|
القرية وأسئلة الحنين في رواية - وغابت الشمس - ل - السعيد نجم -
ممدوح رزق
الحوار المتمدن-العدد: 3511 - 2011 / 10 / 9 - 16:09
المحور:
الادب والفن
يلتزم السرد في رواية " وغابت الشمس " للروائي " السعيد نجم " بضمير المخاطب في أغلب مسيرته .. وهذا الضمير الذي يعتمد في بعض الأحيان على توجيه الخطاب إلى آخر عبر شكل رسائلي قد تتنوع وتتعدد الإلهامات التي يستدعيها ؛ فهو أولا يتوجه بالحديث أو بالرسالة إلى آخر واقعي تتحدد سماته وصفاته الشكلية والنفسية وفقا لقناعات السارد عبر صفحات الرواية ، وهي التي تساهم بالتالي في تشييد احتمالات وتصورات متباينة ومتعددة عن نتائج الرسالة لدى من يتم توجيه الخطاب إليه .. ثانيا هناك الذات التي يتم مخاطبتها عبرالآخر بحيث يكون توجيه الخطاب إلى شخص ما هو وسيلة لأن تتحدث الذات مع نفسها فتتحول الرسالة إلى ما يشبه حوارا باطنيا مع الأنا يتلازم مع حوار هذه الذات مع الآخر .. ثالثا يتم توجيه الرسالة النصية إلى طرف ثالث محتمل في هذه العلاقة الكلامية بين الراوي والآخر ، والمقصود به القاريء الذي يشترك عبر التفاعل مع الخطاب في صياغته وإعادة بنائه وتكوينه وفقا لانحيازاته الخاصة ، ووفقا لطبيعة التأثيرات المتبادلة بين وعيه الشخصي وبين الأفكار والمشاعر التي يخلقها تورطه داخل هذا الخطاب .. رابعا هناك دائما حضور لغاية ما أو قيمة أو معنى يسعى الشكل الرسائلي للإشارة إليه .. للتعبير عنه أو الإيحاء به .. هذا الطرف تتم مخاطبته طوال الوقت ضمنيا بينما تتخذ الكيفية المعروفة للرسالة حضورها التقليدي بوجود إنسان مرسل يوجه حديثه إلى إنسان مستقبل .. قد تكون هذه الغاية استقراءً لتاريخ ما ، وقد تكون أيضا غاية استفهامية منفتحة على آماد لانهائية من التساؤلات وتفكيك الأجوبة ، لكنها في جميع الأحوال تظل متوارية غائبة ولا تكشف عن نفسها مهما حمل السرد إشارات قوية وصريحة تدل عليها أو تؤكد على أي ملامح تخصها .. خامسا هناك توجيه خطاب غير مباشر إلى المخلّص سواء كان معلوما أو مجهولا .. إنه البعد النابع من العمق الاستغاثي في الخطاب المنطوي على مقاومة الفناء وحيازة الخلود .. الذي يحمل الرغبة الأزلية في النجاة والاطمئنان الكامل والحاسم .. يحاول الشكل الرسائلي بمضامينه المتشابكة التواصل مع المنقذ الغيبي القادر على تحويل الذات منتجة الخطاب من كيان يختزن خبرات الألم وعدم الفهم إلى كيان محصن آمن غير قابل للانتهاك .
أتصور أنه من الضروري عدم مقاربة الالهامات السابقة بوصفها إمكانيات للتأويل منفصلة عن بعضها وذات حدود صارمة تباعد بين آلياتها المستقلة ، بل الأجدر التعامل معها في صورها الجدلية وفي تحاورها وتداخلها ، وفي ما يمكن أن تحققه من اندماج أو تمازج تغيب معه الحدود وتتوقف فيه الطبائع والتفاصيل عن تكوين قوانين ملزمة أو هويات ثابتة ومستقرة .. هذه الإلهامات من شأنها أن توفر حصيلة متجددة من الدلالات الغير مروضة حين يتم تشريحها وفقا لعلاقات الصراع الداخلية في بنيتها اللغوية والنفسية ، وأيضا وفقا للتجليات الناجمة عن تلاحمها وتناسلها حيث يمكن لأي إلهام أن يكون مرآة تنعكس عليها ما يمكن أن تفترضه الإلهامات الأخرى في ذات الوقت .
" وغابت الشمس " هي بمثابة رثاء روائي للريف القديم .. وثيقة للتحسر على القرية التي لم تعد موجودة وفي نفس الوقت لتخليدها بالكلمات بعدما رفض الزمن أن يمنحها الخلود في الواقع .. يتبنى الراوي طوال طريقه السردي ثيمة ثابتة : مقارنة بين الماضي الجميل لقرية أصبح مجرد ذكريات ، وبين حاضرها القبيح ومعالمه المشوهة على مستوى البشر والأماكن .. فالراوي وهو يعيد التعارف بين صديقه العائد من الغربة ، وبين المتغيرات والتحولات القاسية التي غيرت بمنتهى الشراسة الطبيعة القديمة للقرية يجعل من إحدى عينيه أداة للتأمل والرصد لتفاصيل الخراب الراهن ، ويجعل من العين الأخرى أداة استعادة لتفاصيل العالم الطفولي الحميمي المندثر .. يجعل العينين تلتقيان في اشتباك دائم بين ما كان وبين ما حدث بينما الروح تتعذب وهي تحلم بيأس في ما كان يجب أن يكون .. يشرح الراوي لصديقه ما حدث للفلاحين ولأبناءهم وللبيوت والحقول والسواقي والأشجار والترعة والمحلات والمقاهي والقطار الفرنساوي والحيوانات والطيور وساحات اللهو الصبياني والحرف القديمة .. يحكي ويستعيد الذكريات ويتفحص آلامه على الدنيا التي تغيرت أحوالها وتبدلت ولم تترك سوى الحنين .
برز في الرواية انقطاعين جوهريين للسرد ، والمقصود بالانقطاع هنا هو انحراف تدريجي أو مفاجيء عن انحياز شكلي أو مضموني كان السرد يتبناه طوال زمن الرواية فمثّل اعتيادا أسلوبيا أو فلسفيا للرؤية التي تقف وراء الكتابة .. الانقطاع الأول حدث حينما التقى الرواي وصديقه بـ " الفلاح الفصيح " أو " فيلسوف القرية " حيث توقفت عجلة الحنين وتأمل قبح الواقع عند عتبة هذا اللقاء لنتعرف على وجهة نظر مضادة ؛ فهذا الرجل يعتقد أن القرية أفضل حالا الآن رغم كل شيء من حيث الكهرباء والتعليم والزراعة والري والحصاد والرعاية الصحية والفرق بين فقراء اليوم وفقراء الماضي .. هذه الزاوية طرحها الراوي بحياد كأنه يحفز نفسه وصديقه وقارئه على التفكير فيها والمقارنة بينها وبين الزاوية الأخرى التي ترى الماضي فردوسا مفقودا وترى الحاضر مسخا لا مكان فيه للجمال .. مع هذا يظهر جليا مع عودة السرد إلى مساره الأساسي بعد هذا الانقطاع إيمان الراوي بما يعتقده وبما يؤمن به بمعادوة الاستسلام للحنين والسخط والغضب من كل الانقلابات التي لم تترك شغفا قديما إلا ودمرته .
الانقطاع الثاني للسرد حدث حينما قابل الراوي وصديقه " فيلسوف القرية " مرة أخرى وثار جدل حول القدر ؛ حيث يؤمن هذا الرجل بأن الإنسان مسيّر بينما يؤمن الراوي بأنه مخيّر ولكل منهما أسبابه ودوافعه .. هذا النقاش عن القدر وحرية الإنسان تجاوز مسيرة الحنين التقليدية في الرواية ليكشف عن الأسئلة المختبئة في عمق هذا الحنين ، وفي عمق الحسرة على الماضي .. الأسئلة التي تسعى لليقين حول من المسؤل عما حدث .. هل هو القدر أم الإنسان أم أن مسؤليتهما مشتركة ؟ .. هل ما حدث للقرية كان حتميا بحيث لم يكن من الممكن أبدا تفاديه ؟ ، أم أنه حدث لأسباب كان بمقدور البشر مقاومتها والتغلب عليها ؟ .. ما هي الحكمة التي تبرر أن يتخلى العالم عن روعته القديمة ليصل إلى هذه الدرجة من المرض ؟
تنتهي الرواية بزواج صديق الراوي من بنت تشبه كثيرا حبيبته القديمة التي سخرت في الماضي من حبه لها .. كانت فرحة صديق الراوي عظيمة بهذا الزواج ، وكأن الكاتب يريد أن يضع ما يشبه حقيقة ممكنة أسفر عنها كل ما حدث .. أن هذا فقط ما يمكن أن نحصل عليه .. الشبه .. بعد غياب الأصل الذي لم يعد بوسعنا استعادته .. الذي لم يعد بوسعنا إلا استرجاعه في خيالنا .. نحاول الحصول على نسخة ولو غير متطابقة منه .. كأنه لا يمكن الحياة أن تتحقق وتستمر إلا بما كان .. حتى لو لم نستطع عيشه مجددا فعلى الأقل لابد أن نعيش مع ذاكرته .. النموذج الذي يقاربه .. هل هذا يجعل الهزيمة أخف سطوة أم العكس ؟ .
* * * ممدوح رزق http://shortstory77.blogspot.com/
#ممدوح_رزق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تفاصيل الموت
-
غريزة الكتابة
-
الثورة والخيال المابعد حداثي
-
أسئلة السُلطة
-
المزاولة
-
سلطة الصحفي الأدبي من الورق إلى الانترنت
-
” لون الماء ” : ضرورة تشريح الماضي
-
الرواية تفكك العالم
-
معارض متنقلة
-
ترتيبات الوداع
-
لست نيكول كيدمان ولكنه أجمل من توم كروز
-
جماليات الفضيحة
-
بالمليمتر يا حبيبي بالمليمتر
-
أسئلة القهر عند ( الغريب ) رامي يحيى
-
أن ترى الفراغ
-
القسوة
-
أورهان باموق في ألوانه الأخرى
-
مكان الروح
-
أورهان والي : لا مكان للغة بيننا
-
أنا لا أتهكم
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|