حمدى السعيد سالم
الحوار المتمدن-العدد: 3516 - 2011 / 10 / 14 - 20:24
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
العولمة هى التكامل بين رأس المال والتكنولوجيا والمعلومات التى تتجاوز كل الحدود المفروضة بطريقة تنشأ عنها سوق عالمية واحدة . فالعالم العولمى مازال يحبو , فنظام الحرب الباردة البطىء والساكن الذى سيطر على الامور العالمية منذ 1945 قد تم استبداله بنظام جديد مترابط هو ( نظام العولمة) . فالعالم كله فى نهر واحد ولابد ان نفهم ذلك , وقد ولد هذا العالم مع انهيار سور برلين 1989, ولاعجب ان الاقتصاد العولمى الناشىء مازال يبدأ اولى خطواته ......
فالعولمة ليست ظاهرة كما انها ليست اتجاها عابرا ...... فالعولمة اليوم هى النظام العالمى الرئيس الذى يشكل السياسات المحلية والعلاقات الخارجية تقريبا . فالفكرة المحركة للعولمة هى رأسمالية السوق الحر, فكلما تركت السوق تحكم وكلما تركت اقتصادك مفتوحا للتجارة الحرة والمنافسة , كان اقتصادك اكثر كفاءة واكثر اثمارا . فالعولمة تعنى انتشار السوق الحرة فى كل بلدان العالم ...... كما ان لها مجموعة من القواعد الاقتصادية , قواعد تدور حول الانفتاح والغاء القيود على الاقتصاد ...... ولايمكن ان ننكر ان للعولمة تكنولوجياتها الخاصة المميزة : الكمبيوترية , والصناعات الدقيقة , والاجهزة الرقمية , والاتصالات عن طريق الاقمار الصناعية , والانترنت . فلهذه التكنولوجيات اثرها فى تكوين المنظور الخاص للعولمة . فاذا كان المنظور الخاص للحرب الباردة هو ( الانقسام ) فالمنظور الخاص للعولمة هو( التكامل ) ..... واذا كان حائط برلين يفصل بين الافراد رمزا للحرب الباردة , فان شبكة عالمية واسعة تربط كل فرد تعد رمزا للعولمة ........ واذا كانت المعاهدة هى الوثيقة الخاصة بالحرب الباردة , فان الاتفاقية هى الوثيقة الخاصة بنظام العولمة ......
الغريب انه منذ انفراط عقد الدولة العثمانية وزوالها رسميًا عام 1924م أصبحت الأمة العربية تعيش لأول مرة منذ تأسيس الدولة الإسلامية قبل أربعة عشر قرنًا، من دون كيان جامع –ولو بصورة رمزية– يُعبِّر عن وحدة الأمة ورمزها السياسي المُعبَّر عنه بالخلافة، فمنذ ذلك الحين شقت "الدول القومية" Nation States طريقها لتغطي خلال فترة وجيزة خريطة العالم الإسلامي برمته لاسيما مع بدء مرحلة انتهاء الحقبة الاستعمارية كأحد التجليات التي ميزت عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.....ومع تنامي الاتجاهات التفكيكية والتفتيتية داخل الجسد العربى الكبير، وبالتوازي مع دعوات إحياء "القُطرية" الضيقة بين أبناء الأمة العربية برعاية القوى الغربية المهيمنة، بدأت تلك القوى الغربية تنتهج ذات النهج الذي تهدف وتسعى إلى إبعاد الأمة العربية عنه ألا وهو النهج الوحدوي التجميعي للجهود والمقدرات........ حيث بدأت الأحلاف والمحاور والتكتلات تتشكل في الجسد الغربي ممثلة في مؤسسات فاعلة من قبيل حلف شمال الأطلسي "الناتو"، والاتحاد الأوروبي، وتجمعات "النافتا" و"الميركوسور" و"الآسيان" وغيرها......
وهكذا تمكن الغرب "الحضاري" بعد تفكيك الدولة العثمانية من السيطرة على المنطقة العربية والإسلامية، التي هي قلب العالم الجغرافي والحضاري أيضًا، ومن ثم استطاع الهيمنة على العالم وقيادته تكريسًا لهيمنة الرجل الأبيض ودوره الرسالي الحضاري المزعوم، فمن يسيطر على القلب يسهل عليه السيطرة على الهامش والأطراف... ولم تمر سوى عقود قليلة على بدء هذه الثنائية المتناقضة – التفكك العربي والإسلامي من جهة، والتكتل الغربي بأشكاله وصوره المختلفة من جهة أخرى، حتى بشرتنا قائدة المعسكر الغربي وحاملة لواءه ودرة تاجه الإمبريالي الولايات المتحدة الأمريكية ببدء عصر جديد من الحضارة الإنسانية أطلقت عليه "عصر العولمة" ...... والعولمة؛ ذلك المفهوم الملتبس الغامض الذي بات النغمة السائدة في العلاقات الدولية والعلوم الاجتماعية منذ تسعينيات القرن الفائت وحتى لحظتنا الراهنة، لن تجد لها تعريفًا جامعًا يكشف أسرارها ويسبر أغوارها.....
واذا كان المعيار المحدد للحرب الباردة هو( الكم ) خصوصا الكم الكبير للقذائف , فان النظام المحدد لنظام العولمة هو ( السرعة ) سرعة التجارة , السفر , الاتصال , التجديد . واذا كانت الحرب الباردة قد قامت على معادلة ( الحجم والطاقة ) لاينشتاين , فان العولمة تقوم على قانون ( مور ) الذى يرى ان القدرة الكمبيوترية لشرائح السيليكون ستتضاعف كل فترة تتراوح بين 18 الى 24 شهرا . وكما قال احد الساسة الالمان (كارل ستش) : ( ان نظام الحرب الباردة كان عالما من الاصدقاء والاعداء , اما نظام العولمة فانه يحول كل الاصدقاء والاعداء الى متنافسين ) , اذا كان القلق الخاص بالحرب الباردة متعلقا بالخوف من عدو ما تعرفه جيدا فى سياق صراع عالمى محدد وثابت . فان القلق الخاص بالعولمة يتعلق بالخوف من تغيير سريع من عدو لاتستطيع ان تراه او تلمسه او تشعر به . ويتمثل التحدى فى حقبة العولمة بالنسبة للدول والافراد فى ايجاد توازن صحى بين الحفاظ على الاحساس بالهوية والوطن والمجتمع وبين القيام بكل ما هو ضرورى للحفاظ على البقاء فى ظل العولمة .
كانت الحرب الباردة مثل السهل الفسيح الذى تتقابل فيه وتجزئه الاسوار والحوائط والخنادق والنهايات المسدودة . كان من المستحيل المشى لمسافة ابعد بكثير بدون الاصطدام فى او بسور برلين او بستار حديدى او حلف وارسو او بتعريفات جمركية او بقيود على رؤوس الاموال . وخلف هذه الاسوار والقيود استطاعت الدول ان تجد اماكن كثيرة للاختباء والحفاظ على انماطها الخاصة للحياة السياسية والاقتصادية والثقافية ...... واستطاعت ان تكون فى العالم الاول او الثانى او الثالث ...... وهناك ثلاثة تغييرات رئيسية نسفت كل الاسوار هى : - التغييرات فى كيفية اتصال بعضنا ببعض ..... - التغييرات فى كيفية استثمارنا لاموالنا . - التغييرات فى كيفية ادراكنا للعالم . وقد نشأت ونمت هذه التغييرات اثناء الحرب الباردة وتمكن العالم من الاندماج فى صورة دوامة قوية بصورة تكفى لنسف كل اسوار نظام الحرب الباردة , وتمكن العالم من الاندماج فى سهل واحد مفتوح ومتكامل ويفتح اكثر كلما انهارت اسوار اكثر , وكلما تم اقتناص دول اكثر داخل هذا السهل . وقد يكون هذا هو السبب فى انه لم يعد هناك مايسمى بالعالم الاول او الثانى او الثالث , فما يوجد فقط هو (عالم سريع - اى عالم السهل المفتوح جدا - ) و ( عالم بطىء - عالم من يتساقطون بجانب الطريق -)......
إن مسألة البحث والتحليل لتوضيح معنى العولمة ليس مجرد مسألة معرفية مجردة فحسب، بل هي ضرورة ملحة للدفاع عن مصالح الأمة وهويتها في وجه أنظمة العولمة الغربية التي تهدف إلى السيطرة على مقدرات الشعوب مستخدمة أرقى منجزات العلم والتكنولوجيا والمعلوماتية وشبكات الاتصال....لذلك سنكتفي بتعريف واحد جامع لمعنى العولمة، أطلقه أحد أبرز المفكرين الأمريكيين المعاصرين وهو توماس فريدمان، حيث قال "نحن أمام معارك سياسية وحضارية فظيعة، والعولمة هي الأمركة، والولايات المتحدة قوة مجنونة، نحن قوة ثورية خطيرة، وأولئك الذين يخشوننا على حق. إن صندوق النقد الدولي قطة أليفه بالمقارنة مع العولمة. في الماضي كان الكبير يأكل الصغير، أما الآن فالسريع يأكل البطيء"......ويقول فريدمان في موضع آخر: "إن العولمة تعد بصورة كبيرة، وإن لم تكن كلية، هي الأمركة، ابتداء من ماكدونالدز إلى ماكنتوش إلى ميكي ماوس، والعولمة لها محدداتها التكنولوجية التي تكفل السيطرة على كل جوانب الحياة كالعالم الرقمي والاتصالات عبر الأقمار الصناعية والألياف الضوئية والإنترنت...
إذن فالعولمة باختصار وبكلمة واحدة هي الأمركة Americanism، ويمكن القول إن هناك ثمانية معان مختلفة تجمع أبعاد مفهوم العولمة أو الأمركة في صيغته البنائية والعملياتية، يمكن تلخيصها في عناوين العولمة المالية، والتكنولوجية، والاقتصادية، والبيئية، والجغرافية، والثقافية، والسوسيولوجية، وأخيرًا السياسية......وبيانها كالاتى :
(1) العولمة المالية : وهى ما يطلق عليه السوق الآنية العالمية للنتاجات المالية المتعامل بها في كبريات المدن المالية –الغربية بالأساس- على مدار اليوم، ومن ثم تصبح النتاجات المتعامل بها في غيرها مدن العالم مجرد تابع يدور في فلك أسواق المال الكبرى صعودًا وهبوطًا، ولعل خير مثال على تلك التبعية المالية ما آلت إليه الأوضاع في أسواق العالم من انحطاط في ظل الأزمة التي ضربت أسواق المال الأمريكية منذ منتصف العام 2008 ولا زالت آثارها مستمرة حتى اللحظة الراهنة دون أن يبدو في الأفق نهاية واضحة لها.....
(2) العولمة التكنولوجية: فإنها تصف المجموعة المترابطة من تكنولوجيا الكمبيوتر والاتصالات وعمليات ربطها بالأقمار الصناعية والتي نجم عنها ظاهرة انضغاط الزمان والمكان والانتقال الفوري للمعلومات عبر العالم. وإذا كانت الفجوة الرقمية بين العالمين الغربي والعربى لا تخفى فإن الادعاء بأن هذا البعد التكنولوجي للعولمة يصب بالأساس في مصلحة الطرف الأول لا يكون إجحافًا بقدر ما هو توصيف للواقع، لا سيما إذا كان العالم العربى يكتفي بدور المستهلك للتكنولوجيا أو المجمّع لمفرداتها على أفضل تقدير....
(3) العولمة الاقتصادية: فإنها تصف نظم الإنتاج الجديدة التي توصف بالمتكاملة، وتشير إلى تمكين الشركات الكونية المتعدية الجنسية Multinational Corporations الغربية بالأساس من استغلال عناصر الإنتاج عبر العالم على اتساعه لاسيما العالم العربى الذاخر بثرواته وموارده الأولية والبشرية كذلك، بما يعني هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي، بل هيمنة النمط الأمريكي بالأخص، على مقدرات وثروات العالم الإسلامي الاقتصادية والذي يكتفي أبناؤه عادة بدور المستهلك الشَّرِه لكل ما هو غربي وأمريكي. إذن فإن البعد الاقتصادي للعولمة إنما يعني بالأساس استثمار شعوب العالم وتحويل كل قدراتها إلى مؤسسات هائلة تملكها مؤسسات غربية محدودة العدد، تسيطر ليس على كوكب الأرض فحسب بل على فضاءه الخارجي كذلك.....
(4)العولمة البيئية: وهى تسعى من خلالها القوى الغربية إلى محاولة غسل يديها مما تقترفه بحق كوكب الأرض من تلويث وإفساد كنتاج لنهضتها التكنولوجية والتقنية دون أدنى مسؤولية عن مخاطر تلك التقنيات وآثارها البيئية المدمرة، بل يصور الغرب لنا أن الحفاظ على البيئة مسؤولية مشتركة بين الجميع، الشمال والجنوب، الغني والفقير، المتقدم والنامي أو المتخلف، وكأن المقصود من ذلك بمنتهى الصفاقة أن يجني الغرب الربح والفائدة منفردًا، ويتشارك التكلفة مع الآخرين أو يلقي بجلها عليهم إن استطاع، بدعوى وحدة الإنسانية والمصير المشترك!!!!
(5)العولمة الجغرافية: فتعني باختصار وبدون تزييف لحقائق الأمور، إعادة تنظيم الحيز أو المساحة في الكوكب، بين القوى الغربية المهيمنة، عبر تقاسم مناطق النفوذ والأسواق في العالم، بدعوى الشراكة تارة والتكاملية والاعتمادية تارة أخرى...... ولعل خير مثال على تلك العولمة الجغرافية المزعومة لاقتسام النفوذ، الاهتمام الأمريكي والصيني المتزايد بالقارة الأفريقية التي تعد منطقة نفوذ للقوى الأوروبية التقليدية، لاسيما فرنسا، التي باتت تشعر بقلق كبير إزاء الاستراتيجية الأمريكية والصينية الجديدة في أفريقيا، الأمر الذي دفع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي للهجوم على من قال "إنهم يتطلعون إلى إعادة استنزاف ثروات القارة ومواردها الأولية"......
(6)العولمة السوسيولوجية: هي الخيال الرومانسي الجامح الذي تسعى القوى الغربية للترويج له عبر مقولات من قبيل "المجتمع العالمي" و"الكل الاجتماعي المترابط"، وهي المقولات التي تعني ذوبان وتماهي الكل الإنساني في الجزء الغربي "المتحضر" و"الرسالي" الذي يقدم النموذج المثالي لما يجب أن يكون عليه البشر جميعًا حتى يلحقوا بركب الحضارة والتقدم الذي يزعم الغرب احتكاره بالأساس.....
(7)العولمة الثقافية : أو البعد الثقافي للعولمة خير مكمل للشعارات السوسيولوجية الزائفة والبراقة التي تروج لها القوى الغربية، حيث تسعى تلك القوى إلى إلى ما يمكن وصفه بـ "تغريب الثقافة" Westernization of culture وقولبة نمط الحياة الاجتماعية للدول والشعوب بكل ما تحتويه هذه العملية من طمس للشخصية الوطنية وتساهل أمام الوافد الغربي من السلع الاستهلاكية والكمالية وصولاً إلى الأفكار والمفاهيم....... ويؤكد هذا المعنى ناعوم تشومسكي بقوله "إن العولـمة الثقافية ليست سوى نقلة نوعية في التاريخ البشري، تعزز سيطرة المركز الأمريكي على الأطراف، أي على العالم كله"......ولا شك أن الثقافة الاستهلاكية التي تروج لها واشنطن عالميًا تعد أحد مفردات الهيمنة الأمريكية والتي تعبر عنها بشكل رمزي مصطلحات من قبيل "الكوكلة" Cocacolization و"عالم ماك" Mc World نسبة إلى مشروب الكوكاكولا وسلسلة مطاعم ماكدونالدز واسعة الانتشار.... وغني عن البيان أن الهزيمة النفسية أمام المنتوجات والأفكار الغـربية - الأمريكية هي أول أهداف الغـزو الثقافي المسمى بالعولمة الثقافية الذى تـتعرض له شعـوب ومجتمعات ودول الأمة العربية والإسلامية.......
(8)العولمة السياسية : جاءت لتحيط التجليات السابقة للعولمة بسياج واقٍ يحميها ويُشَرْعِنها على أرض الواقع عن طريق لبرلة الثقافة السياسية للدول والمجتمعات وصعود النموذج الفكري والسياسي الليبرالي على الصعيد العالمي..... ومن ثم فلم تعد السياسة بهذا المعنى محلية كما كانت دائماً عبر المجال المحجوز للدول، كما لم تعد هناك حدود فاصلة للقرارات والتشريعات والسياسات التي أخذت تنتقل بحرية عبر القارات، ويرتبط بعضها ببعض، لقد أصبحت التشريعات البشرية أمام حالة سياسية جديدة هي أن السياسة هنا، أصبحت مرتبطة بالسياسة هناك، والسياسة في الشرق باتت مرتبطة بالسياسة في الغرب، والتشريعات التي تصدر في واشنطن غدت ملزمة وباتة لكل العواصم في العالم.....
وأمام ما سبق بيانه من تجليات وأبعاد لظاهرة العولمة أو التغريب أو الأمركة، يبقى البحث عن حلول عملية وناجعة للخروج بالأمة العربية شعوبًا ودولاً من أسر ذلك القيد الناعم الخدَّاع، هو التحدي الرئيس والواجب الأبرز أمام عقلاء الأمة ورموزها على مستوى الأفراد والجماعات ومن ثم المؤسسات والدول..... مع الأخذ في الاعتبار أن واشنطن لن يرضيها إلا أن يكون الجميع تابعين لنموذجها الحضاري الذي هو الأساس في عجلة نظام العولمة- الأمركة، حيث تسعى لتجسيد روح سيطرتها العالمية وهيمنتها الكونية من خلال الفكر السياسي الليبرالي بوجهه الاقتصادي الرأسمالي الشمولي عبر تجليات مالية وجغرافية وتكنولوجية وبيئية وسوسيولوجية وثقافية......
#حمدى_السعيد_سالم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟