أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال القواسمي - مدينتي - قصة قصيرة















المزيد.....

مدينتي - قصة قصيرة


جمال القواسمي

الحوار المتمدن-العدد: 3527 - 2011 / 10 / 26 - 19:11
المحور: الادب والفن
    


الثلاثون من تشرين اول 1991. اليوم انال حريتي، وها انا نلتُ تذكرة السعادة والهناء بعد اربع وعشرين سنة من الكدح. ما اجمل التذكرة ذات الورق الصقيل! إنها تخطف الابصار بلمعانها، بل تبدو فاخرة مثل تذكرة شركة تي. دبليو. ايه للطيران. عليها اسمي رغم انه غير مقروء، (او على الأقل اعتقد انه اسمي،) ووطني: العالم العربي، والمكان المسموح لي بدخوله: برج السعادة، ومهنتي: سجين سابق غير سياسي كان محكوما عليه بمؤبَّد مع الاشغال الشاقة واطُلِقَ سراحه مؤخراً. التذكرة مُذيَّلة بتحذير رسمي: "تعلن وزارة الصحة بأنَّ هذه التذكرة تسمح لحاملها بأن يدخل الى برج السعادة ليرى  منظر المدينة العربية، وليس لينتحر!" تذكرة السعادة هذه جواز سفري الى الموت.
     منذ بضع سنوات قبل النكسة بحثتُ عن خلاصي القومي والذاتي فلم اجد إلا الاضطهاد والكبت والهزائم. لكن إثر حزيران 1967 اتَّخذتُ قراري بالانتحار. آنئذ ضللتُ طريقي واظلمت الدنيا امامي. نعم، لم يبقَ امامي شيءٌ سوى الموت.
     كانت سيناريوهات الانتحار معروفة ومملة: شنقاً، حرقاً، خنقاً، غرقاً، اُطلق النار على رأسي، السُّم.. آهٍ كم رغبتُ بميتة جذَّابة مُسليّة! حينئذ لم اقتنع إلا ببرج السعادة، وهو ناطحة سحاب تحفة للانظار في عالمنا العربي، بدأ انشاؤها عام 1948، تماما إثر النكبة وقيام دولة اسرائيل. كل عام يزداد برج السعادة طابقاً، ما شاء الله! ويتكوَّن اليوم - والحمد لله - من 43 طابقاً في عين العدو!! على كل حال فلا يرتاد برج السعادة - وعليه اقبال كبير- إلا مَن فيهم ميل للانتحار، لعنهم الله واسكنهم جهنم وبئس المصير! بل تدرك الحكومات العربية الآن أنَّ البرج يُدرُّ ارباحاً جمة؛ لذلك تحرص على بنائه اعلى فاعلى.
     عشية النكسة كنتُ مُعدَماً من المال، والتذكرة الى برج السعادة باهظة الثمن. حاولت ان اجد عملاً لأحوِّش ثمنها وفشلت. فكَّرتُ طويلاً بالاستعانة بوزارة الرفاه الاجتماعي في عالمنا العربي حتى تشتري لي تذكرة، فأدركتُ لاحقاً انه لا توجد وزارة بهذا الاسم. أخيراً وجدتُ نفسي اشق طريقي الى بناية المخابرات العامة. حتى رجال المباحث والمُحقِّقون شكُّوا بي. كانوا عصبيين ومزاجيين. اضطررتُ ان اقول لهم لماذا اريـد ان اعمل : كي انتحر. ضحكوا حتى كاد يُغمى عليهم. الحقيقة انهم لم يُغمَ عليهم، إنَّما ارتاحوا إليَّ ووجدوني تسلية حمقاء يُروِّحون بها شغلهم الرتيب الممل.
     دنا مني احدهم وقال مُهدِّداً، "نحن ثلاثة محققي مخابرات اكفَّاء، نهتم بالناس ونعمل حسب ما تمليه علينا قواعدنا بنجاح كبير، ولا نحتاج احداً. ابحث عن عمل في مكان آخر.. مع السلامة، هيا!"
     لكن المحقق الثاني كان الطف، فقال لي، "لديَّ فكرة جهنمية. لماذا لا تعمل لصالح النظام لتبني مدينتك العربية؟ احسن الحلول هي ان تكون مسجوناً. إِذا نلتَ مؤبداً - أيّ حوالي ثلاثين سنة مع الاشغال الشاقة - فإنني اعدك وعد شرف بانَّك ستنال تذكرة لبرج السعادة حين تخرج من السجن. اما عملك فسيكون بناء السجون، والتحطيب وتكسير الصخور وحملها ونقلها، ودفن جثث السجناء الثوريين العفنة وهلمجرا. سيكون عملك مثيراً وممتعاً. ماذا تقول؟"
-" ماذا اقول! إنني لستُ مجرما!" صرخت فيه وانا مرتعب ومندهش.
     ولكن المحقق الثالث حاول ان يهدِّئني، وكان الطفهم جميعاً نحوي، "ألا تريد تذكرةً لبرج السعادة؟ لا تقلق. كل شيء سيكون على ما يُرام. ساحاول ان اقلِّل مدة الحكم. ساجعلها خمساً وعشرين سنة وحسب، ما رأيك؟ هذا تخفيض خاص بنسبة 17% ، إن وافقتَ على ان تخبرنا وتطلعنا على اخبار الثوريين في السجن. هه، ماذا تقول؟"
     اقول؟ لقد اخافني هذا الرجل الظريف اكثر من قبل. لم استطع إلا ان اقول متلعثماً، "لكني لستُ مجرماً! لم انتهك القانون أبداً في حياتي!"
 فقال لي، "هذه فرصتك لتنتهكه بجريمة صغيرة: اقتلْ انساناً، اسرقْ شيئاً ما، افعل ايَّ شيء، ما عدا ضد النظام، طبعاً!"
 ولكني زعقتُ بوجهه، "انا لستُ مُجرما!" ازعجهم رفضي العنيد، وارعبهم ارتفاع صوتي وحدَّته، وخاصة المحقِّق الأول الذي حاول ان يطردني من المكتب. واصابته نوبة اهتياج عجيبة وحاول ان يضربني وهو ينبح، "احذروا منه. إنَّه مثل منصور الذي عذَّبته منذ يومين. جنَّني! منصور فقد الوعي ونام، وانا منذ يومين لم أذق طعم النوم! لم استطع ان انام.. آه يا ربِّي!" وآنئذ انفجر الدم من أنفه آخذاً طريقه الى فمه ثم الى صدره. يا إلهي، لا بُدَّ أنه يعاني من ارتفاع ضغط الدم! ورأيتُ دمه الحبري المتخثر يُبقِّع الارض وملابس زميليه. وحالاً استدعوا طبيباً، وبعد لحظات اخرجوه من الغرفة. كان عليَّ ان اواجه المحقِّقين الآخرين. لم يكن ثمة مفر. ولذلك، ورغم براءتي، فقد حبسوني بتهمة أنني خطر مُحْتَمَل على المجتمع. والحقيقة انني كنتُ احتاج الى ثمن التذكرة، وكان قبولي بالصفقة خياري الوحيد.
     وصلت الى البرج، وناولتُ الحارس التذكرة وقلتُ له انني اريد ان احظى برؤية منظر فريد رائع لمدينتي العربية. وسألني الحارس على نحو رتيب وكأنَّ سوألَه رفع عتب: "ماذا يضمن لي أنَّك لن تنتحر؟"
-" وشرفك!"
فقال لي وهو يتثاءب: "على الرحب والسعة!"
     وارتقيت درجات ناطحة السحاب الشاهقة، وتعبت. لكنني تسلَّيتُ بهذه المشقة. وحين وصلتُ الى الطابق الأخير رأيتُ طابوراً طويلاً من التعساء، كلٌّ أخذ دوره للقفز. وارعبني منظر مدينتي. آه ما اقبحها! كانت الريح قوية، والبرد قارساً، والطابور حبل نجاةٍ مربوط بين السماء والارض لا نهاية له. ولكن لماذا عليَّ أن اقف في الطابور؟ البناية كبيرة، واستطيع ان اقفز من أيِّ مكان نحو الارض.
     وجذبني بائسٌ مِمَن ينتظرون دورهم للانتحار جذبة قوية، وسألني: "هيه، انتَ، اين تذهب؟"
-" لأنتحر.."
     فضحك ساخراً مني وقال: "هذا هو الموقع الوحيد للانتحار يا غشيم! فإن سقطنا ها هنا، انتظرنا طاقم طبي ومجموعة من الأهل ليحمِّمونا، ويكفِّنونا، ويصلُّوا علينا صلاة الميت ويدفنونا. أما المواقع الاخرى من السطح فلا تعترف بها السلطة مكاناً شرعياً للانتحار، وهي في اغلبها مزابل، ومَن القى بنفسه فيها كان مصيره الدفن في مزبلة..."
 فقلتُ له: "هذا احسن! اريد ان انتحر لأتخلَّص من المدينة المهزومة القبيحة، والوحش الذي فيها، ولا اُريد ان يدفنوني في مقبرة اشارك بها أهل المدينة الموتى.. كما أنَّ المقبرة ذاتها جزء من المدينة..."
     فاندهش الرجل وحكَّ رأسه، كأنَّ سطلاً من المياه الباردة هوى عليه، او كأنَّه اقتنع بصواب كلامي، ولكنَّه فاجأني وقال لي: "بلا مؤاخذة.. واعذرني لأنني اريد ان اقول لك أنَّكَ.. أنَّكَ متطرفٌ! ولو كنتُ حاكماً في مدينتي لحكمتُ عليك بالاعدام، بل وجعلتُك تختار طريقة الاعدام!"
     فقهقهتُ حتى تصدَّع رأسي من الألم. تركتُ صاحبي، واتَّجهتُ الى موقع ناءٍ، ووقفتُ للحظات. فتحتُ عينيَّ، والقيتُ بثقلي نحو الأرض. كنتُ اهوي نحو الارض بسرعة رهيبة، ولكنني لم اغمض عينيَّ. أردتُ أن أرى الارض قبل أن اموت، لكن ثمة عجوز بلهاء تلقَّفتني بيدها.. نعم، تلقَّفتني بيد واحدة.. نعم، كل جسمي.. كنتُ على بُعد سنتيمترات قليلة عن الأرض وتلقَّفتني العجوز بيد واحدة.. وحدث هذا في لحظة واحدة، وفي اللحظة الثانية كشَّرت العجوز وبصقت في وجهي، وقالت: "ايُّها الحقير الرخيص! انظر ماذا فعلتَ؟! البندورة! لقد فعصت حبة البندورة! في المزبلة كلها لم أرَ فاكهةً اشهى واسلم منها.. كلب!" ثم القتني أرضاً، فاوجعتني يدي.
     ماذا عساي ان اقول لها؟ شعرتُ بالذنب كأنني اجرمتُ بحقِّها! المسكينة، إنَّها فقيرة! ولا بُدَّ أنني فعصتُ حبة البندورة بفعل ثقل جسدي الذي دفع يدها الى الارض، فلم يَعُد بالامكان ان تلملم بقاياها! ورُبَّما اوجعتها يدُها؟ لكنني عليَّ ألا أنسى أنَّها ألقتني أرضاً واوجعتني؟! ما الأمر؟ لماذا صرتُ اخلاقياً هكذا؟ اللعنة عليها، الكلبة! أنستني بضميري الحيّ وألم يدي قضيَّةَ انتحاري. لقد حرمتني من الموت.
-" هل بندورتك الرخيصة اغلى من موتي؟! يا لك من عجوز حقيرة! أردتُ ان اموت وانتِ حرمتِـني متعتي الاخيرة، بل متعتي الوحيدة في عمري! أتعرفين كم سنةً كدحتُ حتى اشتري تذكرة لبرج السعادة؟"
-" أتعرف كم يوماً مضى دون أن آكل؟" صرخت في وجهي، وجثت على ركبتيها ولعقت بقايا البندورة المفعوصة عن الارض الطينية القذرة. فتقززتُ حتى تقيَّأتُ. اصابني دوارٌ، وكدتُ ان افقد وعيي. وبعد لحظات دنت العجوز مني وقالت: "وجهك يصفرُّ، وعيناك تذبُلان. ألهذه الدرجة وددتَ لو متَّ؟"
     هززتُ رأسي بالايجاب، فامسكت رأسي بيدها، ورأيتُها تبكي، لكن الدموع كانت تختفي في تجاعيد وجهها. بدت ملامح وجهها كأنَّها أزقَّةُ مدينتي المظلمة الموبوءة : حزوز سوداء كثيرة، مخيفة، مجهولة، ولكن في الوقت ذاته، ورغم ما فعلته العجوز بحقي، فقد اثارت ملامحها في قلبي حزناً شديداً عليها. لم اعُد اخاف منها. الموت - على قلَّته- ليس اغلى من دمعة تُريقها اجفان هذه العجوز على كل حال! وتركتُها تلمس جبيني براحة يدها الخشنة، وعاتبتني: "لماذا لا تموتَ ببطء مثلنا؟"
-" إنَّ الموت البطيء أليمٌ.."
     كحَّت وسعلت حتى سال الدم من فمها، وأخذت تدلِّك صدرهَا بيديها هنيهةً، ثم سيطرت على نفسها ونظرت نحوي، واستنشقت نفساً عميقاً، وسألتني: "قُل لي، كم سنةً عملتَ لتشتري تذكرة لبرج السعادة؟"
-" منذ النكسة.." قلتُ لها وقد أدركتُ انها تعاني من السل.
     تأفَّـفت العحوز بنفاذ صبر، ولطمت كفاً بكف وهي تلوي شفتيها تبرُّماً، وقالت: "يا بُنيَّ، إنني إمرأة عجوز، وذاكرتي على قدِّي.. ولا اذكر الآن من احوال الأمة إلا النهبة.."
-" النهبة؟!" سألتُها بحيرة وعجب.
-" نعم، النهبة! ألم نخُض حرباً؟ ما اسمها؟ حرب الخليج.. أمّ المعارك.. الم ننهزم فيها؟ ألم ينهبوا الخليج كلَّه والعراق أيضاً؟.. نعم، نهبوا كل شيء.."
     ماذا تقول هذه العجوز الخرفة؟ النكبة؟ النكسة؟ النهبة؟ آه!! نظرتُ إليها مليَّاً، وهززتُ رأسي موافقاً وقلتُ: "نعم، صحيح.. ولكنني كنتُ اعمل لأنال التذكرة منذُ النكسة، النكسة وليس منذُ النهبة.. أيّ منذ عام 1967.. أتسمعين؟ منذ 1967.."
     لم تتعجَّب العجوز. لم ترمش لها عين. إنَّما هزَّت رأسها وحسب، وغرقت في تفكير عميق. وبعد دقيقة او نحوها، كأنَّها صحَت من غيبوبة اطاحت بها، رفعت رأسها وقالت: "وكم المبلغ الذي دفعتُه مقابل التذكرة.."
-" لم ادفع مالاً.. وإنَّما قضيتُ خمساً وعشرين سنةَ سُخرَةً لصالح الدولة، وعملتُ اثناءها في بناء مدينتي العربية، بنيتُ سجوناً جميلة ومقابر نائية لا تؤذي نظر الناس، وهلمجرا.."
-" إذن ما رأيك لو اشتريتُ لكَ تذكرةً؟"
-" أنتِ؟ ومِن اين المال؟ وكيف؟ والمقابل؟"
-" المقابل أن أُؤمِّمَكَ.."
-" ماذا؟"
-" أُؤمِّمَك مدةَ عشر سنوات تكون فيها ملكي وعبدي روحاً وجسداً وعقلاً.."
هزَّتني صاعقة برق، ولم اعُد أدري ماذا اقول: "تؤمَّمينني؟"
-" نعم، أُؤمِّمَك! كلُّ ما فيك وبك، كلَّك، ستصبح لي.. اعتبرني قطاعاً خاصاً، بدل ان تكون للدولة وقطاعها العام. ساُطعمك واُدفئك حسب استطاعتي. وستكون لي، ملكي، حتى تفكيرك وآراؤك بالآخرين والاشياء اُحَدِّدُها انا بنفسي..اُحدِّدُ اصدقاءك واعداءك. اُحدِّدُ لك ما هو الجميل وما هو القبيح، وما يستحقُّ الحياة او الموت. حتى العادة السّريَّة لا حقَّ لكَ فيها إلا بموافقتي. وعند نهاية العشر سنوات ساُعطيكَ تذكرةً لبرج السعادة. ماذا تقول؟"
-" إنَّه أمرٌ مخيف.."
-" لكنَّه ليس مخيفاً اكثر من سُخرة الدولة. نحن نعيش في المدينة العربية. إيَّاك ان تنسَ هذه الحقيقة.."
     اوشكتُ أن اسألها: ماذا يضمن لي أنني ساعيش عشر سنوات وانَّك ستعطينني التذكرة؟ لكنها مسألة محلولة، فسأكون قد متًّ آنئذ وانتهى الأمر، ما اغباني!! ولكن ان اموت يعني ان اُدفَنَ في مقبرة المدينة، وانا لا اريد ان اُدفَن مع أهل مدينتي. وماذا عن حرية الاختيار؟ يا ربي، ما الذي افعله؟ هل انا يائس بائس لهذه الدرجة؟! اُريد ان اقتل الحياة، ولن انتظر ان تقتلني! أمَّا هذه المدينة التي يقتل ابناؤها احدهم الآخر، ويلوطون معاً فيها، ويمارسون فيها طقوس الهزيمة كلَّ لحظة يعيشونها، فهي ليست مدينتي! طُز على هيك مدينة! ما همَّني؟ الى حيثُ القت! لم تَعُد تفرق!! لكن، أليس عليَّ ان اعرف مّن تكون هذه العجوز؟ رُبَّما كانت عيناً للسُلطة؟!
-" وهل لي ان اتشرَّف بمعرفتك ايَّتها العجوز الطيبة؟" سألتُها.
فقالت: "انا الثورة!" ومسحت بقايا البندورة عن فمها فاختلطت مع الدم.
-" تشرَّفنا! كيف وبماذا ستشترين تذكرة من السلطة أيَّتها الثورة؟" سألتُها وانا قلق. رُبَّما تضحك عليَّ وتؤمِّمني دون ان احظى بتذكرة؟ رُبَّما كانت محتالة؟!
-" لا تخف. لديَّ عشر صبايا في عمر الورد. سآخذ اربع او خمس صبايا منهن وارهنهنَّ في خدمة الدولة ليلدنَ للمدينة عمَّال سُخرةٍ. أمَّا البقية فساُبقيهنَّ تحت التأميم في سلطتي الخاصة. وستكون احدى مهامك ان تنجب منهنَّ اطفالاً لاؤمِّمهم بدورهم.."
-" وما هي مهامي الاخرى؟"
-" كثيرة لا تُحصى. أن تجمع ما يصلح للأكل، ان تهدم المدينة، ان تبني قبوراً للموتى الفقراء بدل أن يُدفَنوا في المزابل، ان تقتل اولاد بناتي اللاتي سوف يكنَّ في سُخرة الدولة واللاتي سيحبلن من الدولة ذاتها.."
-" اقتلهم؟ ويحُكِ، لماذا اقتلهم؟"
     دنت مني وهمست في أذني: "نحن ضد الدولة وضد مدينتها. واحفادي سيكونون ابناء الدولة. كلب الأمير أمير، اليس كذلك؟ نحن نريد ان نقلب الحكم، ونضرب الدولة، ونهدم المدينة لنعيد بناءها من جديد.."
-" ولكن.." شرعتُ بالقول، وفجأةً لجمتُ لساني. ما الأمر؟ ماذا دهاني؟ ماذا يهمُّني لو بُنِيَت المدينةُ او هُدِمَت؟ ماذا يهمُّني لو اسقطنا الدولة او قتلنا ابناءها؟ هل صرتُ اخلاقيَّاً او تربويَّاً او واعظاً او رُبَّما نبيَّاً؟ طُظ على كل شيء.
-" ولكن لا تقلق، لن تقتلهم وحدك.. فأُمهاتُهم وخالاتهم، اللاتي سيحبلنَ منكَ اطفالاً ليكونوا هدَّامي الدولة والمدينة، سيساعدونك بقتلهم.. لا تقلق.."
-" انا اقلق؟ طُظ.."
-" نعم، اُريدك هكذا. إنني اعقد آمالاً كبيرة عليك. اُنظُر الى جسدك! صحتك قوية والحمد لله! ها انتَ تشبه البغل، ما شاء الله. وابناؤك المؤمَّمون هدَّامو الدولة سيكونون اقوياء اصحَّاء اعفياء. والأهم أنَّهم سيتمتَّعون بإرادة حديدية وجسارة لا تعرف الوهن او المهادنة. وانتحارك وحبك للموت دليل على شجاعتك الفائقة. أمَّا ابناء الدولة فسيكونون نحفاء، خرعين، جبناء، اشباحاً في بطونهم دود وفي عيونهم سوس، ولا يقوِّيهم إلا سلاح السُلطة وقذارتها. وعلى كل حال فلا تنسَ أنَّ البرج سيصبح ارتفاعه ثلاثة وخمسين طابقاً بعد عشر سنوات، وستغدو الميتة اسرع وامتع وانجع. ماذا تقول؟"
     صعقني السؤال "ماذا تقول؟" بدا مألوفاً لأذني. ربما كان كلمة سر. الجميع يسألني، "ماذا تقول؟" ولكني لا اريد ان اقول شيئاً. لم اودّ ان اتعهَّد بشيء قبل ان اضمن التذكرة، فلُـذتُ بالصمت.
     أدركت العجوز قلقي، فقالت: "سوف نذهب الآن الى انبوب المجاري الذي اسكن فيه، ونأخذ نصف دزينة او نحوها من بناتي ونذهب الى بنك الدولة السُّخري، نُساومهم ونوقِّع معهم الاوراق الرسمية بيني وبينهم. وسنوقِّع كذلك عقداً بتأميمك، ونودع تذكرة باسمك في البنك، ونكتب شرطين على استلامك التذكرة: أن تستلمها بعد عشر سنوات، وأن تلتزم بشروط اتفاقية التأميم كلَّها. ماذا تقول؟"
-" توكَّلنا على الله.."
وابتلعتنا المدينة وشوارعها المسلولة المُـدمَّاة.

النسخة الأولى انتهت في 24 آيار 1993
منشورة في مجلة الغربال/ رام الله 1993 
وتمت في ايلول 1995 


* جمال القواسمي قاص فلسطيني يعيش في القدس، من مواليد 1966، عمل سابقاً في الترجمة والتعليم؛ له ثلاث مجموعات قصصية: جاي معك 1990، شامة في السماء 1997، هزائم صغيرة، 1998.



#جمال_القواسمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثلاثية خداش- ثلاث قصص قصيرة جداً
- لعبة قذرة - قصة قصيرة
- عالم الدهشة - قصة قصيرة
- أحلام سعيدة- قصة قصيرة
- سبع قصص قصيرة جداً


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال القواسمي - مدينتي - قصة قصيرة