|
السقوط الأمريكي القادم
مجدى عبد الهادى
باحث اقتصادي
(Magdy Abdel-hadi)
الحوار المتمدن-العدد: 3508 - 2011 / 10 / 6 - 07:23
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
العالم يتغير، وما طار يوماُ وحلق، فلابد أتي اليوم، الذي يحط فيه برغبته، أو يسقط رغم أنفه!!
فلن تكون أميركا إستثناءاً من الإمبراطوريات، فجميعها تقوم لتسقط، تلقف بأيديها شعلة القوة، وربما الحضارة؛ فتقود بها العالم حيناًَ من الدهر؛ حتى تنكفئ على وجهها لتسلمها مُرغمةً، أو تسلمها راضيةً يداً بيد،....بخاطر مكسور طبعاً !!
في كتابه الشهير "نشوء وسقوط القوى العظمى"، الصادر عام 1987م، وضع المؤرخ البريطاني الأصل الأمريكي الجنسية، "بول كينيدي" الأستاذ بجامعة ييل الأمريكية، نظريته الشهيرة عن تكوين وإضمحلال القوى العظمى، عبر دراسة مُعمقة للتوازنات الإستراتيجية والعسكرية والإقتصادية العالمية منذ عام 1500م وحتى 1980م، فكان كتابه خليطاً من الدراسة المتشابكة للسياسة والحرب والإقتصاد، في إرتباطاتها وجدلها التاريخي.
وتفيد النظرية بأن تكون القوى العظمى إرتبط دائماً بحرب طويلة نجحت في حسمها بقواها العسكرية المُستندة دائماً، لقوة إقتصادية تقوم على كفاءة عالية في إستغلال الموارد الإقتصادية وتدعيم القوى الإنتاجية.
وتستمر القوة العظمى ما دامت العوائد الإقتصادية للقوة العسكرية تفوق تكاليفها، وإن كان هذا الوضع فعلياً لا يستمر طويلاً، فضرورات إستمرار القوة العظمى ذاتها تفرض إلتزاماتاً متزايدةً بإستمرار، عسكرياً وإستراتيجياً، كما أن غطرسة القوة ذاتها ترتفع بمطامح القوة العظمى لما يفوق قدراتها دائماً؛ بحيث تستمر دائماً في صراعاتها للحفاظ على القمة والهيمنة، مُضخمةً بإستمرار من قواها - وبالتالي إلتزاماتها – العسكرية والإستراتيجية؛ حتى تنقلب كفة الميزان، بالوصول لما أسماه بمرحلة "التمدد المُفرط"؛ لتصبح الإلتزامات أكبر من الإمكانات، والتكاليف أكبر من العوائد؛ بما يبدأ مرحلة الهبوط والإضمحلال والضمور في قوى الإمبراطورية.
من جهة أخرى، يحفز هذا الضمور، التمرد في أطراف الإمبراطورية، كما يقوي من المراكز النسبية للمنافسين الجدد، بحيث تبدأ الفجوة في التزايد بإطراد، ما بين متطلبات البقاء كقوة عظمى، والإمكانات الفعلية؛ لتسلم الإمبراطورية في النهاية راغمةً او راضية!! فلا خيار !!
وقد بنى على هذه النظرية توقعاً بالإنهيار الوشيك لأميركا، إستناداً لتمددها المُفرط في أربعة أرجاء المعمورة، بالقواعد العسكرية والجيوش والأساطيل، بما يفوق قدراتها ومواردها الإقتصادية.
ومن يومها إنقسم الإستراتيجيون والسياسيون حول تلك النظرية، ما بين مؤيد يصل به التطرف للقول بأن اميركا قد إنهارت فعلاً ! ومُعارض كان يرفض النظر لأبعد من أنفه، حتى دهمته أزمة الديون الأميريكية الأخيرة، وإحتمال إعلان الإفلاس؛ لتبدأ الهجرة الجماعية إلى معسكر المؤيدين لنظرية كيندي بالإنهيار القادم.
والحقيقة أن الإنهيار الأميركي المُتوقع، ليس وليداً حديثاً لسياساتها المتأخرة، كغزوها أفغانستان والعراق، تلك الحروب التي إعتبرها البعض بداية النهاية لأميركا، والتي حولتها لأكبر مدين في العالم.
فالأزمة الأميريكية تعود بجذورها لأيام الحرب الباردة، تلك الحرب التي إستنزفت أميركا في معركة "إحتواء وتحويط" الإتحاد السوفييتي، حسب المُخطط الذي وضعه "جورج كينان" بعد الحرب العالمية الثانية.
فسباق التسلح الذي أودى بحياة الإتحاد السوفييتي، هو نفسه الذي قضى على الفوائض الأميريكية؛ لتجد أميركا نفسها عام 1971م غير قادرة على تغطية عملتها بالذهب، كما تعهدت في إتفاقات "بريتون وودز" عام 1944م، ليعلن نيكسون نهاية ربط الدولار بالذهب، وهو الأمر الذي بدأت إرهاصاته الاولى عام 1968م، عندما طلب "ديجول" بتحويل إحتياطيات فرنسا لدى الولايات المتحدة إلى الذهب، بل وطالب بالعودة كليةً لنظام الذهب، الذي "لا يغير طباعه، وليست له قومية معينة"، حسب تعبيره [1] !!
وكان من نتيجة هذه السياسة الجديدة، التي قلدها آخرون، ان أُستنزف رصيد أميركا الذهبي بشدة، وبحيث إنخفض الغطاء الذهبي للأرصدة الدولارية إلى أقل من الثلث في فترة وجيزة؛ بما جعلها تشدد من إجراءات التحويل للذهب؛ وصولاً لإلغاء قاعدة الذهب نهائياً، من طرف واحد، ودون مراجعة لباقي الأطراف !!
وقد بدأت من حينها تتجلى الأزمة التى تستحكم حلقاتها حول رقبة أميركا، ومعها العالم كله، فالدولار الأميركي الذي فرض نفسه بعد الحرب العالمية الثانية كعملة دولية، تحررت فيما بعد من الغطاء الذهبي؛ لتصبح عملة ورقية ضمانها الوحيد، هو الإقتصاد الأميركي، نقول هذا الدولار أصبح بذاته التمثيل المركزي للأزمة الأميريكية المتعاظمة.
فمن جهة، وبحكم كونه العملة الدولية، أصبج لزاماً طبع المزيد منه بإستمرار؛ لمواجهة إحتياجات السيولة الدولية [2]، بينما لا يستند ذلك الإصدار النقدي لإنتاج داخلي حقيقي، أو لغطاء ذهبي، من جهة أخرى؛ بما يعني في النهاية ضرورة تخفيض قيمته، بما يتناسب والوضع الجديد، الأمر الذي لم يلاق هوى السلطات الحالكمة.
وقد منحت ميزة العملة الدولية لأميركا إمتيازين إنفردت بهما دون كل دول العالم :
الأول : هو قدرتها على تصدير التضخم للخارج، ما مكنها من الإفراط في الإصدار النقدي لمواجهة إحتياجاتها النقدية، دون تخوف من الآثار التضخمية له؛ حيث يمكنها ببساطة تصدير الفوائض للخارج،
الثاني : الشراء المُفرط بالمديونية عن طريق تلك الفوائض (الورقية)؛ إستناداً للثقة التي يحظى بها دولارها دولياً.
وقد إستخدمت أميركا هذين الإمتيازين لأقصى الحدود، بما يخدم سياساتها الإستعمارية الخارجية من جهة، والإستهلاكية الداخلية من جهة أخرى؛ بما قادها في النهاية – مع القبول بالتدهور المتزايد في ميزانها التجاري- إلى مديونية متعاظمة بإطراد داخلياً وخارجياً.
فبينما يبلغ الدين الخارجي اليوم ما يربو على الـ 14 تريليون دولار، بما يُعادل إنتاجها القومي بمجمله، يربو الدين العام على الـ 50 تريليون دولار، بما يُعادل أربعة أضعافه، بل ويقدر الأستاذ فؤاد النمري مجموع سنداتها المالية غير المُغطاة بما يزيد على الـ 600 تريليون دولار، أصدرتها أميركا منذ منتصف السبعينيات حتى اليوم.
هذه الأزمة المُتفاقمة ما بين مديونية ضخمة ومتعاظمة بإستمرار، تتعزز أكثر فأكثر بالتضخم الفلكي للإنفاق العسكري الأميركي [3]، وما بين عملة دولية تتهاوي ما بين مطارق العجز التجاري المتعاظم وسندان متطلبات السيولة الدولية، والنمو الإقتصادي العالمي، نقول هذه الأزمة ستقود أميركا قريباً للإنهيار، وربما التفكك، وهو الإنهيار الذي كان يجب أن يحدث من زمن، لولا الإحتيال – والبلطجة – الأميركية على العالم، بفرض إستمرار الدولار كعملة دولية، والسيطرة العسكرية على منابع النفط الدولية.
ولا يبدو لهذا الأزمة حلاً، سوى بمفاقمتها بإستمرار !! فالحل الوحيد أمام أميركا للإستمرار كقوة عظمى، يتضمن "دوَراً منطقياً"، فهو يتطلب إستمرار فرض الدولار كعملة دولية؛ لضمان إستمرار تمويل المديونية والإنفاق العسكري؛ وذلك بإستمرار السيطرة العسكرية على مفاصل الإقتصاد العالمي !!
لهذا تفعل أميركا المستحيل للحفاظ على وضع الدولار كعملة دولية، وقد كانت حربها على العراق مثلاً، لسبب واحد أساسي، هو تحطيم صدام حسين - وما قد يصبح بعده وبسببه عرفاً – الذي كان قد بدأ كأحد أكبر مصدري البترول، بإتباع سياسة "البترو - يورو"، وهى نفس المسألة التي تغضبها من إيران – وفنزويلا – التي تبيع البترول بأي عملة إلا الدولار !!
كما سعت مؤخراً في تلفيق قضية – تم حفظها وتبرئة المتهم بعد نفاذ غرضها - ضد الرئيس السابق لصندوق النقد الدولي دومينيك شتراوس، حيث أُتهم بالتحرش بعاملة فندق؛ ليتم إقصاؤه عن رئاسة الصندوق؛ فقط لتجرأه وإدلاءه بتصريحات يدعو فيها لزيادة دور اليورو واليوان الصيني في المعاملات الدولية !!
والسؤال الآن، إذا كانت الأزمة عميقة لهذه الدرجة، وقديمة كل هذا القدم، فما الذي يحمي أميركا ويمنع سقوطها حتى الآن، أو على الأقل يمنع سقوط الدولار كعملة دولية ؟!!
الحقيقة أن هناك كثير من التفسيرات، أغلبها يلتقي في النهاية عند نقطتين :
الأولى : وسبق الإشارة لها، وتتعلق بالسيطرة الأميريكية على منابع النفط الدولية [4]، ومنظمة الأوبك، وعبر سيطرتها على أكبر دولة مُصدرة للنفط في العالم، وهى السعودية، ومعها دول الخليج العربي، التي إستفادت أميركا دائماً، من فوائضها المالية والبترولية في علاج أزماتها، وتمويل حروبها في المنطقة،
الثانية : ما تمثله الإحتياطيات الدولارية لدى أغلب دول العالم من عنصر ضغط على تلك الدول، التي تخشى - بالضرورة – من إنهيار الدولار، وتبخر إحتياطياتها الدولية كرماد لا قيمة له !! وهو ما دفع بالصين مثلاً - في محاولة للتحرر من ضغوط هذه الإحتياطيات المُهددة بضعف الدولار وكصاحبة أكبر إحتياطيات نقدية في العالم – لشراء الذهب بكميات هائلة مؤخراً؛ بما يفسر التصاعد السريع في أسعاره.
والحقيقة أنه مهما فعلت أميركا، فلن تتجاوز أزمةً بهذا العمق، خصوصاً مع كون الحل الوحيد هو مفاقمتها بإطراد، أي تقريب ساعة الإنفجار القادم لا محالة !!
---------------------------------------------------
[1] وكان هذا من أسباب دعم أميركا لحركات الشباب ضد الحكومة الفرنسية في ثورة 1968م.
[2] وقد تم معالجة هذه المسألة نسبياً – وليس بالمطلق – عن طريق ما سُمى بوحدات السحب الخاصة، التي أنشأها صندوق النقد الدولي.
[3] يبلغ الإنفاق العسكري الأميركي حسب آخر ميزانية – ورغم الإقتراب من حافة الإفلاس – أكثر من 700 مليار دولار، وهو ما يتجاوز الإنفاق العسكري الصيني – الذي يليه مباشرةً في الترتيب عالمياً – بأكثر من عشرة أضعاف !!
[4] يفسر هذا حجم التآمر الاميركي على روسيا، ودعمها المستمر للحركات المناهضة لها في الشيشان وغيرها؛ طمعاً في الوصول لبترول بحر قزوين.
#مجدى_عبد_الهادى (هاشتاغ)
Magdy_Abdel-hadi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأسس السوسيوإقتصادية للهوية
-
عن كتاب 25 يناير : التاريخ..الثورة..التأويل - حوار مع ممدوح
...
-
مقتطفات من كتاب 25 يناير : التاريخ - الثورة - التأويل
-
الأبعاد الوطنية والقومية والأممية للثورة المصرية - ورقة عمل
-
عن الأمن والشرطة والصراع الطبقى
-
الجمهورية المصرية الثانية..ماهيتها وكيف نريدها
-
الأهداف الأولية للثورة المصرية
المزيد.....
-
كيف يمكن إقناع بوتين بقضية أوكرانيا؟.. قائد الناتو الأسبق يب
...
-
شاهد ما رصدته طائرة عندما حلقت فوق بركان أيسلندا لحظة ثورانه
...
-
الأردن: إطلاق نار على دورية أمنية في منطقة الرابية والأمن يع
...
-
حولته لحفرة عملاقة.. شاهد ما حدث لمبنى في وسط بيروت قصفته مق
...
-
بعد 23 عاما.. الولايات المتحدة تعيد زمردة -ملعونة- إلى البرا
...
-
وسط احتجاجات عنيفة في مسقط رأسه.. رقص جاستين ترودو خلال حفل
...
-
الأمن الأردني: تصفية مسلح أطلق النار على رجال الأمن بمنطقة ا
...
-
وصول طائرة شحن روسية إلى ميانمار تحمل 33 طنا من المساعدات
-
مقتل مسلح وإصابة ثلاثة رجال أمن بعد إطلاق نار على دورية أمني
...
-
تأثير الشخير على سلوك المراهقين
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|