أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - الحكيم البابلي - رحلة إلى تركيا والأراضي المقدسة - القدس















المزيد.....



رحلة إلى تركيا والأراضي المقدسة - القدس


الحكيم البابلي

الحوار المتمدن-العدد: 3538 - 2011 / 11 / 6 - 10:37
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



لا مجاملة على حساب الحقيقة - حكمة عالمية

كانت رحلة جماعية ( 17 يوماً ) شارك فيها خمسة عشر صديقاً مع زوجاتهم .
إبتدأت الرحلة بالطيران من أميركا إلى إسطنبول - تركيا لمدة ثلاثة أيام ، ثم السفر على ظهر باخرة سياحية - كروز- إلى واحدة من جزر اليونان ليوم واحد ، ثم مواصلة الإبحار إلى مدينة حيفا – إسرائيل ، ومنها زيارة بالباص إلى مدن كثيرة مثل الجليل وقانا وطبريا وكفر ناحوم وبيت لحم والقدس العتيقة ( مدينة المدائن ) ، ثم العودة بالباخرة لزيارة جزيرة أخرى من جزر اليونان ، ثم العودة لأسطنبول لليومين الأخيرين من الرحلة ، ومنها عدنا على بساط الريح إلى أميركا .
أجمل ما في السفرة كان الصحبة ، مجموعة الأصدقاء وزوجاتهم ، ثلاثين من أروع الناس ، وحيث تكون المحبة والتسامح والأخلاق تكون سعادة الناس وراحتهم .

اسطنبول مدينة متحضرة ، ورغم كونها مدينة إسلامية إلا أن نتائج سياسة الراحل مصطفى كمال ( أتاتورك ) والأن ( أردوغان ) قد أعطت ثماراً يانعة ممكن ملاحظتها بوضوح في الحياة اليومية العامة لشعب المدينة ، والتي ساعدتهم بصورة إيجابية في التخلي عن كثير من القشور والمثقلات الدينية والإجتماعية التي تنوء تحت ثقلها - تقريباً - كل الدول الإسلامية الأخرى ، وربما هو دليل آخر على إرتباط الدين بالجهل والتخلف .
وجدتُ في اسطنبول ( حمال أوجه ) بكل معنى الكلمة ، مدينة تطفح بالتناقضات الحادة من كل نوع ، بلد قد اكمل – تقريباً – إنتقاله من القديم للجديد ، ولكن على إستحياء وتأني وحذر . ففي هذه المدينة العريقة ترى الشرق والغرب يتمازجان كالألوان الزيتية ليولد ذلك الهجين الغريب ولكن الرائع من خلال هذا التزاوج الحضاري .
أولى ملاحظاتي عن اسطنبول كانت حول نظافة شوارعها ومحلاتها وأركان المدينة ، وبإمكاني القول إنها أنظف من الكثير من المدن الأميركية .
أعجبتني شخصية رجل الشارع التركي ، فهو مسالم ودود ويُحاول جاهداً خدمة السائح وبالتالي فهو يخدم نفسه ومدينته ووطنه ، ويعلم عن وعي وتجربة بأن ( 60 ) مليون سائح سنوي لتركيا تؤلف نسبة كبيرة من واردات البلد !!، لِذا فهو لا يستهين أو يُفرط بمصدر رزقه كما يفعل العربي مثلاً ( وسأتطرق لتصرفات الفلسطينيين مع السواح لاحقاً ) في بعض بلداننا السياحية أو التي ممكن أن تكون سياحية وبكل ما تحتويه من آثار ومواقع ومعالم تأريخية ثمينة وشهيرة زائداً كل المناطق الجغرافية والمناخية والبيئية المحلية النادرة الوجود .
الجوامع في اسطنبول كثيرة لدرجة الإسفاف !!، بحيث أن منظر الأفق الجبلي الرائع للمدينة لا يُظهِر غير قباب ومآذن الجوامع المنتشرة في أرجاء المدينة الجبلية المبنية على سبعة جبال كبيرة .
لا أذكر إنني سبق وأن رأيتُ في بغداد مثلاً جوامع بهذا الحجم الخرافي ، فكأننا في سحر عوالم الف ليلة وليلة .
من الجوامع الأسطنبولية العملاقة : جامع السلطان أحمد ، جامع السليمانية ، جامع يني الجديد ، جامع محمد الفاتح ، وغيرهم الكثير ، وبرأيي أن هذه الجوامع لم تُبنى لسد حاجة المصلين وعددهم ، بقدر ما كانت ترفاً وبذخاً وبهرجة وتقية مارسها السلاطين العثمانيين أيام إنتصاراتهم ومجدهم وسيطرتهم على كنوز وموارد الدول الكثيرة التي غزوها وإستعمروها .
للمغني الأميركي الراحل ( فرانك سيناترا ) أغنية شهيرة بإسم ( نيويورك نيويورك ) يقول فيها إنها المدينة التي لا تنام !، والحق لو يُشاهد الأميركان اسطنبول ليوم وليلة لنسوا نيويوركهم تلك ، حيث حتى في الساعات الأولى من الفجر فهناك ملايين الناس يمشون في شوارع اسطنبول وأزقتها ، و 90 % من محلاتها لا تُغلق أبوابها ليلاً أو نهاراً .
عطلة نهاية الأسبوع في تركيا هي الأحد بدل الجمعة !!، وكانت هذه واحدة من تغييرات ( أتاتورك ) الذي حاول جاهداً تقريب تركيا للنموذج الأوربي والإبتعاد عن النموذج الشرقي أو الإسلامي ، وبدأ سياسته تلك بنبذ الحرف العربي في الكتابة التركية ، وإعتماد الحرف اللاتيني بدله .
النساء التركيات جميلات جداً ، وعلى آخر طراز من تقليعات الملابس والشعر والماكياج ، وطبعاً هذا لا يمنع وجود الكثير من المحجبات - لا المنقبات - ، كذلك لاحظنا أن الرجل التركي لا يتحرش بالنساء ، وهم مُلتزمين ومنضبطين من هذه الناحية ، وأعتقد بأنهم شعب شبعان جنسياً ، ولا تنهشه مخالب الحرمان والكبت الجنسي كغالبية شعوب الشرق الأوسط التي ترزح تحت ظلم ومعاناة ( تابو ) العادات والتقاليد والمحرمات والمقدسات ومخلفات الأديان والمجتمعات الجاهلة المتزمتة والتي حَرَمَت وحَللت على هواها وهوى المنتفعين ، والتي جعلت من موضوع الجنس بعبعاً لم يلتهم إلا أصحابه والمؤمنين به ، فكان أن إحترق الأخضر واليابس ، ومع هذا فقد فشلوا في تحجيم الجنس .. حلالاً أو حراماً ، ولهذا ترى في شوارع أسطنبول شاباً وشابة متعانقين في قبلة حارة في نفس الوقت الذي تنطلق فيه مكبرات الصوت من عشرات ومئات المآذن في دوامة صوتية حادة لتعلن بأن الله أكبر !!.

في منطقة السلطان أحمد ينتصب شاهقاً هيكل كاتدرائية ( أيا صوفيا ) التأريخية الشهيرة التي بناها الإمبراطور قسطنطين سنة 360 م . وتم تحويلها لجامع وإضافة أربعة مآذن لها بعد وقوع القسطنطينية ( اسطنبول حالياً ) بيد العثمانيين بقيادة السلطان محمد الفاتح سابع سلاطين آل عثمان حين كان عمرهُ 25 سنة ، وبعد حصار دام 50 يوماً ومعارك برية وبحرية عنيفة ومصيرية تُعتبر من أذكى الحروب تأريخياً .
كانت أيا صوفيا كنيسة لمدة 916 عاماً تحت لواء الدولة البيزنطية ، وبعد سقوط القسطنطينية حولها العثمانيون لجامع لمدة 481 عاماً ، وفي سنة 1935 م قرر أتاتورك تحويلها لمتحف من متاحف التأريخ الفني .
قد يطول الحديث عن هذه الكاتدرائية العملاقة التي تعتبر تحفة من تحف وآثار العمارة البيزنطية المبكرة ، وتمثل أيضاً تقاليد العمارة الرومانية ، وتحمل كذلك بعض بصمات الفنون والزخرفة العثمانية الجميلة ، وتعتبر من أهم التحف المعمارية في التأريخ . ولكن للأسف تم فرض الكثير من ما إعتبروه فناً إسلامياً لها ، كتلك اللوحات الكبيرة الخشبية الدائرية الشكل والتي خُط عليها ( الله ، محمد ، أبو بكر ، عثمان ، عمر ، علي ، الحسن ، الحسين ) ، هذه اللوحات تبدو دخيلة وكأنها قد فَرَضَت نفسها في مكان لا تليقُ به أو ربما لا يُليق بها وبحسب إجتهاد الفكر ، وكل ذلك يمثل قمة المجاهرة بإنتهاك حقوق وحريات وعبادات الأديان الأخرى ، وإستحواذاً لا مُبرر له للآثار غير الإسلامية .
يقول الدليل التركي بأن أتاتورك حول هذه الكنيسة لمتحف في سنة ( 1935 ) لتحقيق نوع من العدالة بين المسلمين والمسيحيين حول عائدية هذه الكنيسة ، لكني شخصياً لم أشتري كلامه حول العدالة بليرة واحدة !!، لأن أتاتورك عرف قبل غيره بأن كل شبر وحجر وصورة ونقش وزخرف وشمعدان وباب وثريا داخل وخارج تلك الكنيسة يقول وينطق ويصرخ بمسيحية هذا البناء ، ولكن ما العمل وكُتب وفلسفة وشريعة الإسلام تقول : ( يجوز تحويل الكنيسة إلى مسجد عندما تكون البلد قد فتحت عنوةً ، والعنوة لها حكمها في الشريعة الإسلامية ) إنتهى . وهذا طبعاً منطق القوي ، ولا يحق لغير المسلم هذه ( العنوة ) ولهذا فإن إسرائيل غازية ومعتدية كونها تؤمن وتطبق مبدأ ( العنوة ) والقوة !!.

اسطنبول أكبر المدن التركية ، وتقع على بحر مرمرة ، وهي جسر وحلقة وصل بين الشرق والغرب ، وربما من هنا أتت أهميتها جغرافياً وتأريخياً مما خلق الإقتتال الديني الطويل بين الدولة البيزنطية المسيحية والدولة العثمانية المسلمة ، وقبل سقوطها بيد العثمانيين تمت محاصرتها عبر تأريخها 29 مرة فشلت جميعها ، وأول حصاؤ لها كان في فترة حكم معاوية بن أبي سفيان ، ولعل أهميتها وأهمية محاصرتها ومحاولة فتحها المتكررة كانت بسبب قول النبي محمد : (( لتُفتحن القسطنطينية ، فلنعم الأمير أميرها ، ولنعم الجيش ذلك الجيش )) .
زيارة هذه الكنيسة يكلف ( 20 ليرة تركية ) للشخص الواحد ، بالإضافة إلى ما يصرفه الزائر أو السائح من نقود يومياً للطعام والشراب وشراء ( المجلات والمنشورات والفيديوات والتحفيات والتماثيل وأنواع الهدايا ) وكل ما يتعلق بهذه الكنيسة من أمور . وحسب تقديراتي فأظن بأن زوار هذه الكنيسة يصل ل 100 الف زائر لليوم الواحد ، وهذا يقول لنا الكثير عن العقل التجاري لأتاتورك والذي حول هذه الكنيسة لمتحف للتأريخ الفني ، وحسناً فعل .
الكثير من شغيلة الشارع الإسطنبولي يتكلمون العربية بصورة لا بأس بها ، وعندما تسألهم عن جذورهم الجغرافية يتضح أن الغالبية من القامشلي السورية أو قضاء الأسكندرونة ( السليب ) !، ولكن الغريب والمحير أن غالبية هؤلاء الناس يَدَعون أنهم أتراك ويتنكرون لجذورهم العربية !!!، وربما كان السبب في برأيي هو المحبة المفقودة بين الأتراك والعرب ، لا بل أستطيع أن أجزم بأن هناك نظرة دونية للعرب من قبل الأتراك ، وتفسيري الشخصي لكل ذلك هو شعور قومي عام من كلا الطرفين ، ولدتهُ العلاقات التأريخية والسياسية والإجتماعية بين الأتراك والعرب ، فالأتراك - وكما نعرف- ينظرون للعرب كمسلمين خونة ساعدوا الأنكليز والحلفاء ضد الدولة العثمانية المسلمة في الحرب العالمية الثانية ، وخاصة يوم إحتلت الجيوش البريطانية العراق آذار سنة 1917 ووضعت حداً لحكم الإستعمار العثماني التركي البغيض والمتخلف جداً ، والذي كان قد بدأ سنة 1638 ميلادية ، وأذكر أن والدي كان يُردد بأن الأتراك يُسموننا ( عرب خيانات ) .
من الناحية الأخرى فالعرب وخاصةً العراقيين ينظرون للأتراك العثمانيين كمستعمرين أذلوهم وإستغلوهم وإستعملوهم وظلموهم وإستعبدوهم وعاملوهم بلا رحمة أو ذرة إحترام أو إنسانية ، وعلى مدى قرون طويلة لم يعلموهم غير السوء والشر والمظالم ، وكانوا لهم أشر وأرذل وأغبى إستعمار ممكن أن يُسلط على دولة أو أمة أو شعب عبر كل تأريخ المنطقة .

ما لم أستسيغه في اسطنبول ، رغم علمي بأنه موجود في كل المدن السياحية في العالم ، هو عدم نزاهة البائع في التعامل مع السائح الأجنبي ( على عينك يا تاجر ) ، فما هو معروض بمئة ليرة ممكن الحصول عليه بعشرة ليرات ، وهكذا فإن ملايين السواح وخاصة الغربيين يقعون ضحية نصب وإحتيال في كل دقيقة ولحظة في المدن السياحية ، وعندما يتعلق الأمر بشراء ما هو غالي حقاً ، كالمصوغات الذهبية والفضية واللوحات والتحفيات والثريات والسجادات ، فحدث ولا حرج ، لإنها مغامرة خطرة لن يربحها الشاري أو السائح مهما كانت خبرته وثعلبيته .
سعر غالون البنزين ( الكاز ) في تركيا يعادل 12 دولاراً أميركياً !!، ومن باب المقارنة فسعر غالون الكاز اليوم في مشيكان هو ( 38 . 3 ) دولار ، ولا زال الفرد الأميركي المُدلل يتذمر جداً ويتباكى جداً على هذا الغلاء الفاحش .. جداً !!.



يقول بعض أصدقاء الرحلة ممن زار تركيا والعديد من مدنها في السابق ، بأن المدن التركية الأخرى ليست على مستوى اسطنبول من ناحية التحضر والمدنية والحريات الشخصية وحتى نوعية المواطن التركي فيها ، وكما يقول المثل : أن رؤية طيرٍ واحد لا تُبشر بقدوم الربيع .
قضينا في اسطنبول أيام وليالي رائعة جداً ، ولكن المقال طويل ولم يتسنى لي التطرق لها .

ترسو الباخرة السياحية بنا في ميناء ( حيفا ) في إسرائيل
وكان في إنتظارنا – حسب حجز سابق لنا في كل الأماكن والدول التي زرناها – باص بسعة 40 شخصاً ، مع سائق ودليل إسرائيلي لبق وذكي ومرن وكذاب أيضاً ، وسنأتي لذلك لاحقاً . وتبين لنا أنه خريج جامعة ويتكلم الأنكليزية والعبرية ، ونفى أنه يتكلم العربية ، لكننا لم نصدقه ، ورغم إننا ليس لدينا ما نخفيه عنه ، لكننا قررنا أن نتكلم بيننا بلغتنا الكلدانية ، فالحذر يقيك الضرر .
صادف يوم وصولنا لإسرائيل السبت ، لِذا كانت كل مدينة حيفا مغلقة وكأننا في مدينة أشباح ، وإستغربنا كيف يُمكن لمدينة سياحية أن تغلق كل محالها ومطاعمها ومعالم حياتها اليومية بهذه الصورة ولمجرد أنه يوم عطلتها الأسبوعية الدينية المقدسة جداً على ما يبدو !!، وهذا لوحده قال لنا بأن كل من صدق إدعاء أن إسرائيل دولة شبه علمانية هو ساذج وواهم ، فاليهود وكما توضح لنا لاحقاً متدينين ومُلتزمين بالقشور الدينية ( التابو ) مجموعة الخرافات والمقدسات والمحرمات بدرجة ليست بأقل من المسلمين وتعصبهم .
طوال تواجدنا في الباص متنقلين بين المدن مثل ( كفر ناحوم والجليل والناصرة وطبريا وبيت لحم والقدس وغيرها ) وكان دليلنا الإسرائيلي يشرح لنا في بداية الرحلة ما يتعلق برحلتنا والمواقع الأثرية التي سنزورها ، لكنه وبعد عشرة دقائق خرج من حدود واجبه كدليل سياحي ، وأصبح بقدرة قادر دليل سياسي ، وراح يُسهب في الكلام عن سياسة إسرائيل وتأريخها ومراحل الديانة اليهودية والحروب التي دخلت فيها إسرائيل وعلاقاتها بالعرب والعالم ، والهلكوست وهتلر وأمور كثيرة لم تكن تهمنا .. أولاً لأننا نعرفها وبصورة أصح مما كان يُصورها لنا الدليل ، وثانياً لأننا لم نأتي لهنا لسماع محاضرات إعلامية تخص إسرائيل ، وثالثاً لأن ( أغلب ) معلومات دليلنا كانت محورة ومدسوسة ومشوهة بكل دقة وإحتراف ولصالح الدولة العبرية .
وحسب قناعاتي وقناعات أغلب الأخوة في المجموعة فنعتقد بأن كل الأدلاء السياحيين الإسرائيليين يكونون نخبة مثقفة ومُهيأة لممارسة هذه المهنة ، وهم حتماً سيؤثرون على معلومات وذاكرة وعاطفة السائح الأجنبي الذي سيتشبع بالرأي الواحد الذي يُمثل وجهة النظر الإسرائيلية حسب منظورها الفكري والتأريخي والديني والسياسي ، وهذا خداع عالمي يخلو من النزاهة .
حاولنا عدة مرات تصويب معلومات دليلنا العزيز ، لكنه كان يلف ويدور ويُراوغ كثعلب عتيق ، وقد فاجأتهُ دقة معرفتنا التي لم يكن يتوقعها ، وكان يُنهي الكثير من نقاشاتنا معه بقوله : لكم رأيكم وليَ رأيي !!، وقد اوضحتُ له لاحقاً بأنها ليست مسألة آراء ، بقدر ما هي معلومات موثقة علمياً ويعرفها كل مثقف موسوعي . مرة من المرات نفذ صبرهُ معي على ما يبدو ، وربما لقلة حجته ومعرفته ، فقال لي بشيئ من الحدة والتذمر : ليس من حقكم أنتم خارج إسرائيل أن تقولوا لنا كيف نُفكر أو ماذا نعتقد !!، لأنكم لم تتعبوا معنا في بناء هذه الدولة !!.
اغلب تركيز كلام الدليل كان ينحصر في نقطتين أساسيتين وهما : أولاً البكاء من أجل ماضي إسرائيل ، وثانياً التمجيد بحاضر إسرائيل وتصويرها كجمهورية أفلاطون أو مدينة ( السوبرمان ) الحديث .
في إحدى أفكاره المغلوطة ذكر لنا بأن اليهود أصلهم عراقي !!، كونهم من أسباط إبراهيم الخليل والذي تدعي التوراة أنه من ( أور الكلدانيين ) في العراق ، طبعاً صفقت له الأغلبية التي لا تدري من التأريخ حجم قشة ، لكن الرجل أشاح بوجهه عني ولم يعلق عندما أخبرتهُ لاحقاً بأن ابراهيم الخليل شخصية توراتية وهمية ومنتحلة ، وليس هناك اي إثبات علمي واحد لحد الأن على وجوده تأريخياً ، وأن التواجد الوحيد لليهود في العراق كان بعد السبي البابلي والآشوري لأورشليم القدس .

عند وصول ( الباص ) إلى حدود الجزء العربي من مدينة ( بيت لحم ) التي ولد فيها السيد المسيح ، نزل دليلنا الإسرائيلي لأنه ممنوع على الإسرائيليين الدخول إلى الجزء العربي ، وكانت هناك قطعة كُتب عليها هذا المنع بثلاثة لغات : العبرية والعربية والإنكليزية ، وقال لنا أنه ىسينتظر عودتنا عند نقطة الحرس الإسرائيلي ، وبدلاً عنه صعد الباص دليل فلسطيني مسيحي .
من ضمن ما فهمناه من الدليل الفلسطيني هو أن أعداد المسيحيين في القدس تناقصت بصورة غير طبيعية أبداً في السنوات الأخيرة ، وحسب آخر إحصاء سكاني في ديسمبر – 2007 ، فإن عدد سكان القدس 600. 747 نسمة ، 64% يهود ، 32% مسلمين ، 2% مسيحيين !!. وأعتقد أن الأرقام أكثر مني بلاغةً وفكراً ، ولا تحتاج لأي شرح أو تعليق .
بمجرد دخول الباص إلى القاطع أو الجزء العربي يُطالعك كل ما هو مُختلف عن الجزء الإسرائيلي ، فالشوارع غير نظيفة وهناك أكوام من النفايات هنا وهناك ، وأكثر منها أكوام نفايات عمليات البناء الحجري والتي لم يتم إزالتها حتى بعد الإنتهاء من البناء ، كذلك تشاهد وبكثرة مزعجة الكتابات السياسية المعادية وغير الناضجة فكراً ولغة وأخلاقاً .. وبألوان فاقعة تملأ بوقاحة جدران البيوت والمحال التجارية ولا يخلو بعضها من سباب لهذا الطرف السياسي أو ذاك ، بينما عشرات الأطفال مبعثرين في الشوارع بلا رقابة إجتماعية أو عائلية وهم يتقافزون كالأرانب بين السيارات المسرعة أو يُحاولون بيع بعض الحاجيات للسواح وخصوصاً الماء .
كذلك تصعقك رعونة وإستهتار السواق وهم يمرقون بسياراتهم كالنيازك وبأقصى سرعة ولا أبالية في الشوارع الحجرية الضيقة والتي بالكاد تتسع لسيارتين صغيرتين ذهاباً وإياباً !!، وكان هذا نفس حال وطريقة سياقة الأتراك في اسطنبول أيضاً ، وكل هذا ذكرني باللافتات التي كانت تملأ ساحات بغداد أيام زمان ، وكانت تقول ( السياقة أخلاق ) !.
والظاهر أن الناس في هذه المدن قد تعودوا هذه الفوضى وهذا الضجيج والعجيج بحيث أصبحت أمور ٌكهذه من ضمن الروتين والمشهد السريالي اليومي .
أكثر ما ضايقني هو الوجوه الكالحة المقطبة العبوسة للفلسطينيين ، والخالية من الود ، والتي كانت تُلاحقنا أينما حللنا أو وصلنا وتطل علينا حتى من الشرفات المنزلية وكأننا مخلوقات غريبة من كوكب آخر ، مع العلم أن مدن سياحية أثرية كهذه من المفروض بسكانها أنهم قد تعودوا رؤية الغرباء والمختلفين عنهم .
الحق لم يبتسم لنا أحد غير الأطفال الأبرياء الذين لم تُفسدهم بعد الآيدلوجيات الدينية والسياسية وتعاليم الرب العدوانية !!، كانوا يُلاحقوننا غير مُصدقين إننا نتكلم لغتهم ، ومن يدري .. فلعل هيئتنا لم تعد تدل على جذورنا !!؟ .
بادلنا هؤلاء الصغار محبةً بمحبة ، وتكلمنا وضحكنا معهم ، ودفعنا لهم ضعف ما طلبوه من أسعار في حاجيات إشتريناها منهم ولم نكن حقاً بحاجة لها .
في الشارع الفرعي وبعد الإنتهاء من زيارة إحدى الكنائس ، كان هناك عدة محلات لإصحابها المسلمين لبيع التحف والنفائس والذخائر الدينية للمسيحيين الزوار ، وفجأةً وبدون أي مبرر أو سبب معقول قام أحد هؤلاء الرجال عن كُرسيه بغضب وراح يصرخ بنا ويوبخنا بكل لؤم وعدائية وقلة ذوق وأدب ، مُدعياً أن أصواتنا عالية ومُزعجة ، علماً بأننا كُنا في الشارع والفضاء المفتوح !!. وعلماً أيضاً بأنه سمعنا نتكلم العربية العراقية ومن المفروض أن يحترم تقاربنا الجذري كأضعف الإيمان .
طبعاً كلنا عرف بأن أصواتنا لم تكن السبب في قلة أدبه ، بل مسيحيتنا ، والحق لم يكن أي مِنا يتوقع حماقة كهذه ، ولهذا خيم علينا الصمت للحظات ونحنُ نحاول هضم سفاهة الرجل ، وكم ذكرني الموقف بالمثل العراقي : ( يستأسد الكلب دائماً أمام باب بيته ) ، وبما إنني كنتُ وبالصدفة أقف قريباً جداً منه ، لِذا قلتُ له معتقداً بأنني سأخجله وأُحرج موقفه : شكراً جزيلاً على ضيافتكم وأخلاقكم ومحبتكم ، نظر الرجل في عيني بكل صلف ووقاحة وتحدي وأجاب : لا شكر على واجب .

في مدينة الناصرة – إسرائيل ، كان الدليل الإسرائيلي قد وعد بأن يأخذني لمكتبة عربية لشراء بعض الكتب ، وإتصل ب ( ندى ) الفتاة الفلسطينية التي وعدتني بدورها أن تدلني على مكتبة قريبة من مقر عملها ، وحين وصولنا رافقتُ ( ندى ) الفتاة الخلوقة المؤدبة إلى المكتبة الموعودة ، وخلال دقائق معدودات صُعقتُ بسبب أنواع الكتب المُتربة المرصوصة بعشواية في أدراج تلك المكتبة ، كتب دينية لا حصر لها ، وكتب لغو رخيص ولسانيات وجعجعات وتهويمات وكل أنواع الخرافات وتدني العقل الغيبي ومن كل نوع ، وتحمل عناويناً لمواضيع تعافها النفس الحضارية لكُتاب مغمورين لم يسمع بهم أحد ولا تتجرأ كتبهم على الدخول إلى بيوت ومكتبات من يملك نفسه وعقله .
حاولتُ جاهداً أن أجد كتاباً واحداً مفيداً لأشتريه ولو من باب المجاملة ، لكنني عجزتُ ولم أشأ بعثرة بضعة ( شيقلات ) ثمناً لزبالة خالية من الفكر قد أرميها في أول سلة للنفايات خارج المكتبة ، وتذكرتُ الحكمة القائلة : قل لي ماذا تقرأ .. أقول لك من أنتَ .
ملاحظة : ( الشيقل الجديد ) هو العملة الرسمية النقدية في إسرائيل ، والتي تم سكها حديثاً في سنة 1985 ، وهي إقتباس آخر من ضمن مئات الإقتباسات التي أخذها اليهود من بلاد ما بين النهرين ( سومر وبابل ) ، لأن الشيقل هو أساساً عملة عراقية قديمة جداً ، وقد وردت تسميته في شرائع وقوانين مسلة حمورابي أكثر من ( 40 ) مرة .

عند خروجي من المكتبة مع ( ندى ) تلك الفلسطينية التي أعادت بعض ثقتي بالفرد الفلسطيني ، وكما يقول المثل : ( إن خُلِيت قُلِبَت ) ورغم أن تعارفنا لم يدم أكثر من ربع الساعة لكنني إحترمتها حقاً لطبعها الهادئ وكلامها الأنيق الرزين وإحترامها للسائح وإصرارها على المساعدة ، شكرتها على مجهودها معي وسألتها : هل هذا ما يقرأ الناس في بلدكم ؟ ، أجابتني على إستحياء : معك حق .. أنا أيضاً مستاءة مما شاهدتُ من كتب ، ولكن هناك مكتبات وكتب أفضل في شارع صلاح الدين ، لكنه بعيد .
حين عودتي معها إلى حيث كانت مجموعتنا الكلدانية تنتشر على رصيف المكان وبعضهم يتبضع من المحلات التجارية ، رأيتُ وسمعتُ إثنان من رجال المجموعة مشتبكين في نقاش غير ودي وعلى رصيف الشارع مع بضعة فلسطينيين من أصحاب تلك المحلات ، وكان النقاش حول كنيسة كبيرة عبر الشارع تُدعى كنيسة البشارة وكان يلتصق بجانبها جامع صغير - كالعادة المتبعة في الغالب - وعلى جدار الجامع لافتة خشبية كبيرة مخطوط عليها بالعربية والإنكليزية الآية القرآنية القائلة (( ومن يتبع غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين )) ، تحدي ووقاحة وتحرش رخيص بمشاعر مسيحيي نفس البلد قبل غيرهم ، وبالكنيسة المجاورة ، وبكل السواح الأجانب الذين يعتمد نصف وارد البلد وإقتصادياته عليهم ، شرقيين كانوا أو غربيين ، وهنا نجد التعمد المخلبي الخبيث والرخيص في ترجمة آية قرآنية إلى اللغة الإنكليزية ولمجرد التحرش والطعن بالسائح الأجنبي المسيحي ومحاولة إهانته !!!. وكم يقول لنا هذه التصرف عن غباء وتخلف مسؤولي المدينة الذين لم يأبهوا حتى لمسألة المحافظة على أولويات وبديهيات المدينة السياحية التي تحت تصرفهم !!.
يعني من كل الآيات القرآنية يختار لنا الأخوة المسلمين - وبكل سوء نية وتعمد وغباء أيضاً - آية عدوانية لمجرد تعكير مزاج من هو غير مسلم ، ولا أفهم لِمَ لَمْ يختاروا آية – ولو على سبيل المجاملة – فيها شيئ من المحبة والسلام ، رغم معرفتي بقلة مثل هذه الآيات وقلة من يُطبقها من المسلمين .


لم يكن مقرراً في منهاج مجموعتنا حين وصولنا للقدس في اليوم الأول ان نزور ( حائط المبكى ) والذي يسموه أيضاً ( البراق ) ، وهو جزء من هيكل سليمان وكل ما تبقى من المعبد أو السور القديم الذي كان يُحيط بمعبد حيرود . ويُشكل حائط المبكى ثاني أقدس الأماكن عند اليهود بعد ( قدس الأقداس ) ، ويؤدي اليهود صلواتهم عند هذا الحائط منذ القرن الرابع للميلاد .
طلبنا من دليلنا الإسرائيلي زيارة الحائط لنأخذ فكرة شخصية عنه ، وطبعاً فرح الدليل لطلبنا هذا .
أثناء زيارتنا للحائط لم أجد فيه – كالعادة – أية قداسة عدى تلك التي أعطاها له هؤلاء المؤدلجين دينياً والمصابين بفايروس الغيبيات . حائط صخري قديم مبني من حجارة بلهاء كما كل دور العبادة في العالم ، حائط أصم وأبكم أعاد لذاكرتي النكتة الذكية التي تقول [[ أن مقدمة برامج أميركية تعمل في ال ( سي أن ان ) سمعت عن رجل يهودي في التسعين من عمرهُ يُقال أنه تعود أن يذهب ليصلي أمام حائط المبكى مرتين في اليوم ولمدة ستين سنة ، فما كان منها إلا أن سافرت لإسرائيل بغية مقابلة الرجل ، وفعلاً وجدته أمام حائط المبكى ، ولما إنتهى من صلاته قابلتهُ : l
“ I’m Rebecca Smith from CNN . sir , how long have you been coming to the wall and praying ? “
“ for about 60 years “
“ 60 years ! that’s amazing ! what do you praying for ?”
“I pray for peace between Christians , jews and the Muslims. I pray for all the hatred to stop , and I pray for all our children to grow up in safety and friendship “
“ How do you feel after doing this for 60 years ? “
“ like I’am talking to a fuckin wall “[[

الجزء الأيمن من حائد المبكى كان مُخصصاً لزيارة النساء فقط !! ، والجزء الأيسر للرجال ، وبحسب تفسير الدليل فإن سبب العزل بين الجنسين هو كي لا يرى الرجل إمرأة بقربه فتثور رغباته وأحاسيسه الجنسية فتبطل صلاته !!!، أول ما تبادر لذهني هو حماية الأديان للرجل ولم أجد في تبرير الدليل أي إختلاف عن تبريرات وتخاريف المسلمين ، وإزدادت قناعتي من أن محمداً إبن عبد الله لم يترك شيئاً في الدين اليهودي إلا وإقتبسهُ .
لاحقاً علمنا من نساء مجموعتنا بأن اليهود قرب الحائط طلبوا منهن نزع صلبانهن أو تغطيتها بشال أو قطعة قماش !!، بعض نسائنا نفذن الأمر بصورة ميكانيكية ، وبعضهن رفضن بشكل قاطع وقاطعن زيارة الحائط . وأترك التعليق للقراء .
قبل الزيارة كانوا قد طلبوا مِنا أن نتوضأ بالماء المتوفر عبر عدة حنفيات ، أيادينا ووجوهنا فقط ، وقالوا ان السبب هو الحذر من أن ينتقل إلينا مكروب من الحائط - أو العكس- والذي تُلامسه مئات الأصابع كل يوم ، كذلك طلبوا مِنا أن نعتمر في رؤوسنا ال ( يامكا ) وهي غطاء الرأس الديني الذي يعتمره اليهود عادة ونسميه في لغتنا الشعبية العراقية ( قحفية أو عرقجين ) وكانوا يوزعونه مجاناً ، وبعد أن لبسناه إلتقطنا بعض الصور التذكارية ونحنُ نتضاحك من أنفسنا وشكلنا ، رغم أن دليلنا الإسرائيلي كان قد طلب مِنا وبكل أدب أن لا نسخر من تقاليد دينه اليهودي ، ولكن ... هل في تقاليد كل الأديان غير ما هو مُضحك ومثير للسخرية !؟ .
كانت هناك مجاميع وأفراد من اليهود الأرثذوكس تملآ المكان ، وهم أشد الطوائف اليهودية تعصباً ورجعية وتطبيقاً للدين بكل شعائره الخرافية ، وممكن تشبيههم بطائفة ( الامش) في أميركا ، وخاصة من ناحية لباسهم ، أو بالسلفيين والأصوليين المسلمين ، إلا أنهم يلبسون البدلة السوداء التقليدية ( بنطلون وسترة ويلك وقبعة وحذاء ) مع الثوب الأبيض ، ولهم لحى كثة كالسلفيين ، وسوالف ( زلوف ) طويلة ملتوية ومتموجة وتصل إلى أكتافهم ، والغالبية يلبسون النظارات الطبية السميكة ويحملون ذلك الأنف المقوس الكبير الذي إشتهر به الساميون من يهود وآراميين وعرب عبر كل العصور ، لكنه بقي من سيماء اليهود الوراثية أكثر من غيرهم ربما بسبب عدم تزاوجهم مع بقية الشعوب .
على الجانب الأيسر للحائط يقع بناء له فناء داخلي عميق ومسقف ، ويزدحم لحد التخمة باليهود الأرثذوكس - رجالاً فقط ! – وهم يصلون ويتعبدون على شكل مجاميع صغيرة يتقدمها قارئ شبهته بالإمامي المسلم الذي يتقدم جموع المصلين المسلمين ، وكان القارئ يُرتل أو يقرأ و ( الرواديد) يرددون أو يرتلون خلفه باللغة العبرية المليئة بحرف ال ( خ ) كما في اللغة العربية والآرامية . كان منظراً لم تعهده عيوننا ويوحي لنا بوثنية ما قبل الديانات التوحيدية . والشيئ الذي لاحظته بوضوح تام هو أن كل المصلين كانوا مسالمين حتى في نظرة عيونهم ، ولم يكونوا يعيرون أية أهمية لغير اليهود من الزوار الذين يمتلأ بهم المكان ، على عكس المسلمين الذين منعونا من زيارة مسجد قبة الصخرة !! ، ربما خافوا أن ننجسهُ !!.
في الساحة الواسعة التي هي إمتداد لما قبل حائط المبكى كان ينتشر ما لا يقل عن عشرين من الجنود الإسرائيليين بملابسهم العسكرية الخفيفة الزيتونية وأسلحتهم الرشاشة المدلاة من أكتافهم . شباب بعمر الورود وتتراوح أعمارهم ربما بين سن ال ( 17 و 25 ) على اقل وأعلى تقدير . بشوشين ترتسم على وجوههم براءة من لم يدنسهُ لؤم الزمن وأحقاد البشر وغسيل الدماغ الديني ، كانوا خجولين جداً وتوردوا حمرةً حين حادثناهم وطلبنا منهم إلتقاط صور تذكارية معنا ، قال لنا أحدهم بأن خدمة المجندين هي خمسة سنوات ، وخدمة المجندات سنتين ، وفكرتُ : ما هي جريمة هؤلاء الشباب سوى إنهم ولدوا عشوائياً في إسرائيل ومن أم وأب يهوديان !؟ ، كذلك هي الحال بالضبط على مبعدة ميل واحد مع الشباب الفلسطينيين الذين ولدوا في مجتمع إسلامي وتشبعوا بما لُقنوا من فكر !، وكلا الجهتين لا تزال لحد اليوم تتعامل مع نتائج المشاكل المشتركة ، لا مع جذورها ، وهذا سيقودهم لدوامات أكبر وأعتى .

مراحل وفقرات منهاجنا لزيارة المدن الفلسطينية كان مقرراً سلفاً من قبل أعضاء مجموعتنا الكلدانية ، وأغلبهم من المتدينين ، ولكن ليس من الوزن الثقيل !!، وقد تضمن جدول الزيارة مجموعة كبيرة من الكنائس ، فهذه كنيسة العذراء مريم ، وهذه كنيسة مار فلان ومار علان ، وهذه كنيسة مريم المجدلية ، وهذه كنيسة كل الأمم ، وهذه كنيسة صياح الديك وهي ترمز لقول المسيح ليلة القبض عليه لتلميذه بولص : ستنكرني ثلاثة مرات قبل أن يصيح الديك ، وهذه كنيسة القديس جرجس ، وكاتدرائية الثالوث الأقدس ، والحق فقد تضاربت الأسماء في رأسي وإختلط الحابل بالنابل وأصابتني حالة من الإشباع الديني بعد صيام طويل جداً ، ولم أعد أذكر غير أن لكل هذه الكنائس شكل واحد وطعم واحد ومعنى واحد وكلها مصنوعة من خشب وحجر وإن لا قدسية لها إلا ما يهبه لها المؤمنين من قدسية مُفتعلة بحيث إنها بدونهم ليست سوى مجموعة حجارة لا تختلف بشيئ عن حجارة أي بناء مدني في المدينة .
لكن بضعة كنائس بقيت في ذهني ولأسباب مختلفة ، منها كنيسة نسيتُ إسمها يقال أن المسيح قام على أرضها بمعجزته في تقسيم عدة أرغفة للخبز وسمكتين على خمسة آلاف من تابعيه !!، نعم ( 5.000) آلاف ، فأكل الجميع وشبعوا وفاض من الخبز والسمك الكثير !!!!. مشكلتي إنني لا اؤمن بالمعجزات .
في كنيسة أخرى إسمها ( مغارة الحليب ) في مدينة بيت لحم ، ويقال أن السيدة العذراء حين كانت تُرضع يسوع الطفل ، سقطت عدة قطرات من حليب ثديها على أرضية المكان ، فتحولت الأرضية رأساً إلى اللون الأبيض !!.
ولا يزال الكهنة الفرنسيسكان لحد اليوم يقومون بقشط التراب الجيري الأبيض من أرضية وجدران المغارة ، والذي يُقال بأن له قدرة عجائبية على شفاء الأمراض ومنها السرطان بعد إذابته في الماء الساخن وشربه !!.
وقيل لنا بأن عشرات من الحجاج الذين إستعملوه كدواء قد تم شفائهم تماماً من أمراضهم ، لِذا علقوا قصصهم المكتوبة على الأوراق في أرجاء المغارة !! ، ولكن لا أحد قال لنا كم من ملايين المرضى الآخرين لم يتم شفاؤهم بواسطة هذا الحليب ، بدلالة عدم وجود رسائلهم ؟ ، وكم كان سيكون حجم الحفرة المقشوطة لو كان الرهبان حقاً يقشطون منذ مئات السنين حيث أن تأريخ هذه الكنيسة يقول إنها بُنيت سنة 1838 !!، ثم أن إمكانية شفاء عدة مرضى من أمراضهم المستعصية كالسرطان مثلاً هو أمر طبيعي وإعتيادي ويحدث لنسبة ضئيلة من المرضى ، ولا ننسى أن المؤمن يقوم دائماً بتنسيب كل إنجاز علمي لمقدرة الرب الخالق ، وهذه من أكبر آفات العقل الديني الجاهل . وعندما تُناقش أي مومن متمرس في أمور كهذه فسينهي النقاش الذي لا يفقهه بقوله : هي مسألة إيمان ، أو : أن الله على كل شيئ قدير ، أو أن السيد المسيح قال يوماً : (( لو كان لكم إيمان بقدر حبة الخردل لقلتم لهذا الجبل تحول فيتحول )) ، والحق إني لا أذكر أن تأريخ البشر سجل لنا ولو لمرة واحدة بأن إنساناً تمكن أن يحول جبلاً أو حتى صخرة كبيرة بقوة إيمانه ، وهذا دليل على أن ليس بين البشر من له إيمان بقدر حبة الخردل ، وإن المسيح طلب الكثير من المستحيلات وما هو فوق مقدرة وطاقة الجنس البشري المسكين !!.
عند خروجنا من كنيسة ( مغارة الحليب ) كانت هناك غرفة جانبية قرب الباب الخارجي ، وحوالي عشرين من المؤمنين بعضهم من مجموعتنا الكلدانية ، ينتظرون دورهم لشراء كيس صغير فيه مقدار آونس واحد من الحليب المجفف المنسوب لتلك الكنيسة ، ويقوم ببيعه أحد الرهبان وبسعر دولارين أميركيين !!!، ويقول المثل : لو عُرف السبب بَطل العجب ، إذن فموضوع الحليب لم يكن سوى تجارة ( بزنس ) !!!. وليس من باب السخرية أو قلة الأدب أو التجاوز على شخص السيد المسيح لو قلتُ بأنني لا أستبعد أبداً أن يطلع علينا تجار الدين في المستقبل القريب ببدعة أن السيد المسيح تبول على الأرض الفلانية أو تغوط على أخرى ويقومون ببناء الكنائس فوق المكان المُكتشف بقدرة القادر من أجل مزيد من التجارة ، وقد عُرفت الشام منذ أقدم الأزمان بالتجارة والشطارة ، ولهذا قامت في أرضهم ديانتين ، وكما يقول الشاعر مظفر النواب في مقطع من قصيدة له : ماذا يطبخ تجار الشام على نار جهنم !؟ .
سيناريو الإكتشافات الدينية لمواقع مقدسة ليس مستبعداً في أية لحظة أو يوم أو سنة ، ما دام العقل الغيبي للمؤمنين يتستر على العقل التجاري لرجال الكهنوت ، وفي عالم المؤمنين كل شيئ ممكن ، أوَلم يَخلق الكهنة الله ثم إدعوا بأنهُ خلقهم !!؟ هي التجارة الوحيدة التي لا تكسد ولا تبور !!.
واحدة من السيدات إدعت بأنها سبق أن أعطت الحليب المجفف لعدة سيدات عاقرات لم يسبق لهن أن حملن ، وكانت النتيجة أنهن حبلن ( جميعاً ) هكذا بالجملة !!، شاهدة زور لم تخجل من كذبتها ، ما دامت الكذبة تدعم أركان دينها ، وهو الكذب الحلال الذي يُباركه الرب دائماً !!.
أنا على يقين بأنني لو أخذتُ كيس الحليب المجفف هذا وعرضته على محلل وخبير كيمياوي لفحصه ، فستكون النتيجة أنه من منتجات واحدة من معامل صناعة الحليب المجفف أمثال ( سميلاك ، كارنيشن ، نستلي ، سبارتن ) وسيكون من ثدي بقرة هولندية أو أميركية أو حتى إسرائيلية ، وليس من ثدي السيدة العذراء كما يدعي الرهبان الكذبة المزورين وتجار الدين الذين يشوهون إسم السيدة العذراء بخزعبلات كهذه ليس يطالها رقيب أو حسيب .
يقول المثل : حدث العاقل بما لا يُليق ، فإن صدق فلا عقل له .
أما الكنيسة الثالثة التي بقيت عالقة في ذهني فهي كنيسة القيامة حيث قبر المسيح ، والتي سأتطرق لها لاحقاً .

لترطيب جو المقال بنكتة حقيقية ، فقد حدث إنني مرضتُ منذ اليوم الرابع للسفرة ، ولحد إسبوعين بعد عودتنا منها ( رشح ، حمى ، قحة ، بلاعيم ) ، لكن مَرَضي وحالة الإجهاد لم يمنعاني من مرافقة المجموعة والتمتع بكل أيام الرحلة ، كذلك كان قد تمرض عدة نساء ورجال من مجموعتنا ومن ضمنهم زوجتي .
ضحكتُ في سري وأنا أسمع ( بالصدفة ) سيدة من مجموعتنا تقول لأخرى : لا أعرف كيف يُسلط الله المرض على المؤمن كما يُسلطه على غير المؤمن ..خاصةً ونحنُ في الأراضي المقدسة !!؟
طبعاً السيدة كانت تقصدني ب ( غير المؤمن ) ، وهذا ذكرني بحكاية طريفة لصياد سمك مصري قام بصيد سمكة جداً كبيرة وغريبة الشكل ، وأهداها للملك فاروق الذي قام بدوره فوهب الصياد لقب ( باشا ) !!، وعلى طريقة : ( شيل إن شاء الله محد حَوِش ) ، بعدها بأيام هبت على النيل عاصفة هوجاء قلبت مركب الصياد ، فوقف غاضباً حانقاً يُخاطب الله ويعاتبه بكل جدية متذمراً وشاكياً حاله : إذا كنتَ يا رب العالمين تُعامل الباشوات مثلي بهذه الطريقة القاسية ، فكيف إذن ستُعامل الناس الغلابة !!؟ .

أغلب الكنائس التي زرناها في هذه الرحلة ، كان فيها حرص وتشدد وإصرار لحد المبالغة على أمرين لم ينتبه لهما من كان معي في الرحلة ، وهما ( التعتيم والصمت داخل الكنائس ) !!، ولا أعتقد بأن كل هذا الحرص على التعتيم والصمت هو وليد الإعتباط والسذاجة والصُدفة ، بل هو علم مدروس ومُعتمد ، وحصيلة تجارب زمنية وممارسات ودراسات نفسية توصل لها الكهنة - حماة الرب - قبل غيرهم ، عبر ألفين من السنين من عمر المؤسسة الكنسية الكهنوتية .
كما تعرف الغالبية من المطلعين فإن للصمت والتعتيم والسكون تأثيرات نفسية على البشر ، وتُحدث جو مشحون بالرهبة والخشوع والقدسية والخوف من المجهول ، وتُساعد في زيادة شدة التأثير على الشخص المؤمن ، وتُحيطه بأجواء مكهربة رغم إنها مُصطنعة ، وحتى الأفراد الذين يعملون في السحر والشعودة وكشف الطالع نراههم يعمدون لهذه المؤثرات الخارجية للتأثير على زبائنهم قليلي العقل والمعرفة ، وهي نفس العوامل والأساليب التي يستعملها مُخرجي أفلام الرعب في هوليوود ( موشِن أفيكت ) في أفلامهم للتأثير والسيطرة على المناخ النفسي للمشاهد الجالس في قاعة العرض السينمائي المظلمة .
في الكنائس التي كانت تعتمد على ( الصمت والتعتيم ) كان هناك دائماً راهب مهمته واحدة طوال النهار ، أن يضع سبابته على فمه ، مع بحلقة في وجوه السواح والزوار ، وهو يأمرهم بكل تسيد وجدية : هشششششششششش ، هششششششششش ، وهذا يدعونا للتساؤل : هل الكلام الخافت والهمس يعتبران حالة عدم إحترام مثلاً للروح القدس الذي - ربما - يطوف في أرجاء المكان ... حسب زعم كاهن شاب الظاهر أنه كان يتدرب على ممارسة آيدلوجية الخرافة الدينية !!؟.
أغلب مشاهداتي لكنائس القدس وغيرها من المدن ( المقدسة ) أوحت لي بوثنية لحد التطرف ، ولا عجب ، فكل أديان الأرض الحالية وثنية أساساً ، وجائتنا من أصول وثنية ، وبنيت على مفاهيم وأساطيرلأديان وثنية قديمة رافدينية ومصرية وكنعانية ، فلا عجب من وثنيتها !!.

في اليوم الثاني لتواجدنا في إسرائيل قمنا بأهم زيارة كان ينتظرها أعضاء مجموعتنا الكلدانية ربما طوال حياتهم ، وهي زيارة ( كنيسة القيامة ) في القدس ، والتي يُقال إنها بُنيت فوق جبل الجلجلة أو الجلجثة والتي تعني ( الجمجمة ) في اللغة الآرامية . كذلك تحوي المغارة التي دفن داخلها السيد المسيح ومن ثم قام في اليوم الثالث كما تذكر الكتب ، وقد سُميت بكنيسة القيامة نسبة لقيامته من بين الأموات ، ولها يحج مسيحيي كل الطوائف .
هذه الكنيسة مُشتركة بين ثلاثة طوائف ( الرومان الكاثوليك .. وهم الرهبان الفرنسيسكان ، الروم الأرثذوكس ، الأرمن الأرثذوكس ) ، أما بقية الكنائس الأخرى فتملك مذبحاً أو ركناً من أركان هذه الكنيسة .
المثير في أخبار هذه الكنيسة الجامعة ، أنه تأريخياً كانت قد وقعت عدة نزاعات بين الطوائف الثلاثة المهيمنة عليها حول : ( من يحتفظ بمفاتيح الكنيسة ؟ ) ، وكان الحل في إتفاق الأطراف الثلاثة على أن تقوم عائلة مسلمة من القدس بهذه المهمة ، وقد طُبِقَ هذا الإتفاق منذ العهد العثماني ، ولا زال يُطبق لحد اليوم !!، أوليس هذا أكبر دليل على روح المحبة والأخوة والتعايش المشترك بين المسلمين والمسيحيين فيما لو حسنت وصفت النيات ؟ .
بُنيت كنيسة القيامة سنة 326 ميلادية من قبل الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول ، وهو الذي نقل عاصمة الإمبراطورية الرومانية من روما إلى الدولة البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية والتي هي اسطنبول اليوم .
تبدأ الزيارة داخل الكنيسة بالدخول من بابها الخشبي الأثري العملاق ، ومن خلال الزحام الشديد نصعد من جهة اليمين سلالم حجرية إلى مكان يُفترض به أن يكون ( جبل الجلجلة ) حيث صلب السيد المسيح . وسط ذلك المكان يوجد ما يشبه حفرة حجرية جانبية بالكاد يمكن تمييز ماهيتها لأن التعتيم على أشده رغم تواجد الكثير من الشموع ، وهذه الحفرة تُمثل القاعدة الحجرية التي ثُبت بين صخورها الصليب يوم صلب المسيح .
كان الزوار ينتظرون دورهم ويحاولون الدخول في تلك الحفرة الجانبية - غير واضحة المعالم - للتبرك وإلتقاط الصور ، ولكن كاهن في العقد الرابع من العمر طويل القامة نحيلها ، متجهم الوجه عصبي المزاج ، راح يدفع الناس بكل خشونة ووقاحة وقلة ذوق !!، ويحاول منعهم من الدخول لتلك الحفرة أو الفجوة ، لا بل كان يسحب بعضهم بعنف من داخل تلك الحفرة بصورة لم أصدق أن كاهناً ممكن أن يلجأ لها ، وأين ؟ في كنيسة قبر المسيح !!.
الغريب أن لا أحد إعترض على السلوك اللا مسيحي لذلك الراهب المتعجرف المتكبر العديم الإحساس ، كانوا بالضبط كما يُريدهم الدين المسيحي : خرافٌ في حضرة الراعي !!، بل كانوا أكثر مما توقعتُ ، يستعطفونه ويتملقونه ويُغالون في بذل نقودهم له من أجل شراء الشموع التي كانت أمامه على مائدة صغيرة حيث يجلس كشرطي مرور ينظم السير ويُعاقب المخالفين !!. كذلك راح بعضهم يتمرغ ويتمسح ويقبل ويحتك بحجارة ذلك المكان ، و أغلبهم من النساء .
الحق أثارتني سلبية كل تلك المشاهد الوثنية التي تصرخ مغالاةً ومبالغة ، والخالية من التعقل والتبصر بالقيمة الحقيقية لما حولنا من أشياء ، لِذا تركتُ هذا المشهد الصاخب ونزلتُ بصحبة زوجتي سلماً جانبياً يؤدي لصخرة مستطيلة مجوفة على ما أعتقد تم إضافتها حديثاً - 200 سنة - لمحتويات الكنيسة ، يعني هي ليست النسخة الأصلية ، بل المُفترضة وتُمثل المكان الذي أسجي عليه جسد المسيح بعد موته وإنزاله من على الصليب حيث أحاطت به أمه مريم ، ومريم المجدلية وبعض تلامذته وتابعيه ، وذلك قبل نقل جثمانه إلى قبره في المغارة .
بعدها إنتقلنا إلى قبر المسيح ، وكانت الفسحة أو الصالة الكبيرة المحيطة بالقبر من كل جوانبه معتمة نوعاً ما ، بحيث لم أستطع تمييز ما حولي من أشياء إلا بعد عشرة دقائق .. أي بعد ان إعتادت عينيَ على ظلمة المكان ، ومع هذا كان من الصعوبة بمكان تمييز ما حولنا بصورة واضحة وخاصة الألوان ونوعية الأشياء .. هل هي حجر أم معدن أم كارتون أم قماش !!!، وقفنا في طابور طويل ننتظر دورنا لزيارة القبر ، وبعد نصف ساعة جاء دورنا ، فدخلنا تجويفاً صخرياً ضيقاً قيل لنا أنه قبر السيد المسيح ، وأيضاً كانت الإضاءة داخله شبه معدومة ، وقبل ان نُميز ما في المكان من موجودات دخل آخرون وطلب مِنا كاهن مبتسم الوجه أن نخرج ونتيح الفرصة للآخرين !!، ولاول مرة أرى كاهناً مسيحياً في كنائس القدس يبتسم ويرحب بنا ، ويُربت على أكتافنا ويُساعدنا في الدخول والخروج لقبر المسيح ، ولأول مرة أيضاً أهمس لراهب هناك : شكراً أبونا ... بارك بك الرب الذي تعبد .
الحقيقة لمستُ الكثير من تعالي وغطرسة وتشنج وعجرفة القسس والرهبان في كنائس فلسطين ، ولا يسمح لي طول المقال بإضافة المزيد ، لكن كل هؤلاء ينطبق عليهم قول المسيح : أنتم مِلح هذه الأرض .. ولو فسد الملح .. فبماذا يُمَلحْ !؟ .

عبر رحلتنا زرنا جزيرتين يونانيتين أو قبرصيتين ( لا فرق ) ولم يكن فيهما ما يستحق الذكر غير إنهم قد حولوا كل الساحل المقابل للمرفأ إلى أسواق تحوي مئات المحلات لتبضع السواح ن وبأسعار أغلى من توقعاتنا ، وتقوم البواخر السياحية برفد هذه الجزر بالسواح وبمعدل 3 أو 4 بواخر في اليوم ، وكل باخرة بسعة 2000 غلى 3000 آلاف سائح ، وطبعاً هناك إتفاق تجاري بين شركة البواخر السياحية وهذه الجزر ، وبعمولة مُرضية ، تجارة طبعاً .. ولكن على الأقل ليست بإسم الدين والمقدس والله !!، وبرأيي لو كان أي سائح مُخير في زيارة هذه الجزر أو لا لما رأينا أكثر من مئة سائح على سواحلها أو في أسواقها .

في اليومين الأخيرين لرحلتنا كُنا في اسطنبول مرة أخرى كمرحلة أخيرة لرحلتنا الجميلة ، وبصراحة ، هي الأجمل والأحسن والأنفه والأكثر تحضراً من كل محطات توقفنا السياحية .
في الليلة ما قبل الأخيرة في اسطنبول ذهبنا جميعاً إلى ملهى ليلي يُقدم فواصل من الرقص الشرقي والغناء والرقص الشعبي التركي ، كان المكان غاصاً بالزبائن ، وتقريباً نصفهم من جنس الرجال الذين يرتعبون من مصاحبة نسائهم معهم لأسباب وعقد دينية وإجتماعية ، وفي زاوية منفصلة نوعاً ما كان هناك ما لايقل عن ثلاثين رجلاً باكستانياً بلا نسائهم !!، ولا أعرف أية تقاليد وأي عقل أو حضارة أو مجتمع أو دين يمنعهم من إصطحاب زوجاتهم ولكن بنفس الوقت يسمح لهم بإرتياد الملاهي الليلية وشرب الخمرة والتفرج على مفاتن الراقصات الشرقيات !!!؟
وما أدهشني أكثر في تلك الليلة هو تواجد ما لا يقل عن خمسة عوائل لا أعرف إن كانوا من الأتراك أو العرب ولكنهم حتماً مسلمين لأن زوجاتهم كن يلتحفن بالسواد والحجاب !!، والأغرب أن أطفالهم كانوا معهم ومن عمر ثلاثة سنين إلى عشرة ، بنبن وبنات وهم يتفرجون على وصلات رقص شرقي تكشف فيه الراقصة عن ثلاثة أرباع جسدها أو أكثر !!!.
لا أود التعليق على مشاهداتي تلك الليلة ، ولكن دائماً يتوضح لنا من خلال الحياة اليومية بأن ( أغلب ) المؤمنين في هذا العالم إنما هم متديني تقية ليس إلا .

الباخرة السياحية التي كُنا على متنها كانت أميركية ، تتسع ل 2000 مسافر ، وطاقم خدمتها الإجمالي 750 شخصاً من 65 دولة مختلفة ، والغريب ان ليس بينهم حتى اميركي واحد !!، والكل كان على درجة عالية جداً جداً من المسؤولية والإنضباط والأخلاق وحسن السلوك والمعاملة والدراية التامة بالوظيفة المسندة له أو لها ، والكل رجالاً ونساءً كانوا بشوشين ومجاملين وعلى درجة مُذهلة من الإحتراف الوظيفي .
قد يطول الحديث عن الباخرة ومرافقها وأمور كثيرة لم نكن نتوقع وجودها داخل هذه المدينة العائمة والتي يفوق حجمها حجم التايتانك الشهيرة ، حيث تحوي على ( 12 ) طابقاً ننتقل بينها بواسطة أكثر من عشرة مصاعد عدى مصاعد الخدمة المخصصة للعاملين فيها .
في المطاعم المجانية للباخرة كل ما يحلم به المسافر من أنواع الطعام والمقبلات والفواكه والحلويات والمرطبات ( حار وبارد وآيس كريم ) ولأغلب ساعات اليوم الواحد . المشروبات الروحية ليست مجانية .
وفي الموانئ أو البحر كنا نرى العشرات من هذه البواخر السياحية وكل واحدة بطراز مختلف ، وبعضها أكبر من سفينتنا بكثير وهي تمخر عباب البحر الأبيض المتوسط وبحسب منهاجها لزيارة هذه الدولة أو تلك .
من ضمن ما احتوته تلك الباخرة : [ مسبح داخلي مُغلق ، مسبح خارجي مفتوح ومشمس يقع على سطح الطابق العلوي والأخير منها ، مراقص مختلفة ، فرقتين موسيقيتين وفرقة رقص ، مطاعم كثيرة ومختلفة ، قاعة كمبيوتر ، قاعات إقامة حفلات وفي واحدة منها مسرح لمن أراد إستعماله ، أماكن إستراحة في كل الزوايا ، أسواق للمسافرين ، مسرح كبير في قاعة مُدرجة وممكن إستعمالها كقاعة سينما ، وهذا المسرح يُقدم عروض مختلفة غنائية ومسرحية وإستعراضية كل ليلة ، وطبعاً ليست مجانية ، كازينو للقمار ، محلات تدليك ومساج للجسم والبشرة ، أرصفة خشبية تدور حول الطابق الأعلى للركض والمشي ، بارات في كل الطوابق تقريباً ، قاعة خاصة للرياضة والتمارين ، قاعة لكرة المنضدة ، قاعة لألعاب الأطفال تحوي مختلف الألعاب اليدوية والكمبيوترية ، مرافق صحية عامة في كل الطوابق ، مستشفى مع دكتور وأربعة ممرضات – ليس مجاني ، وكثير من المرافق الأخرى التي غابت عن ذاكرتي ] .
غرف النوم كانت بمساحات مُرضية جداً ، ومزودة بشباك يطل على البحر ، وحمام ومرفق صحي وقاصة وأشياء كثيرة أخرى كما في غرف النوم الأميركية .
أكثر ما أعجبني وصفقتُ له هو أن كابتن تلك الباخرة العملاقة كان سيدة من أميركا الجنوبية . لم أكن مندهشاً بقدر ما كنتُ فرحاً .

#############################
المجد للإنسان . تحياتي
نوفمبر 6 - 2011





#الحكيم_البابلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جذور إقتباسات الأديان التوحيدية -- الجزء الأول
- شجرة عيد الميلاد ، بين دمعةٍ وإبتسامة
- نقد لسلبيات موقع الحوار المتمدن
- هل الأرض مُختَرَقة فضائياً ؟
- يَرمازية وجراد .. ووطن
- كان يا ما كان في بغداد
- هوسات وأهازيج شعبية عراقية .......... 1956 - 1963
- عالم النكتة في العراق
- ظواهر إجتماعية البول للحمير !!!
- بابا نويل لا يزور مدن الفقراء !!.
- من داخل القمقم # 3 ( نذور ونهر )
- من داخل القمقم # 2 ( عرائس النار )
- من داخل القمقم ( 1 )
- الوطن المسكون


المزيد.....




- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
- إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
- “ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في ...
- “ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 بجودة عالي ...
- طقوس بسيطة لأسقف بسيط.. البابا فرانسيس يراجع تفاصيل جنازته ع ...
- “ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 بجودة عالي ...
- ليبيا.. سيف الإسلام القذافي يعلن تحقيق أنصاره فوزا ساحقا في ...
- الجنائية الدولية تحكم بالسجن 10 سنوات على جهادي مالي كان رئي ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - الحكيم البابلي - رحلة إلى تركيا والأراضي المقدسة - القدس