أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال القواسمي - الجندي المعلوم- قصة قصيرة















المزيد.....


الجندي المعلوم- قصة قصيرة


جمال القواسمي

الحوار المتمدن-العدد: 3540 - 2011 / 11 / 8 - 00:33
المحور: الادب والفن
    


        ذاع الخبر في أنحاء البلدة، "أعتقلوا عزات!"

-" أيوة، بقولوا أعتقلوه من الباص وهو رايح على القدس!"

قال ابن سراج الفران وهو يحمل كتلا من الخشب ويدخل إلى فرن أبيه. في بادئ الأمر، لم أصدق الخبر، لكني عندما لاحظت أن معظم من أراهم يتحدثون أو يتغامزون بأمر اعتقاله، لم أشأ خداع نفسي. شعرت بالحزن والغضب، ليس لأنه اعتقل، بل لأنه عانى ما يكفي من الآلام الجسام. هل يكون في استطاعته أن يتحمل المزيد من العذاب؟ سألت نفسي، ولم يستغرقني الأمر طويلاًَ عندما أدركت أن هذا الإنسان العظيم، عزات، هو جبل المحامل نفسه، وأن في استطاعته أن يتحمل أكثر وأكثر. الحقيقة أن صورة عزات في ذهني لم تكن صورة إنسان واحد، بل نظراً لمواهبه وأعماله المتعددة، كان يمثل في نظري دوماً (دون أن أشعر بذلك ودون أن أريده أن يكون ذلك) مجموعة كبيرة من الأشخاص، بعدد أهالي حارته أو بلدته، وربما كان يمثل شعباً بأسره.

-" اعتقلوا عزات، سمعتوا؟" تساءل آخر.

-" أيوة، سمعنا" قال العم عمر، وآنذاك تناهى إلى أسماعنا صوت أناشيد حماسية، تلاه صوت إنطلاق قنبلة غاز.

      أجل، لماذا لا يعتقلونه خصوصاً بعد أن ظهر عمله الفني الأخير على شاشات التلفزيون البارحة في كل مكان، وربما في كافة أرجاء العالم؟ كان علي أن أتنبأ باعتقاله مسبقاً، لا أعرف لماذا أفشل في التنبؤ واستشراف المستقبل وأنا أدعي أني كاتب؟ لماذا يا ترى لم أفكر باحتمال اعتقاله، خاصة أني كنت أنا الذي أوحيت له بفكرة عمله الفني الأخير، "الجندي المعلوم؟"

      أذكر ذلك اليوم. زرته في ورشته الصغيرة، كان حزيناً ومكتئباً. وكعادته حينما يكون مع أصدقاء له أو جيران أو أهل، استقبلني بابتسامة دافئة تسيل من عينيه سيلاً...

-" أكرم... جثة أكرم... بقولوا إنهم مش راح يرجعوها..." قال وهو يربت على ظهري، ثم أخذ يدي وفحصهما كعادته، "لسة إيديك ناعمين!" قال بصوته الخفيض ليحملني على الابتسام وليعطيني الانطباع بأنه ليس متوتراً وكئيباً. كان معتاداً على قول ذلك لي. أول مرة رأيته فيها، كنت متخرجاً حديثاً ومتفذلكاً أكاديمياً أدَّعي الثقافة وحينما تصافحنا سألني، "بتشتغل؟" هززت له رأسي بالنفي، فابتسم.

-" على شان هيك ايديك ناعمين! إذا فيش شغل بيناسب تعليمك، ليش ما تشتغل طوبرجي!"

حينما تعرفت عليه كان مرحاً وبحبوحاً وشديد التهكم، ويحب إضحاك الجميع، كأنه مهرج. كان إنساناً بسيطاً وسليط اللسان، وكان قاموسه اللغوي اليومي زاخراً بغريب الكلمات العامية ونابيها. أثار اقتراحه آنذاك ضحكي، لم أكن أتصور أن أشتغل طوبرجياًُ، لكنني اشتغلت طوبرجياً لأخشن يدي، كما قال. والآن، ها هو مثقل بالأحزان، فقد قدرته على الإضحاك. ابتسم بوهن، وكرر عتابه، "إيديك ناعمين كثير يا كريم!" وقادني إلى داخل بيته. نظرت إليه، كبر في عيني، هززت له رأسي دون أن أستطيع أن أصطنع ابتسامة على شفتي. حك أنفه، وهز رأسه، "قالوا لي أنهم دفنوه، دفنوه في مكان، مكان... رفضوا يقولوا لي وين!"

كان البيت مظلماً بعض الشيء وكئيباً وصامتاًَ. دخلت إبنته الصغيرة ذات الضفيرة، صفاء، وهي تحمل صورة العائلة، ودلفت خلفها إحدى قريباتها اللاتي صرن يأتين لرعاية أبناء عزات وبناته. "بقولوا... أنها السلطات مخصصة أكثر من مقبرة جماعية، يدفنوا فيها الشباب اللي بخافوا تصير جنازاتهم مظاهرات عارمة..." قال وسكت. لم أستطع أن أقول شيئاً. اقتربت مني صفاء، ورفعت الصورة بيدها، "ليش، ليش أكرم ما رجعش لحد هلقيت؟ أنا اشتقت له... واشتقت لأمي برضه، بس هي الثانية غابت كثيرا!" قالت وبكت.

حضنها أبوها، "أنا قلتلك، قلتلك مية مرة إنو أكرم مش راح يرجع!" قال لها يعاتبها، وانفجرت المرأة المتلفعة بالسواد التام، بعينيها الحمراوتين، ويديها المرتعشتين، بالبكاء.

-" بس هو قال إنه راح يرجع، وما رجعش!" صاحت الصغيرة باكية، يكاد يغمرها الشعور بأنها تعرضت للخيانة، كأن أحداً وعدها بدمية ولم يجلبها. أخذت المرأة التي تلبس السواد صفاء وعبرت بها رواقاً يفضي إلى إحدى الغرف. مسح عزات وجهه من العرق، ولاحظت أنه لامس عينيه الجامدتين اللتين لم تخرج منهما دمعة، وتنهد،"صفاء كانت متعلقة فيه كثير، كان أكرم هو اللي يوديها الروضة ويجيبها منها..." قال بصوت خفيض. لم أعرف ماذا يتوجب علي أن أقول، لكني حتى الآن لا أعرف كيف قلت لحظتها، "لا بد أن الجنود المجهولين في هالانتفاضة كثار!"

      هز رأسه موافقاً، ثم حدق بي ودون أدنى سبب، راح يكرر "الجنود المجهولين... الجندي المجهول..." كأنه يحادث نفسه. وفي المرة اللاحقة التي رأيته فيها، أخبرني باقتضاب أنه منهمك في عمله الجديد الذي يدعوه "الجندي المعلوم!"

-" صحيح أنهم اعتقلوا عزات؟" سأل أبو علي الأهالي الذين تجمهروا عند فرن سراج الواقع أمام بيت عزات. اعتادوا جميعاً على التجمهر هنا. ومن يريد الخبر الصحيح، كان يأتي إلى هنا، فيجده.

-" أيوة، اعتقلوه! لولا المسخرة اللي بسويها، عمرهم ما اعتقلوه!" قال ياسين الأطرش، ونظر إلى زيدان، بائع الهريسة، الذي كان يهرول، فيما كانت صينية الهريسة تتأرجح فوق رأسه، والطاولة ذات الثلاث أرجل تتدلى على ساعديه كالمشنوق.

-" شو، زيدان، شو صاير على الطريق؟"

-" الجيش... جنود كثير... سيارات... بطخوا قنابل غاز... ممكن راح يفرضوا منع التجول... " قال باضطراب دون أن يقف. وتابع هرولته نحو فرن سراج، بالصينية والطاولة، تماماً مثلما كان يهرول عزات ذلك اليوم. نعم، اذكره. كانت الدموع تزخ من عينيه زخاً بصورة غير طبيعية، وهو يلهث ويسعل بصعوبة، نهره بعضهم ورجاه أخرون من أهالي البلد أن يكفَّ عما يفعله، لكنه رفض بشدة ونظر إلي، وابتسم بوهن، "أنا بعمل عملي الجديد، اللي راح أسميه... (الجندي المعلوم)... بدي اياك تبعث لي كيس اسمنت، وثلاثة براميل حصمة، اعتمد عليك؟" سألني.   

-" طبعاً!" قلت له، وراح يكمل عمله الجنوني.

-" شو هالمسخرة اللي بعملها؟ ليش بسمعش الكلام؟"

صرخ بي ياسين الأطرش. شاكياُ، "راح يختنق. راح يموت. عزات؟ بكفي يا عزات!!!... اطلعوا على عيونه. مش قادر يفتحهم! يا ربي، ليش هالإنسان عنيد لهالدرجة هذه؟"

بل أن بعض الأهالي كانوا يضحكون. كان منظراً مضحكاً باكياً، ولا بد أن الحزن أصاب الجميع عندما ادركوا حقيقة الأمر وخفاياه. كانت المظاهرة، آنئذ، قد اندلعت وعمَّت حارات وأحياء عديدة من البلدة، وقنابل الغاز راحت تتطاير من جميع الاتجاهات وتهبط بين أقدام المتظاهرين، وعزات، عزات نفسه، بلحمه وعظمه، بشعره المنفوش، ملابسه المتسخة وغير المهندمة كالعادة، وهو عاري القدمين، ربما ليكون أكثر حركة، بسعاله وحشرجات صدره غير المنتظمة، بعينيه البركانيتين اللتين تطلقان حمم دموعه بلا انقطاع، بصرخاته التي تنبعث دون وعي، بفمه الذي كان يبرز من طرفيه زبد أبيض لزج، وهو يحمل سطل ماء وينتقل من مكان لآخر، يلحق قنابل الغاز ويظل يركض وراءها حتى يمسكها ويغرقها في السطل، دون أي اعتبار لكفيه، اللتين احترق باطنهما.

ضحك منه البعض، واستهجنوا عمله، لكنه رد عليهم بابتسامته الحزينة ذاتها، لكي لا يقطع حبل الود بينه وبينهم، والمحبة التي اكتسبها بفضل خفة ظله وفكاهيته المرحة. كان، على الدوام، متحدثاً لبقاً "يقفش" النكات ويحرص على اضحاك الأهالي وإسعادهم لذلك فبعد ذلك اليوم اليوم الأول الذي بدأ يجمع القنابل الغازية دون أن يثيرهم قائلاً لهم متندراً، ومستنكراً، "انشالله ما سمعتوش؟" وهو يبذل قصارى جهده ليبدو عليه الانشراح والانبساط، رغم كل ما يختزنه من أحزان، "يا جماعة الخير، في قنابل الغاز، من جوَّاتها، صور، زي ما تقولوا يانصيب. اللي بلاقي صورة دراجة في قنبلة غاز، راح يطلع من نصيبه دراجة!"

_"انشالله راح يعملوك دراجة ويركبوك في عتليت!" قال له أحدهم، وانفجر الجميع ضاحكين. كان يعرف كيف يثير ضحكهم، ولم يكتف بهذه الكذبة البيضاء، بل أنه طور كذبته فقال مرة أن ثمة أرقاماً تسلسلية في قنابل الغاز من الواحد حتى الألف، وإذا استطاع أي فلسطيني أن يجمعها بالتسلسل، فسيفوز بتذكرة طائرة إلى نيويورك. وآنئذ علق ابن الأطرش، "انشالله بيعطوك تذكرة على أنصار؟"

شيء مضحك فعلاً! بل أنه حاول مرة أن يضحكني عندما أراني مرة قنبلة غازية أميركية الصنع لم يمض على صنعها شهران. عزات! هكذا هو، يحب أن يرى الجميع سعداء لكنهم لم يكونوا يضحكون لأن الأمر كان مضحكاً أو لأن نكاته أثارت الضحك فعلاً، بل لأن كل واحد من أهالي البلدة شعر بالتعاطف مما عاناه، وبالشفقة عليه لأنه إنسان عنيد يلعق جراحه بصمت ولا يستسلم.

بل أنهم كانوا يطلقون عليه ألقاباً مثل "ضاوي".. و"أهبل".. و "مهوي" على سبيل المداعبة والإعتراف أمامه بأنه ما زال يضحكهم، وما زال محط أنظار البلدة. كان ما زال بحاجة إلى محبتهم واعترافهم ذلك أكثر من ذي قبل، وكانوا يعرفون سبب حاجته : زوجته الحنونة المريضة بالقلب لم يحتمل قلبها المعتل فقدان وسيم في مجاهل النقب، فهدَّها الحزن ولم تعد تقوى على الحركة. وعندما جاؤوا لاعتقال أكرم، ألقوا قنبلة غاز في الغرفة المغلقة فاستشهدت، وبعد كل هذا يستشهد أكرم في المعتقل، دون أن يعرف عزات كيف، ويدفنون جثته، وعزات إلى الآن لا يدري أين. ألم يكفه كل هذه الأحزان المميتة؟ لكنه لم يستسلم. أدرك بفطرة الإنسان المبدع التي يتمتع بها أنه فقد قدرته على الإضحاك وعلى نشر البسمة على الوجوه فبدأ يبتكر نكاته عن القنابل الغازية. بدأ في بادئ الأمر أنه كان يصر على اصطياد قنابل الغاز ليجمعها ويغطسها في سطل الماء لسبب بسيط: ليبكي. أراد أن يبكي حقاً! لكنه فقد قدرته على البكاء أيضاً. مرة، ابتسم ابتسامته المعهودة، اذكرها جيداً، ومخط برفق، ونظر في عيني، "مش قادر... مش قادر أبكي يا كريم... مش قادر!" قال لي.

ببساطة شديدة لم يبق في عينيه دموع، وأصبح عاجزاً عن البكاء. أصاب عضلات عينيه التوتر وتصلبت. تحولت رموشه، في خضم الأحزان المتتابعة، إلى قضبان سجن فولاذية، وحبست دموعه. كان عليه أن يواصل مرحه وحزنه الصامت، دون أن يبكي، دون أن يبدو طفلاً. لكنه في أعماقه كان يدرك أنه طفل، رجل طفل! حولته أوجاعه إلى شخصية تهكمية. أراد من الجميع أن يعتقدوا أن ما أصابه من أحزان وفقدان للزوجة، رفيقة العمر والأبناء، لم ينل منه ومن إرادته. توقع الجميع أنه سيموت كمداً وحزناً ويركع، لكنه لم يمت، وظل يضحك ويعمل. افتقد البكاء. أصبحت عيناه متحجرتين كأنهما مصنوعتان من الخرسانة المسلحة. لم تعودا تعرفان الندى والطل. أراد أن يبكي، أن يفجر صورة الرجل التي لبسته، أن يعود طفلاً، يمارس خوفه وبكاءه وارتعابه وأن يعبر عن مشاعره بكل تلقائية وبساطة. إنه ببساطة اشتاق للبكاء. أراد أن ينفس عما في داخله من حزن وكمد. أراد أن يضع نفسه في الظرف الذي عاشت فيه زوجته في لحظات حياتها الأخيرة، ويعيش فيه. أراد أن يتألم، أن يتوجع، أن يبكي!!! الهذه الدرجة كانت قنابل الغاز ضرورة ؟ اللعنة...!!

-" بتعرف؟ نفسي أبكي يا كريم! نفسي أبكي بالفعل. ممكن إذا شفت جثة أكرم، ممكن ساعتها أبكي، أبكي وأدمع، وأرتاح... بس أكرم مجهول المكان... مجهول المكان!" الهذا السبب كان يجمع قنابل الغاز؟ ليبكي؟ نعم، ببساطة شديدة : ليبكي! لكن كان ثمة سبب آخر... "الجندي المعلوم."

-" وليش اعتقلوه؟" سأل الجابري، وهو يتأتئ... تؤ. تؤ معبراً عن أسفه.

-" على إيش بدهم ياخذوه، يعني؟" تساءل ياسين بخبث، "لأنه أهبل أو بتهبل أكثر من اللازم!"

-" عزات زلمة مسكين على قد حاله وحبوب! ولو بدنا نعرف السبب عن جد..." قلت له، ونظرت نحو جماعات الأهالي، التي تتدافع من طريق المدرسة حيث انفجرت المظاهرة، وعندها قاطعني صوت إمرأة مسنة، "والله ما يكون اللي بيصير إلا بسبب عزات! يقولوا أنو الجيش بدو يقوم بحملة اعتقالات، الله يحمي هالسشباب!"

-" أيوة، " قال العم عمر، ووقف على كرسي ليرى جيداً ما يحدث عند المدرسة، لأنه قصير جداً، "أكيد أخدوه على شان... "

-" على شان طلع على التلفزيون، وفرجى الصحفي هوايته..." قال أحدهم.

-" يلعنها من هواية! هوايته اللي طلعت على التلفزيون جابت له هواية، راح تنسيه أسمه لما يطلع من السجن!" قال ياسين الأطرش بقهقة مكبوته، مما جعل الأهالي يضحكون على مضض.

-" يا جماعة، السبب واضح..." شرعت قائلاً، ثم سكت. كانت رائحة الغاز الكريهة قد وصلت إلينا، واندلع الرصاص بعنف. نظرنا باتجاه المدرسة، ثم ظهر جسم ضخم أخضر كريه، أيدي كثيرة خضراء اللون. كان جسماً ضخماً قوياً بشعاً، مثل أخطبوط، أو مثل ذلك التمثال الهندي ذي الأيدي الكثيرة غير الإنسانية، ينفث رائحة الموت من عشرات الهرارات وعشرات البنادق. وآنئذ بدت تلك الكتلة الخضراء الكريهة اللون كتمثال عزات، بكل ابعاده الرمزية التي تبعث على النفور والكراهية... "الجندي المعلوم"... تمثال كبير عملاق جامد، ثابت، ليس فيه من معالم إنسانية، لونه أخضر بسبب الإسمنت الذي وضع بكميات كبيرة دون شك، شكله مستطيل، فيه أكثر من ثلاثمئة قنبلة غاز –كما قال الصحفي في التقرير التلفزيوني– جمعهم عزات بنفسه من من أنحاء البلدة! اعتقد أني استطيع أن أتصور معنى أن تكون ثلاثمئة قنبلة غاز جمعها في اسبوع في تمثال واحد! أي جحيم نعيش فيه؟ آه، كم كان التمثال بشعاً وقبيحاً إلى حد التقزز والغثيان! الصحفي نفسه غطى منخريه لئلا يشم رائحة التمثال الغازية، التي كانت لا تزال تنبعث. كان تمثالاً غريباً، لا يمتاز بأية صفات إنسانية واضحة، كانت قد برزت منه أقدام أو لعلها أيد أو هرارات أو بنادق كثيرة، وفي قمة التمثال قبة نصف كروية خوذة أو رأس إنسان أصلع، بوجه ممسوخ دون عيون، دون فم، وقنابل الغاز برزت من جسده كأنها بثور وندب مرض مميت معد، تنفث رائحة الموت والدمار.

-" شو اللي عم بصير؟" سألت أم ربحي وقد خرجت من بيتها، وكان الأهالي، شباباً وشيوخاً من جميع الأحياء، يندفعون بإتجاه حينا، ويقفون متعاضدين أمام الفرن وبيت عزات.

-" أبصر، ممكن الجيش جاب جثة أكرم!" ارتفع صوت من بين الجمهور، وأنذاك تعالت الأناشيد.

-" لأ، التموا يا ناس، تعالوا، الجيش جاي على شان يسكر دار عزات بالشمع الأحمر!!!"صرخ آخر.

-" كل واخذ يروخ بيته! كل واخد يروخ بيته!" جاء صوت جندي في الميكروفون، واندفعت كتلة ضخمة خضراء من الجنود وشقوا طريقهم بين اجسادنا نحو البيت، بعصيهم الشيطانية التي نفثت الرائحة، وتثير الآلام في أعماقنا، وتبكينا، بينما تشاغل جنود في ملاحقة الشبان والمتظاهرين الذين راحوا يتراكضون من حي إلى آخر وهم يناوشون الجيش.

-" احنا بس راخ انسكر بيت، كل واخد يروخ بيته!" صرخ جندي بلا وجه بأهالي الحي والأحياء الأخرى اللذين اجتمعوا بتلقائية ليحموا بيت عزات.

-" خليكم مجمعين ايد وحدة، ما تتفرقوش ! بيت عزات بيتنا، واللي فيه أهلنا!" انبثقت من حشود الأهالي المتضامئين صرخة، بينما دخل أحد الجنود إلى داخل البيت حيث كان "الجندي المعلوم" في الحاكورة.

انئذ شعرت بخوف عميق على ما يوجد من أعمال أخرى في حوش بيت عزات، خلف الدار، ذلك الحوش الذي كان بمثابة ورشته، ففيه أودع عزات رسوماته ولوحاته وقطع خشب الزيتون التي كان يحفرها بيده، وأعماله الصدفية الرائعة، والدبشات الصخرية التي كان يستعملها للنحت، وأشياء أخرى عديدة. كان يجد أشياء تبدو تافهة لا قيمة لها. وببساطة شديدة يحولها إلى أشياء فنية ذات أبعاد تراثية أصيلة، ويضفي عليها صفات إنسانية ومعاني نبيلة. كان مبدعاً يحيل التراب والطين، الذي ربما كان تراب جسد شهيد أو ربما كان تراب أجساد أجداده، إلى معلم حضاري تراثي جميل ناطق بالحياة.

بدا لي ذلك الحوش المظلم في أحيان كثيرة مثل لاوعي الإنسان. اذا دخله المرء وعرف محتوياته، أدرك أوجاعه وهمومه وأحزانه. أحسست بشيء عاصف يجتاحني عندما رأيت الجندي يدخل البيت، وخفتُ أن يعبث فيه ويدمر محتويات الحوش، فأسرعت وراءه.

-" ايش في؟ شو اللي بدكم اياه؟ هون في ناس عايشين في بيتهم، وين بدكم اياهم يروحوا ويعيشوا؟"

أمسكني جندي ودفعني نحو الأهالي. "انت بروخ هناك، بروخ، يللا!"

كانوا يريدون إغلاق البيت، أن تبقى أعمال عزات وفنه داخل جدران بيته، أرادوا أن لا يبكي البيت أحزانه وآلامة، أرادوا الا يدمع البيت لوحاته، أرادوا أن لا تظهر آلام عزات وهمومه وأحزانه في عدسات دموعه خارج جدران بيته، الجدران التي تشبه جفون عزات نفسه. كان البيت نفسه إنساناً فلسطينياً، فأرادوا أن يقمعوه ويغلقوه! ثمة أسرار كثيرة داخل جدران البيت يريدون أن تبقى مجهولة. سمعت بكاء صفاء، ورأيت جندياً يجرها من ساعدها الطري خارج البيت، جريت نحوها وحضنتها، وراحت خالتها التي ما تزال متشحةً بالسواد تصيح بأقربائها، "لا، ما تطلعوش ايشي من البيت! وما تفضهوش من أثاثه وأغراضه! خليهم... خليهم يشمعوه ويسكروه... راح يجي اليوم اللي راح تنفتح أبوابه!!" قالت صارخة وخرجت هي والأخريات.

وقامت مجموعة ضخمة من الجنود بسحب التمثال البشع الكريه الرائحة من حاكورة البيت الصغيرة، وراحوا يدكونه بالمهدات ليكسروه، ويفتتوه قطعاً ليخفوا معالمه اللاإنسانية، وشمعوا باب البيت بالختم الأحمر وسط أناشيد الجمهرة الصاخبة، وتضامن الأهالي مع بنات عزات وولده الصغير وأقربائه...

-" كريم، وين أبوي؟" سألتني صفاء، "برضه، هو مش راح يرجع؟"

-" لأ، أكيد راح يرجع... الجيش حبسوه، بس راح يطلع بعد مدة..."

-" حبسوه مثل وسيم؟"

-" أيوة، مثل وسيم!"

-" بدك توديني على الروضة..." سألتني صفاء، "أنت إسمك كريم زي إسم أخوي أكرم... " قالت وهي مشتتة النظرات، ثم وضعت يديها على منخريها وبدا عليها الإصفرار من رائحة الغاز، وانفجرت بالبكاء، "أنا خايفة... الجيش بطخوا... طلعونا من الدار... بدي أبوي!!!" قالت مرتعشة بحركات تلقائية، وفجأة انساب من عينيها كم عظيم من الخوف والرعب، اتخذ شكل دموع، دموع غزيرة، عكَّرت الصفاء الطفولي الذي اتسمت به وجنتاها.

أتت إحدى قريباتها وانتشلتها من يدي، "تعالي، تعالي يا صفاء!" قالت لها تطمئنها وضمتها إلى صدرها.

-" أيوة يا صفاء، راح أوديك مثل أكرم على الروضة!" قلت لها، ورأيت ابتسامة واهنة تشع من ثغرها، ويدها تداعب بحركة تلقائية ضفيرتها التي بدت وكأنها حبل أعد للشنق.



جمال القواسمي قاص فلسطيني يعيش في القدس، من مواليد 1966، عمل سابقاً في الترجمة والتعليم؛ له ثلاث مجموعات قصصية: جاي معك 1990، شامة في السماء 1997، هزائم صغيرة، 1998.



#جمال_القواسمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثلاثية القُبَل- قصص ق جداً
- الكعكة - قصة قصيرة
- أربع قصص قصيرة جداً
- صدفة - قصة قصيرة
- مدينتي - قصة قصيرة
- ثلاثية خداش- ثلاث قصص قصيرة جداً
- لعبة قذرة - قصة قصيرة
- عالم الدهشة - قصة قصيرة
- أحلام سعيدة- قصة قصيرة
- سبع قصص قصيرة جداً


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال القواسمي - الجندي المعلوم- قصة قصيرة