نبيل عبد الأمير الربيعي
كاتب. وباحث
(Nabeel Abd Al- Ameer Alrubaiy)
الحوار المتمدن-العدد: 3527 - 2011 / 10 / 26 - 10:37
المحور:
الادب والفن
إبراهيم عوبديا... شاعر بغدادي النشأة والهوى
نبيل عبد الأمير الربيعي
إن تساءلت من أكون فإني
شاعر قد ولدت في بغداد
وببغداد قد بدأت حياتــــي
عربي اللسان من آل موسى
لغة الضاد في فمي وفؤادي
(إبراهيم عوبديا)
يعتبر الشاعر إبراهيم عوبديا آخر الشعراء اليهود العراقيين الذين تمسكوا بعمود الشعر العربي, فقد ولد في بغداد عام 1924 وانتقلت أسرته إلى البصرة وهو في السن الرابعة من عمره,وفي عام 1940 انتقل إلى بغداد لإكمال دراسته الثانوية, ورحل عن الحياة وهو في عمر ناهز الثانية والثمانين , في نهاية عام2006, فقد نشر أثناء حياته أكثر من إثنى عشر ديواناً وثلاثة كتب أكثرها في الغناء الشعبي العراقي .
فقد ظهر شاعراً عراقياً في منتصف الأربعينات وعرف مناضلاً يسارياً وطنياً صلباً في مسيرات الاحتجاج والتظاهرات التي كانت تعج فيها بغداد أثناء العهد الملكي ,وقد شارك في مظاهرات انتفاضة عام1947 ضد توقيع معاهدة بورتسموث, حيث خرجت مظاهرات صاخبة مرت فوق جسر بغداد , فتصدت لها الشرطة وسقط عدد من الشهداء من اليسار ومن الحركة الوطنية ومنهم جعفر الجواهري الذي رثاه شاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري بقصيده, لكن إبراهيم عوبديا صرخ بصوت عالياً مدوياً وبقصيدة تمثل الإنتفاظة بحق شهداء الجسر عام1947:
الجسر يصخب بالهتاف............ وبالصراخ وبالصـــياح
وكتيبةٌ تعـــــــدو مـــــن.............الحرس المدجج بالسلاح
ومكبرات الصوت تنقل............ صوت بغداد الكفـــــــاح
.......................
ويسود صمتٌ حينذاك ينطق....... الرصـاص على الرعايا
وهناك فوق الجسر صاح..........مناضــــــل بين الضحايا
نادى بأعلى صوتـــــــهُ ........ يا قوم أن سالـــــت دمايا
فلقد نذرت دمي لصون........... كرامتي بـــــــــين البرايا
ولتربة من أجلـــــــــها ........... صغرت بعيـــــني المنايا
أنا لن أموت وفي دمي ......... من كل مكرمــــــــــةٌ بقايا
أنا لن أموت وأخوتي............ الأحرار في هذي السـرايا
......................
يا أخوتي ورفاق دربي ........... في النضال وفي الطماح
إن يخرق الظلام صدري....... بالرصـــــــاص أو الرماح
ما مات في موتي النضال....... ولا انتهى عـــــهد الكفاح
لقد مرً نصف قرن على هذا الصوت الوطني والمناضل النجيب ليرتفع عالياً ويحقق حلم الوطنيين والتقدميين من مناضلي هذا الشعب الذي قدم طوابير من الشهداء , ولكن عادت عربات الاحتلال مره أخرى تسير بطرقات البلد لتسمع أصواتها ضجيجاً دون أن تحمل معها غير الفراغ الشاحب والضاج بالموت, ولكن متى يتحقق السلام في مدينة السلام .
في بداياته الشعرية تأثر بشعراء العرب أمثال الياس أبو شبكة وأحمد شوقي، وإبراهيم ناجي, حيث نظم الشعر الموزون المقفى ملئها بالحنين إلى بغداد وداره الذي عاش فيه في مدينة البصرة قرب العشار (بريهه) حيث قضى شطراً من حياته . لمع اسم عوبديا في عالم الأدب والشعر بقصائده للجيش العراقي التي عبر فيها عن ولائه للعراق , إذ كانت تذاع من إذاعة بغداد في المناسبات العصيبة , فتنصل من الصهيونية كحركة عنصرية وأعلن وطنيتهُ للعراق ومسقط رأسه , فقد نشرت لهُ الصحف والمجلات ومنها مجلة( الأديب) البيروتية لألبير أديب ومجلة( الثقافة العصرية) لأحمد أمين و(الكتاب )لعادل غضبان و(الأمانة والعرفان) التي تصدر من القطر السوري الشقيق و(الثريا) التونسية, كان كثير السفر لطهران, إذ تعلق بإحدى بائعات الهوى عام1949 و كتب بذلك الكثير من الأبيات الشعرية , ولكن عند عودته إلى العراق لاحظ التعامل الفظ مع أبناء طائفته وهروب الكثير من الشباب خارج العراق وزج البعض منهم في السجون بتهم منها الشيوعية أو الصهيونية وقد صورها بديوانه( صيحة من عراق العهد البائد) ولهذه المآسي هاجر إلى إيران تارك مسقط رأسه وماضيه الحياتي والشعري بعد أن نشر خمس دواوين شعرية, ومن قصائده التي كتبها في إيران عام1951 قصيدة(في ظل كابوس):
ببغداد آثارٌ لنا ضاع بعضها...........وشُوه منها بعضـــــــها بعد تدليس
وجُرد بعض من عريق سماتهُ........وأسقط بعضً من بطون الكراريس
ونحيً مغضوباً عليه كأنما ........... بتكريم ذكراه امتـــــــــثال لإبليس
قد اضطهدت آثارنا مثل أهلنا........ فعاشت مع الكابوس في ظل كابوس
في هذه الأبيات يبين مدى الاضطهاد الذي تعرضت لهُ الطائفة اليهودية في العراق من قبل الحكم الملكي في عهد توفيق السويدي , نلاحظ في الأبيات الشعرية عاطفة واسلوب سلس متين وقافية متممه لمعنى البيت والتزامه بالقافية الموحدة في جلً القصيدة , فقد جاد في شعره الوجداني أيما إجادة مع تمسكهُ بعمود الشعر في التجديد. فقد بلغ ذروة شاعريتهُ واقترب من منزلة كبار الشعراء العرب في ملاحمهم .
في المنافي التي فرضت عليه وفي مسيراته التي كانت تغنى فيها أشعاره للرافضين للحكم الملكي والمعاهدات ,كان عوبديا عاشق للحرية بصرف النظر عن اللون والعرقً والقومية والدين, شاعراً حالماً وإنساناً كبيراً إذ لا ينسى آلام شعبه الذي تركهُ مجروحاً:
أيدت أحرار العراق مناصراً
وسرت بركب الوعي والنهضة الهادي
هناك ملايين تكدً جياعها
وتكدً مرضاها لخدمة أفرادِ
ما فرًق الجلاد بين مسلمَ
وبين سواه من يهود وأكرادِ
يقول عوبديا عن تلك المرحلة للعهد الملكي: ( إني كمواطن عراقي ولدت في بغداد تحت ظلال الحكم العراقي وترعرعت في ربوع بلاد الرافدين وأقمت أسرة , لم أستطع أن أتعامى عما يجري من حولي من ظلم واضطهاد وغطرسة... وقد حذرني أحد المقربين لرجال الحكم من التمادي في مهاجمة سياسة الحكومة في أي شكل كان والسبب لم يكن خافياً علي... كان من الجنون أن أنشر أية قصيدة أو مقالة تمس بسياسة الحكومة أو تنتقد تصرفاتها , لكني تجاهلت كل ما يحدث بي من أخطار... )
هرب عوبديا إلى إيران عن طريق خسروي وهي منطقة مجاورة لخانقين بعد أن أصدرت الحكومة الملكية أمر إلقاء القبض عليه إذ يقول : ( في اليوم الذي فتش فيه رجال الشرطة دارنا بغية اعتقالي كنت في الطريق إلى إيران , وعلي أن أذكر إني مدين بحريتي آنذاك , لأحد الأخوه المواطنين الذي كان ذا صله وثيقة بضابط التحقيقات , وعن طريقهُ علمت إن أمر أصدر للقبض علي , فقررت الفرار وليس السجن),خلال هروبهُ كتب هذه القصيدة التي تعكس الحالة النفسية لتلك المرحلة الصعبة:
إني انسللت إلى الحدود مع الدجى .... هرباً كأنـــــــــــي جاسوسا
ومضيت في جنح الظلام كأنني........ في كل شبر كنت محروسا
لكن دمعي قد جرى حولي, لما رأت... عيناي من حولي المتاريسا
فذكرت بغداد التي فارقتها.............. والقمــع والإرهاب والبؤسا
والساسة العملاء والدسِ.............. المبيت والصنائع والجواسيسا
ومساويء عرفيًةٌ أحكامها............ ضرب العراق بـــها المقاييسا
فالعدل قد سحقوه تحت نعالهم......... أو بات في الأوحال مطموسا
والشعب-أين الشعب؟ والطغيان قد..... شلً الضمـــائر والأحاسيسا
هل أسكتوه أم انهُ لزم السكوت........ وألجموًا أحرارهُ الشــــــوسا
ويذكر البروفسور سامي موريه عن فترة الأربعينات : ( والتطورات الايجابية التي جعلت الشاعر اليهودي يرى نفسهُ عراقياً أولاً ويهودياً ثانياً , وهكذا مع أخوتهم العراقيين من الأدباء والشعراء والصحفيين والمسلمين والمسيحيين في شتى الحقول الأدبية والثقافية والاجتماعية ... لقد ظهر اسم عوبديا في عالم الأدب والشعر فجأة , وما زلت أذكر كيف كنت وأنا أسير في شارع الرشيد , في طريقي إلى مدرسة فرنك عيني( اليهودية) أشاهد دواوين شعره في المكتبات العامة , وصورتهُ وهو يدخن سيجارته بنظراته الساهمة في واجهة المصور ( إرشاك) أشهر المصورين في بغداد في الأربعينات... ), والأديب سامي موريه هو الآخر شاعر وقاص وناقد أدبي في الجامعة العبرية في القدس وهو مع الشاعر عوبديا يشكلون ما يعرف باليسار أو بتيار السلام.
ومن قصائد عوبديا وهو في طريقهُ إلى المنفى:
من يدري , من سيكون غدا .... في هذا الدرب رفيــقي
وأنا أتلمس كالأعمى ............ في جوف الليل طريــقي
ودليلي الليل بوحشتهُ............. وجنون اليأس صـــديقي
أخشى أن أصرخ , أخشى .....أن أتساءل أين طريــــقي
أما في ديوانهُ الشعري الصادر عام1950 بعنوان( زهره في خريف) تبين أبياتهُ ملاحم الغرام وحب الشاعر البائس لإحدى بائعات الهوى وحبهُ الطاهر لها وغدرها به وعودتهُ مثقلاً بجراح الهوى وهو في تجربتهُ وندمهُ من الخطيئة والشهوة وتمزقهُ بينهما وبين الحب الطاهر وعذريتهُ.
أما عند هجرتهِ إلى إسرائيل عن طريق هروبهُ عبر الأراضي الإيرانية والتحاقه بعائلته المتكونة من الزوجة وثلاث بنات, فعمل ضابط في شرطة المكوس في ميناء حيفا والضفة الغربية ولإخلاصه في عملهِ منح جوائز تقديرية عديدة, فقد نظم الشعر في مطلع الخمسينات وواصل مسيرتهُ الشعرية ونشر الكثير من قصائدهُ في الصحف الصادرة في إسرائيل منها ( اليوم , الأنباء ) ومجلة( حقيقة الأمر, الشرق) فقد شجب الحروب ودعا للسلام والإخاء بين الأديان , وفي عام 1980 صدر ديوانه( امرأة من شعري) حيث ضم 48 قصيدة ومقطوعة شعرية في الحب والمرأة , ولكن من روائع شعره كانت قصائدهُ في ديوان ( صيحة من عراق العهد البائد) فقد تحدث بصدق عن موقف السلطات المتعاقبة على العراق من مواطنيها وخاصة يهود العراق , فقد لاقت هذه الطائفة الاضطهاد والتشرد وحاولت السلطات طمس آثارهم.
كان الشاعر العراقي إبراهيم عوبديا لا يجد إلا التحدث باللهجة البغدادية العراقية , وقد تمسك بلغة الضاد التي أحبها والتي تمنًى بها المكتبة العراقية من قصائده الشعرية .
لقد تمسك هؤلاء اليهود المهجرين اضطراراً من العراق بعاداتهم وتقاليدهم البغدادية والعراقية ولهجتهم البغدادية في التخاطب بين الأهل والأصدقاء في جميع المناسبات والأعياد وقد إضافات عوبديا للغة العربية الفصحى أغانيه العاطفية باللهجة العربية البغدادية و نشرها في كتابه ( أغنيات عراقية) بلون الغناء الشعبي العراقي عام1994 , فقد غنًت عبر إذاعة صوت إسرائيل بصوت المغنين اليهود العراقيين أمثال صالح الشبلي وبإشراف الفنان شفيق كباي والجوق الموسيقي للجالغي البغدادي ,وعوبديا يفتخر كونهُ رفع مستوى الأغنية الشعبية باللهجة العامية العراقية , فكان أول شاعر يهودي يقوم بهذه الخطوة الجريئة ,فقد أهدى كتابه( أغنيات عراقية) إلى صديقهُ الصحفي العراقي الراحل الأستاذ أبي إبراهيم منشي زعرور , إذ جمع فيه أكثر من 68 أغنية لخمسة عشر مطرب ومطربة مع نبذه عن سيرة حياة كل منهم.
وقد كتب قصيدة يحيً فيها الانتفاضة الفلسطينية ولم يعبأ لدولة إسرائيل وظل متشبثاً بجذور عراقيتهِ:
ماذا في غزة يحدث؟ ما الأخبار؟
هل زوبعة عصفت أم شعبٌ ثار؟
أم فتيان بين الشبان صغار؟
من فتية غزة طلاب أغرار.
يذكر البروفسور شموئيل سامي موريه أستاذ اللغة العربية في الجامعة العبرية عند زيارتهُ لعائلة إبراهيم عوبديا للتعزية بوفاته إذ يقول: ( فناولتني زوجتهُ آخر قصيده كتبها قبل مغادرته إلى مستشفى الكرمل , يرثي فيها نفسهُ ويصلي إلى الله تضرعاً ليخفف من عذابه في أيامه الأخيرة) , لقد كانت آخر قصائدهُ المحزنة هي طلب الرحمة من الخالق وأن ينجي العراق من أزمتهِ , ولكن العراق أصبح شماتة للأعادي , فتقطع عنهُ دجلة والفرات المياه من الشرق: صلاة
نجني يا ربً من أنا فيه................ وأشفني يا رب مما أشتكيه
حيرتني حالتي مما أعاني.............. وكأني ضعت يا ربِ بتيـه
سيدي أنت ومولاي إلهي....... ....... ليس لي إلاك ربِ أرتجيه
سيدي مولاي سبحانك ربي........... ليس لي غيرك عون أبتغيه
سيدًي أنت إلهي وملاذي.............. لك أشكًو كلً خطب أشتكيه
ربي وأرشدني لأنجو من عذاب....... صرعتني شدة الآلام فيها
لقد رحل إبراهيم عوبديا وعينهُ ترنوا للعراق وحسرتهُ على ما يجري في العراق اليوم,ثورة التوهج بالانتماء إلى وادي الرافدين , بل من خلال حضور أجداده أكثر من 2500 عام من تهاجن وتلاقح و مشيمية للكيان العراقي تفوق كل معنى الانتماء لعوالم هلامية خارج الإطار الجغرافي العراقي, فقد حافظ عوبديا على اسمهُ الحقيقي وحرص على مبادئهُ ولهجتهُ العراقية الأصيلة متمنياً زيارة العراق ولو لساعة واحدة قبل الرحيل , فقد رحل القلب الطيب في نهاية عام2006 ولم يرى العراق مولد الصبا والشباب وهو يتغنى بهِ, ويجد مبررها بمسوغات دينية أو طائفية أو عرقية واهية , لقد انتزعوا عنوة من غرس وادي الخير والعطاء , مثلما نخيلها التي اجتثت جذورها إذ لا يمكن غرسها في تربة أخرى , فقد مات بحسرة زيارة العراق مرة واحدة , ولكن العراق بقى في غيًه ومواصلة شقاقه وصراعه الطائفي والمذهبي في مذابح يومية.
كتبه ودواوينه:
1- خفقات قلب1945
2- وابل وطل 1946
3- في سكون الليل1947
4- زهرة في خريف1950
5- أخي! إستشرق الشمس 1977
6- امرأة في شعري 1980
7- صيحة في عهد العراق العهد البائد 1990
8- الظمأ الحائر 1990
9- أغنيات عراقية - من الغناء الشعبي العراقي الحديث1994
10- ورود شائكة 1998
11- في مدان الأدب العربي 1999
12- في دنيا المقامات والغناء العراقي1999
13- أنا والشعر 60 عاماً 2003
14- مع الغناء العراقي – مطربون ومطربات وأغان من التراث 2005
#نبيل_عبد_الأمير_الربيعي (هاشتاغ)
Nabeel_Abd_Al-_Ameer_Alrubaiy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟