|
فيلم - جبّار - لجمال أمين وحكاية البطل التراجيدي الذي يقارع اليأس والتوحد
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 1050 - 2004 / 12 / 17 - 10:04
المحور:
الادب والفن
عرضتْ القناة التلفازية " Danmark 2 TV" الفيلم التسجيلي " جبّار " للمخرج العراقي جمال أمين " 15 " مرّة، وهذه حالة نادرة في البلدان الأوروبية، ولا تحضَ بها إلا الأفلام ذات القيمة الفنية العالية. وهذا الفيلم، تحديداً، يتوافر على شروط نجاحه الفني لأسباب تتعلق بحساسية الثيمة، وعمقها، وإنسانيتها من جهة، وتمكُّنْ المخرج من أدواته الفنية والتقنية من جهة أخرى، هذا ناهيك عن شحن الفيلم بعوامل الشجن، والغربة، والتأمل الفلسفي الذي يفجّر في صاحبه الرغبة في تحقيق الأحلام الثاوية بين ثنايا الذاكرة. وربما تصلح شخصية جبار سلمان لأن تكون نموذجاً للفنان أو المثقف العراقي الذي تلاعبت بمقدرّاته أهواء الحُكّام المريضة، والمصادفات العمياء خلال العقود الأربعة الأخيرة. فكثير من الأدباء والفنانين العراقيين وجدوا أنفسهم، ومن دون إرادتهم، خارج حدود الوطن، ومنْ لم يُهجّر من وطنه بشكل قسري، دفعه العوز المادي إلى الهجرة الاضطرارية أنّى شاءت له المقادير. فهذا الفيلم التسجيلي القصير الذي يبلغ طوله " سبع دقائق وعشرين ثانية " كان مكثفاً إلى درجة كبيرة بحيث أنه عالج ثيمات كونية مهمة كالغربة، والاقتلاع القسري، والحنين إلى الوطن، والبحث عن الذات، وتحقيق الطموحات الكبيرة، وصعوبة الاندماج في الأوطان الجديدة، أو الذوبان في المجتمعات الأوروبية المختلفة في عاداتها، وتقاليدها، وثقافاتها عن مرجعيات الناس الوافدين من البلدان المخذولة، والممزَقة، والتي لا تستطع أن تستجيب لأحلام شبانها وشيبها في آنٍ معاً. لقد أحسن المخرج جمال أمين صنعاً حينما انتقى ثيمة درامية، مأساوية على الصعيد الإنساني. فما أصعب أن يعيش فنان مبدع جلّ حياته مغترباً، منطوياً على نفسه، معزولاً، لا يربطه بالعالم الخارجي سوى خيط دقيق واهٍ قد ينقطع في أية لحظة؟ الفنان جبار سلمان الذي غادر الوطن مضطراً، بعد أن خلّف وراءه خزيناً هائلاً من الذكريات الجميلة التي تمتد من مراتع الطفولة في حي " الجعيفر " في بغداد، مروراً بالأزقة البغدادية، وانتهاء بساحل دجلة الممتد عبر المدى المفتوح شمالاً وجنوباً، هذه الذكريات، مقرونة بأحلام المخيلة، وما تسعى لتحقيقه ضمن الامكانات المُتاحة. في أول لقطة فنية مقصودة، ومدروسة بعناية يحيلنا المخرج مباشرة من النهر النرويجي الذي يمارس الفنان جبار على ضفته هواية الصيد، إلى نهر دجلة، والأزقة البغدادية المقتبسة من الفيلم العراقي " بيوت في ذلك الزقاق " وهي قريبة إلى حد ما من بيوت " حي الجعيفر ". ثم تتعزز هذه العلاقة لتشمل الأحبة والأصدقاء والأساتذة والفنانين الذين لمحناهم عبر لقطات خاطفة فذكرّتنا بأساطين الفن العراقي الحديث، كما أحالتنا إلى ذكرياته الخاصة. تبدأ النقطة الجوهرية في الفيلم منذ اللحظة التي يعلن فيها الفنان جبار سلمان من دون مواربة قائلاً: " الغربة ليست سهلة إنها معاناة في كل القضايا التي تهم النفس والإنسان بشكل عام. البلد عزيز جداً وليس من السهل على الإنسان أن ينسى تاريخه. لحد الآن نحن غرباء." ولا أريد هنا أن أبرّر لماذا هو غريب تحديداً، فالآلاف من المثقفين العراقيين المهاجرين ليسوا غرباء، وبعضهم لا يعاني، بل بالعكس قد يكون هذا البعض مسترخياً، وليست لديه أية مشكلة فيما يتعلق بالغربة المكانية، وربما لأن الفنان جبار سلمان لا يتقن غير العربية فإنه بالضرورة يعاني من الاحتباس اللغوي الذي يحيّده من إمكانية التواصل مع الآخر النرويجي الذي ينظر إليه كوافد يزاحمه في اغتنام الفرص في سوق العمل، أو يضايقه في وجوده الفيزيقي المجرد عن الأهواء والأغراض، لكن المشكلة الحقيقية تتجلى في أن الفنان لا يتورع عن التصريح بالقول: " هنا في النرويج، عندما أرسم لوحات رائعة جداً لا أجد لها صدى." هذا تساؤل ضمني خطير مفاده لماذا لا ينتبه النرويجيون للإنجازات الفنية التي يقدّمها جبار سلمان على رغم أنها تنتمي إلى المدرسة التعبيرية التجريدية، والتي هي مدرسة أوروبية؟ هل لأن الموضوعات التي يعالجها الفنان تنتمي كلياً إلى صحراء الجزيرة العربية، بمعنى أن منجزه الفني مازال يتعكّز على سنوات الغربة التي عاشها في المملكة العربية السعودية والأردن والتي امتدت إلى قرابة الاثنتي عشر عاماً. يا ترى ما هو دور تواجده وكينونته في العراق والتي أخذت الجزء الأكبر من حياته الفنية والثقافية؟ ولماذا لم تتمظهر في نتاجاته الفنية؟ ولماذا تهيمن الكائنات البدوية، والمناخ الصحراوي على أعماله الفنية حتى وإن جاءت منضوية تحت يافطة الأسلوب التجريدي؟ يا ترى، هل أن عزلة هذا الفنان العراقي مبررة؟ هل أن اللائمة يمكن أن تلقى على النرويجيين لأنهم اختاروا له منفى جديداً، نائياً اسمه " سكريه " بحكم شروط وقوانين التوطين المحلية، بحيث لا يستطع أن يتواصل، إلاّ بصعوبة بالغة، حتى مع اللاجئين العراقيين أو العرب الذين قد يخففون شيئاً من وطأة الغربة اللغوية خصوصاً وأن الفنان كان قد غادر الأردن وهو في الحادية والستين من عمره، ولم يُتح له أن يتقن لغة أخرى. هل أراد المخرج أن يمسك بمشاعر " اليأس " القوية التي انتابت الفنان، وأغلقت بوجهه كل المنافذ التي قد تفضي إلى آفاق مفتوحة؟ هل أن الأحاسيس المفزعة هي التي دفعت الفنان إلى التيقّن بأنه " لا يجد صدى أو قبولاً لأعماله الفنية في نظر النرويجيين " في حين أن واقع الحال يشير إلى أن الكثير من ذوّاقة الفن التشكيلي في النرويج كانوا يترددون على معارضه الشخصية، ويعربون عن إعجابهم بتجربته الفنية، وربما يكون مشهد افتتاح المعرض الشخصي له هو خير دليل على احتفاء النرويجيين به، وبتجربته الفنية التي تتميز بمنجزه المغاير " مُضافاً إليه البياض المتوهج الذي استعاره من لون الثلج الذي يحيط به من الجهات الأربع "؟ هل أراد الفنان عبر تصريحاته المقتضبة في الفيلم أن يقول بأنه غير محظوظ حتى في " لجوئه شبه القسري إلى النرويج " لأنه كان يحلم بالمتاحف، والمسارح، ودور السينما، والمكتبات العامة، وصالات العرض التشكيلي وما إلى ذلك، وكأنّ النرويج تخلو من هذه المظاهر الحضارية والمدينية؟ أظن أنه ليس بطل الفيلم وحده، وإنما نحن جميعاً، يتملكنا إحساس قوي بأننا ضحايا سابقة للاستعمار البريطاني أو الفرنسي، وفي الأعم أن " الضحية تبحث عن جلاّدها، ولا تستكين إلاّ بين أحضانه. ". متذرعين بأن المظاهر الحضارية والمدينية لا تتوافر إلاّ في دولتين كبريين هما إنكلترا وفرنسا، وهذا الشعور لا يخرج عن حدود الوهم، والتعلّق المرضي بأسطورة المُستعمِر التي لم تُقتلع من ذاكرتنا بعد. لابد من الإشارة إلى موسيقى منير بشير قد لعبت دوراً كبيراً في استثارة كل معطيات الحنين الشرقي، وأجوائه الدافئة، المتوهجة التي تنطوي على حس عالٍ بالنشاط والحماس والفعالية المتواصلة، تماماً كما انسجمت الموسيقى الغربية للموسيقار الإيطالي توماسو ألبينوني مع أجواء المدن النرويجية المكتظة بالسكان. وربما كانت أغنية جبار عكار ذات الروح والإيقاع البدويين هي عنصر " الدوزنة " بين الموسيقتين الشرقية والغربية. كما أن مضمون الأغنية كان منسجماً تماماً مع خسارات الفنان جبار سلمان المتراكمة. صحيح أنه أصبح حراً، طليقاً، ويستطيع أن يرسم ما يشاء، لكنه خسر الشمس، والصحراء المفتوحة، وكسب العزلة التي وصلت به حد التوحد الأبدي لأنه بات موقناً أنه يرسم أعماله الفنية لنفسه، وليس للجمهور الواسع الذي كان يسكن في مخيلته، ومع ذلك فإن الفنان لم ييأس تماماً، فالصنارة التي رماها في مفتتح الفيلم قد تعود بسمكة كبيرة، والقطار الخارج من فوهة النفق سيواجه خيوط الشمس، والوصول إلى بصر النرويجيين وبصيرتهم ليس بالأمر المستحيل على فنان يستمد طاقته الجبّارة من الشحنات القوية لعمله الفني الذي لم يستعِر من النرويجيين سوى بياض ثلوجهم.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فيلم - غرفة التحكّم - لجيهان نُجيم: قناة - الجزيرة - محور ال
...
-
مسرحيون عراقيون في لاهاي
-
حوار الشرق والغرب: المسلمون بين الأصولية والاندماج
-
التطرّف الإسلامي يخترق قلعة التسامح في هولندا
-
ضوء- بيار سلّوم والنهاية المفجعة التي تشيع اليأس لدى المتلقي
...
-
فيلم - رشيدة - للمخرجة الجزائرية يامينا شويخ وآلية التعاطي م
...
-
فاقد الصلاحية - للمخرج العراقي رسول الصغير ثيمة غربية ساخنة
...
-
فوز الكاتبة، وعضوة البرلمان الهولندي أيان هيرسي علي - من أصل
...
-
زنّار النار - لبهيج حجيج: هذيان، وقلق، ولهاث خلف حلمٍ متوارٍ
...
-
فيلم - خضوع - يفضي إلى اغتيال مخرجه الهولندي ثيّو فان خوخ عل
...
-
طيّارة من ورق - لرندة الشهّال جماليات الخطاب البصري، وتفكيك
...
-
فيلم - زائر - لبسام الذوادي بين بنية التخاطر والنهاية الرمزي
...
-
باب العرش - لمختار العجيمي- الشريط الذي ترقّبه الجمهور التون
...
-
فوق كفِّ امرأة - لفاطمة ناعوت: خدع فنية، ومتاهات نصِّية حافل
...
-
مَنْ قال إن - الملائكة لا تحلّق فوق الدار البيضاء - ؟:محمد ا
...
-
- بحب السيما - لأسامة فوزي الفيلم الذي انتزع إعجاب النقاد وا
...
-
الشاعرة الكردية فينوس فائق : اشعر بالضيق حينما أقرأ قصيدة مش
...
-
في الدورة العشرين لأيام قرطاج السينمائية: تكريم الفنانة يسرا
...
-
غير خدوني - لتامر السعيد ينتزع جائزة أفضل فيلم في مهرجان الإ
...
-
أمستردام تستضيف مهرجان روتردام للفيلم العربي في - دورة المدن
...
المزيد.....
-
صحفي إيرلندي: الصواريخ تحدثت بالفعل ولكن باللغة الروسية
-
إرجاء محاكمة ترامب في تهم صمت الممثلة الإباحية إلى أجل غير م
...
-
مصر.. حبس فنانة سابقة شهرين وتغريمها ألف جنيه
-
خريطة التمثيل السياسي تترقب نتائج التعداد السكاني.. هل ترتفع
...
-
كيف ثارت مصر على الإستعمار في فيلم وائل شوقي؟
-
Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي
...
-
واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با
...
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|