محمد حمامة
الحوار المتمدن-العدد: 3508 - 2011 / 10 / 6 - 09:11
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
بعد تسعة أشهر علي بداية الثورة، ما زالت كثير من الأمور بلا وضوح في نظر الكثيرين بحيث تنتابهم حالة من التردد في الطريق الذي نسلكه، عاجزين عن تحديد أولويات للعمل واستكمال الثورة.
-1-
في محاولة للفهم, وعند البدء بسلسلة التفكير المنطقي من أولها, يلح سؤال: ما هو نظام الحكم؟! تتباين محاولات الإجابة علي هذا السؤال بناءا علي مواقف مختلفة تدفعها علاقات مصالح أو مواقف فكرية مختلفة. نظام الحكم بالنسبة للاشتراكيين هو مجموعة العلاقات وشكبة المصالح التي تسيطر على دفة اتخاذ القرار وبالتالي عملية الحكم بمعني الكلمة الواسع. لكن السؤال هنا ليس هو من يدير الدفة ولكن كيف يتم إدارتها؟
إذا اتفقنا علي هذه الفكرة فإن تساؤلا آخر سيطرح نفسه وهو: ما هي الثورة؟ وما هو المعيار الذي نستطيع أن نحكم به علي مدي نجاح أو فشل العمل الثوري ومدي تطوره؟
الثورة هي عملية تغيير شاملة وانقلاب علي كل الترتيبات وتدمير لجميع العلاقات وقواعدها وشبكات المصالح المرتبطة بها - وهي العلاقات التي أدت اصلا لحدوث الثورة ودفعت المجتمع إلي الإنفجار - وبناء مجموعة جديدة من الأسس والعلاقات والقواعد.
هناك عدة ملاحظات علي هذا: أولها هو أن عملية التغيير الثوري هذه ستصبح بلا فائدة إذا اكتفت بتغيير الأشخاص واستبدالهم بأشخاص جدد دون أن يكون هناك تغييرا حقيقيا في مجموعة القواعد والأسس التي تحكم علاقات الأطراف المختلفة, لأن الأمر لن يعدو حينها كونه أكثر من مجرد إعادة لإنتاج النظام القديم بوجه جديد.
ثانيا: التركيز علي ما يطرحه بقايا النظام القديم من وسائل لإدارة عملية التغيير هذه سيناقض العمل الثوري نفسه؛ ففكرة أن الانتخابات مثلا ستأتي بنظام جديد تحتوي علي تناقض مبدأي. فالانتخابات تعني بعملية تغيير الأشخاص وليس الأسس علي عكس الثورة التي من المفترض أن تعني بمعلية تغيير القواعد والأسس نفسها.. وبالتالي فإن محاولة حصر الثورة في انتخابات يتم عقدها لتحديد مصير المجتمع يُعد التفافا علي فكرة الثورة نفسها.
ثالثا: بعد أن تقوم الثورة بهدم كل علاقات وأسس وقواعد النظام القديم, لتبدأ في إرساء مجموعة جديدة ومختلفة كلية من الأسس, فإن صفة محورية لابد أن تتوافر في هذه الأسس الجديدة كي تضمن استمرار هذه الثورة ونجاحها. لابد مع إرساء هذه القواعد الجديدو من إرساء آليات موازية تمكن الأغلبية من تعديل وتغيير ما يتم إرساؤه من أسس إذا رأت أن هذه الأسس الجديدة تحمل إعادة لإنتاج أسس قديمة، لتصبح الثورة معها عملية دائمة مستمرة تضمن ألا تنحاز القواعد الجديدة لمجموعة صغيرة من الأفراد بحيث لا يصبح التغيير استبدالا لمجموعة حكم متسلطة بمجموعة حكم متسلطة أخري.
رابعا: إذا اتفقنا علي وجود حاجة دائمة ومستمرة لمراقبة آليات وضع أسس النظام الجديد، فإن هذا يتناقض مع فكرة الانتخابات نفسها بشكلها الحالي؛ فالإنتخابات -وهي رمز ومحور العملية الـ"ديمقراطية" في العالم الحالي- لا تعد كونها صوتا يذهب الناخب كل عدة سنوات لوضعه في صندوق، تنتفي بعده العلاقة بينه وبين ما يدور من ترتيبات للنظام السياسي لعدة سنوات تالية تاركا المجال لمن يمتلكون الأدوات والغايات والمصالح للعب في شكل هذا النظام وتعديله.. وبالتالي فإن الاكتفاء بالأدوات التي تتيحها النخبة الحاكمة للـ "تغيير" ستعيد صياغة الوضع ليصبح الأمر في يد أقلية من جديد!
-2-
لنضع هذه المقدمة في الإعتبار ونفكر: كيف نري الثورة المصرية الآن؟
استمر حكم نظام مبارك –نظام مبارك وليس شخص مبارك بكل ما تحمله كلمة نظام من دلائل لعلاقات وأسس وشبكات مصالح– لمدة ثلاثين عاما تحتكر فيه أقلية صغير جدا تقسيم الكعكة.. ثم جاءت الثورة لتطيح بشخص مبارك وبعض الأشخاص من نظام حكمه وتسلم السلطة لمؤسسة أخري من مؤسساته –المؤسسة العسكرية يقودها المجلس العسكري- لمجرد أن هذه المؤسسة كانت خافية ولا يعرف الناس الكثير عن مدي تغلغل الفساد فيها كباقي مؤسسات نظام مبارك.
الأسئلة المنطقية هنا هي عن مدي تورط المؤسسة العسكرية في نظام الفساد الذي تواجد لمدة ثلاثين عاما –والمعلومات المتوافرة في هذا الشأن فاضحة تماما– وعما إذا كان تواجد المجلس العسكري –حتي لو كان أعضاؤه من الملائكة- سيمكن الثورة من تدمير الأسس والعلاقات والقواعد القديمة وبناء أسس وعلاقات وقواعد جديدة؟ الإجابة بالقطع لا، فبناء نظام جديد بأسس جديدة سيحرم المجلس العسكري من وضعه الحالي وسيبدأ في وضع قواعد وقيود ورقابة علي دور المؤسسة العسكرية وجنرالاتها في الدولة وعلي ما تحصل عليه من حصص مالية وموارد ومصروفات ومعونات خارجية غير خاضعة لأي رقابة من اي نوع. التصادم في المصالح بين المجلس العسكري وبين حدوث ثورة بمعناها الشامل واضح ولا لبس فيه. وهو ما يحتم تصنيف المجلس العسكري كطرف مناوئ/مضاد للثورة بهذا المعني. الوقت إذا هو وقت إدارة الصراع بين أطراف مختلفة في محاولة لوضع قواعد وأسس تحدد كيف سيكون شكل النظام الجديد.
-3-
بتحليل هذه الأطراف المنخرطة في الصراع, يمكننا أن نري:
1- أطراف دولية علي رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل – وما تمثله من شبكات أخري للمصالح -تلعب من أجل حصر هذه الثورة في استبدال مجموعة من الأشخاص بأشخاص جدد دون تغيير حقيقي في الأسس والقواعد– ومصالح أمريكا وإسرائيل في هذا واضحة وضوح الشمس.
2- المجلس العسكري بكل خوفه من أن تمتد الثورة لتطيح بهم كأشخاص وتفتح ملفات فساد مسكوت عنها منذ عقود، وخوفه من أن تبدأ الثورة في وضع أسس جديدة تتجاوز المؤسسة العسكرية في حساباتها ليجد المجلس العسكري نفسه مستبعدا من شكل نظام الحكم الجديد.
3- القوي الإقتصادية الكبري والتي ظلت تتحكم في علاقات الإنتاج وتحصل علي ما تريده من أرباح لسنوات. هذه القوي –محلية ودولية– تسعي حثيثا من أجل أن تضمن القواعد الجديدة التي يتم وضعها عدم المساس بما اعتادوا عليه من أسس. فامتداد الثورة لكي تبدأ في وضع أسس جديدة لعلاقات العمل والأجور وتوزيع الثروة ونسب أطراف المجتمع المختلفة منها، ووقف خطط الخصخصة الدائرة منذ عقود, سيحمل كارثة علي هذه القوي بكل مقياس.
4- القوي السياسية والأحزاب: والتي تتراوح مواقف معظمها بين خيانة مباشرة وصريحة للثورة التي قد تحمل تهديدا لمصالحهم وبين تردد البعض الآخر في تجذير مطالب الثورة أكثر, مكتفين مكتفين بمطالب إصلاحية يرون فيها منتهي الحلم, ناسين –أو متناسين- أن أي مطالب إصلاحية في ظل القواعد القديمة ستؤدي في النهاية إلي تحول الثورة لاستبدال أفراد حكم قدامي بآخرين جدد بلا أي تغيير حقيقي في الأسس والقواعد.
5- الطرف الأخير –وهو المسكوت عنه في معظم النقاشات السياسية– هو جموع الجماهير الفقيرة.. هذه الجموع التي ترغب في نظام جديد يحقق لها حياة حرة وكريمة ومجتمعا عادلا.
هذه هي أطراف التفاعل الدائر الآن, وأي محاولة لرسم خارطة للطريق الذي من المفترض أن نسير فيه تتطلب أولا –وبشكل حقيقي– تحديد الولاءات السياسية لأي من هذه الأطراف. وإذا اتفقنا علي أن يصبح ولاؤنا السياسي لمصلحة الجموع وليس أي طرف آخر – فإن السؤال التالي هو: أي طرف نلتقط؟ ما هو المسار الذي سنتحرك فيه؟ وأي نقطة سنبدأ منها؟
-4-
تشهد مصر الآن ثورة من نوع جديد، فالملايين من العمال والموظفين والأطباء والطلاب والمدرسين وغيرهم بدأوا الحركة الاحتجاجية الأوسع في تاريخ مصر, والتي يمكن جمع مطالبها تحت عنوان واحد كبير: نحو حياة عادلة وكريمة.. كل هذا الجموع تتحرك بوعي –ظاهر أو مستتر- راغبة في تحقيق هذا الهدف الأكبر.. لكن السؤال هو كيف يمكن دفع كل هذه التحركات لتصب في اتجاه البدء في وضع أسس جديدة لنظام حكم جديد؟
تبدأ الجماهية الغاضبة في الإحتجاج والمطالبة بتحسين أوضاعها، وتجبرها الحركة علي البدء في تنظيم أنفسهم بطريقة فطرية وعفوية من أجل التوحد لخوض النضال ضد الطبقة الحاكمة في تشكيلات نقابية وتجمعات عمالية. تتحرك هذه التكتلات علي مطالبها المباشرة وتخوض معاركها من أجل نيل حق الحياة الكريمة والرواتب العادلة وتطهير القطاعات من القيادات الفاسدة ووقف تراكمات وتأثيرات نظام مبارك في صفقات الخصخصة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من قطاعات الدولة المنهارة كالصحة والتعليم وغيرها.
لكن الطبقة الحاكمة لن تستجيب لمعظم هذه المطالب.. فهي من ناحية لا تريد لهذه الموجة الثورية أن تمتد وتحقق أهدافها المتعلقة بالتخلص من رموز النظام القديم واحدا تلو الآخر حتي تطولهم هم أنفسهم, ومن ناحية أخري تجد نفسها عاجزة عن تحقيق ولو قدر ضئيل من هذه مطالب المحتجين في ظل أزمة اقتصادية تعصف بالعالم كله وتجعل الرأسمالية عاجزة عن الاستجابة لأي مطالب، وهو ما سيدفعها لفرض مزيد من سياسات التقشف كما يحدث الآن في أغلب دول العالم، وقوانين تجريم الإحتجاج واللجوء للإرهاب والقمع مشعلة بذلك وقود الثورة على نحو أكثر اتساعا وعمقا.
هنا ستتحرك الأمور مرة أخري للأمام، وتبدأ موجة الثورة هذه في التوسع والانتشار. لكن السؤال الجديد الآن: كيف سيكون هذا التوسع وكيف سنتعامل معه؟
سنسمي الأمور هنا بمسمياتها. هذا هو دور الحزب الثوري الحقيقي.. إذا امتلك الثوار صواب الرؤية واتفقوا علي ما سبق, فإن الخطوة التالية هي بدء تنظيم حزب ثوري حقيقي وتشكيل فروعه وقواعد انتشاره ليبدأ في التواصل والتعاطي مع حركة الاحتجاج واسعة النطاق هذه. هذا التواصل يتمثل في محاولة نشر أفكار هذه الموجة الثورية والدفاع عنها وضم عدد أكبر من الناس والقطاعات لها, وبدء بناء تواصل حقيقي بين الأماكن والقطاعات المختلفة ونقل الخبرات بينها والدفع في اتجاه زياد وعيها الثوري ونظمها في صف ثوري واحد وقوي. عندما يحدث هذا فإن الخطوة التالية ستكون هي الدفع بحركة النضال الواسعة هذه ونقلها من كونها موجة احتجاجية علي مطالب اقتصادية –مهمة ولكنها ليست كافية– لتصبح ذات مطالب سياسية جذرية تبدأ بإضراب عام وتتعلق بتغيير حقيقي في نظام الحكم يستكمل ثورة حقيقية وليست شكلية, ويبدأ في بناء نظام حكم جديد بكل ما تحمله الكلمة من معان.
#محمد_حمامة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟