أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منير شحود - فوبيا المسيرات الجماهيرية














المزيد.....

فوبيا المسيرات الجماهيرية


منير شحود

الحوار المتمدن-العدد: 1045 - 2004 / 12 / 12 - 10:53
المحور: الادب والفن
    


في خريف عام 1970, كانت محاولتي الأولى والصعبة في ركوب شاحنة "المرسيدس" التي أقلتنا إلى "طرطوس" للمشاركة في المسيرة. نجحت أولا في تسلق عجلة الشاحنة, وتشبَّثت بإحدى العوارض المعدنية, مستفيدا من خبرتي في تسلق الأشجار, ومن ثم تكفَّل من سبقوني من التلامذة بجري إلى جوف صندوقها المعدني ككيس من الخيش, وإلقائي مهشَّما في قاعه. لا بأس! فالرحلة تستحق العناء, وسأرى عالما آخر على امتداد الطريق إلى "طرطوس", واكتشف البحر, بعد أن حفظت عن ظهر قلب منظر الجبال من حولي, والقمر الفضي المتلألئ من وراء ذراها. وكان الحماس على أشده في ساحة جامع "الدريكيش", عندما انطلقت الشاحنة مطلقة نغمات متقطعة من بوقها الحاد, انسجاما مع موسيقى المارش العسكري, والأغاني الملحنة على إيقاعه.
بصعوبة بالغة كنت أحشر رأسي بين الأجساد المتعرِّقة, لأتمكن من رؤية جوانب الطريق والأشجار المهرولة في الاتجاه المعاكس, ولم أكن لأبالي بالسحجات والصدمات التي يتعرض لها صدغي عند ارتطامه بحديد الشاحنة, وهي تتهادى على إيقاع المنعطفات المتلاحقة.
بدا وكأن الشاحنة تزفر زفرة من بطنها يتطاير لها غبار الطريق, ثم تتوقف في زاوية ما من ساحة "المشبكة" الشهيرة في "طرطوس". واتجهت الجموع المتقافزة من صناديق الشاحنات في اتجاه واحد, وصارت أعدادها تتكاثر, وتتباطأ حركتها عند بلوغها ساحة الحشد. وكان نسيم البحر يشاكس اللافتات المرفوعة فوق الرؤوس, ويعبر ثقوبها دون كلل.
شخصت الأنظار إلى شرفة ما, حيث ينطلق زعيق حاد, فهمت منه جملا وكلمات لا تختلف عما كان يتفوَّه به أستاذ المدرسة, وهو يهزُّ عصا الرمَّان اللَّدنة في وجوهنا الشاحبة, بينما كنا نتابع حركاتها مفتوحي الأفواه, وترف أجفاننا دون انقطاع مخافة أن تلسعنا في أية لحظة وعيوننا مفتوحة. وكان الترقُّب يستمر حتى تقع على مكان ما من الجسد, وعندها يمكن النظر بعيون مفتوحة على أقصى اتساعها, وتملي العلامة الفارقة, والتلذُّذ بحكِّها.
رأيت نفسي وسط الحشد فجأة, ولم أعد أتحرك إلاَّ بجهد, وشعرت بضيق في صدري, وكان رأسي يستدير إلى أي جهة تمكِّنه من التقاط بعض الهواء. وبينما كان الحشد يتدافع نحو المنصة, قرَّرت السير في الاتجاه الآخر. مرت لحظات جحظت فيها عيناي, وفقدت التركيز, بينما صار صراخ الميكرفونات يخفت وينحسر...ارتميت على الرصيف وتقيأت, ولم تعد تعنيني حتى رائحة الفلافل اللذيذة في ساحة "المشبكة".
ركضت أبحث عن شاحنة "المرسيدس" التي أقلتنا من "الدريكيش" بين عشرات الشاحنات, وكنت أعرفها من "بوزها" المستدير العابس, ومن الأحجية والتعاويذ الخضراء المعلقة خلف زجاج قمرة السائق. اقتربت منها بحذر وخوف... لمست حديدها الصدئ, ودرت حولها أبحث عن أسهل السبل لتسلق جدار الصندوق المعدني... وارتميت في قاعه بلا حراك. وبعد ساعات, امتلأ الصندوق بأجساد هدَّها الجوع والتعب, وشقت الشاحنة طريقها عبر الزحام, متجهة صوب هضاب الزيتون.
مرت سنوات وعقود...أشياء كثيرة تغيرت, وأخرى لم تتبدل. تعبَّدت طرقات كثيرة, وشُيِّدت جسور, وما زالت تلك الشاحنات مستديرة "البوز" تجوب طرقاتنا في عرض البلاد وطولها, وتجعلني أنكمش وأرتعب, عندما تتدحرج مزمجرة في الطريق, كوحش يطارد فريسته.



#منير_شحود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نسمة من نسائم الحرية
- مظاهرة أم مسيرة...والله أعلم!
- السلطة والمعارضة والوحدة الوطنية ووحدة الشيوعيين
- ثقافة الكبت والعنف
- الموالاة والكفاءة والفساد
- هل ستنمو براعم الليبرالية في سوريا؟
- إيزو في الديمقراطية للبنان وسوريا
- العداء في السياسة, والعداء كسياسة
- تفاؤل استراتيجي وتشاؤم تكتيكي
- لا تتحقق السيادة إلا في ظل الديمقراطية
- انطباعات أستاذ زائر عن حلب وجامعتها
- تفكيه السياسة السورية وتنكيهها
- طلب انتساب
- التديُّن العُصابي والتديُّن الراقي
- عن الأستاذ الجامعي مرة أخرى
- قومجة وأمركة ومقاومة
- كيف ينصر بعض السوريين -عراقييهم-؟!
- -الرجل المريض- عربيا
- قدر العراق أن يكون الأنموذج, فهل يكونه؟
- أشباح يحرسون الخطوط الحمر


المزيد.....




- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منير شحود - فوبيا المسيرات الجماهيرية