اسامة على عبد الحليم
الحوار المتمدن-العدد: 3512 - 2011 / 10 / 10 - 09:04
المحور:
الادب والفن
اقال الراوى:-
الخرطوم مشتعلة, والجنوبيون على اعتاب جوبا, لاصوت يعلو على صوت المعركة, اعراس الشهداء تزف كل يوم عريسا الى حيث لا حيث, الإعلام كله ملاحم تحكى بطولة الامة والمشاعر ملتهبة , كل النساء امهات للشهداء وكل الرجال وقود لنصرة الإسلام والمشروع القضية ,و سياسة التحرير تشبه قاطرة متوحشة تدوس تدوس ويحيا الوطن
ايران تقيم مؤتمرا للحج فى الخرطوم, وتدعو لنزع مسؤولية رعاية الحج عن آل سعود, واتاحة شرف خدمة الحجيج لجميع الدول الإسلامية !, المؤتمر الشعبي العربى والاسلامى اصبح مركزا متقدما فى مقاومة المشروع العولمى
والخرطوم تضم اكبر تجمع للمتسولين فى العالم, ازدياد مهول فى عدد الاطفال اللقطاء فى مركز المايقوما, فتحى الشقاقى ويحى عياش يباركان جهود الخرطوم فى دعم القضية الفلسطينية
وزير المالية يصرح( مايجعل الناس يسكتون على الوضع الاقتصادى المتدهور هو اننا نقدم لهم مشروعا قوميا حضاريا هو الاسلام, ولو ا ن اهل القرى امنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)
حرارة الأحداث تعلو حتى على حرارة المناخ شبه الصحراوي الجاف, مئات الآلف من النازحين يحيطون اطراف المدن
اللاجئون الى عواصم الدول القصية هم خسائر جانبية فى الطريق الى تثبيت المشروع الحضارى, يمكن استبدالهم قطعا بالافغان العرب, الاف الملتحين من بيض البشرة يجوبون شوارع الخرطوم ويعمرون مساجدها يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
وهيئة علماء السودان تبرىءالحكومة من التورط فى موجة ارتفاع الاسعار والغلاء الشديد الذي يجتاح الأسواق سيزول حتما بتوبة المجتمع ! والهيئة تطالب التجار بالتوبة والاستغفار والعمل وفق مبادئ الشريعة الإسلامية لتجاوز موجة الغلاء.
المعارضة تسخر من فتوى الهيئة وتدعو لإدراجها في قائمة التنظيمات الإرهابية .
القوات الافريقية فى مطار الفاشر
مئات اللاجئين يتجاوزون الحدود الى تشاد وافريقا الوسطى
البشير يوكد لن نسمح بدخول قوات دولية الى السودان
والحرارة في صيف الخرطوم لا تضاهيها إلا حرارة الإحداث , أما سالم فقد اخذ في حملة من حملات الحكومة للتجنيد الاجبارى واصبحت مهمته أن يستمر حيا لمدة خمس سنوات هي فترة تجنيده قسرا كمجاهد في الجيش
قال سالم:-
لا اعرف كيف نجوت من (صيف العبور1),اخذونا اولا الى (الكرمك2) (وقيسان3 )فى (النيل الازرق,4) بعدها لم اعد كما كنت, ثمة شىءكان يحدث فى داخلى حالة غريبة من اللامبالاة, كما لو اننى كنت مخدرا او غائب فى مكان ما, صحيح ان المخدرات كانت منتشرة بيننا ومتاحة, ولكنى لم اكن بحاجة اليها, كما لو اننى كنت مخدرا بشكل طبيعى, لا اعرف متى بدأ هذا يحدث معى , ربما بعد ان تناثر راس صديقى على ملابسى اثر قذيفة قرب راجا, او لعله حين اخبرنى احد العسكريين القدامى انه كان ينتقل من حرب الى اخرى طوال العشر سنوات الماضية,يومها شعرت بأننى ربما لن اخرج من هنا ابدا, كانت الفكرة اكبر من قدرتى على استيعابها, والشىء الوحيد الذى بدا لى جيدا وقتذاك كان هو محاولة الاندماج مع الحياة فى ظل الموت, ولم اعد افكر او احس, كنت اشبه ما اكون بمعتوه, ولكنى لم اعرف ابدا ان كنت قد خرجت من غيبوبة ام دخلت
حين تقدمنا لمهاجمة جيش الحركة الشعبية في راجا وديم الزبير, كنا نحس أننا جيش من الصالحين, كنا أحيانا نشم رائحة المسك في جثث الشهداء, بل إننا كنا نشتم هذه الرائحة حتى في المشايخ والطلاب من منتسبى الدفاع الشعبي
في (قوقريال5) أصبحت عسكريا بخبرة , آلة قتل ,لنسم ذلك احترافا ان اردت ان تسمى, كنت لااعرف اى شيء غير الحرب والجيش وتنفيذ الأوامر, بعدها اخذنى سلاح الإشارة إلى دورة في الخرطوم, دورة لتكويد الرسائل, وقتها كانت الجبهة في الغرب قد فتحت بابها الذي ظل مواربا دائما لاستقبال حرب جديدة ومهام جديدة, الجنجويد كانوا يهاجمون معسكرات الزرقة بالجمال والأحصنة, الجيش كان عاجزا, فالكل مسلمون في غرب السودان, واغلب أفراد الجيش من الغرب وبالتالي لم يكن العساكر على استعداد لقتل أهلهم
جمعونا نحن من أهل الكفاءة العسكرية الصغار, وقالو لنا أن قبائل الفور والزغاوة والمساليت تجمعوا لاستئصال أهلكم العرب, وقد وجدوا مساعدة كبيرة من دول الاستكبار , أمريكا وفرنسا وإسرائيل , قالوا لنا أن مهمتكم الجديدة هي تحرير دارفور كلها من الاستعمار الجديد وعملاءه قبائل الزرقة الكفرة المافونين !!
للمرة الأولى منذ سنوات شعرت أن بداخلي شيء يتحرك , الحمية , هويتي واصولى , وامى , كانت هذه واحدة من اللحظات القليلة التي غادرتنى فيها حالة العته التي اصابتنى في أيام الحرب في الجنوب, يومها شعرت بأن في الأمر شيء يستحق الانفعال,و التكبيرات انطلقت , قالوا لنا بان قوات الدفاع الشعبي والقوات المسلحة ستكون سندا لنا في الدفاع عن الدين والعرض
كنت من اوائل الذين تطوعوا للذهاب, ....يومها مزق القائد شهادة ميلادى,
(هل تريد ان يقول علينا الكفار اننا نجند الاطفال؟) قال لى
ثم سلمنى بعدها شهادة تقويم لسنى تزيد عن الحقيقة بعدة سنوات,
(ستذهب الى الكلية الحربية ما تنتهى هذه المهمة, وستحصل على رتبة نقيب), كنت اعتبر كلماته شيئا مقدسا, واتخذت حديثه وعدا, لكنى علمت فيما بعد انه قد قتل بعدها بفترة بسيطة
سافرنا إلى دارفور, وهناك كنت حكمدارا لمكتب الإشارة, مافاجئنى هو مقدار ونوعية الأسلحة التي كانت تمتلكها القبائل, أصبح أهلنا الجمالة راكبي الأحصنة يقودون اللاندكروز والهمر , والسيوف والسكاكين تحولت بقدرة قادر إلى دوشكا ودكتور يوف ومدفع 42
غير أن حالة النشوة اللذيذة التي كانت تبعثها أجواء الحرب في داخلي سرعان ما تلاشت, كان ذلك الشعور الذي لازمني في الجنوب يعود شيئا فشئا, ذلك الشعور بالخواء والألم الرهيب , كنت قد ذهبت لزيارة صديقي (حسن البرير) المصاب بقذيفة في فخذه , وقتها كان مازال في المستشفى التركي في حي الجبل بنيا لا
في المستشفى احتضنا بعضنا وبكى , ثم شتمني واهلى جميعا, كان غاضبا وحزينا وكله فرح لأنه التقانى, وكنت لا اعرف حقيقة مشاعري تجاه اى شيء, كما لو اننى كنت مخدرا, وعلمت فى قلبى ان تلك الحالة كانت تتفاقم في داخلي
يومها اخبرني أن اهلى قد هجموا عليهم دون مقدمات,( قتلوا كل رجل عثروا عليه, واغتصبوا كل النساء اللاتي عثروا عليهن,كانوا يظنون اننى قد مت , وهكذا نجوت)
حين سألته من هم, كنت اعرف الاجابة, ولكنى سألت,... كنت اشعر برغبة فى سماعه يعيد ترديد تلك الشتائم التى لم يكف عن عنها, ..كانت رغبتى فى التخفيف من احتقانه المزمن,.. فى جعله يواصل بكأءه ..., تجعلنى اشعر ان بعض الثقل يخف عنى, كما لوانه كان يبكى عن كلينا, ويشتم عن كلينا’ , وكما لوانى كنت اعبر عن رغبتى فى البكاء ولو قليلا دون جدوى
(كانوا مجموعة كبيرة من راكبي الخيل والجمال وواللاندكروزرات المحملة بالدوشكا ) قال حسن
ويومها خرجت من عنده, وضبت نفسي منخرطا في بكاء عميق, كنت وأنا ابكي أتذكر كل سنوات الحرب في الجنوب, تذكرت المنطقة , والخور, وتذكرت سميرة وحاج نور الدين, وتذكرت وتذكرت... , وكنت كلما تذكرت أزددت بكاء, الغريب اننى وأنا ابكي لم يتوقف اى احد من المارة ليسألني , كان الناس يمرون من امامى ومن خلفي كما لو كنت كائنا خفيا,... طفلة واحدة فقط كانت تمسك بيد أمها قرب باب المستشفى, انفلتت تلك الطفلة من أمها واقتربت منى ومدت لي يدها بقطعة حلوى كانت تحملها, في تلك اللحظة انتبهت أمها لها فجاءت وحملتها بسرعة ثم مشت تهرول كما لو أنى شيطان يوشك على افتراس روحها , لشد ما احزننى هذا...., ولكم تمنيت لو أن أمها غفلت عنها قليلا بحيث تتاح لي فرصة لاحتضانها ومع ذلك فانا مازلت اذكر ابتسامة تلك الطفلة الجميلة السوداء وهى تلوح لي من وراء ظهر أمها,
قال الراوى
في ذاك اليوم ذهبت إلى قائدي وطلبت نقلى إلى الخرطوم, رفض القائد فخالفت أوامره وانقطعت عن العمل, اعتبرت متمردا ومخالفا للأوامر, حتى أنى حوكمت ثم سجنت , لكن امى كانت قد استعادت قدرتها على الكلام, امى التي لم تنطق كلمة واحدة منذ خروجي كانت قد فقدت زوجها ولكنها لم تحزن عليه, , اخبرتنى امى أن الزرقة قطعوا خصيتيه قبل أن ينزف حتى آخر قطرة من دمه, في الحقيقة أن أحدا في القبيلة لم يحزن عليه, لكنها كانت مناسبة جيدة ليسيروا حملة للانتقام, هي ذات الحملة التي قتلوا فيها أهل صديقي حسن أما إنا فلم اشعر باى شيء عندما علمت, المهم أن امى تحركت واخرجنى العمدة من السجن بطريقة ما
يتبع
مدون سودانى فى http://tamlat.blogspot.com/
_______
هوامش:-
1صيف العبور هو اسم لعملية عسكرية قادها الجيش السودانى فى ايام الحرب
2345 اسماء لمناطق ومدن سودانية
الرواية خيالية ولكنها تستلهم غضبا واحداثا وشهادات حقيقية
#اسامة_على_عبد_الحليم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟