أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - غازي الصوراني - مرة ثانية : محاولة للإجابة على سؤال - هل انتهت الفلسفة؟-















المزيد.....


مرة ثانية : محاولة للإجابة على سؤال - هل انتهت الفلسفة؟-


غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني


الحوار المتمدن-العدد: 3527 - 2011 / 10 / 26 - 15:55
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


يقترن فهم الفلسفة عادة بأنها لصيقة أو متساوية مع البحث عن الحقيقة، بهذه المقولة يصبح السؤال عن نهاية الفلسفة نافلاً . ولأنْ يحيَا المرءُ دون تفلسف هو حقًا- كما يقول ديكارت - كمن يظل مُغمضًا عينيه لا يحاول أن يفتحهما : والتلذذ برؤية كل ما يستكشفه البصر. سؤال هذه الندوة وعنوانها هو : هل انتهت الفلسفة ؟ وهو سؤال أعتبره مدخلاً – ضمن مداخل عديدة - صوب خلق أو توليد أساليب جديدة للتفكير لم نتقنها بعد ، علاوة على أن السؤال هو في حد ذاته دعوة للتفكير، لكنه في الجوهر دعوة للتفكيك في بنية المفاهيم الفلسفية السائدة، وصولاً إلى عتبات الرؤى الفلسفة المتعددة، تمهيداً لتعددية معرفية تؤسس لأرضية فكرية يفتقد إليها معظم الأحزاب والقوى السياسية المعارضة التي تسعى إلى التغيير في لحظة موسومة بغياب الرؤى أو الأفكار التوحيدية التنويرية العقلانية على المستويين الوطني والقومي ، وهما مستويان مأزومان مهزومان كما هو حال أنظمتنا العربية.

بالطبع أنا لا اعترض، بل على العكس ، أرى في هذا السؤال أو التساؤل نوعاً من المشروعية المعرفية القائمة على الشك الفلسفي، ومعناه إنكار القضايا التي اتفق المفكرون من قبل على قبولها وتصديقها، ولكن الشك الفلسفي عندي هو أكثر أنواع الشك أهمية لأنه يتصل أساساً بنظرية المعرفة، خاصة إذا كان السائل مدركاً لجوانب المعرفة وتطورها، لان حالة الإدراك تمكن صاحبها من التمييز الحاسم بين الشك المنهجي والشك المطلق أو بين الشك كمنهج وأداة للوصول إلى اليقين، والشك كمذهب مقيم ، فالشك المنهجي يرى أو ينطلق من أن المعرفة الموضوعية ممكنة ، إذ أن الشيء في ذاته المستقل عنا وعن معرفتنا هو شيء يمكن معرفته، وأن في العقل قدرة على الوصول إلى اليقين النسبي أو الحقيقة النسبية ولا أقول الحقيقة المطلقة أو الصوفية التي دعا إليها القديس أوغسطين في القرن الخامس والإمام أبو حامد الغزالي في القرن الثاني عشر الميلادي .

ولنا الحق ازاء التباس مشهد عصرنا الفكري ان نعتبر سؤ الفهم طريقا موازيا للفهم أو أن نطرح سؤال " هل انتهت الفلسفة ؟ "

وأبدأ الجواب على سؤال : هل انتهت الفلسفة ؟ بسؤال ما معنى الفلسفة ؟ إنها البحث عن الحكمة والمعرفة، فهل توقف هذا الفعل البحثي، وهل يمكن للبشرية انهاء العلاقة مع الفلسفة ؟ ، الجواب ببساطة : لا كبيرة ، لأن "السؤال" كان وما يزال الطريق إلى الحكمة والفهم والمعرفة منذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا. وإذا كان عصرنا اليوم يتميز بشيء فلربما بكثرة الأسئلة وتنوع ميادينها .

في ماهية السؤال ؟ يحدد "ديكارت" ، على هذا الصعيد، ثلاثة شروط لأهلية "السؤال" كتمهيد للمعرفة: أولاً : ينبغي أن يكون في كل سؤال شيء غير معروف. وثانياً : أن يكون هذا المجهول معروفاً على نحو معين أو إلى حد معين. وثالثاً: أن هذا المجهول لا يمكنه أن يصبح معروفاً إلا بواسطة ما هو معروف.

إذن فإننا نرى أن كل من يسأل يعرف ويجهل بآن . لو لم يعرف شيئاً على الاطلاق لما استطاع السؤال. ولو عرف كل شيء لما احتاجه . أن السؤال ينطلق من المعرفة ويعود إليها.

أليس المفكر هو من يهوى صناعة السؤال وحرفة الاستفهام؟ كذلك فن صناعة السؤال يستلزم الإحاطة بالكثير من الأجوبة. وهذه الاحاطة آمل أن تكون متوفرة بالمعنى النسبي لدى رفاقي وأصدقائي في "التجمع الشبابي من أجل المعرفة"، فبقدر ما يتملك المرء من أجوبة، كذلك يكون "قدر" الأسئلة التي يطرحها.

إن الوظيفة الجوهرية لكل فكر أو فلسفة هي الكشف عن معضلة الواقع عبر نقدها نقدا واعيا ينفذ إلى مكنوناتها، لمعرفة قوانينها ..ومن ثم العمل على إزاحة المعضلة وتغيير الواقع ، من هنا فالحديث عن نهاية الفلسفة، هو حديث عن نهاية الفكر ، ونهاية الوظيفة الجوهرية المرتبطة باستشراف المستقبل أو تحليل الواقع وتغييره.

في ضوء ذلك لا بد لنا من الإقرار بصعوبة تحديد مفهوم كلمة "نهاية" ،حيث أن هذا التحديد يكمن في فصل هذا المفهوم عن مفهوم الغاية ، إذ إن كلمة نهاية ، في الفلسفة ، استعملت في غالب الأحيان مقرونة بكلمة غاية وكأن النهاية لا تكون إلا بتحقيق الغاية والوصول إليها.

في إطار الحديث عن الفلسفة ومفاهيمها، من المفيد ان نستعرض سريعاً المباحث أو العناوين الكبرى الرئيسية التي تناولتها الفلسفة : أ. الميتافيزيقا (ما بعد الطبيعة) : وجود عالم غيبي يقوم فيما وراء عالمنا المحسوس!. ب . المنطق : هو علم يدرس الاستدلال من حيث الصحة والفساد. ج. نظرية المعرفة ( الابستيمولوجيا): تتناول نظرية المعرفة مسائل أساسية أربع هي : (1)أصل المعرفة البشرية ومصدرها. (2) طبيعة المعرفة البشرية. (3) صدق المعرفة، أي كيف تتميز المعرفة الصادقة عن المعرفة الكاذبة. (4) حدود المعرفة البشرية.

د‌. فلسفة الأخلاق. هـ. فلسفة الجمال. و. فلسفة العلم : وهي دراسة وتحليل العلوم من حيث طبيعتها ومنهجها ومفاهيمها. ز. فلسفة الدين: تعني فلسفة الدين بدراسة ما تنطوي عليه المعتقدات الدينية.

أما الخطوط الكبرى لتاريخ الفلسفة، فيمكن تقسيمها إلى العصور الآتية :

(أ) العصر الإغريقي : ويمتد من القرن السادس قبل الميلاد وحتى وفاة أرسطو (ولد عام 384ق.م – 322 ق.م). (ب) العصر الهليني : الذي يمتد من وفاة أرسطو حتى نهاية الأفلوطينية المحدثة 322 ق.م – 500م، وقد انصب جل اهتمام الفلسفة في هذه الفترة على المسائل الأخلاقية والعملية. (ج) العصر الوسيط: ويبدأ من القديس أوغسطين 354-430 في القرن الخامس وحتى القرن الخامس عشر. وقد انشغلت الفلسفة في هذا العصر بالمسائل الدينية عبر السيطرة المطلقة للكنيسة في هذه المرحلة. (د) عصر النهضة وتطور الفلسفة الأوروبية والتنوير حتى نهاية القرن الثامن عشر: ففي هذا العصر انتقلت أوروبا الغربية من مجتمع الطبيعة المحكوم بنظرية الحق الإلهي إلى المجتمع المدني ، مجتمع الديمقراطية والثورة العلمية الكبرى التي أحدثت زلزالاً في الفكر الأوروبي. (هـ) مرحلة تطور الفلسفة الأوروبية في عصر الثورات البرجوازية أواخر القرن السادس عشر ونهاية القرن الثامن عشر.

ابرز فلاسفة هذه المرحلة :

- فرنسيس بيكون ( 1561 م. _ 1626 م. ) : "أول من حاول إقامة منهج علمي جديد يرتكز إلى الفهم المادي للطبيعة وظواهرها". - رينيه ديكارت ( 1596 م. _ 1650 م. ): مؤسس المذهب العقلاني ، هذا المذهب الذي يرتكز عنده على مبدأ الشك المنهجي أو الشك العقلي. - توماس هوبز (1588 م. _ 1679م. ): رفض هوبز في مذهبه في القانون والدولة نظريات الأصل الإلهي للمجتمع. - باروخ سبينوزا (1632م. – 1677م. ) : أكد على أن الفلسفة يجب أن تعزز سيطرة الإنسان على الطبيعة.. - جون لــوك ( 1632م. – 1704م. ) : من كبار فلاسفة المادية الإنجليزية، يرجع جميع ظروف المعرفة إلى الإدراك الحسي للعالم الخارجي... فالتجربة بالنسبة له هي المصدر الوحيد لكافة الأفكار..! - جون ستيوارت مل (1632-1704)، قال بأن جميع أشكال المعرفة تعود إلى الإدراك الحسي المادي للعالم الخارجي .

عصر التنويـــر الفرنسي والفلسفة الألمانية في القرن الثامن عشر :

أولاً : التنوير الفرنسي : شهدت فرنسا قبيل الثورة البورجوازية الفرنسية (1789) حركة فكرية واسعة وقوية عرفت "بحـركة التنوير" ، وضع رجالها نصب أعينهم مهمة نقد ركائز الإيديولوجية الإقطاعية، والنضال من أجل إشاعة روح التسامح الديني وحرية الفكر والبحث العلمي والفلسفي وإعلاء شأن العقل، من أبرزهم : - شارل مونتسكيو (1689-1755) - فرانسوا فولتير ( 1694م. – 1778م. ) - جان جاك روسو ( 1712 – 1778 ) - ديني ديدرو ( 1713 - 1784 ).

- ثانياً : الفلسفة الألمانية :

عمانويل كانط ( 1724 - 1804 ): عارض مزاعم الإقطاع الألماني في "أن الشعب لم ينضج بعد للحرية؛ مبيناً أن التسليم بصحة هذا المبدأ يعني أن الحرية لن تأتي في يوم من الأيام.

جورج ويلهلم فريدريك هيجل (1770 - 1831 ) : تكمن مأثرته التاريخية العظيمة في أنه كان أول من نظر إلى العالم الطبيعي والتاريخي والروحي بوصفه عملية؛ أي في حركة دائمة وفي تغير وتطور. لقد صاغت فلسفة "هيجل" بشكل منظم النظرة "الديالكيتكية" إلى العالم .

إلى جانب هؤلاء، برز العديد من الفلاسفة في ألمانيا وأوروبا وأمريكا ، في القرن التاسع عشر، وهو القرن الذي تميز بالانصراف إلى الواقع المحسوس ذاته تحت تأثير العلم الطبيعي، وظهور الفلسفة الماركسية (ماركس 1818 – 1883 ) التي توصلت إلى النتيجة القائلة بحتمية الثورة الاجتماعية وضرورة توحيد حركة الطبقة العاملة.

ومن أبرز فلاسفة هذا القرن الفيلسوف شوبنهور (1788-1860) العالم عنده ارادة القوة ، ثم أوجست كونت (1798-1857) وهو مؤسس الفلسفة الوضعية وصاحب مصطلح "علم الاجتماع"، ثم هربرت سبنسر (1820-1903) وهو عالم اجتماع ومن مؤسسي المذهب الوضعي، ثم الفيلسوف الأكثر تشاؤماً فريدريك نيتشه ( 1844 – 1900)

أما القرن العشرين، فهو عصر التحليل المنطقي للغة الفلسفة والعلم على الأكثر، وانتشار الفلسفة البرجماتية، ومن أهم فلاسفتها وليم جيمس (1842-1910) وهو فيلسوف مثالي امريكي ثم الفيلسوف جورج سنتيانا (1863-1952) فيلسوف أمريكي من أنصار الواقعية النقدية ومن أهم فلاسفة البرجماتية ، أما في السياسة فقد كان مناهضاً للديمقراطية مؤيداً لسلطة النخبة الرأسمالية . ثم جون ديوي (1859-1952) فيلسوف أمريكي ترك أثره الواضح على الفلسفة وعلم الاجتماع عموماً وعلوم التربية والتعليم خصوصاً، وهو مؤسس مدرسة شيكاغو الذرائعية ، ويعتبر من أهم المدافعين عن الليبرالية البرجوازية والفردية وحرية السوق .

وفي هذا القرن ، تكرست وانتشرت الفلسفة الوجودية، التي انقسمت إلى الوجودية المؤمنة التي عبر عنها الفيلسوف الدانمركي سورين كيركجورد (1813-1855) ، والألماني كارل ياسبرز (1883-1965)، والوجودية الإلحادية التي عبر عنها الألماني مارتن هيدجير (1889-1976) وجان بول سارتر (1905-1980).

عصر العولمة أواخر القرن العشرين : (الفلسفات البنيوية والتفكيكية وما بعد الحداثة والليبرالية الجديدة إلى جانب الفلسفة الماركسية بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وانتشار ظاهرة فوضى الأفكار).

وفي هذا الجانب تحديدا ، لا بد لي من ان اشير الى ما يمكن تسميته بـ الحقيقة الفكرية المركزية لعصر العولمة تتلخص في تزايد مضطرد ومتسارع للمعرفة بصورة غير مسبوقة ، وهذه الزيادة في المعرفة ستجعل من ظهور نوع جديد من الفلسفة أمراً ممكنا ، وهذا لا يعني أبداً نهاية الفلسفة ، بل تطورها وتجددها بما يتوافق مع معطيات هذا العصر ويتخطاها إلى آفاق أكبر ، قد تؤدي إلى تراجع عصر الشك الابستمولوجي أو نهايته لحساب اليقين الابستمولوجي أو "الحياة الواقعية" للمعرفة .

ويمكن أن نفسر مفاهيم "ما بعد الحداثة" بأبعادها الميتافيزيقية نوعا من الشك المعاصر إذا صح التعبير ، إلى جانب فروع داعمه مثل "التفكيك" و"ما بعد البنيوية" وبعض تنويعات أو انحرافات البرجماتية صوب الميتافيزيقا والعنصرية (كما نلاحظ عند ما يسمى بالمحافظين الجدد) .. فإذا كنا نعني بالحداثة فترة العقلانية والذكاء الممنهج التي بدأت مع عصر النهضة ثم عصر الأنوار ، إذن نحن اليوم لسنا في عصر "ما بعد الحداثة" ، بل يمكن القول أننا في عصر "ما بعد الشك" أو عصر اليقين المعرفي او ما بعد الابستمولوجي .

إلا أن السؤال الأهم في هذا السياق هو الذي يتمحور حول دور المفكر أو المثقف العربي خصوصاً ، في دينامية التطور المعرفي، في اللحظة الراهنة التي تتسم بالتحولات الكبرى والتطورات المتسارعة .. التي تكشف عن عمق همجية وبربرية النظام الرأسمالي، وهذا ما يفرض على المثقف العربي ان يتبنى رؤية وافكارا فلسفية وسياسية تسهم في انضاج وتفعيل الحراك الثوري الاجتماعي والوطني والقومي ضد نظام العولمة الراسمالي وحليفه الصهيوني في بلادنا من جهة وضد ثقافة التخلف والتبعية والخضوع من جهة ثانية .

فاذا اتفقنا – كما افترض – ان الفلسفة هي الوسيط المنطقي بين العلم والثورة، فهي ايضاً –وهذا هو المهم- نشاط فكري واعي وطليعي يقوم به المثقفين عموماً والمثقف العضوي خصوصاً من أجل تغيير وتجاوز هذا الواقع المأزوم، ذلك أننا –عبر الوعي بالمسائل الفلسفية- نبتغي المساهمة في نشر ثقافة الحوار كواحدة من وسائل شعوبنا لمعالجة قضايانا الرئيسية في التحرر والديمقراطية و التنمية، وامتلاك سبل التقدم والحرية.

على أي حال لست معنياً بخلق إشكالية حول علاقة الثقافة بالوعي المشوه او المنقوص - لدى هذا الفرد او ذاك ممن يطلق عليه صفة المثقف - بقدر ما أدعو إلى مراجعة المفاهيم وتأملها بالمعنى التجريدي المعرفي، وتفكيكها وإعادة بنائها أو تكوينها بما يوفر إمكانية التعمق في المفهوم وإعادة صياغته في الواقع المعاصر ، وهو أمر لن يتم تحققه ما لم يدرك هذا المثقف كافة تفاصيل واقعه المعاش .

وفي هذا السياق ، أود الاشارة إلى تيارات الفكر العربي الأساسية والمؤثرة و الفاعلة في الساحة الثقافية بداية القرن العشرين التي تطورت وازدهرت عبر الحوار القائم على احترام الرأي والرأي الاخر ( الإسلامية والماركسية، والقومية). انبثق عن هذه التيارات، تيار ديني مستنير (عبد الرحمن الكواكبي وجمال الأفغاني و محمد عبده وعلي عبد الرازق .. وغيرهم ) وتيار تحديثي ( ليبرالي ) مثله (لطفي السيد وأحمد أمين وطه حسين ... وغيرهم) وتيار راديكالي علماني مثله ( سلامة موسى وشبلي شميل وأنطوان مارون .. وغيرهم) ومعلوم أن (سلامة موسى) كان توجهه ( اشتراكي- فابي) أي أنه مزيج بين ما هو ليبرالي واشتراكي وماركسي.

ونظرا لأن هذه التيارات التحديثية افتقدت الموقف النقدي والمتفحص من الغرب ” فقد بقيت مجرد شذرات لا تعكس إشكاليات الواقع في مجالها النظري ولا تستوعبه" .

وفي منتصف القرن العشرين (قبل وبعد ثورة يوليو) برز العديد من المفكرين التقدميين العرب الذين قدموا إسهاماتهم النقدية ضد الهيمنة الرأسمالية، وضد مظاهر التخلف والتبعية والدعوة الصريحة إلى تغيير هذا الواقع المهزوم وتجاوزه (محمود العالم ، فؤاد مرسي ، سمير أمين ، فوزي منصور، مهدي عامل ، حسين مروة ، عبدالله العروي ، وغيرهم) انطلاقاً من أن التغيير يجب أن يكون ثورياً بالمعنى الثقافي الجذري الشامل ، وهذا يفرض طرح المشكلات بصيغ جديدة ، إذ لا يمكن أن يكون التغيير الثوري تحريراً من قيود الخارج والداخل ، الا إذا كانت الأحزاب أو الجماعات التي تقوم به قد تغيرت هي نفسها وتحررت من تلك القيود ، بدون ذلك لا يكون التغيير إلا تحريكا للمستنقع، ولن يؤدي الى امتلاك مفاهيم التطور الحداثي واستخدام ادواته باتجاه التحرر و النهوض والتقدم . فالعقل الغربي – كما يقول جورج طرابيشي – اصبح متفوقا وعالمي الحضارة حين تبنى ومارس مفاهيم الحداثة وعقلانيتها وعلومها ، بعد ان مارس نقدا ذاتيا موضوعيا وقاسيا لتراثه ، ما يعني بوضوح أننا – كعرب – لن نستطيع ان نباشر مهمة التحديث وصولا الى النهضة ورحابتها العقلانية و العلمية والنقدية ما لم نمارس العملية النقدية نفسها التي أخضع الغرب نفسه لها ، اذ أننا لن نستطيع ان نخوض معركة الحداثة ونحن عراة من النقد الحقيقي.

فإذا كنا نتفق على أن الخطابات المعرفية لفلسفة ما بعد الحداثة ،تعيش نوعا من العطالة والأزمة الفكرية التي أصابت الفلسفة ، وإذا كان الأمر على هذه الشاكلة في الغرب الرأسمالي ،فإن دلالات هذه الازمة المعرفية في بلداننا العربية تبرز بصورة قاتمة الى حد بعيد ، حيث أننا –كعرب- نعيش الفراغ بعد ان اضعنا زمام المبادرة وفقدنا البوصلة ، ونعاني من الاحتباس النظري والعملي والعطالة في مستوى الخلق والابداع، فسقطنا في الثرثرة واللغو دون ان نقول شيئا مفيدا ، ودون ان نتقدم خطوة الى الأمام سواء على صعيد ابداع المفاهيم الحداثية ، أو على صعيد إثارة المشكلات الحقيقية لثقافتنا، وإيجاد الحلول المناسبة لها، بل تقهقرنا وتراجعنا عما كنا عليه في بداية القرن الماضي.

على أي حال .. مهما اختلفنا او اتفقنا مع هذه الطروحات أو غيرها، فإن فقدان الرؤية المتبصرة يؤدي لا محالة إلى مفاقمة أزمات وأحزاب فصائل اليسار إلى جانب حالة الركود والتخلف والاستسلام للآخر أو إلى الشك المطلق أي إلى فقدان اليقين في أي شيء مما يعني أن الفكر العربي الحديث غير قادر على تقديم إجابات ناجعة للخروج من واقعه المهزوم ، إلا إذا توفرت القوى الثورية القادرة على المجابهة والتغيير بالمعنيين الثقافي والسياسي جنباً إلى جنب مع التغيير الاقتصادي للنمط الرأسمالي التابع والمشوه.

إذن على الثقافة العربية أن تراجع مسارها، كي تعود للاهتمام بالأسئلة الكبرى، وتقوم بإعادة إنتاج مفاهيمها بأسلوب ومنظور جديدين بالتفاعل الجدلي مع التطورات الفلسفية الراهنة في مسار الحضارة العربية في القرن الحادي والعشرين، حيث أن هذه التطورات ستدفع نحو ظهور اتجاه فلسفي جديد يؤصل لمعرفة فلسفية، تأخذ في الاعتبار تطوير وتجدد الفلسفة الماركسية (انطلاقاً من الوعي بأنها فلسفة المستقبل) في ضوء التطورات الراهنة سواء التكنولوجية أو الإعلامية، وبدون القطيعة مع فلاسفة بارزين أمثال “جيل دولوز” وأدجار موران، وميشيل فوكو والتوسير ودريدا وهابرماس..وغيرهم، من ناحية، وبدون القطيعة أيضاً مع كبار الفلاسفة الأوروبيين أمثال (بيكون، كانط، هوسرل، هايدغر..) كنوع من التأصيل الفلسفي، الذي يمكن استخدامه نظريا ومنهجيا في تطوير واقعنا العربي .

أخيراً ، إن الحديث عن نهاية الفلسفة ذكَرنا بالحديث عن اعلان نهاية التاريخ وفق طرح فرنسيس فوكوياما، وهي طروحات مستحدثة لا جديد فيها ، فقد سبق لهيجل أن أعلن بأن التاريخ قد أنهى تحققه ووصل محطته الأخيرة عند نقطة تشييد الدولة البروسية، لكن حركة التطور أثبتت خطأ استنتاجات هيجل ، فالتاريخ الإنساني لن يتوقف إلا بانتهاء الوجود البشري.

ولعل اللحظة التاريخية تحفزنا -في اللحظة الراهنة - لإعادة النظر بالمفهوم الفلسفي الشامل للفلسفة، بعد أن تم اهمال أو تجاوز الحقبة الكبرى من الفلسفة الحديثة والمعاصرة ومعنى الوجود سواء كان أزلياً أو نتاجاً "للفكر" أو "الروح" ، وبالتالي الإجابة –من موقع الرؤية المادية ومنهجها الجدلي- على الأسئلة الكبرى المرتبطة بالعقل والحرية والطبيعة والمجتمع .

إن أهمية الفلسفة الماركسية تكمن في كونها تجمع بين إعمال الفكر والعقل من أجل التغيير والثورة على كل أشكال الاضطهاد والاستغلال والقهر خصوصاً... وهي بالتالي تجيب على كل أسئلتنا إذا ما استخدمنا منهجها المادي الجدلي وطبقناه على واقعنا الفلسطيني والعربي بصورة جدلية وواعية... وهو هدف لا بد ان يحمله ويناضل من اجله كل مثقف تقدمي، إذ اننا أمام تحديات هائلة .. تحديات الصراع مع العدو الصهيوني وتحديات العولمة الإمبريالية.. تحديات التبعية والتخلف الاجتماعي والاصولي .. تحديات الواقع الفلسطيني والعربي المفكك والمهزوم ... تحديات الاقتصاد والتنمية المستقلة والأمن الغذائي والمياه .. تحديات البطالة والفقر ... تحديات المستقبل الذي تسوده الحرية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية والوحدة العربيـة .

أخيراً .. لقد استهدفنا عبر كل ما قدمناه من نصوص مكونة لهذه المحاضرة، ليس فقط للفهم والتأمل العقلاني الفلسفي والمعرفي فحسب، بقدر ما هي أيضاً دعوة لمزيد من الحركة السياسية، النضالية والمجتمعية على جميع المستويات، بعيداً عن كل أشكال ومظاهر الثبات أو الجمود أو العقائدية من ناحية، والوعي العميق بكل مكونات واقعنا الفلسطيني والعربي بما يمكننا من الإسهام بصورة واضحة في تطبيق شعاراتنا وسياساتنا على طريق التحرر والنهوض بمجتمعاتنا العربية.

آمل أن يتمكن المثقف العربي التقدمي الديمقراطي عموماً ، والمثقف الماركسي العضوي –بالمعنى الحزبي- خصوصاً، وكذلك أحزاب وفصائل اليسار العربي من الإجابة على الأسئلة المثارة من موقع المادية الجدلية ومنهجها ، عبر الوحدة العضوية بين النظرية والممارسة الثورية شرط الخروج من أزماتها الفكرية والسياسية والتنظيمية صوب النهوض ، قبل أن يسدل الستار عليها مفسحاً الطريق لولادة الجديد .

عند ذلك أقول بثقة أننا بدأنا خوض معركتنا مع المستقبل ، ضد كل أشكال التبعية والتخلف والافقار، وضد التحالف الامبريالي الصهيوني الرجعي من ناحية ، وعلى طريق النهضة والحداثة والديمقراطية والعلم والتقدم من ناحية ثانية .



#غازي_الصوراني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مراحل تطور الرأسمالية ودور القوى الماركسية في الخروج من الاز ...
- ضد الهبوط السياسي .. ومن أجل المستقبل .. على الرغم من ظلام ا ...
- وجهة نظر حول : -استحقاق أيلول أو مشروع الاعتراف بالدولة الفل ...
- رداً على تقرير -جيفري بالمر- الحقوق الثابتة لشعبنا الفلسطيني ...
- أبو علي مصطفى في ذكراه العاشرة
- وثائق المؤتمرات الوطنية للجبهة الشعبية : بوصلة رفاقنا للمرحل ...
- المؤتمر الوطني السادس – تموز 2000 (7/7)
- الوثيقتين، النظرية و التنظيمية ، الصادرتين عن المؤتمر الوطني ...
- المؤتمر الوطني الخامس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (5 / 7 )
- المؤتمر الوطني الرابع للجبهة لتحرير فلسطين ( 4 / 7 )
- المؤتمر الوطني الثالث للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ( 3 / 7 )
- المؤتمر الوطني الثاني للجبهة الشعبية - شباط 1969 - ( 2 / 7 )
- ولادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين* 1 / 7
- صفحات من تاريخ حركة القوميين العرب
- حول تغيير اسم وكالة الغوث والصراع من أجل حق العودة
- في راهنية الانتفاضات العربية ومستقبلها
- تطور مفهوم المجتمع المدني
- حول أزمة أحزاب وفصائل اليسار العربي .. النهوض أو إسدال الستا ...
- حول سؤال ما الماركسية في الوضع الراهن ؟
- 5 حزيران 2011 ... موعد مع إسقاط أنظمة الاستبداد والفساد


المزيد.....




- حزب الفقراء، في الذكرى 34 لانطلاقته
- تركيا تعزل عمدة مدينتين مواليتين للأكراد بتهمة صلتهما بحزب ا ...
- تيسير خالد : سلطات الاحتلال لم تمارس الاعتقال الإداري بحق ال ...
- الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال
- هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال ...
- الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف ...
- السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا ...
- بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو ...
- حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء ...
- الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا ...


المزيد.....

- الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) / شادي الشماوي
- هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي ... / ثاناسيس سبانيديس
- حركة المثليين: التحرر والثورة / أليسيو ماركوني
- إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات ... / شادي الشماوي
- المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب - ... / شادي الشماوي
- ماركس الثورة واليسار / محمد الهلالي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - غازي الصوراني - مرة ثانية : محاولة للإجابة على سؤال - هل انتهت الفلسفة؟-