته، وقالت فذٌ هو الجنون، ومتعذرٌ تقليده، أو مضاهاته.
ومنذ خرج أبراهام من مستشفى الأمراض العقلية، وسارة خائفة من النوم في الليل، وأبراهام قبلها لم ينم. كانت تغلي القهوة أو الشاي، وعلى مقربة من ببغاء حسناء في قفص، تجلس وإياه، فتنظر إلى حيث ينظر، ويرى كلاهما الليل والبحر والدم، دمٌ أخضر وأزرق يسيل من فم القمر القتيل.
كانا يعودان إلى نفسيهما على الببغاء، وهي تصيح بأبراهام الحزين:
- مجنون! مجنون!
فتؤنبها سارة، وتطلب منها أن تسكت، لكن الببغاء تعود إلى الصياح:
- مجنون! مجنون!
فتعنفها سارة، وتأتيها ببعض الحجارة لتبتلعها، وتعجز عن الكلام، لكن الببغاء تأخذ بنقر الحجر تلو الحجر إلى أن تأتي على أكبر حجر، وتعود إلى الصياح:
- مجنون! مجنون!
فتضربها سارة هذه المرة، وتفرض عليها السكوت، فتسكت، وما أن تدير سارة ظهرها حتى تعود إلى الصياح:
- مجنون! مجنون!
وهكذا كان الأمر طوال الليل، وهي تداوم على الصياح: مجنون! مجنون! دون توقف، وأبراهام كان طوال الليل يتعذب، ويتأوه، ويتصبر. في لحظة من اللحظات نهض ليفرش لها جناحيها، وينزع بعد ذلك من جناحيها ريشها الأزرق، ريشة ريشة، وريشها الأخضر، بينما الببغاء تدافع عن نفسها بمنقارها، وتصيح: مجنون! مجنون! ومن حلقها ترشق أبراهام بالحجر تلو الحجر، والحجر يوجع بعد الحجر، والحجر أرض السماء، والحجر سماء الهيكل. عاد أبراهام إلى التأوه من الوجع أكثر فأكثر، ونادى على سارة التي كانت قد تركته وحده وجهًا لوجه مع مصيره: مصيرٌ يواجه مصيرًا... وجهًا لوجه مع طائر: طائرٌ يواجه قمرًا... صاحت سارة أوطأ ما يكون: نعم للطائر والقمر! خوفًا من أن تسمعها قروش البحر، فأطلق أبراهام الرصاص على الطائر الذي كسر القفص، وحلق بكل الألوان. بمنقاره دق رأس أبراهام، وبمخلبه ضرب سلاحه، وبفمه نادى على طيور البر والبحر... فالطائر يصون الطائر، والحجر يصون الحجر... الحجر يملأ القبضة، والقبضة تجعل منه قصة: كان برقًا، وغدا نحتًا، كان سمكةً أو وردةً، وغدا سيفًا أو بيتًا. وبين أصابع الذين يغدون طيورًا، غدا خبزًا أو جمرًا. كانت هضاب عيبال تتحول إلى بركانٍ ناره أحمر من ثوب دم، ومن قلبها تخرج غادة في الثالثة عشرة، وهي تسعى في الأرض سلامًا، فحاول الجنود معها دون جدوى، ثم سجد الجنود أمام جمالها. ظن أبراهام أن قمره يعود إليه ليعاقبه على بقائه في الليل ساهرًا، فأمسك بالطائر المصمم على الفعل بدلاً من الصياح، وبحجر تزوجت أمه أبرهة الأشرم، كسر ذراعه اليمنى - القاذفة للحجر المؤتمن - وكسر رسغه الأمين، وكسر زنده المتين، ثم نقب صدغه الصائح في صحراء العرب الصانعة لطيور الرمل، وكسر رسغه القادر، وكسر زنده المخاطر، وكسر ساعده القدير، وحطم ذراعه القوية، حطم ذراع اليمين، الذراع العصية، تلك العنكبوت العاصية، وعاد يكسر ذراعه الأعصى من خنجر يمني قديم. وفي كتفه، يكسر شجرة تين، وفي دمه، يغرق مركبًا، والبحر يسمع صراخ الإغريق، وأبراهام يرى كيف استحوذ الغضب على الألوان. انكسرت في عينيه الأحلام، فعاد يكسر الكتف الكسير، فينكسر الحجر الكاسر، وتتكسر الأصابع، ويحملها كالجثث البريئة، يرفعها لتحميه من هجمة أفواج الطيور التي جاءت تنقذ الطائر المذنب من جرم البريء... حملته الطيور إلى العشب والصخر، وقبل أن تتابع طريقها، فتحت بالحجر الذي كسر وتكسر رأس أبراهام الغريب، وسال دمه الأحمر.
جس أبراهام الأشياء من حوله بذهول، وما لبث أن اتجه إلى المرآة، وهو يترنح. نظر إلى نفسه، فرأى القمر الفضي، وهو يعبس، ثم وهو يبتسم، ثم وهو يضحك، ثم وهو يقهقه. تناول الطائر الذي كان على وشك الموت حجره الأخير، ورشق القمر في المرآة، فانكسر النهار، وبدأ البحر يطلق حيتانه المكبلة في ضوء الحجر الجميل. ومع تمايل أمواجه الجبارة، لطم الصخور والعقول، وأنا أتشبث بحلم الطائر، بحجره الأول، ودمه الأول، وأفكر أنه سيموت في الضوء.

الانتفاضة يوم الخميس 10/3/1988










نابلس
عيبال
كنا نطلع عليك في الضباب لنصطاد هزارًا أو عقربًا، وكنت تفتح كفك لنا، وترفعنا، نحن الأطفال الذين كنا، وبين ذراعيك، لم تكن الدنيا تنام. كان الغرام فانتزم المسموح، وخُضَيْر الصباح، ولم نكن نعرف أنك كنت قد رفعت نبيًا قبلنا، وأننا سنكون حكاية الصنوبر الذي يثمر التفاح، والسرو الذي يقصف البرق. كان جرزيم أخوك جبلاً آخر يقوم في الفضاء بعد أن غدا الضباب تاريخًا ونشورًا، فنظرنا إليه، ونحن على ذؤابتك نقف قبل الصعود في العمر وفي الحزن، وطلبنا إليه أن يغدو صقرًا أو سوطًا.

جرزيم
سترقى مع التوارة في السماء، ثم ستنتفض في بحر من الدم لما يذبح إبراهيمُ ولديَ الحاملَ للذنوب، فالبشر اثنان: أحدهما مذنب، وأحدهما مذنب، والبراءة سكين هذا العصر، آخر العصور. فلتكن البراءة، ولتكن البيت. ستنظر إلينا من النافذة كما ننظر إليك من عين جرم سماوي، يُسقط عنه الليل بعيدًا، ويُسقط الثوب عن جسد حبيبتنا. ستغدو الدنيا عارية، سمكة شبقة في حضن فقد الشهوة.

الشويترة
مشينا على رصيفك، وبكينا، آه! يا شارعي الحبيب. أحببنا البنات، وصحنا في المظاهرات، وأكلنا التفاح، وكسرنا الاعتياد، وضحكنا منهم، وهم يمضون على هامش المغامرة، وأطلقنا الحصان. كنت سيد الشوارع قاطبة، سيدنا، وأبًا يبذر قمح الصداقة. ولما نفكر فيك في الصباحات الدامية، ونرى كيف تحنو على أطفالنا الذين يتمردون اليوم أحسن منا، نعرف أنك لم تنسنا.

رفيديا
جناح طائر أنتِ، وسماء. وفي المساء، كنا نتحرر من مخلبكِ، لكننا نعود إليكِ لنقع تحت سطوة فعل غدا ذكرى، في الغد.
آه! يا زمني الحبيب. آه! يا بيت العشق وغضب الشباب. آه! يا حلم الابن قبل أن يغدو أبًا. من كرومكِ سرقنا العنب، وعلى أسوجتكِ تركنا بضع قطرات دم... كان الجرح بعد صغيرًا، والليل نزهة في العمر، وخوف الأبيض من التوت.

رأس العين
قال حاتم لنا، ذات ليلة، إنه سيتزوج في رأس العين، في الحي النائم على كتف جرزيم، والذي جف النبع فيه، منذ ألف قمر، ليتفجر فجأة بعد أول عناق له. كانت حبيبته أجمل من كل مستنقعات القمر، وهو أجمل من كل النجوم المنتحرة، وكنا نحن، في ليلك المساء، ذئابًا صغارًا، ورافقناه إلى الاحتفال.
آه! يا رأس العين الحبيب. كيف جعلتنا نُخلص للذئاب الكبار فينا، ونخون أوسًا لك مخلصًا.

عين بيت الماء
عارٌ أنتَ يغتسل بالدم والماء كل يوم، وبالندى على قدمي ديانا دون جدوى، فاقتربت منكَ كل بنات المخيم، وقلن لك:
- نحن زوجتك!
امحى العار، ووجد كل لقيط أباه الشرعيّ.
سوف يخرج من خاصرتكَ أطفال كبار إلى دور لم يقدر على القيام به رمح قديم في الحلبة الرومانية، لتسقط روما الحديثة.
سقطت روما القديمة.

بلاطة
أما أنت، يا مخيم بلاطة، فقد صعد يوسف على كفك من بئر خانها الماء، وإذا بألف يوسف، هنا وهناك، مستعدين للموت وبذل النفس، لأن خطايا إخوتك لن يمحوها إلا الدم موجًا، والقمر أشرعةً محترقة. كيف لمّا كنا نقطع خطك لنستولي على الوعول؟ وكيف لمّا استطاع وعل أن ينطق، ويقول إننا سنقتل في الغد بطلاً لن يعيش أكثر من ألف قمر حتى ولو أعطاه وايزمان أو ريجان كل الأسلحة المدمرة.

قبر يعقوب
مضيتُ أمام بابك، في زاوية معتمة، مضيئة، مضببة من نابلس القديمة في الذاكرة، كان هناك بعض المصلين المسلمين الذين يحبونك، ولما مضيتُ، في ذلك الزمن البعيد، كانت سيدة تنتظرني، فعجلتُ في السير إليها لئلا أخلف موعدي معها.
فاجأتني السيدة بأنها تعرف أبي، وحدثتني عن مجده يوم كان المجد قلعة ليست منهارة، والجسد أساسًا، ثم تعرت في ظل يعقوب، واغتصبت معي العنب.

سينما غرناطة
أقرب الأشياء إلى القلب كنت، وكنت الخيال في الظلام. كنت رحلتي إليك على بساط سحريّ، إرادة الخلق التي ظلت تطاردني إلى طائر الغد، وورطة الصورة.

فدوى طوقان
إلى أين يمكن للقصيدة أن تهرب منك؟ أن نهرب منها؟ ومنك؟ إلى أين يمكن للأزقة وشجر الجوز أن تفلت بعيدًا عنك؟ آه! أنت، يا فدوى طيفنا، وطوفان المودة، وانتقام الجميل من الجميل بعد أن مات شعراؤنا! كنت أولى اللواتي رفعن إصبع الاتهام لنحكم بالموت، ولننفذ الحكم. كنت القصيدة والإدانة، ورودك التي زرعتها في أرض بيتك الجبليّ وغدت حدائق وحرائق، ورودك الزرق لم تزل قصيدة وإدانة، لنعيد اليوم الحكم بالموت، ولنفجر حلم الذين لا يمكنهم الحكم. ذلك الحلم الأصفر كنجوم الخجل، الأحمر كورود جهنم، الأسود كأعلام العباسيين والزنابق المستحيلة.

علي الخليلي
آه! أنت، يا تواضع ملك السنونو. لم أزل أذكر أول قصيدة كتبتها لأجل أخ لي كان مريضًا، ثم غدوت شاعرًا ويتيمًا. ويوم مات أبوك، غدونا يتامى كلنا.
أذكر أيضًا أنك كنت جميلاً، أما زلت جميلاً؟ وعشيقتك، أما زالت صغيرة؟ كبرنا على الطرقات الذاهبة إلى باريس، إلى مدريد، إلى المريخ، إلى صنعاء، إلى العنقاء، إلى كاليفورنيا، إلى رمال طرابلس... حتى على تلك الضائعة في تونس، لكنك أنت لم تشأ إلا أن تعود على أول مركب يبحر في الدم إلى نابلس، مدينتك الحبيبة، مدينتي الحبيبة.
اكتب لنا اليوم، واخلق من العدم قارئًا حتى الله لن يمكنه خلقه بين برابرة الروح. اكتب لنا عن حجارتها الحبيبة، حطم قيود المطبعة، وارجم الوجوه الشوه من الناشرين الجهلة والتجار الأميين.
ابعث لنا بآخر قصيدة، وصف لنا القاتل عندهم، وعندنا، في حارة الياسمينة، وفي وادي النسناس. لك منا القلب الذي عصا، والقلم الأخير، وأجساد عنادل مجرمة ذبحناها في الطريق المؤدية إلى طرق أخرى، ومن هذه الطرق الجديدة إلى طرق أخرى وأخرى، ثم أخرى، ثم أخرى.

المتنبي
الشاعر الوحيد الذي كتب عنها قبل ألف عام. كان الوحيد. وبعد ذلك، أعطى لكافور الثلج وجهًا ليعطيه الجوهر، فلم يعطه الجوهر، ولا العصا، وظلت حبيبته ضائعة إلى الأبد. وعلى الرغم من ذلك، ذهب يسعى في الأرض بحثًا عنها إلى أن كان يوم قتله فيه سبعون من أخوته هم سبعون بلدًا من سبعين أبًا هجا أمهم التي كانت أمنا من الماء إلى الدم.
يا أيتها السمكة!
نحن البحر... وسكين هؤلاء أو أولئك لن يمنعنا عن العودة إلى أول خطوة لنا على سفح عيبال، نحو ساحل حيفا، ولا على قمرهم القاتل. سنقتل القمر بالقمر، ونحرق الشجر بالشرر، وليدشن موتهم الشرعيّ مرحلة عذابهم القادم. عند ذلك، سنقول عنك القصيدة التي لم تقل فيها نبوءتك الأخيرة.

الانتفاضتان يوم السبت 8/10/1988












العودة
تحررت البلاد، وأنا، لهذا، حملت حقيبتي التي اهترأت، وأخذت طريق العودة إلى نابلس، عودة عوليس من آخر سفر، قبل السفر الأخير.
قلت لنفسي:
- آه! يا لي من متشائم.
لكني عزوت ذلك إلى عادات التغرب وهمومه. أما اليوم، فلن تكون غير الآمال والعمر المنشرح. وقبل كل شيء، سأقدم شهاداتي العلمية وكفاءاتي المهنية لخدمة الوطن الذي هو في أشد الحاجة إلى أمثالي.
لم تتغير شوارع نابلس، بقيت على حالها، رغم عشرات السنين من الاحتلال. ما تغير، روح الحرية وأكاليل الغار. لم تتغير وجوه الأهل، بقيت على حالها، رغم عشرات المعتقلات. ما تغير، روح التضامن وبحر الإشارات.
في الليل، كنا نتحدث عن مفاخر الناس، عن صيحة قتلت صاحبها، وعن حجر رُمِيَ تَفَتَّحَ وردة لما فتح رأس جندي قتل الرامي. كنا نعيش حلم التحرر والانتصار، ومن آن لآن، نسمع بكاء أم في الليل.
رغبت في الذهاب إلى حيث كنت أذهب في الماضي، إلى سوق البصل، ودرج اليهود، وحمام القاضي، والقصبة. كان يشدني كل ما هو قديم. لاحظت في القصبة بعض بيوت كان جنود الاحتلال قد هدموها، وعندما وضحت علاماتها في ذاكرتي، حزنت أشد حزن. في واحد كانت تقيم حبيبتي، وفي ثان كانت تقيم مومس عرفها أخي الشقي، وفي ثالث كان يقيم شيخ المدينة، وفي رابع كانت وردة وسط حديقة، وفي خامس كانت الأم التي تبكي في الليل. في الليل، كانت تبكي ولدها شوقي، وفي النهار، كانت تذهب لتحضر خبزًا وبعض حجارة تضوي.
أمضيت شهورًا، وأنا أنتظر جوابًا على طلبي الإداري. وبانتظار الجواب، كنت أساعد أم الشهيد في إعادة بناء بيتها. سألتها أن تكف عن البكاء، فقد سكبت من الدمع ما فيه الكفاية، ولن يسمعها ولدها في الجنة، لن يسمعها في النار. أجابتني أنها تبكي ليسمعها الأحياء بين الملائكة والشياطين، كل الملائكة وكل الشياطين، العرب منهم واليهود.
أمضيت شهورًا أخرى، وأنا أنتظر جوابًا على طلبي الإداري. لم يعد لي ما أعمله بعد أن أنهيت وأم الشهيد إعادة بناء بيتها، فاقترحت عليها أن نهدمه، ونعيد بناءه بطريقة أخرى. نقطع الوقت هكذا، ونستطيع انتظار الجواب. وافقتني، إلا أن بعض ملائكة مدججة بالسلاح اعتقلتني. اتهمتني محكمة ثورية بتهمة التحريض على الهدم، وأعطاني الحاكم عشرة أعوام دون أشغال، فثرت، فثار، وأعطاني الحاكم العادل هذه المرة عشرين عامًا مع أشغال، بقدر الزمن الذي كنت قد قضيته في الغربة، أذهب من سفر إلى سفر، ومن مدينة إلى مدينة، قبل أن تغلق عليّ أسنانها المستدقة مدينتي الأخيرة.
بعد قضائي مدة العقوبة، كانت ذاكرتي قد جفت، وكذلك جسدي، وقلمي، فغادرت البلاد، بعد أن تبين لي أني في الغربة كنت قريبًا إليها أقرب بكثير مما كنت عليه، وأنا فيها...
صحوت على يد رفيقي المتسول المتسكع، وهو يمد لي زجاجة من النبيذ الرديء، فتناولتها، وجرعت منها جرعات مُرة. تركني بعدها رفيقي القديم، وأحرق على الرصيف بعض الحطب لتدفأ أبداننا في ليل الصقيع البديع.

الانتفاضة يوم الجمعة 15/1/1988

* القصة الأخيرة من "حلمحقيقي" المجموعة الرابعة لأفنان القاسم بمناسبة نشره للأعمال الكاملة.





































أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يوما بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011

الأعمال المسرحية النثرية

33) مأساة الثريا 1976
34) سقوط جوبتر 1977
35) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي
نموذجًا (جزءان) 1983
46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
48) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
50) خطتي للسلام 2004

[email protected]























فهرس
حلمحقيقي 5
الابن والبحر 47
الله والنقود 53
39 شارع لانكري 61
الطفل الآتي من هناك 69
أطول ليلة في الحي اللاتيني 83
انتحار الشاعر 95
العاطل عن اليأس 103
ناتاشا والفنان 107
وحيد وجوديت 113
الفتاة الممنوعة 121
وقائع نشرة مكثفة عن التلفزيون الفرنسي 125
الأطفال يتكلمون لغة واحدة 127
لقاء الأصحاء في مستشفى هنري موندور... 131
الحزب والموسيقى 137
السيدة التي لم تقرأ الجريدة 139
الرسامة الصغيرة 143
العاملة التي أحبت الكاتب 145
شمس مراكش تحرق الأصابع 149
بركات 155
الحجر 159
نابلس 163
العودة 169
أعمال أفنان القاسم 173

















في حلمحقيقي، يقوم المؤلف بالاقتراب من حقول وعي قصوى: من قصة إلى أخرى، هناك حالات من القطع أو العبور تجيء محررة النظام الساكن للواقع من أجل استشفاف بُعد غير مكتشف. لم يعد للزمان والفضاء استمرار، إذ يمتزج الماضي والحاضر في لحظة واحدة، وتنتمي الهنا والهناك إلى نفس المكان، الحلم والواقع إلى نفس الخيال.
هذه الصُّدف الميتافيزيقية هي أيضًا شواخص طريق سائرة نحو الخلق. الحدس، الذي هو من ميدان يصعب وصفه ولا يُعَبَّرُ عنه، يُبْدَلُ بصورة، وبدورها، تترك الصورة نفسها تُصنع من الكلمات، تحت خطر الاقتياد إلى خيبة تودي إلى الجنون أو الموت.
قاتمة، قاسية، مريرة، القصص المجموعة في هذا الكتاب، وهي تبدو كلها، بكل غرابتها، وقد انتُزعت من اليأس لتنظُم نشيدًا للجلاء العنيد.



* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حبيبتي في صنعاء
- حرير دمشق
- إرادة الورد
- الهامشيون
- ساعة الصفر
- على طريق دمشق
- الموت
- الأعشاش المهدومة
- الإرجاء
- الحجرة
- سوريا: ما هكذا يا رشاد أبو شاور تورد الإبل
- الانتحال
- قصة الدم
- الدم
- سوريا إلى أين؟ - الحل الثالث للشارع السوري
- ضد فتح وحماس على الشارع الفلسطيني أن يتحرك
- اتفاق فتح حماس طبخة أمريكية-إسرائيلية جديدة
- في لهيب محمود درويش
- يهودي حائر أضاع الطريق إلى الصحراء
- شاعر شيوعي قديم يشرب كأس بيرة في بار الفردوس


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” .. ...
- مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا ...
- وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص ...
- شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح ...
- فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
- قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري ...
- افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب ...
- تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
- حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي ...
- تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - حلمحقيقي