|
من نضال الحزب الشيوعي السوري- اللبناني نساء أمام المحكمة العسكرية
زينب نبّوه
الحوار المتمدن-العدد: 3529 - 2011 / 10 / 28 - 08:02
المحور:
ملف فكري وسياسي واجتماعي لمناهضة العنف ضد المرأة
في أواخر كانون الأول عام 1958 وبعدما طرح الحزب الشيوعي السوري النقاط 13 لإعادة النظر بقيام الوحدة بين مصر وسورية، بدأت حملة الملاحقة ضد الحزب في سورية الذي لم يكن مستعداً لمجابهة هذه الملاحقات. أتى الرفيق فرج الله الحلو إلى بيروت وقصد مكتب جريدة “الأخبار”، صحيفة الحزب المركزية آنذاك، وأشرف على نشر البلاغ الصادر عن قيادتَيْ الحزب الشيوعي في سورية ولبنان، بانفصال الحزبين، بسبب الظروف السياسية الطارئة. ثم عاد إلى دمشق ليتابع عمله في قيادة الحزب الشيوعي السوري، مع أن بلاغاً رسمياً كان قد نشر في “الأخبار” ينص على أن الحزبين انفصلا عن بعضهما، وانتقل كل منهما بسياسته وتنظيمه وملاكاته.. ولكن فرج الله الحلو الملتزم بحزبيته ومسؤوليته، لم يتخلَّ عن واجبه في قيادة الحزب في سورية في أيام الإرهاب الشديد الذي ساد بعد أشهر من قيام الوحدة.
كان فرج الله يأتي بين الحين والآخر إلى بيروت بطرق سرية، وكان آخر لقاء معه في 15 أيار 1959 في “الأخبار”. كان يتحدث عن حجم الصعوبات التي يعانيها الحزب في سورية، وخاصة في مجال الكادر، إذ لم يتبق في دمشق إلا عدد قليل من الكادرات رغم وجود المهمات الكثيرة الملحة، وعاد إلى دمشق إلى أن اعتقل مساء 25 حزيران 1959. بعد الإعلان عن اعتقال المناضل الشيوعي الكبير فرج الله الحلو في دمشق، كان وقع الخبر على الجميع في سورية ولبنان كالصاعقة، ولم تكن قيادة الحزب تعرف أن فرج الله مات تحت التعذيب منذ اليوم الأول لاعتقاله.. فتقرر تنظيم حملة واسعة محلية وعربية وعالمية لمعرفة مصيره والمطالبة بالإفراج عنه. ولم توفر الحملة نظام الوحدة المعادي للديمقراطية وضد عبد الحميد السراج وزير الداخلية وأجهزة المخابرات.. وأرسلت وفود إلى جميع أنحاء العالم تطالب بالتضامن مع الحزب، وشُكلت لجان عالمية للضغط على سلطات الوحدة. ووُجهت نداءات إلى الأمم المتحدة ورؤساء الدول وحكومات الدول الموقعة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تطالبها بالتدخل للإفراج عنه. وفي لبنان قامت حملة واسعة للمطالبة بالإفراج عنه، وقد شكلت المنظمة وفداً نسائياً كبيراً ضم 35 رفيقة معظمهن من الشابات، كنت أنا وشقيقتي في عداد الوفد. توجهنا إلى السفارة المصرية في بيروت لمقابلة السفير والاستفسار عن فرج الله الحلو والمطالبة بالإفراج عنه. لم يكن يخطر ببال أحد من أعضاء الوفد أبداً أن يحصل أي تصادم مع موظفي السفارة. كان الوفد يريد ببساطة الاستفسار عن وضع الرفيق فرج لدى سلطات الوحدة في دمشق والاطئمنان على وضعه والمطالبة بإطلاق سراحه. وقد طلب الوفد مقابلة السفير موضحاً الهدف من المقابلة. غير أن الوفد فوجئ بإنكار المسؤولين المصريين وجود فرج الله معتقلاً في دمشق، وقال السفير المصري بوقاحة “فتشوا عن فرج الله الحلو في بطن أمه”. حصلت معركة حامية بين الوفد وأعضاء السفارة التي كانت في الطابق السادس من البناء، استخدم فيها الضرب بالأيدي والزجاجات الفارغة والكراسي والطاولات. وعلا الصراخ حتى امتلأ الشارع الواسع بالناس وهم يتطلعون إلى أعلى البناء. انتهت المعركة باستدعاء السفير لقوات النجدة والدرك والاتصال بالخارجية اللبنانية، والتهديد بقطع العلاقات الدبلوماسية بين الجمهرية العربية المتحدة ولبنان ما لم تتخذ الإجراءات اللازمة بحق النساء والفتيات. اعتُقلنا جميعاً ونُقلنا في عدد من سيارات شرطة النجدة إلى التحقيق، وضعونا في زنزانة ضيقة، ولشدة الازدحام بقيت عضوات الوفد واقفات طوال الليل، فالزنزانة لم تتسع إلا لمكان الأرجل فقط. بدأ التحقيق مع عضوات الوفد كلاً على حدة، والسؤال من دعا الوفد؟ كيف تم الاتصال؟ وأين جرى التجمع؟ وعلاقة كل واحدة بالأخرى؟ وأسئلة كثيرة أخرى، إضافة إلى تهديدات تعرضت لها عضوات الوفد. وقد دافعت الرفيقات ببسالة عن موقفهن ومطلبهن، والحق في معرفة مصير شخصية وطنية مناضلة لها تضحيات كبيرة على الساحة اللبنانية، وأن ما جرى تتحمل السفارة المصرية مسؤوليته بشكل كامل. كنت مرتاحة جداً لموقف الوفد، رغم أن بعض النساء في الوفد ذكرن اسمي أثناء التحقيق في الدعوة للوفد.. ولهذا تركوني للأخير.. وعندما دخلت شعرت بنظرات مريبة غير مريحة. كان قاضي التحقيق العسكري جالساً وحوله عدد من رجال الأمن واقفين، واثنين من الكتبة، وعلى الطاولة دفتر أسود كبير مفتوح وكثيف الحجم، وأمامه قنينة حبر سوداء مع عدد من الريش للكتابة، كانوا يستعملونها وقتذاك. بدأ الاستجواب كما فعلوا مع باقي الرفيقات، لم يفسحوا لي المجال للإجابة على الأسئلة الموجهة لي، فقد بدأ القاضي بالكلام بدلاً عنّي، والكاتب يسجل على الدفتر الكبير الرسمي ما يقوله “إنني حرضت النساء ودعوتهن للاحتجاج والهجوم على السفارة المصرية، وكنا نحمل أدوات حادة في أيدينا. إلخ”. حاولت التدخل أكثر من مرة لنفي وتفنيد هذه الاتهامات ولكني مُنعت، واستمر التلقين والكتابة. بقيت هكذا نحو الساعة وأنا واقفة أتفرج عليهم، وعلى ما يقولونه. كنت أفكر فيما أفعله في هذ الحالة، وكيف أنفي التهم الموجهة إليّ.. وهنا أعلن القاضي انتهاء التحقيق وطلب منّي أن أوقّع المحضر الذي فبركوه بأنفسهم. تقدمت من الطاولة بخطا ثاتبة، وتناولت الريشة وكتبت بخط كبير “ليس لي علاقة بهذا المحضر، فقد تم بين السيد قاضي التحقيق ومساعده، ووقعت اسمي. ولم أكتف بذلك، فوضعت الريشة ثانية في المحبرة وغمستها جيداً بالحبر هذه المرة، وشطبت الصفحتين الكبيرتين اللتين كتباهما في المحضر الرسمي طولاً وعرضاً.. وهنا قامت الدنيا ولم تقعد كما يقولون.. فقد انتفض قاضي التحقيق كالمجنون وضرب قوة على الطاولة، وجرّني رجال الأمن بقوة وضربوا رأسي بالحائط عدة مرات.. كنت أدري قيمة ما فعلته، فهذه وثائق دقيقة يعتمدها الأمن للإيقاع بالمتهمين، وتعدّ اعترافاً شخصياً منهم يدان المتهم بموجبها. كنت في العشرين من عمري، أمضيت أربع سنوات منها في اتحاد الشباب الديمقراطي، وسنتين في الحزب، اكتسبتُ خلالها الكثير من المعرفة والتجربة، وقرأت العديد من الموضوعات عن المقاومة وأدب السجون.. أدخلوني في غرفة مظلمة وأخذوا عدة صور جانبية لوجهي كما أخذوا بعض البصمات للأدلة الجنائية وأعادوني إلى الزنزانة. كان الحزب قد علم بأمر اعتقالنا، فأرسل المحامي نخلة مطران للاتصال بالنيابة العامة، كما اتصل الحزب بالجهات المسؤولة، واستمرت الاتصالات كل الليل كما علمنا. أُحلنا جيمعاً إلى المحكمة العسكرية في بيروت، فنقلونا في اليوم التالي من الزنزانة إلى سجن السناء المعروف في حي رمل الظريف ببيروت في سيارات للسجون مغلقة.. كان السجن يقع في منطقة سكنية كبيرة، تحيط به الكثير من الأبنية، وكانت نزيلات السجن الموجودات إما متهمات بالسرقة، أو بتعاطي المخدرات، أو اعتقلن لأسباب أخلاقية وهن الأكثرية. لم يكن يوجد في بيروت سجن للموقوفين السياسيين. وعندما وصلنا إلى السجن، وعددنا كبير نسبياً، كانت الأكثرية منا شابات، وقد ظنّ بعض سكان الأبنية ذات الطوابق العليا والشرفات، كما علمنا فيما بعد، أننا اعتقلنا لأسباب أخلاقية. كان معظم سكان الحي من العائلات المحافظة، ولهذا أغلقوا النوافذ وأبعدوا بناتهم ونساءهم من على الشرفات حتى لا يرين المعتقلات القادمات.. ولكن بعد ساعات وقد علموا من الحرس والدرك المحيطين بالسجن الأسباب الحقيقية لاعتقالنا، فتحوا النوافذ والأبواب وهتف بعضهم لعبد الناصر، والبعض الآخر رفعوا أيديهم محيّين. وضعونا كلنا معاً في غرفة واحدة بمواجهة السجينات الأخريات، فأجرى الحزب أيضاً اتصالاته بسرعة بوزارة الداخلية وبشخصيات مسؤولة، فصدر قرار بإخلاء غرفتين كبيرتين، كانت واحدة لمديرة السجن وأخرى لمعاونتها، ونقلونا إلى هاتين الغرفتين. قالت لنا مديرة السجن عندما سلمنا أغراضنا أن نعلن إننا لن نعيدها ثانية، أي الدخول إلى السجن”! فأجبناها كوني على ثقة بأننا لن نتأخر في القيام بما هو ضروري ومقنع في خدمة وطننا وشعبنا، ولا ندري في أي وقت نعود. بقينا في السجن شهراً أو أكثر، كان يوم المحاكمة مشهوداً في بيروت، فقد غصّت قاعة المحكمة العسكرية الواسعة جداً بمختلف القوى السياسية في لبنان من الأحزاب شيوعيين، وناصريين، وبعثيين، وقوميين سوريين، ومن النقابات، وشخصيات سياسية وطنية، وبحضور عدد كبير من ممثلي الصحافة المحلية والعربية والأجنبية، وأهالي المعتقلات، ومن المحامين نخلة مطران وأدمون عون وحسيب نمر وغيرهم، ومحامون عن السفارة وممثل عن وزارة الخارجية اللبنانية. أدخلونا إلى قاعة المحكمة وسط حراسة شديدة من رجال الأمن والشرطة. حَنَتْ إحدى عضوات الوفد رأسها عند دخولنا، فسمعنا صوت والد زوجها وهو يصرخ عالياً من وسط القاعة، ارفعي رأسك فنحن فخورون بكن. كانت محاكمة سياسية بامتياز، تحدثت عنها بيروت فترة طويلة، وقد طالبنا بقوة معرفة مكان ومصير فرج الله الحلو، القائد الوطني اللبناني المعروف، ودافعنا عن مواقفه الوطنية والمبدئية، وعن مواقف الحزب الشيوعي السوري اللبناني والموقف من الوحدة.. إلخ. وعندما تكلم محامي السفير المصري موجهاً اتهاماته إلى الوفد، تكلمت أكثر من واحدة منّا، محملة مسؤولية ما جرى للسفارة المصرية والسفير بشكل خاص. كان الدفاع قوياً محقاً وموضوعياً، وأصرّ أمام المحكمة وأمام الحضور متوجهاً إلى السفير المصري أن يعرف مصير ووضع وضع فرج الله.. مطالباً بالإفراج الفوري عنه. كانت هيئة المحكمة العسكرية تصغي بانتباه شديد إلى عضوات الوفد، دون منعهن من الكلام أو اختصاره، مما دفع رئيس المحكمة إلى توجيه السؤال لبعض الرفيقات أين تلقين دراستهن؟ كان المحامون الشيوعيون يتابعون باهتمام سير المحاكمة دون أي تدخل، وقالوا فيما بعد “لم نكن بحاجة إلى تقديم الدفاع، فقد قامت عضوات الوفد بالدور على أحسن وجه، فلم يكن عندنا ما نقوله أكثر مما قلنه”. ولكن أياً من عضوات الوفد ولا الحزب آنذاك، كان يعرف أن فرج الله الحلو الذي اعتقل في دمشق مساء 25 حزيران 1959 قد قُتل تحت التعذيب، وأذيب جسده بالأسيد في الليلة نفسها.
#زينب_نبّوه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أفكار من كتاب (دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة) للمفكر نصر
...
المزيد.....
-
ضحيتها -الطالبة لالة-.. واقعة اغتصاب تهز الرأي العام في موري
...
-
الاغتصاب: أداة حرب في السودان!
-
غوتيريش: غزة بات لديها الآن أكبر عدد في العالم من الاطفال ال
...
-
-المانوسفير- يصعّدون هجماتهم ضد النساء بعد الانتخابات الأمير
...
-
حجاب إلزامي وقمع.. النساء في إيران مقيدات منذ أكثر من 45 عام
...
-
أيهم السلايمة.. أصغر أسير فلسطيني
-
سابقة في تاريخ كرة القدم النسائية السعودية
-
سجل وأحصل على 800 دينار .. خطوات التقديم في منحة المرأة الما
...
-
سجل وأحصل على 800 دينار .. خطوات التقديم في منحة المرأة الما
...
-
بزشكيان: قبل فرض قوانين الحجاب الجديدة يجب إجراء محادثات
المزيد.....
-
جدلية الحياة والشهادة في شعر سعيدة المنبهي
/ الصديق كبوري
-
إشكاليّة -الضّرب- بين العقل والنّقل
/ إيمان كاسي موسى
-
العبودية الجديدة للنساء الايزيديات
/ خالد الخالدي
-
العبودية الجديدة للنساء الايزيديات
/ خالد الخالدي
-
الناجيات باجنحة منكسرة
/ خالد تعلو القائدي
-
بارين أيقونة الزيتونBarîn gerdena zeytûnê
/ ريبر هبون، ومجموعة شاعرات وشعراء
-
كلام الناس، وكلام الواقع... أية علاقة؟.. بقلم محمد الحنفي
/ محمد الحنفي
-
ظاهرة التحرش..انتكاك لجسد مصر
/ فتحى سيد فرج
-
المرأة والمتغيرات العصرية الجديدة في منطقتنا العربية ؟
/ مريم نجمه
-
مناظرة أبي سعد السيرافي النحوي ومتّى بن يونس المنطقي ببغداد
...
/ محمد الإحسايني
المزيد.....
|