|
نبو نائيد ...... أنهيار الدولة ..... الدروس والعبر
فاضل بطرس رمو
الحوار المتمدن-العدد: 3529 - 2011 / 10 / 28 - 23:47
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
نبو نائيد ...... أنهيار الدولة ..... الدروس والعبر ليس هناك الكثير حول نبونائيد (ويكتب نبو نئيد ايضا) قبل تسلمه العرش البابلي في الحقبة البابلية الثانية والتي تسمى ايضا بالكلدانية ،ولكن الكثير من المؤرخين يؤكدون على كونه من عائلة نبيلة مقربة من نبوخذ نصر، ويذهب البعض منهم الى انه كان متزوجاً بأبنة نبوخذ نصر الكبرى الامر الذي جعله مؤهلا لتسلم العرش بعد القضاء على لباشي-مردوخ حفيد نبو خذنصر. ويجمع المؤرخون على ان نبونئيد هو ابن الكاهنة الكبرى لمعبد (سين) اله القمر في حران، وهذا ما يستدل به على اصله الملكي لان هذا المنصب كان يمنح بالعادة لامراء واميرات من العائلة المالكة. وأقدم الاشارات الى نبونائيد وردت في الاشاراة الى توسطه لحل النزاع بين مملكتي ميديا وليديا اللتين تفاقم الخلاف بينهما ، وتشير الوثائق الى ان نبوخذ نصر قد انتدبه لحل النزاع القائم بين المملكتين مما يدل على مكانته من الملك والى قدرته على ادارة الامور السياسية بحكنة وحكمة. لكن نبونئيد استلم الحكم في بابل وهي تنوء تحت عبء العديد من المشاكل التي خلفها الحكام السابقون واهمها المشكلة الافتصادية التي طالت الامبراطورية الواسعة بسبب الحروب المتعددة التي خاضها البابليون منذ ايام نبوخذ نصر واستمرت في عهد خلفائه ، ورغم اهمية المشكلة الاقتصادية وانتشار الغلاء في بابل وتأثيرها المباشر على الاوضاع التي سادت خلال تلك الفترة،الا ان التحدي الديني كان يشكل المشكلة الرئيسية التي ادت الى انهيار مملكة بابل وسقوطها بعد ذلك على يد الاخمينيين ( من الاقوام الايرانية ) .ولتوضيح ذلك سنلقي نظرة سريعة على الاحوال الدينية التي سادت خلال تلك الفترة في بابل. لم تكن سلطة الملك يقيدها القانون وحده ولا الأعيان وحدهم، بل كان يقيدها أيضاً الكهنة. ذلك أن الملك لم يكن من الوجهة القانونية إلا وكيلاً لإله المدينة، ومن أجل هذا كانت الضرائب تفرض باسم الإله، وكانت تتخذ سبيلها إلى خزائن الهياكل إما مباشرة أو بشتى الأساليب والحيل. ولم يكن الملك يعد ملكاً بحق في أعين الشعب إلا إذا خلع عليه الكهنة سلطته الملكية، واخترق شوارع المدينة في موكب مهيب ممسكاً صورة مردوخ. وكان الملك في هذه الاحتفالات يلبس زي الكاهن، وكان هذا رمزاً إلى اتحاد الدين والدولة، ولعله كان أيضاً يرمز إلى أصل الملكية الكهنوتي. وكانت تحيط بعرشه جميع مظاهر خوارق الطبيعة، ومن شأن هذه كلها أن تجعل الخروج عليه كفراً ليس كمثله كفر، لا يجزى من يجرؤ عليه بضياع رقبته فحسب، بل يجزى أيضاً بخسران روحه. ولقد ظلت بلاد بابل في واقع الأمر دولة دينية "خاضعة لأمر الكهنة" على الدوام ،هذا اضافة إلى أن نفوذهم لدى الأهلين كان أعظم من نفوذ الملك نفسه، وكان في وسعهم في بعض الأحيان أن يخلعوه عن عرشه إذا راجعوا أمرهم وسخروا ذكائهم وقواهم لهذه الغاية. وأقدم الآلهة كلها، كانت آلهة السماء وما فيها: أنو السماء الثابتة، وشمش الشمس، وننار القمر، و بعل الأرض التي يعود كل البابليين إلى صدرها بعد مماتهم. وقل عدد الآلهة شيئاً فشيئاً بعد أن فسرت الآلهة الصغرى بأنها صور أو صفات للآلهة الكبرى. وعلى هذا النحو أصبح مردوخ إله بابل- وكان في بادئ الأمر من آلهة الشمس- كبير الآلهة البابلية. ومن ثم لقب ِايل- مردوخ أي مردوخ الإله. ان معرفة هذا الامر ضروري ويفيدنا في حياتنا الحاضرة وذلك من اجل معرفة المقدمات التي قادت الى تلك النتائج الوخيمة في سقوط بابل، كما ايضا لفهم وتفسير الاحداث التي تتابعت بعد استلام نابونئيد عرش بابل، ذلك لان نابونائيد الذي كان يجل الاله (سين) اكثر من اي اله آخر بحكم تعلقه بأمه الكاهنة العليا لمعبد سين في حران كما اسلفنا، فقد عمل على زعزعة مردوخ من مكانته السامية واحلال (سين) مكانه كمعبود رئيسي في البلاد التي تقع تحت سيطرته وهو الامر الذي جعل كهنة مردوخ واتباعه يشعرون بالبغض على نبونائيد، الذي هو الاخر ترك مدينة بابل وعمل على اعادة تشييد معبد سين في حران رغم الازمة الاقتصادية الشديده كما انه ذهب ليستقر في واحة تيماء على اطراف الجزيرة العربية وبذلك تأجل اقامة احتفالات راس السنة البابلية لمدة عشر سنوات لانها لايمكن ان تتم الا بوجود الملك نفسه الذي عليه ان يقدم ولاءه الى مردوخ آله مدينة بابل وحاميها، وهو ما عزف عنه نبونئيد. كما من الضروري ان نعلم ان الملك لا يقدم خضوعه الى مردوخ فقط باعتباره الاله الحامي لبابل والسيد على مجمع الالهة السماوي ،لكنه ايضا يؤكد خضوعه لمجمع المعبد في بابل ،مؤكدا على التزامه باداء الطقوس التي يفرضها عليه ، وهذا ما دأب نبونئيد على مخالفته في محاولة لتثبيت زعامة الاله (سين) على المجمع الالهي في بابل والذي من اجله عمل على صرف مبالغ طائلة لاعادة بناء المعبد العائد اليه في حران ، كما انه عين ابنته أينة (كاهنة) في معبد الاله سين في اور السومرية ( قرب الناصرية جنوب العراق)، ومن المحتمل انه عمل على تبديل في الطقوس لتلائم الفكرة الجديدة عن الاله سين الامر الذي ادى الى وقوف كهنة معبد مردوخ ضده. ولم يقرر المؤرخون السبب الذي دفع نابونائيد للاقامة في تيماء طيلة عشرة سنوات تاركا بابل بعهدة ابنه (بليشاصر) الذي لم يكن على قدر المسؤولية التي القيت على كاهله. فيذكر البعض ان ذلك يعود الى وقوع تيماء وسط سهل خصب،وذات مناخ صحي،كما ان الطرق التجارية القادمة من مأرب مارة بمعين ونجران ويثرب وديدان والحجر تلتفي فيها وهي ذاهبة الى العراق من جهة والى بترا عاصمة الانباط من جهة اخرى، اضافة الى ارتباطها بالطريق القادم من الجرعاء على الخليج العربي مارا بالاحساء فالهفوف ثم بريدة الحالية وحائل، ولا شك ان هذا جعل لها اهمية اقتصادية ربما كانت سببا في ذهاب نبونائيد اليها واستقراره فيها. ويؤكد البعض الاخر ان السبب في اقامة الملك البابلي في تيماء يعود لكونها احد المراكز الرئيسية لعبادة الاله القمر، حيث ان سكان تيماء كانوا يعبدون الاله القمر او احد أوجهه ويعتبر شكلا من اشكال عبدة سين البابلي ، لذلك فقد عمد نبونائيد الى تشييد معبد ضخم للاله القمر في تيماء واتخذها مركزا للعبادة وبذلك تعتبر اشبه بالعاصمة الدينية مقابل بابل العاصمة السياسية والاقتصادية. وهنا نود ان نكرر تساؤلات اثيرت من قبل، منها ، هل ان اليهود الذين استقروا في يثرب وخيبر هم بعض بقايا جيش نابونائيد الذي وصل الى هذه المناطق حسبما تشير الوثائق التاريخية التي تم العثور عليها؟ . ومن النصوص المهمة حول هذا الامر مسلتان تم الكشف عنها في مدينة حران الواقعة في جنوب تركيا وتشيران الى ان نبونائيد بسط نفوذه على عدد من مدن شبه الجزيرة العربية وفي المسلتين ما نصه: (ولكنني ابعدت نفسي عن مدينة بابل على الطريق الى تيماء ودادانو وباداكو وخيبر واياديخو وحتى يثربو ، تجولت بينها هناك مدة عشر سنين لم ادخل خلالها عاصمتي بابل). ويمكن القول ان نابونائيد اقام مستوطنات او حاميات من افراد الجيش البابلي في تلك الواحات التي سيطر عليها ، وهنا يمكننا التكهن بان الجيش البابلي الذي كان يرافق الملك في حملاته كان يضم اليه اعداد من يهود السبي الذين استقروا في بابل واندمجوا مع المجتمع هناك متمتعين بحرية نسبيه . التساؤل الثاني وهو الاهم يتلخص بدور نابونائيد في التبشير ونشر عبادة الاله القمر (أو قد يكون الهلال) في الجزيرة العربية، وهل هو كما يشير البعض من عمل على تاسيس مذهب ديني مرتبط بديانة اهالي جنوب بلاد النهرين ( الكلدان) ولنقل بوضوح اكثر مرتبط بالديانة المندائية (العرفانية) بحيث انتشرت فيها ( الجزيرة العربية ) الاديرة والصوامع للنساك والمبشرين فيما بعد ..حيث ان نبونائيد فكر ببث دعوته العرفانية بين القبائل البدوية من اجل كسبها وابعادها عن خصومه. ربما هذه تساؤلات بحاجة الى المزيد من البحث والدراسة،ولكن ما يهمنا هنا ان نابونائيد بعد عشر سنوات من الاعتكاف في تيماء احس أخيرا بالخطر المحدق ببابل جراء محاولات الملك الاخميني الذي أخذت قوته تتعاظم بالشرق فقرر العودة الى بابل والاحتفال بعيد رأس السنة البابلية الذي يوافق الاول من نيسان ، لكن القرار كان متاخرا جدا فلم يستطع عمل الكثير تجاه الغزو الاخميني الذي استطاع الوصول الى بابل.. وتتمثل الظروف والاحداث التي ادت الى سقوط بابل بيد كورش الاخميني بالاتي: 1- لم يكن (بيل شاصر) ابن نابونائيد الذي تركه ليحكم بابل نيابة عنه طيلة فترة وجوده في تيماء واالتي استمرت عشرة سنوات بالشخص المناسب ،فكان واهن الشخصية عديم الدراية والاهلية لشؤون الحكم ، فانغمس بوسائل اللهو والترفيه واهمل الامور الادارية مما ادى الى تفكك مؤسسة الدولة وتفشي الفساد فيها مما ادى الى انتشار التذمر والسخط العام بين صفوف سكان المدن الكبيرة. 2- لعب كهنة معبد مردوخ دورا كبيرا في تهيئة المناخ العام لتقبل الغزو الاخميني لما ابداه نابونائيد من اعراض عن عبادة مردوخ وتفضيله لاله القمر سين كما اوضحنا خاصة بعدما ابدى (كورش) الملك الاخميني استعداده لرد الاعتبار الى مردوخ واعادة المكانة الدينية والامتيازات التي يحظى كهنة المعبد في بابل . 3- لعب اليهود الذين جلبهم نبوخذ نصر اسرى الى بابل ،دورا خبيثا في التهيئة والتحريض على غزو بابل من قبل الاخمينيين ،فقاموا بمدّ الجسور بينهم وبين الملك الاخميني ليغروه بمهاجمة بابل مقابل وعده لهم بالعودة الى فلسطين وإعادة بناء الهيكل. ولاجل ذلك اعلنوا ان كورش هو(المسيح المنتظر) الذي بشرت به التوراة والذي سينقذ اليهود من اسرهم المزمن. 4- تدهور الحياة الاقتصادية وارتفاع الاسعار في بابل لان سيطرة الدولة الاخمينية ( الايرانية) على الممالك المحيطة قد حرم بلاد بابل من موارد تجارية مهمة من الاقاليم الشرقية والشمالية، فضلا عن ان الثورات في المناطق الغربية حرمت بابل من تجارتها البحرية وإتساع نشاط بلاد الاغريق ( الغرب ) التجاري اثر سلبا على بابل. بعد ايام من معركة اوبيس دخل الجيش الاخميني بابل دون مقومة تقريبا ليسدل الستار على وريثة حضارات وادي الرافدين الذي بدأ عهد جديد من السيطرة الاجنبية امتدت الى قرون طويلة . ورغم ان المؤرخين لم يحددوا مصير الملك العجوز نابونائيد بعد الغزو الى ان اسمه بقي في الذاكرة كآخر ملوك بابل ...ولكن ختاما اود لفت انظار القاريء الكريم الى ملاحظة مهمة وهي ما اشبه اليوم بالبارحة .
#فاضل_بطرس_رمو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سيناريو الوضع العراقي المعقد ... ألى أين سيقود هذه المرة ؟
-
واقعنا العراقي الراهن بين التدهور وآفاق الاصلاح
-
أستقرار العراق كفيل بأستقلال ارادته السياسية
-
النوايا السلبية تجاه أقليم كوردستان ... مجددا ... لماذا ؟
المزيد.....
-
وفاة الملحن المصري محمد رحيم عن عمر يناهز 45 عامًا
-
مراسلتنا في الأردن: تواجد أمني كثيف في محيط السفارة الإسرائي
...
-
ماذا وراء الغارات الإسرائيلية العنيفة بالضاحية الجنوبية؟
-
-تدمير دبابات واشتباكات وإيقاع قتلى وجرحى-.. حزب الله ينفذ 3
...
-
ميركل: سيتعين على أوكرانيا والغرب التحاور مع روسيا
-
السودان.. الجهود الدولية متعثرة ولا أفق لوقف الحرب
-
واشنطن -تشعر بقلق عميق- من تشغيل إيران أجهزة طرد مركزي
-
انهيار أرضي يودي بحياة 9 أشخاص في الكونغو بينهم 7 أطفال
-
العاصفة -بيرت- تتسبب في انقطاع الكهرباء وتعطل السفر في الممل
...
-
300 مليار دولار سنويًا: هل تُنقذ خطة كوب29 العالم من أزمة ال
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|