مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 3517 - 2011 / 10 / 15 - 15:24
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تعود القصة إلى ذلك الوقت عندما بدأت أعي العالم من حولي كشاب .. كان كلا من الإيمان , القوي , و الإلحاد موجودين في بيئتي , كأي إنسان كما أفترض , أذكر جيدا تلك المحاكمات التي قادتني لأصنع إلحادي الخاص , أذكر يومها أنني كنت أفكر بالإله ككائن "آخر" , كوعي آخر , و كنت أحلل "سلوكه" , "أفعاله" على هذا الأساس , لم أكن بحاجة لوقت طويل حتى اكتشفت أنه إذا كان هناك إله بالفعل كما يصفه رجال دينه أو المؤمنون به , أن هذا الكائن الواعي هو بمقاييس شاب , إنسان شاب , كائن تافه و ذا وعي مريض .. في الواقع من الصعب على أي إنسان عاقل , لم تسمم أفكاره الدوغما الدينية و لم تسمم مشاعره تجاه الآخرين أفكار اللاهوتيين و رجال الدين عن الإيمان و الكفر , أن يكتشف أي معنى أو إحساس , أي إحساس يقوم على الطيبة على الأقل , قد يشعر به مثل هذا الكائن , إن وجد , لقيامه بتعذيب كائنات عاجزة فقط ليجعلها تشعر بوجوده , كائنات هو الذي خلقها , ما يحدث عندما يستخدم البشر هذه الطريقة بين بعضهم البعض فإن المنطق الأخلاقي البسيط يقول بضرورة محاكمة الإنسان الذي يعذب الآخرين بوعي كامل على ما يرتكبه بحقهم دون أي تردد .. كان من الصعب جدا علي أن أفهم لماذا خلق هذا الكائن القادر و الواعي , الذي يفترض أن وعيه لا يقل عن وعي الإنسان على الأقل بل يفترض أنه يفوقه قدرة و حكمة , لماذا خلق هذا الكائن الذي عاش وحيدا منذ الأزل و حتى الأزل , دون أن يعرف الغضب أو الحزن أو الشهوة أو اليأس أو حتى السعادة , الذي لم يعرف الجوع أو العطش , لم يعرف المتعة , لم يلمس امرأة من جنسه أو يشعر بالغيرة عليها أو بالحب أو الكراهية تجاهها , الكائن الذي لا يعرف الألم , و لا الموت , الكائن الواحد الأحد الذي عاش في عزلة و وحدة قاتلة و تبلد حسي كامل ملايين ملايين السنين التي لا عد لها , دون أي إحساس من أي نوع , ليخلق فجأة نقيضه , الجنس , الحب و الكره , الغضب و السعادة , الألم و البؤس , الفقر و الغنى , دون أن يكون قادرا على الاستمتاع إلا بشيء واحد فقط , هو تعذيب تلك الكائنات المسكينة التي خلقها , و الاستمتاع بتذللها التافه , و بعبادتها التي لا معنى لها بالنسبة له .. إذا افترضنا وجود مثل ذلك الكائن فإنه سيكون بكل بساطة مريض , مريض بالسلطة و بالكره أيضا بل بالحقد المريض و غير المبرر , يكفي أن نقول أن الشيء الوحيد الذي دفع هذا الكائن لخلق كل هذه الكائنات و كل مصائبها خاصة هو رغبته بأن تقدسه تلك الكائنات المسكينة و أن تعبده فقط , هذه الرغبة هي في أفضل الأحوال رغبة مريضة , إنه يشبه بالضبط ما يفعله الطغاة , عندما يقتلون بعض أتباعهم فقط ليشعروا أن كل الآخرين ليسوا إلا أتباعا أو عبيدا لهم , ليشعروا أنهم سادة , هذه الحال أشبه بشخص سادي يبحث عن ضحية مازوخية , ما يريده هو عبد ذليل , عبد يستطيع أن يتلذذ بخضوعه بل بخضوعه و هو يقوم بتعذيبه بشكل وحشي , يشبه هذا مل يفعله ضباط المخابرات العربية و أجهزة القمع و التنكيل في كل مكان بضحاياهم , مهمة رجال الدين من كل الأديان هي خلق ذلك العبد المازوخي , الذي يلوم نفسه على سادية إلهه أو جلاده , و يلوم نفسه على عدم رضا سيده المريض و يلوم عقله أو وعيه على جنون سيده المهووس .. حتى الآن يلازمني استغراب شديد من محاولات بشر ليسوا فقط أذكياء كالفلاسفة القدامى بل بشر كانوا مستعدين للتفكير خارج حدود المألوف , لتعريف الإله بأنه روح فقط دون جسد , معتبرين أن الكائن الخيالي المسمى بالروح أسمى من الجسد أو من البشر ذوي الوجود المادي , كيف يمكن لوعي ما أن يعرف أي شيء عن الحب و الكره , الغضب و الشهوة , دون أن يكون وعيا لكائن ذا وجود فيزيائي مادي فعلي , دون أن يكون وعيا لجسد مارس و جرب كل ذلك , شعر بالإشباع أو بالألم , بالرغبة أو بالحاجة , الحقيقة أن هذه المشاعر مشاعر جسدية بامتياز , لا يمكن للآلة مثلا أن تشعر بأي منها , و بالتالي لا يمكنها أن تغضب أو تشعر بالألم , إنها مثل آلة التسجيل , تردد ما يحفظ عليها فقط أو مثل آلة التلفزيون الذي ينقل صورة و صوت فقط بكل حيادية و تجرد , مثل هذا الكائن الروحاني المسمى بالإله لن يكون أحسن حالا في الحقيقة من تلك الآلات التي تردد ما صممت لترديده دون أن تفهم شيئا من هذا كله .. الحقيقة هي أن أمنا الفعلية هي الطبيعة , الطبيعة المادية , هذا قد يفسر فعلا كل الألم و البؤس في العالم , يفسر غباء العالم الذي نعيش فيه كما قد يفسر الذكاء الذي خلقه فينا , و قد يفسر الفقر و الغنى , قد يفسر تعدد الاحتمالات التي يقف أمامها الإنسان اليوم , كما دائما , لكن اليوم بقوة أكبر لأنه أصبح يتخلى تدريجيا عن شعوره بالحاجة و يخلق هو الآن إمكانيات تحرره , إمكانيات أنسنته النهائية القائمة على الحرية , ليس تاريخ البشرية القادم نتيجة لتطور ظهر بالصدفة نتيجة قوانين غبية حتمية للطبيعة , أو للمادة , إنه يصبح أكثر فأكثر نتيجة تطور الوعي البشري ذاته , تطور المشاعر الإنسانية نفسها و الحاجات الإنسانية .. نقطة أخرى مهمة هي أن الحرية الإنسانية ممكنة اليوم فقط بسبب أشخاص كجوردانو برونو و ابن الراوندي و حتى يسوع ( يسوع جبران , يسوع المجنون الحالم التائه الذي يؤله الإنسان و ليس يسوع الكنيسة الإله الذي لا يختلف في غبائه و كرهه للبشر عن بقية الأنبياء و الآلهة و الأصنام ) .. لا يقل الإيمان بالزعيم , بالسلطة , بالدولة , بالإمام أو بالأمين العام تفاهة و مازوخية عن هذا الإيمان بالسماء , إن هذا الكائن الطفيلي تماما , الذي وجد لقهر البشر فقط و لاستعبادهم يقوم على ذات الأساس الذي يقوم عليه الإيمان بالآلهة : الإحساس بالضعف البشري و حتى بالعجز , إن المبرر الأقوى لاستعباد البشر حتى اليوم هو خوفهم من حريتهم و الإصرار على أنهم لا يستحقونها , هذا بالضبط ما يردده كل السادة و رجال الدين .. الرعب الحقيقي للسادة ليس في ظهور برونو واحد أو ابن راوندي واحد أو ألف حتى , هؤلاء يبقى من الممكن دائما قتلهم , عزلهم , تكفيرهم , تخوينهم , سحلهم , سجنهم , لكن المصيبة الفعلية للسادة تكمن خاصة في مثل هذه الأوقات التي نعيشها عندما يشعر عدد كبير من البشر بقوتهم , عندما يشعرون بإنسانيتهم , و بتفاهة السادة و غبائهم و طفيليتهم , الحرية ليست برلمانا و لا دساتير أو قوانين بل و لا حتى مؤسسات مجالسية شعبية أو عمالية , هذا كله إما أنه هراء أو أنه نتيجة , الحرية هي أن نصبح أقوياء لدرجة لا يمكن فيها لأحد أن يستعبدنا , اكتشف نيتشه أن الإله و السيد يقومان في الواقع على خضوعنا , على ما سماه بأخلاق ( و فكر ) العبيد , خلافا لكل ما يقال , ليست العلمنة عبودية أخرى أو جديدة , ليست الاشتراكية أو التحررية دينا جديدا , إنها الإنسان , كل إنسان و قد بلغ من القوة الروحية و المادية بحيث يصبح حرا
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟