|
التاسع من اكتوبر
وليد مهدي
الحوار المتمدن-العدد: 3511 - 2011 / 10 / 9 - 13:57
المحور:
سيرة ذاتية
(1)
لم يكن عادياً ابداً ، ذلك اليوم الذي اصبح تاريخاً مفصلياً هاماً في مسار التحول الفكري والثقافي للأمة الإسلامية ...
انه التاسع من اكتوبر ، العام 1906 .. يوم ولد .. سيد قطب ، قطب الفكر الاسلاموي الاصولي السياسي الابرز في القرن العشرين ..
هذا ما عرفته عن يوم ميلادي ، التاسع من اكتوبر ، و منذ فترة مبكرة من حياتي الفكرية ، اذ يكون الفرق بين ولادتي في العام 1976 ، وولادة سيد قطب في 1906 .. و حسب التقويم الشمسي ، سبعين سنة كاملة بايامها ولياليها ..
ولم اكن استغرب ابداً ان اقضي معظم سنين طفولتي وبواكير شبابي في " ظلال القرآن " .. لطالما عزوت هذا لاحداث التزامنية Synchronism كما تسمى في الباراسايكولوجي ..
فمنذ الحادية عشرة تقريباً وحتى السابعة والعشرين من عمري ، لم يكن القرآن ليفارقني في حلي وترحالي .. ولا اتذكر انه مر علي يومٌ في تلك الحقبة من حياتي دون ان اقرأ فيه وفي تفسيره على الاقل ساعتين ..
عشت تلك الفترة حقاً في " ظلال القرآن " بما فيه من تاريخ وسيرة و " اسطورة " دون ان اكون قرأت سلسلة سيد قطب الشهيرة " في ظلال القرآن " التي تعيد قرائته وتفسيره قراءة عصرية جديدة ، لكنني في النهاية .. بعد السادسة والعشرين قرات تلك الظلال واكتشفت ( او هكذا ظننت ) ان مسارات الاحداث التي جمعتنا في التاسع من اكتوبر كانت تخضع لمسارات التاريخ الخفية وحوادث التزامن ..
(2)
إلا إن التاسع من اكتوبر هذا وإن حمل معنى الشروق و " الدعوة " و الولادة ، حمل ايضاً معنى " الموت " والعمل الثوري و الغروب بالشهادة ..
اذ اعدم تشي جيفارا في التاسع من اكتوبر في احدى الغابات " البوليفية " بمباركة من المخابرات المركزية الامريكية ..
وكما كانت ولادتي مع التاسع من اكتوبر من رحم الفكر الأصولي الاسلامي ، ها انذا اكمل الشوط وما تبقى من عمري مع الفكر الثوري الماركسي .. على خطى جيفارا ..
ولعل التحول من " ظلال القرآن " ومدرسة روح الله الخميني الفكرية الروحانية إلى المدرسة العلمية الماركسية الصرفة وطريق الثورة والتحرر الجيفاري قصة طويلة وغير عادية ربما ، تحتاج إلى وقفة وتامل ..
وفي حقيقة الامر ، احترم ذائقة هذا الجيل ، الميالة إلى كل ماهو كثيفٌ مختصر ، وهذا ما يدفعني للاختصار في كتابة هذه السلسلة من سيرتي الذاتية ومحاولة اخراجها بطريقة جديدة تختلف عن اسلوب السيرة المعتاد في فضائنا الثقافي الناطق بالعربية ..
اذ اعتبر نفسي وروح الله الخميني مثل شجرةٍ وظل ، عصفورٌ وغصن ..
اما الرفيق ارنستو جيفارا ، فهو ايقونة حياتي ورمزُ ذاتي العميق المقدس ، انا وجيفارا .. قصةُ حبٍ وعشقٍ وفناء بلا بداية .. كأنها الازل
وبلا نهاية كانها امتداد سرمدي وجد لكي لا يزول ..
(3)
تبدا قصتي مع الافكار والمعرفة والسياسة في احد ايام شهر شباط من العام 1988 ، حين لم اكن قد اكملت الثانية عشرة بعد ، وفي ظل استعار الحرب العراقية الايرانية وفقدان الشعبين العراقي والايراني اي املٍ لنهاية هذه الحرب التي ابتدائها صدام حسين ومن وراءه من امراء البترول .. واصر على استمرارها وعدم وضع اي نهاية لها روح الله الخميني .. مفجر وقائد اعظم ثورة "هوية ثقافية " في التاريخ المعاصر وباني ومؤسس اقوى كيان سياسي يستمد ديمومته وقوته من الفكر الاصولي الديني في العصر الحديث ..
اقول ، في ظل هذا .. وبينما تعلمت في المدرسة الابتدائية ان ارسم الكاريكاتور وفيه روح الله الخميني يبدو مثل مشعوذٍ دجال ، اذا بي تلك الليلة اراه في المنام بشكلٍ وهيئةٍ مختلفة ..
بدلاً من اللحية القذرة التي كنت ارسمه بها والشكل القبيح البشع ، اذا بي اراه شيخاً جليلاً .. صاحب ابتسامة رائعة ووجهٍ يشع بالنور والضياء ..!
طلب مني في ذلك الحلم ، تلك الرؤيا ، ان اقترب منه ليقبلني ، لكنني رفضت وقلت له :
لماذا ترفض ايقاف هذه الحرب ..؟؟
تبسم ضاحكاً من هذا القول ، واشار علي بدرب ارتسم على يمينه .. بقيت صورة تلك الطريق وملامحها عالقة في ذاكرتي ، وقال ( بالعامية العراقية ) :
اسلك هذا الطريق ستجد في نهايته نهر ، اعبر النهر .. وستتوقف الحرب ..!
وبالفعل .. سلكت الطريق .. ووصلت إلى نهرٍ عبرته سباحة ، وانتبهت من نومي ..
ومع ان العديد من معارفي واهلي استغرب وتهكم في ردة فعله من روايتي لهذه الرؤيا ، ولعل مبعث السخرية الاهم كان :
كيف يمكن للخميني ان يوقف الحرب ، هذه التي قال عنها بان تجرع السم اهون عليه من ايقافها ..!
تلك الحرب التي لا يصدق عراقي او ايراني بانها ستتوقف يوماً ..
كانت رؤيا لطفلٍ لم يبلغ مبلغ الرجال بعد ، لكنه خيالي كثير التامل ..
اذ حركت هذه الرؤيا في داخله العديد من التساؤلات والهواجس التي تعاظمت كثيراً بعد الثامن من آب 1988 ( اي بعد ستة اشهر تقريباً ) واعلان ايران الموافقة على وقف اطلاق النار لتطوى صفحة تاريخية مؤلمة من حياة العراقيين الذين لم يعرفوا ولم يدركوا ما كان في انتظارهم بعد تلك الاستراحة القصيرة قبل احتلال صدام للكويت ..!
كانت تلك " النبؤة " هي اولى بداياتي مع " الدين " و " المعرفة " على حدٍ سواء ...
ولعل صداها الاهم في نفسي من ناحية الدين كان البحث عن اجابة لتساؤلٍ هام :
من هو روح الله الخميني ..؟؟ ولماذا تجلى في تلك الرؤيا ..؟؟
فكانت تلك هي بداية رحلتي في طريق الفكر الاصولي الاسلاموي .. اما من ناحية المعرفة .. فكان التساؤل : كيف يمكن للإنسان التنبؤ بحوادث مستقبلية لم تحدث بعد ....؟؟
لتكون هذه هي بداية الرحلة الاصعب ، التي تتوازى مع تلك ، فتمضي في طريق العلوم الصرفة .. وخصوصاً الفيزياء .. والباراسايكولوجي ..
(4)
بشكلٍ طبيعي ٍ جداً ، وبعدما مرت السنين تبدلت نظرتي عن الخميني كثيراً وتحول إلى " إمامٍ " يتبع وسيرةُ حقٍ اهتدي بها في ليالٍ حالكة مظلمة من الظلم والطغيان التي كانت ترزح تحت نيرها البلاد ..
اصبح الخميني ايقونة " اللاشعور " ورمز الدلالة التعبيري المتجلي في احلام المنام واليقظة على حدٍ سواء ..
اضحت الثورة الإسلامية ، ومفهوم تصدير الثورة هي الهواجس الاهم التي كانت تحرك ميولي وتطلعاتي اضافة إلى ميولي العلمية الصرفة خصوصاً بعد تطور الاحلام والرؤى وقدراتي التنبؤية كثيراً ، وجلها كانت تتعلق بالحوادث السياسية التالية التي حدثت في العراق ، وهي من الغزارة ما تضيق بها هذه السطور .. ( ساتناول بعض تفاصيلها في المقالات اللاحقة ) ..
واعود لأؤكد بان روح الله الخميني ، بابي القديم إلى الله ، هو دافعي الاساس لمعرفة واسكتناه اسرار القرآن التي حاولت التمعن بها جاهداً ولسنين طويلة .. لكنني لم اصل إلى نتيجة موضوعية تغني التسؤلات العلمية الكثيرة التي كانت تطرحها الفيزياء عن المادة والقوة والطاقة في الكون ..
لهذا السبب ، وبعد دخولي في الخامسة والعشرين ، بدا وكان الهيام الروحاني الملكوتي الذي كنت احياه لسنين يذبل ويشيخ بالتدريج ، وليحل محله بالتدريج ايضاً ميول ونزعة " عقلانية " ..
من الصعب ان اروي مواقفي من الاحداث في العراق منذ العام 1990 والغزو العراقي للكويت مروراً بانتفاضة آذار 1991 و حصار الثلاثة عشر سنة ..
الصعوبة تكمن في التفاصيل والحيثيات وما فيها من تشعبات تجر إلى مواضيع ومواقف لا تكاد تحصى ، مع هذا ، يمكنني ان اختصر بالقول إن صغر سني في تلك الانتفاضة لم يكن ليسمح لي بالمشاركة فيها بصورة فاعلة ، لكنني كنت اتابع وانطلق إلى حيث كان " الثوار " يتحركون في بعض مدن الجنوب العراقي في ذلك الحين مثل ميسان والبصرة.. وكنت ابحث عن فرصة للمشاركة ، وتمكنت من العمل على توزيع بعض المنشورات التي جاء بها " مجاهدي " .. " فيلق بدر " ..
كان ذلك بدافع عقائدي ديني ينتصب فيه امام عيني " روح الله " ، الخميني " العظيم " .. وهو يحي جموع الثوار لاقامة جمهورية العراق الإسلامية .. النواة والجذر التمهيدي لدولة الامام المهدي .. دولة العدل العالمية الكبرى ( حسب الاطار العقائدي التصوري لي في ذلك الحين ) ..!
(5)
بانقضاء السنين العجاف على اهل العراق ، حصار الثلاثة عشر عاماً ، كانت العديد من المفاهيم قد تغيرت .. وصيغة الدولة الاسلامية في العراق .. عصر الفردوس الاصولي الاسلاموي الموعود كانت قد تمت إعادة صياغته بشكل جديد على يد " محمد صادق الصدر " ..
اذ لم يعد لآل الحكيم المتواجدين في ايران ذلك الدور البارز في الحراك الشعبي " الشيعي " العراقي ، و الذي اكتسبوه من دعم الامام الخميني ايام الحرب العراقية الايرانية ..
تبدلت بوصلة الاستقطاب الشعبي العام .. واكد محمد صادق الصدر دور " الهوية الوطنية " للطبقة الشيعية المسحوقة ، اكدت حركته مركزية وخصوصية " المواطنة العراقية " في الحراك الجماهيري الذي على الرغم من كل ما تعرض له من قمع شديد في الداخل وتهميش في الخارج ( خصوصاً في ايران الثورة الاسلامية ) إلا انه عاد بعد احتلال العراق من قبل الاميركان واسقاطهم لنظام صدام حسين لاحتلال الموقع البارز الممثل .. للطبقة الشيعية العراقية المسحوقة ..
وهنا اؤكد بان الحراك الشعبي الشيعي في العراق الذي كان يقوده الصدر الاب ومن بعده الصدر الابن هو تيار ونشاط تقوم به الشريحة الاهم في بغداد و الجنوب العراقي الرازح تحت نير الفقر والحصار طيلة الثلاثة عشر سنة ..
الطبقة المسحوقة ، ذات الطبقة التي تقود الثورات المصيرية الكبرى في تاريخ الامم عندما تنضم لها شريحة واسعة من الطبقة الوسطى التي تسقط فجاة بفعل عوامل اقتصادية صرفة ، مثل الانكسار الاقتصادي ، إلى مستوى المسحوقين الكادحين .. كما حدث في ثورة اكتوبر في روسيا ، والثورة الاسلامية في ايران .. وثورات ما يعرف بالربيع العربي المعاصر .. فإن التغيير يكون على الابواب حتماً ..
إلا ان ثورة الصدر الثاني في العراق لم تستكمل شروطها الموضوعية ، ولم تختمر كفاية للانفجار لكونها نشرت الفكر الثوري في فئات شبابية متعلمة ولم تتمكن من العبور إلى عموم الطبقة الوسطى العراقية الشيعية التي كانت شديدة الميل والتمسك بالمنظومة الحوزوية الدينية المعادية سراً وجهراً لحركة الصدر .. كانت هكذا .. ولا تزال !
(6)
كنت بحاجة للكثير من الاعوام كي اصل إلى هذا المستوى من " التجرد " لقياس الحراك الشعبي الجماهيري بمنظار علمي عقلاني بعيدا عن المعتقدات الماضوية الموروثة ..
هذه الاعوام ستبقى في موضوع اليوم مثل فجوة كبيرة قد لا يرتاح لها القارئ لكونها تمثل الانتقالة من افكار اصولية متشددة إلى عقلانية صرفة لا يوجد بينها اي تقابل ..!
اذ يصعب حتى علي انا ان اتصور .. كيف تحولت من " مقلد " متعصب للمرجع الديني محمد صادق الصدر الذي كنت التزم باوامره في اداء صلاة الجمعة " جماعة " في مسجد الكوت الكبير وجامع المحسن في مدينة الصدر في بغداد .. إلى صاحب فكر تقدمي " تجردي " يرمى العقيدة وراء ظهره باحثاً عن دينٍ جديدٍ اسمه الانسان ..!
وكل الذي اقوله عنها اليوم هو إن " العلم " والتامل في قوانين الطبيعة حتم علي ورغم انفي مثل هذا التحول . وقد قصدت الاختصار ما استطعت في المناسبة التي خصصت لها مقال اليوم ..
وهي تدور حول ذكرى التاسع من اكتوبر ودلالاتها المتنوعة " المتناقضة " بالنسبة لي ..
بقية مواضيع هذه السيرة .. المقالات القادمة من هذه السلسلة .. ستملأ هذا الفراغ بسهولة ويسر وواقعية موضوعية صرفة ..
في موضوع اليوم ساعود لاكمال ببعض التوضيحات التي اجدها هامة.
فالمسار العلمي في حياتي ساعدني لإدراك هذا التجرد الذي لم يكتفي بتحويلي من اسلاموي خميني – صدري في القرن العشرين إلى ماركسي جيفاري في القرن الحادي والعشرين ، وإنما اسهم بصورة اعمق بتغيير الإطار العقلاني الذي افكر فيه واطلق فيه احكامي على واقعي ومحيطي ونظرتي لجملة العقيدة والتراث ..
هذا الاطار وما تضمنه من ادوات معرفية للقياس والحكم ساعدني كثيراً لتخطي مشكلة الصراع النفسي العميق ، الداخلي ، بين الايمان والإلحاد التي يتعرض لها اي باحث يخوض في مسالة الوجود والمادة والخلق والدين ..
المستوى الذي بلغته في التفكير في اول سنوات عقد الثلاثين من عمري كنت به قد تجاوزت الايمان والإلحاد على حدٍ سواء ، وهذا ما جعلني احترم كل التوجهات العقائدية دون تمييز :
الوثنية . التوحيد .. الإلحــاد ....
فلكي يتجاوز العقل الايمان .. لابد عليه ان يمر اولاً بهذا الايمان ، بل يستغرق به ويخوضه حتى اذنيه كما هو حالي .. قبل ان يأتي لانكاره والدخول في صراع فكري لطمسه ومسحه من خريطة الفكر الانساني ..
كذلك هو الإلحاد ، من القبيح حقاً ان ياتي احدٌ لدحضه دون ان يكون قد عاشه وخاض فيه واقتنع بموضوعيته وواقعيته كاساس عقائدي في هذه الحياة .. وهو ما عشته حقيقةً ايضاً ..
حين يتنقل انسان بين مثل هاتين الجزيرتين الفكريتين المتناقضتين عبر عقود من سني عمره ، ما بين الايمان المطلق بالله و بين إنكار وجوده والايمان المطلق بالإنسان ، لابد ان تكون التجربة قد اثمرت عن شيء جديد .. سيما عندما يكون هذا التنقل لا يعود إلى اسباب شخصية واجتماعية ممثلة في صدمات او ضغوط تؤدي إلى اتخاذ موقف سلبي معادي من الماضي كحال الكثير من " التنويريين " العرب الذين يطعنون امتهم في ظهرها كل يوم ..
التحول الفكري حينما يكون نتاجاً لنقاش عميق وموضوعي " بطئ " و غير متعجل .. لا تصحبه الانفعالات والاهواء .. عادة ما يؤدي إلى نتيجة موضوعية تقدم الحلول وتستثني مواطن الصدام والصراع مع الحداثة ..
وهي نتيجة يمكنها ان تقود لاعتبار الايمان والالحاد أطراً عقائدية مجردة يمكنها ان تضر بمقدار ما يمكنها ان تنفع المسيرة البشرية ..
نتيجة اخبرتني " عن يقين " بأن هذه الاطر مجرد " ادوات " يستخدمها الوعي الإنساني لغاية .. .. .. !
فما هي هذه الغايـة .. ؟
ماهو بيت القصيد من عملية التجرد .. وتجاوز الاعتقاد مهما كان برمته ..!؟
(7)
حين اصبحت على يقينٍ بان " الغاية " هي رفع المظلومية عن الإنسان .. وإن هذه الغاية تسعى في مجمل مسعاها لمنع استغلال الإنسان لاخيه الإنسان .. وان يكون الإنسانُ عوناً للإنسان لا مفترساً متوحشاً ، لم اعد ابالي على اي دينٍ يجب ان يكون هذا الإنسان ..
اي وطنٍ يجب ان نحب ، لاي امةٍ يجب ان ننتمي ..
فاين ما يكون الظلم .. هناك يكونُ وطني ..
واين ما تكون " الامبريالية " قد رسخت اقدامها واوغلت في الدماء ايديها..
هناك يجب ان احارب دفاعاً عن " امتي " التي انجبتني .. وامتي الكبرى الاشمل ، امة الانسان ..
ورغم " رومانسية " هذه الكلمات وايقاعها الثوري الآخاذ الذي تجسد في ذهني بكاريزما وصورة الرفيق ارنستو جيفارا ، لكن هذا لم يحل مشكلة الصراع العميق في ذاتي .. بين مفهوم الامة الإسلامية .. وقيم الإنسانية الاممية الشاملة التقدمية التي ينادي بها اليساريون والماركسيون ..
ولكوني على اطلاع ومتابعة وبحث دائم في اسرار وخبايا علم النفس والانثروبولوجيا ، تركت امر هذا الصراع والتناقض للايام .. التي سخرت " منها " كثيراً حين ظهر التقارب الايراني اللاتيني المناهض للامبريالية ..
كنت اتامل طويلاً الصورة التي تجمع احمدي نجاد مع هوجو تشافيز ..
وامعن النظر في لحيتي الخامنئي وفيدل كاسترو ..
لكن عقلانيتي كانت تخبرني :
ما اجتمع هؤلاء إلا لمعاداة اميركا ، وما يفرق بينهما هو اكثر مما يجمع بكثير ..!
وهذا يعني .. ان اصراري على الجمع بين الماركسية والإسلام " قد " يعود لموقف مماثل تجاه الاستغلال الطبقي الذي ترزح تحت نيره الانسانية والحروب الكونية التي افتعلتها مصالح الراسمالية وما بعد الراسمالية القائمة اليوم ، والتي مزقت البلاد الاسلامية والاوطان اوصالاً .. كحال بلدي العراق ..
لكن في نفس الوقت ، فلسفة البيولوجيا والواقع الاجتماعي تخبرنا بأن الصراع والتناقض غالباً ما يؤدي إلى " حدود وسطى " تمثل خلاصة التلاقح بين المتضادات " نسبياً " ..
ففي البيولوجيا ، تخصصي الجامعي الاساس ، لا توجد حدود التناقض المطلق ، لا يوجد ماهو سلبي مئة بالمئة ولا ما هو ايجابي مئة بالمئة كما هو حال فلسفة .. الدين والفيزياء ..!
البيولوجيا .. ونتاجها الطبيعي السيكولوجيا ، كلاهما يعارضان هذا التوصيف للتناقض والتضاد في طبيعة الاشياء في الكون على انه " صراع " حسب الهيجلية – الماركسية ..
فالصراع الطبقي نفسه ، وفي جانب " آخر " منه هو تحفيز " خلاق " يدفع الانسانية كافراد للتسلق والنمو والابداع نحو قمة الهرم الاجتماعي الراسمالي دون انكار واقع الاستغلال الطبقي المتوحش ..
ويكاد ان يكون " التباين او التدرج " الطبقي ( بتسمية اكثر دقة برايي ) هو الداينمو الفاعل في صيرورة التاريخ ..
فالراسمالية ، رغم قباحتها الحالية ، انما تمثل واقع " طبيعي " صرف في مسار التاريخ البشري .. وإن كنت على قناعة بان مصيرها الفناء لا محال ..
(8)
لا يعني هذا بانني تجاوزت الماركسية نفسها ، لان الماركسية لا تزال تعرف هذا .. لكنها تحكي قصته بطريقة اخرى .. ( سبق وناقشتها بمواضيع : متى ستنتهي الراسمالية ؟ , الماسونية والدولار .... )
لكن التمعن البيولوجي – السيكولوجي – المادي في فلسفة العلم الذي انا ماضٍ فيه ، هو الذي أظهر بعض الاختلاف أو على الاقل ، اضفى بعض الوجوه والابعاد الجديد لحركة التاريخ بالنسبة لي ، ليجعل من العامل الثقافي – الإنساني مكوناً آخر يؤثر كثيراً في " وسائل " الانتاج التي تغير واقع المجتمع في دورة و " تناقض " .. وتبادل ادوار بين " الثقافة " و " الآلة " ..!
الفلسفات او القراءات المختلفة للماركسية يصر جلها على ان الآلة هي اساس تغيير التاريخ ..
مثلما يقال بان الدجاجة هي اصل البيضة ..
لكن النتيجة النهائية هي هذه الدورة " الابدية " على الاقل ظاهراً .. من الدجاجة للبيضة ثم الدجاجة فالبيضة وهكذا دواليك ..
الثقافة باتت تطور الآلة مثلما هي الآلة والمستوى التكنولوجي يطور الثقافة ، ومن الغريب حقاً ان يستغرق الكثير من الماركسيين في تصور محورية " الآلة " في التاريخ ..
اهمال الثقافة .. وبالتالي الفعل الإنساني الجمعي ودور " الامم " في تشكيل الحضارة الانسانية هو الذي اعطاني هذا التبرير في قبول " التناقض " الداخلي الذي اعيشه :
حب الوطن وامتداده في ثقافة الامة الاسلامية من جهة .. والتوجه الانساني الاممي الشامل من جهة اخرى ..
فانا اتقدم نحو الامام في مستوى القيم ، دون ان انكر بانني اجر الموروث الثقافي خلفي .. الذي ارفض قطع الحبل " السري " البابلي – الاسلامي الذي يربطني اليه ..
وهذا ما يجعلني افكر بالماركسية بشكل مختلف ، وفي الفعل الثوري بمضامين اخرى تعيد توطين الثقافة والدين والعلم جميعاً في تشكيل الحضارات الانسانية التي تجتمع في حضارة اممية شاملة تمثل كياناً " فيدرالياً " ثقافياً جامعاً لا ينكر خصوصية الانتماء للحضارة الصينية – الآسيوية أو الاسلامية او الغربية او اللاتينية .. او الافريقية .. أو الهندية – الآسيوية .. او السلافية – الروسية ..
وهو تصنيف حضاري مستوحى من شبنغلر وهنتغتون ، وهو الوجه الآخر لحقيقة الثقافة والتراث ، الوجه الذي لا تراه الماركسية اللينية من جرم القمر ..
الوجه الذي يخبرنا بان العالم سبعُ حضارات اساسية .. مثل الوان الطيف الشمسي تماماً !!!!!
فلماذا يصر الماركسيون العرب على " طمس " الهوية الحضارية للامة تحت ذريعة محاربة قوى الظلام والرجعية في عالم يمضي باسره نحو توكيد الانتماء والخصوصية الحضارية ...؟؟
ولعل هذا من اهم الاسباب التي تجعلني اسعى وبشكل دائب لاخراج وابتكار نسخة ماركسية اسلامية تعتبر الاسلام كثقافة كونية لها مكانها ودورها في التاريخ ..
كذلك الحال بالنسبة للاخوة الليبراليين الوطنيين و " المتلبرلين " .. لماذا كل هذا الاستغراق في قطع كل صلة للاوطان بانتمائها الثقافي الكلي الجامع تحت ذريعة الحرص عليها .. وهو ما يعني فصلها عن كيانها الثقافي وبالتالي تذويبها لتكون لقمة سائغة للحضارة الغربية الراسمالية المفترسة ..؟!
(9)
مشكلتي الاخيرة التي باتت ترهقني واعاني منها هذه الايام ، هو موقفي من الحضارة العالمية العظمى ..
الحضارة الغربية التي انجبتها اوربا الام .. وتقودها اليوم الولايات المتحدة الامريكية ..
فالموقف الفكري متناقض هو الآخر .. ( وقلت بان التناقض اساس صيرورة وتحول وتطور الطبيعة )
فمع نظرة الاعجاب والانبهار بالنتاج المعرفي والعلمي والحضاري العام الذي جلبته للانسانية ...
هناك مشاهد الدمار والخراب الذي تمول به نفسها لتبقى قوية متقدمة على اشلاء وجماجم الشعوب والامم المستضعفة المستذلة في العالم الثالث ..
الفلسفة البيولوجية تخبرني بان " افتراس " الإنسان لـــ " أخيه " الحيوان ، اخيه من امه الارض ، هو افتراسٌ مبرر في عموم الثقافة الإنسانية ومنها ثقافة الحضارة الإسلامية ، الاستثناء الوحيد هو قيم الحضارة الهندوكية في الشرق التي تراه جرماً مشهوداً لا يمكن تبريره ..
فلماذا لا يكون " افتراس " الحضارة الغربية لشتات البلدان والكيانات السياسية المتبعثرة في العالم ، التي يتلاعب بمصيرها الانتهازيين ( امثال بعض المراهقين السياسيين المراهنين على الفرس الامريكي ) هو افتراسٌ مبرر يعود بالمنفعة في صورتها النهائية على عموم الحضارة البشرية مثلما يعود الافتراس البشري للحيوانات بالمنفعة لاخراج النموذج " الإنساني " في الطبيعة بابهى صورة ؟
الغطرسة الغربية في جانبها السياسي تبدو مبررة في هذه " اللقطة " الجامدة الثابتة من تاريخٍ طويلٍ متحرك من الماضي نحو المستقبل ..
الاشكالية تكمن في المستقبل ..
المستقبل يقول بان كل امم الانسان ماضية نحو قيم اكثر انسانية ستجرم في النهاية قتل الحيوانات والانسان على حدٍ سواء مهما كانت المبررات ..!
التطور التقني والحضاري والثقافي الذي تقوده الحضارة الغربية يؤكد على سبيل المثال بان التحول للتغذية النباتية Vegetarian trophy هو المصير النهائي للانسان لاجل صحة افضل .. خالية من عوامل الاكسدة البيولوجية التي تدمر الخلايا جراء اكل اللحوم وعمر اطول نتيجة توافر عوامل الاختزال التي توفرها النباتات للخلايا البشرية ..
وما قد يعنيه هذا ( بالنسبة لي على الاقل ) من دلالة رمزية تقول بانه على الرغم من " واقعية " الافتراس الفردي او الحضاري ، إلا انه يبقى " افتراساً وحشياً " تمضي الانسانية رويداً رويداً للتخلص منه ..
فبين اعدام الرفيق جيفارا في تلك الغابات ( في التاسع من اكتوبر ) ورمزية الــ" غابة " ..
وبين موقف " اللاعنف " لغاندي وانتماءه لحضارة تمثلها قيم اللاعنف وكره الافتراس .. تتجلى بالنسبة لي الصورة الاكثر اشراقاً في حياتي الشخصية حين عرفت انني ولدتُ يوم اعدم جيفارا ، اذ ولدت في 9 اكتوبر 1976 ، بينما اعدم جيفارا في 9 اكتوبر .... 1967 .. ( اي نفس السنة 76 بالمقلوب 67 )
فالموتُ ولادة .. وتحولٌ جديد .. فآليت على نفسي تسلم الراية لاكمال هذه الطريق ..!
فالمشهد الجامد لقيم الحضارة الغربية " المتعالية " ( او الاستكبار العالمي كما وصفها الخميني ) هو مشهدٌ سيمضي ليحل محله مشهدٌ جديد شامل في عموم الثقافات والحضارات البشرية ..
هذه المشاهد التي ستتلى ، سبق واومضت لي بها احلامي ورؤياي في الماضي البعيد ، قبل ان اعيد فهم مساراتها بصورةٍ اكثر دقة عبر دراسة حركة التاريخ دراسة اكاديمية صرفة بعيدة عن الاسطورة .. وهو ما ساتحدث عنه تفصيلاً في المقال القادم ( وحيٌ من جهة موسكــو ) .. عن نبؤتي القديمة المرعبة ، وهاجسي الملازم الدائم عن شكل الحضارة والمشهد السياسي للعالم .. ما بعد اميركا ..~
#وليد_مهدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
متى ستنتهي الرأسمالية ؟
-
العلم ورؤية في مستقبل الحضارة ..
-
القومية والنجم الثقافي الإسلامي الجامع
-
اغتيلَ المهدي .. وصح النوم يا وطن !
-
فيزياء العالم الآخر - ج 2
-
فيزياء العالم الآخر - ج 1
-
ملامح من فيزياء العالم المنطوي Implicate World
-
عالم ما بعد الموت و علم الفيزياء
-
الوجود قبل خلق العالم رؤية لفيزياء جديدة
-
روحانية الهرم وروحانية الكعبة
-
بالماركسيةِ العلميةِ يُعرفُ الرجال !
-
لا تُعرَفُ الماركسيةُ بالرجال !
-
الماسونية و الدولار و الماركسيات البئيسة (5)
-
امير الغندور و الجدل مع الماركسيين
-
الماسونية ومفهوم الإله (4)
-
الماسونية و الثيوصوفيا (3)
-
الماسونية والشيعة والسلفية (2)
-
الماسونية والهرم الاجتماعي - الاقتصادي (1)
-
اقتصادٌ وديمقراطية ..وثورةٌ عربية !
-
دولة الاساس القويم .. وهذا الجيل
المزيد.....
-
روبرت كينيدي في تصريحات سابقة: ترامب يشبه هتلر لكن بدون خطة.
...
-
مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارا ضد إيران
-
مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي لتعليق مبيعات الأسلحة للإ
...
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|