|
أي دور للدولة؟
صالح بوزان
الحوار المتمدن-العدد: 1045 - 2004 / 12 / 12 - 10:40
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
أي دور جديد للدولة..؟ في العدد 234 من جريدة قاسيون تاريخ 11/11/2004 والتي تصدرها اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين، توقفت مطولاً عند افتتاحية العدد (من أجل دور جديد للدولة). وبعد قراءتها عدة مرات لم أصل إلى نتيجة واضحة لما يراد من هذه الافتتاحية. طبعاً قد يقول قائل بأن هذه مشكلتك، وهذا صحيح إلى حد ما. لكن الافتتاحية مكتوبة لعامة الشعب وليس لأولي الألباب فقط. الفقرة الرئيسية التي تسترعي الانتباه في هذه الافتتاحية هي ما يلي(( إذا كانت العقود الماضية قد أنتجت دوراً محدداً للدولة في المجال الاقتصادي وكذلك السياسي واصطلح على تسميته بالدور "الأمني" فإن هذا الدور قد استنفذ تاريخياً)). وهنا تبرز جملة من الأسئلة لا يتم الجواب عليها. هل كانت فعلاً دولة أمنية أم مجرد اصطلاح طرح جزافاً؟ هل استنفذ هذا الدور لأنه قام بمهامه كما يجب، ويتطلب الوقت الراهن الانتقال إلى دور آخر على أرضية ما حققتها الدولة الأمنية حتى الآن؟ لاشك من الأفضل دائماً أن لا نكون حبيسي الماضي، فالحاضر والمستقبل هما الأهم، غير أن عدم دراسة هذا الماضي بروح نقدية علمية، ستأتي المهام الراهنة على شكل أحلام لا علاقة لها بالحاضر. فلماذا الهروب من هذا الماضي، مادامت كل مشاكلنا الراهنة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والقانونية وليدة هذا الماضي. السؤال الذي لابد الإجابة عليه هو: هل كنا بحاجة إلى تلك الدولة الأمنية ؟ وإذا أردنا المكاشفة أكثر فلصالح من كانت هذه الدولة الأمنية؛ ألصالح الوطن والشعب؟ أم لصالح السلطة؟ إذا استعرضنا كل دراسات الكتاب والمفكرين السوريين وبعض المختصين الأجانب في الشؤون السورية، نجد أن هذه الدولة الأمنية قامت بمهمة إعادة هيكلة اقتصاد البلد لصالح ومتطلبات المجموعة الحاكمة وتعزيز سلطتها وديمومتها. ومن ناحية أخرى فالشكل اللاديمقراطي في استلام السلطة فرض موضوعياً الممارسة اللاديمقراطية للسلطة خلال هذه الحقبة. وكان من الطبيعي أن يكون أحد عناصر هذا النموذج من الدولة الأمنية الفساد والبيروقراطية التي امتصت الاقتصاد الوطني. أليست الأزمة الراهنة في مختلف مناحي حياتنا هي نتيجة طبيعية لهذه الدولة الأمنية. والافتتاحية نفسها تقول: (( إن هذا الدور وصل في نهاية المطاف إلى حالة عجز عن تحقيق أي نمو للاقتصاد الوطني..)). وللخروج من هذا المأزق تقترح الافتتاحية صياغة دور جديد للدولة (( يضمن إطلاق طاقات المجتمع ويصحح المعادلة بينه وبين الدولة بحيث تضعها فعلاً تحت الرقابة وهذا يتطلب إطلاق أوسع الحريات السياسية مع الآليات الضرورية لها من قانون أحزاب وقانون انتخابي يخدم القانون الأول ويدفعه نحو تحقيق هدفه الأساسي ألا وهو النهوض بالحركة السياسية في المجتمع وتنشيطها)). والسؤال هنا من سيقوم بتحقيق هذا الاقتراح الصحيح؟ أقصد من هي القوى الاجتماعية والسياسية القادرة على هذا التغير؟ والأهم من ذلك كله، هل بالا مكان إجراء هذه التغيرات الكبيرة دون أن ترافقها أو تسبقها تغيرات جوهرية على صعيد هيكلية الاقتصاد السوري؟ أم أن المسألة عبارة عن إصدار فرمانات عليا كما هو متبع في الدول ذات الحكم الشديد المركزية. أتساءل ما هو الخلاف بين هذا الطرح الوارد في الافتتاحية وما يطالب به جماعة المجتمع المدني والغالبية العظمى من المعارضة الوطنية السورية، بما في ذلك دعاة الليبرالية الجديدة. لم أستطع فهم هذا الهجوم الشرس على الليبرالية الجديدة التي لم تلد بعد، ولا يمكن أن تلد على أرضية الاقتصاد السوري الراهن. فدعاة الليبرالية الجديدة أيضاً حالمون كما هو وضع جماعة هذه الافتتاحية التي نحن بصددها. فهم لم يخرجوا عن طبيعة العالم الثالث الذي يريد أن يخلق الشعار الواقع وليس العكس. فكما هو معروف في العالم الثالث أن الفرق واسع بين السياسي والاقتصادي. فإذا كانت الليبرالية في الغرب ظهرت أول ما ظهرت كحالة اقتصادية رافقتها السياسة كجزء من متطلباتها. ففي العالم الثالث يجري التفكيك بين الاقتصاد والسياسة والفكر، بنفس الطريقة الديكتاتورية التي تمارس على الرعية. فغالباً ما تكون المسألة في هذا العالم(المسحور) شعاراً براقاً يتم فرضه على الناس، بينما يجري الواقع بعكسه. ألم نقر في دستورنا بأن سورية دولة اشتراكية وفي واقع الأمر كنا نسير باتجاه آخر؟. من سيحوّل الدولة الأمنية إلى صياغة أخرى بحيث تقوم بدور جديد يتوافق مع المتطلبات التي تقدمها الحياة اليوم؟ كما تقول الافتتاحية. هل هناك قوى اجتماعية واقتصادية في الساحة السورية تستطيع فعل هذا المطلوب؟ أم أن الطلب موجه إلى الجهة التي بيدها أمور البلاد من بابها إلى محرابها؟ وهل من مصلحتها القيام بذلك؟. ليس المنطق هو الذي يتحكم بحياة الناس بل المصالح. هل فعلاً تشكل الليبرالية وقانون السوق ذلك الخطر الذي لا يدركه سوى هذا التيار الماركسي(صاحب جريدة قاسيون) وأنه في حال سيطرتها على البلاد سنترحم على البرجوازية البيروقراطية (التي تنهب الدولة والشعب والوطن) وسنترحم على القطاع العام الذي يشكل بؤرة الفساد الأعظم في البلاد. وبالمناسبة، لا تعتبر بقية التيارات الماركسية السورية هذا القطاع قطاعاً عاماً، بل تسميها قطاع الدولة، وهو الأصح على ما أعتقد. ويعني ذلك على ضوء هذه الافتتاحية بأنه قطاع الدولة الأمنية، وفي ذلك الكثير من المعاني. والغريب في الأمر أن كاتب الافتتاحية يخشى فيما إذا سيطرت الليبرالية على الاقتصاد فإنها ستسيطر على القرار السياسي. هل من المعقول الفصل بين الاقتصاد والسياسة"إلا في العالم الثالث". أليس حزب البعث يسيطر على الاقتصاد والقرار السياسي معاً، وكيف يمكن التغاضي عن الدور الاقتصادي "للمتأثرين بروح الليبرالية الجديدة"، وفي الوقت نفسه منعهم من أي دور سياسي؟ هل يمكن أن تكون الدولة اشتراكية سياسياً ورأسمالية اقتصادياً. ففي الدول الرأسمالية كلها يكون القرار السياسي خاضعاً للاقتصاد الرأسمالي مهما عظم شأن القادة وتوالت الأحزاب في الحكم. وهل جاء بوش إلى المنطقة لأن لديه أحلام جنكيز خان، أم أنه عبد مأمور للشركات الرأسمالية الأمريكية؟. لماذا التشكيك بوطنية دعاة الليبرالية مسبقاً؟ من يستطيع أن يلغي في سورية وطنية القومي العربي والقومي الكردي والشيوعي والأخوان ألمسلمي؟ فالكل وطنيون، ولكن يختلفون في كيفية فهم الوطن، وكيفية إدارته، وربما كيفية الدفاع عنه؟ لست من الذين يعتقدون أن الحل الليبرالي على صعيد الاقتصاد والسياسة هو الحل الوحيد، ولكنه أحد الحلول المقترحة. والمشكلة هنا أيضاً أن الحل يأتي كفكرة سياسية دون أن يكون الواقع السوري المتأزم في جميع المستويات يتلاءم معها. فالرغبة في خلق حالة من الليبرالية السياسية والاقتصادية والفكرية في البلد من أجل الوصول إلى خلق القوى الاجتماعية التي تستطيع تعميم هذه الليبرالية على جميع مناحي حياة البلد تصطدم بالموروث السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي شكل تركيباً معقداً في حضن هذه الدولة الأمنية ومن الصعب اختراقه. بل يبدو أن جميع التيارات السياسية وبما في ذلك غالبية الومضات الفكرية عاجزة من الانفكاك عن هذا التركيب. ولذلك طفت وتطفو حلولها على السطح من خلال نداءات غير قادرة على تجميع القوى التي شتتها هذه الدولة، بل غير قادرة على خلق قوى الاجتماعية جديدة تستطيع تحقيق الحالة المطلوبة التي تشير إليها الافتتاحية. ما يلفت الانتباه أن جميع اطروحات الأحزاب والتيارات السورية، سواء أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية(ما عدا الحزب الحاكم طبعاً) وكذلك أحزاب المعارضة وشبه المعارضة، موجهة إلى الحزب الحاكم. أي أن هذه الأحزاب والتيارات تقوم بدور المستشار المجاني لحزب البعث، في الوقت الذي لا يبدي حزب البعث بأنه يحتاج إلى هذه الاستشارات. يتبادر إلى الذهن أحياناً أن التيارات السياسية في سورية(وليست السلطة فقط) تتهرب من مهام المرحلة بإيجاد عدو وهمي. والسبب في ذلك على ما أعتقد إما لعدم توفر المعرفة الكافية لدراسة الواقع الداخلي والخارجي بشكل صحيح، ولاسيما في المرحلة الجديدة من الاقتصاد الرأسمالي المعولم، أو المحاولة للتكييف مع البيئة السياسية السورية الساكنة للحفاظ على الوجود "المريح"، وانتظار "المنقذ" الذي هو خارج القوانين الموضوعية في هذه الحالة، بل ربما خارج حلول هذه الأحزاب والتيارات. لا بد التوقف عند الإحصائيات التي توردها الافتتاحية، وتبين بالأرقام نمو حجم الدولة في اقتصاد كل من إنكلترا ( زاد من 31% عام 1970 إلى 39% في عام1997) وفرنسا( من 39% عام 1980 إلى 47% في عام1997) والسويد( من 5% إلى 44% عام 1997). لا ادري كيف جرت هذه المقارنة الغريبة، فمن ناحية نرى أن حجم الدولة يزداد تدريجياً، ويعني ذلك أن زيادة هذا الحجم تأتي بناء على متطلبات الواقع الاقتصادي ومن خلال سيرورة التطور، وليس تلبية لشعار صاغه ثوري رومانسي أو قائد ملهم. ومن ناحية أخرى فقد مرت هذه البلدان بمراحل اقتصادية تاريخية طويلة لا نستطيع مقارنتها مع واقع الاقتصاد السوري. فطبيعة تطور الدولة هناك تلازمت مع طبيعة تطور الاقتصاد، وتحولت هذه الدولة مع الزمن إلى مؤسسة اجتماعية، إلى جانب دورها المعروف. وحتى المؤسسة الرأسمالية في هذه البلدان، مهما كانت صغيرة أو كبيرة، تقوم بدور اجتماعي ما يفوق بعض القطاعات الاشتراكية التي كانت في الاتحاد السوفييتي السابق. فالناس في هذه البلدان يرغبون في زيادة حجم الدولة في الاقتصاد لأنها تنعكس عليهم اجابياًً أكثر من المؤسسة الرأسمالية. إلى جانب أن الناس هناك لا يخشون من استبداد الدولة نتيجة الدور القوي تاريخياً لمؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والنقابات التي لجمت بنسبة كبيرة الجانب السلبي للدولة. بينما هنا في سورية، فمازال الهجوم كاسحاً على قوى المجتمع المدني والمعارضة لصالح تعزيز استبداد الدولة الأمنية. لاشك أن الدور الجديد للدولة والذي تطالب به هذه الافتتاحية لابد منه، ولكن أرى أن غالبية القوى السياسية السورية تفكر في أمور البلد الداخلية والخارجية وكأنهم مازالوا في أجواء الحرب الباردة، وكأنهم لم يسمعوا بالعولمة التي لا تترك لك خيارات كثيرة وهوامش للمناورة. فإذا لم يتم تغير نموذج الدولة الراهن، وتغير هيكلية الاقتصاد السوري ليصبح جزءاً من الاقتصاد العالمي، ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فإن العولمة ستغير الاقتصاد ونمط الدولة الأمنية عاجلاً أم آجلاً. ولكن الفرق في التغير بين أن يكون حسب حاجة وطنية داخلية وبمشاركة كل الفعاليات الساسية والاقتصادية والفكرية وحاجة العولمة ومن الخارج كبير جداً. أعتقد لا حل لدينا للخروج من أزمتنا الراهنة سوى فتح المجال لكافة القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من أن تلعب دورها التاريخي، بما في ذلك القوى الليبرالية، رغم صعوبة ذلك في ظل العولمة التي لا تترك المجال كثيراً للإرادة الذاتية. ولكن لا مفر من ذلك، فبدون تحرير الاقتصاد وكذلك السياسة والفكر من قبضة الدولة الأمنية لن يكون هناك أي تطور ولا مجال للتحديث أيضاَ على أي صعيد
#صالح_بوزان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كلمة شكر ولكن
-
لابد من العلمانية
-
هل
من طريق إلى وحدة الشيوعيين السوريين؟!
المزيد.....
-
بعد وصفه بـ-عابر للقارات-.. أمريكا تكشف نوع الصاروخ الذي أُط
...
-
بوتين يُعلن نوع الصاروخ الذي أطلقته روسيا على دنيبرو الأوكرا
...
-
مستشار رئيس غينيا بيساو أم محتال.. هل تعرضت حكومة شرق ليبيا
...
-
كارثة في فلاديفوستوك: حافلة تسقط من من ارتفاع 12 متراً وتخلف
...
-
ماذا تعرف عن الصاروخ الباليستي العابر للقارات؟ كييف تقول إن
...
-
معظمها ليست عربية.. ما الدول الـ 124 التي تضع نتنياهو وغالان
...
-
المؤتمر الأربعون لجمعية الصيارفة الآسيويين يلتئم في تايوان..
...
-
إطلاق نبيذ -بوجوليه نوفو- وسط احتفالات كبيرة في فرنسا وخارجه
...
-
في ظل تزايد العنف في هاييتي.. روسيا والصين تعارضان تحويل جنو
...
-
السعودية.. سقوط سيارة من أعلى جسر في الرياض و-المرور- يصدر ب
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|