|
اللحن الغجري قصة مع اللحن الغجري
سوسن سيف
شاعر وكاتب وفنان تشكيلي
(Sawsan Saif)
الحوار المتمدن-العدد: 3532 - 2011 / 10 / 31 - 13:10
المحور:
الادب والفن
http://www.youtube.com/watch?v=lDS4B8ScWGQ&feature=related
للحن الغجري
في المترو ‘ وعازف اسمر كث الشعر وقد انسدل شعره على كتفيه واحاط بوجهه الذي يحمل ملامح وجوه اوربا الشرقية ‘ وله لحية صغيرة سوداء وشاربان كثان ايضا. كنت اتتبع ما يعزف هؤلاء الذين يتجولون في قطارات الانفاق وينثرون تلك الالحان الرائعه مقابل قطع صغيرة من النقود ‘ وكم كنت أرى تلك القطع الصغيرة تافهة امام ابداع بعضهم وافكر وانا اقول لنفسي بأن هذا العزف يجب ان لا يكون هنا .. لم تكن تهمني الضجة وصوت القطار الهادر ووقوفه المفاجئ في فترات قصيرة ‘ ما همني هو أن أراقب اصابع ذلك المبدع وهو يداعب اوتار الكمان . هنكاريا دانسر رقم خمسة .. بدأ الرجل يعزف تلك المقطوعة التي أحببتها كثيرا ومن سنين طويلة وطالما أخذتني الى ضفاف الحلم قبل ربع قرن مع الموج .. مع الريح الى هناك. الى هنكاريا .. الى بحيرة البلاتون ومارينا هوتيل واربعة عازفين وانا وهو. هنكاريا دانسر رقم خمسة والحلم الاخضر والشباب المتدفق وعيناه الخضروان الشتائيتان ‘ حين كنت كلما انظر الى تلك العينين أعبر الى جزر مجهولة بعيدا .. بعيدا حيث تلقي بي على شواطئها الفيروزية ..اللحن الهنكاري الغجري والحلم الراجع برائحة العطر الذي أحببته منذ أول لقاء سألته : ما اسم هذا العطر؟ أجابني : كرسيان ديور للرجال واستطرد قائلا : سأضعه دائما لك وحدك وحدك فقط . وبدت الطاولات ذات الشراشف الحمراء البهيجة التي تتوسطها حزمة الورد الاحمر والعازفون بملابسهم المطرزة بألوان زاهية يتخللها بريق ذهبي مثير وشعورهم الناعمة الطويلة المربوطة من الخلف ‘ أقتربوا من كثيرا وبدأوا يعزفون تلك المقطوعة التي سحرتني وشعرت اني احلق مع الالحان التي بدأت تذوب في مخيلتي وتتلاشى مع مشاعري الملتهبة ‘ وغرقت من جديد في العينين الخضرواين وسافرت ‘ لا ادري الى اين غير اني كنت اطير وأطير وهنكاريا رقم خمسة ترتفع معي الى السماء. أنا في قطار خريفي واشجارباريس تلفظ اوراقها الذهبية لتفرش الارض بذات اللون ‘ لكني أتسائل أيمكن ان يكون الخريف هنا بكل هذا الجمال ؟ كانت الريح تحرك الاوراق اليابسة وترمي بها كأيامنا وخريف العمرينتحب في أعماقنا المجدبة. هنكاريا رقم خمسة أسمعها الان واتسائل أين أنا ؟ واين هو ؟ وأين يمكن أن يكون الان ؟ القطار يسير واللحن يحرق أنفاسي وشعور بالغربة يحاصرني والرحلة الى ذلك المكان والى مارينا هوتيل والبلاتون وانا وهو والحب . لا ادري ان كان حيا او ميتا ‘ كل شيء انتهى ومضى كل واحد منا في طريق بعد أن انفصلنا اتفقنا ان لا نلتقي أبدا كان طلاقا أبديا. تحاصرني اسئلة كثيرة ومريرة ولم أجد لها جوابا في هذا الزمان وهذا المكان . أين الجزر والشواطئ الفيروزية ؟ أين الحلم الجميل لكنه تششت وأنا احاول جمعه وترتيبه بين وجع الموسيقى وأنينها ؟ يوم قادني في ذاك المساء الى بحيرة البلاتون ولم أكن أجيد السباحة ‘ حملني الى الماء وقال : انظري الى الحصى تحت أقدامنا بربك هل رأيت ماء صافيا شفافا كهذا قلت : لا ‘ انه فعلا يثير الدهشة اكاد اعد الحصا الصغير هذا . وأخذني الى اعماق البحيرة وانا احدق بالسماء التي بدت قريبة مني وكدت المس الغيوم بيدي كانت هناك جبال بنفسجية بعيدة وكم كنت اظن نفسي هناك وعلى القمة . في تلك الليلة والعازفون يعزفون ونحن نتناول العشاء ومن النافذةالكبيرة المجاورة كانت البحيرة تطل بأضوائها المتلألئة والجسر الخشبي القديم يشبه شبحا اسطوريا غريبا خرجنا نتمشى عليه وهو ممسك بيدي والموسيقى ما تزال . : سأحملك الى آخر الدنيا والى تلك النجوم بل أحبك بحجم هذا الكون . أجبته : وانت معي لا يمكن للدنيا أن تكون اكثر جمالا . هنكاريا رقم خمسة اللحن الغجري الرائع والعازف الاسمر ذو الشعر الاسود الطويل والشاربين الكثين والحلم والنغمات الذهبية المسافرة بعيدا ‘ التي تحفر في الوجدان شئ لا يمكن وصفه ‘ حين يأخذنا الحب نصنع العالم نحن وكما نريد ..وجع الذكريات يمتزج مع اللحن يتلون معه يتيه فيه الزمن المنسي يصر على الحضور ‘ وجهه يملأ المكان هنا رغم كل هؤلاء الركاب . المترو والناس ينزلون ويصعدون ‘ فتاة تستريح على كتف رفيقها الغافي ‘ طفل يحيط بذراعيه جيد امه الشقراء ‘ رجل أسود يحدث امرأة سوداء ويضحكان معا حتى تظهر اسنانهما البيضاء وأنا اسكن في اللحن واسافر فيه الى ما قبل ربع قرن . خرج صبي جميل من البحيرة ‘ قال لي : وهو ينظر الى الطفل اريد ولدا مثل هذا قلت : لا اريد شبيها لك أجابني : وبنت تشبهك .. صبي وبنت موافقه.. أجبته مبتسمة وركضنا في الرمل الذي أحتضن اقدامنا . الموسيقى في المترو تعذبني لم اكن ارغب ان اسمعها وحيدة وانا اعيش مرارة الغربة هنا بكل مساحة الحزن التي احتلتني تماما : أين انت ؟ تساءلت في بحر تخيلاتي مضى الكثير الكثير من الزمن وانت لا تظهر. لا يمكن ان اصدق ان الحلم لا وجود له. هل يتذكر القاعة الحمراء والورد والبحيرة وهذه المقطوعة وانا وهو؟ وقفت قبل أيام اسأل محل لبيع تسجيلات للموسيقى وسألت صاحبه عن هنكاريا رقم خمسة ورأيت الحيرة على وجهه قلت لنفسي ربما لم يفهم الانكليزية ولعله سيفهم ( هنكاريا نمرو سانك ) بالفرنسية ‘ فأجاب بالنفي قضيت وقتا طويلا أسأل عن هذه المقطوعة ‘ رغم مرور السنين ورغم الايام التي فقدت نكهتها . ورغم تلك الاعماق المجدبة التي بدأ الخريف بأحتلالها ورغم عبور سنوات الشباب التي ولت دون رجعة حتى تسلل النسيان في روحي ومسح الكثير من معالم ذلك البلد الذي سكناه.. لقد بحثت عن تلك المقطوعة ولم أجدها ‘واليوم في هذا الوقت الخريفي الحزين وأنا وحيدة وحيدة تماما أسمعها الان ! هي جاءت لي قبل ان أذهب اليها ‘ يعزفها هذا الرجل البائس ‘ من أين جاء ؟ ليوقظ في أعماقي جرحا اوشك على الاندمال ويعيد لي من جديد ما ظننته انتهى ‘ بحثت في جيوب معطفي وفي حقيبة يدي على كل القطع النقدية الصغيرة لأضعها في قبعته المتهرئة ‘ لو استطعت البكاء وانا هنا وحيدة .. وكأن الزمن مس يدي ووجهي وثوبي ‘غير ان هناك قلب ينبض بالحياة لكنه توقف مع العازف فلم اعد اشعر بشيء سوى رغبتي في البكاء بعد ما تلاشى ذلك الزمن المنسي.. أعطيته النقود فانفرجت أساريره بأبتسامة عريضة ونظر الي نظرة امتنان . وحين توقف القطار لم ينزل بل مال بجسده محييا وعاد يعزفها من جديد‘ وارتفعت الموسيقى الغجرية الراقصة بكل عنفوانها والقطار يدخل نفقا مظلما آخر ‘ وأنا امنع دمعة من السقوط ‘ وتلاشت العينان الخضراوان الى الابد .. تركت القطار وانا التفت الى الخلف كأنني نسيت شيئا هناك .. غريب ان نجد في مسار حياتنا اليومية بعض المحطات التي نتوقف فيها لتأخذنا الذكريات الى زمن حب لن يعود أبدا ..
سوسن سيف باريس 8 – 4 - 2000
#سوسن_سيف (هاشتاغ)
Sawsan_Saif#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحب منذ طفولتي وعلى اليوتيوب
-
اسئلة ضائعة مع معزوفة مونامور
-
صباح الخير يا بغداد مع موسيقى نصير شمة
-
الان آن الأوان
-
الفراق نص شعري لسوسن سيف مع اليوتيوب والموسيقى
-
رسالة الى امرأة محاصرة على اليوتيوب
-
أنا المرأة لسوسن سيف مع النغم بمناسبة يوم المرأة العالمي
-
قصيدة اخذتها من شعار لا تقتلوني
-
يا وردة القداح مع انين الناي
-
يا وردة القداح شعر شعبي
-
نقد رواية الحفيدة الامريكية للكاتبة والصحفية انعام كججي بقلم
...
-
لكنني أمرأة قصيدة لسوسن سيف
-
سأضمك
-
لكنني أمرأة
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|