|
مقالة في الجماليات
أم الزين بنشيخة المسكيني
الحوار المتمدن-العدد: 3505 - 2011 / 10 / 3 - 00:36
المحور:
الادب والفن
هل هناك أشباح في أحذية فان غوغ ؟ دريدا أمام هيدغر
د. أم الزين بنشيخة المسكيني هل هناك أشباح في أحذية فان غوغ ؟ ليكن هذا السؤال هو الذي تركبه الفلسفة في هذه الطرق الانتقالية و القناطر المتحركة و عواصف الرمل و النار التي تعصف بنا في هذه الثورات العربية الرائعة .. أيّ سؤال بوسعه حينئذ أن يحملنا الى الحقيقة في فنّ الرسم .هنا نبدأ بالتفكيك بوصفه سحرا و بدريدا باعتباره يحمل اسمه جيّدا : ساحر يلعب بالكلمات و يبعثرها كيفما راق مزاجه ..شيطان يكتب عن الحقيقة ..لكنه لن يحدثنا عنها بنفس أسلوب الفلاسفة التقليديين ..و لن يصالحنا مع أي شكل من الواقع . ينفتح نص دريدا في الفصل الرابع و الأخير من كتابه الحقيقة في فنّ الرسم اذن على الجملة التالية ..فلندخل سويّا هذا النص لأن قارئا واحدا لا يكفي ..فالمتوحدون قد تداهمهم الأشباح ..يقول دريدا بكل بساطة ما يلي :"و بالرغم من ذلك .انّي لم أعد أتذكّر البتّة من كان يقول "ليس هناك أشباح في لوحات فان غوغ "؟ لكنّنا لدينا فعلا ههنا قصّة أشباح .بيد أنّه ينبغي أن ننتظر أن نصير أكثر من اثنين من أجل أن نبدأ ". ما رأيكم في هذه البداية ؟ قد تقولون عادية و قد تقولون قصصية و قد تبدو لكم مُخيفة و غرائبية عجائبية لأنها بدأت ببثّ الأشباح في قلوبكم ..هل يخيفنا دريدا من التفكيك بنثر الأشباح على قارعة النصوص و الرسوم ؟ هل يهدّدنا بعودة الأشباح لو لم ننصف مناطق الصمت و الهامش ومواقع الأحذية الفاغرة التي لا وجه لها و لا أقدام و لا طريق؟ بوسعكم أن تُفكروا بما شئتم من المعاني و التأويلات . ذلك أنّه بقدر ما تولد فيكم تحت وقع الأحذية من امكانيات الفلسفة و الأسئلة بقدر ما ينجح التفكيك .لكن ما ذا يقصد دريدا بالأشباح ؟ و ما علاقة الأشباح بالأحذية ؟ الأشباح هي كما يعرف الجميع أرواح تائهة عن جثامينها هاجرتها و طارت تبحث لها عن أجسام أخرى لم يدركها الفناء.فالأشباح تحبّ الحياة و تهرب من الموتى. لكن لماذا نخاف الأشباح؟ و لا ننسى الدور التربوي للأشباح التي كانت تُصاحب مخيّلاتنا الصغيرة و نحن أطفالا..و كان آباِؤنا يهدّدونا بها كلما حاولنا المُغامرة فيما أبعد من دائرة المسموح به.دريدا يستعمل الأشباح هنا كي يُغرينا بالسير معه نحو المجهول .فالأشباح تُغري بالفلسفة لأنها تكره الموتى و تطير بحثا عن الحياة في أجسام أخرى. نحن اذن ازاء قصة أشباح .انها تسكن تحديدا لوحة أحذية فان غوغ .من أين جاءت الى هذه اللوحة؟ أيّ الجثامين هاجرت ؟ و أيّ الأجسام الحيّة تطلب ؟ و ما هي شروط الانتساب الى هذه الأشباح؟ و لأوّل مرّة يصير للأشباح شرف الاقامة في نصوص الفلسفة ..لأنّ هذه الأشباح هي نصوص الفلاسفة أنفسهم و تأويلاتهم للحقيقة في فنّ الرسم .و لكل منّا حينئذ حق اختيار شبحه المُفضّل ان كان بوسعه أن يختار جسمه جيّدا. و ان كان بوسعه أن يختار حياته و موته جيّدا ..لدينا اذن أكثر من شبح في هذه القصة عن الأحذية بعامة و عن أحذية فان غوغ نموذجا .و ما علاقة النموذج بالنسخ حينئذ ؟ و ما الفرق بين الشبح و النسخة و الطيف و المسخ ..؟ الشبح روح تائهة لجثمان و النسخة تحاكي الأصل و الطيف هو الشكل الأخفّ و الأضعف من الكائن و المسخ كائن خيالي مرعب .. أيّ الأشباح هو الأقرب الى الفلسفة ؟ هو شبح الفيلسوف نفسه الذي يمضي جسمه الذي به كتب و فكّرو يبقى شبحه بين السطور راعيا أمينا و وريثا شرعيا لشخص الفيلسوف و عقله و قلمه .ههنا و ازاء لوحة أحذية فان غوغ سوف تتضاعف الأشباح و تتكاثر الأرواح التائهة المتنازعة على ملكية هذه الأحذية :فان غوغ نفسه و هيدغر و شابيرو و دريدا مُصمم هذا الركح الفلسفي العجيب التراجيدي و العدمي معا.و ربّما أشباح أخرى لكل قارئ تجرّأ على الاقامة قليلا أو كثيرا في هذا النص الشبحي لأنه لا شيء غير حروف و جمل و كثير من اللعب و قليل من جنون الكتابة . انها بداية للفلسفة لا تشبه أيّ أسلوب آخر في البدايات .فالتفكيك مُضادّ لفلسفات النسق التقليدية التي تُؤمن بالبدايات و النهايات .لا بداية للنصوص و لا للفلسفة و لا للكتابة ما دمنا نسكن العالم على نحو دائري ..نحن كائنات تحيا وفق هندسة كُروية منذ كوبرنيك و غاليلي ..لا أحد بوسعه أن يستعيد ذاكرة الكسمولوجيا القديمة حيث السماء فوقنا مليئة بالآلهة و الأرض حظيرة للنوع الحيواني برمته ..و دريدا لم يعد يذكر ..بداية مضادة للذاكرة و لفنّ التذكر الأفلاطوني ..نسيان مقصود أو سياسات أخرى للذاكرة ..لا يهم لأننا لا نتذكر ههنا غير الأحذية و الأشباح التي تسكنها بعد رحيل أقدامها عنها ..أحذية فان غوغ اذن قد تكون على ملكية شبح يزورها ليلا كلّما أنهكه التشرّد ..هو شبح بلا منزل قارّ يلتجىء الى الأحذية بوصفها مقرّه الآمن الوحيد ..شبح لا ينشط الاّ ليلا فهو يقتات من الظلام حينما تنجح أجهزة النفوذ في تنويم الجميع..تبقى الفلسفة و العقول الحرّة يقظة و تنشط في شكل أشباح ... و لأنّنا ازاء قصّة أشباح علينا أن ننتظرقليلا..و بالتالي على الكتابة أن تتريّث و على النصوص أن تُبطئ الخطى . علينا ألاّ نحثّ خطانا وان اقتضى الأمر أن نُمسك عن الكلام لأن الأشباح لا تقيم الاّ ضمن الصمت .يوصينا دريدا بأن ننتظر سويّا على حافة النصوص و على حافة الأحذية حتّى يصير كلّ منّا أكثر من واحد ..علينا أن نحمل أشباحنا معنا كي ندخل هذه القصّة ذلك أن عزلة الفيلسوف لم تعد وصفة ناجعة للتفلسف.ان التفكيك شأن جماعي لأناّ لن نقاوم الأشباح المندسّة بيننا الاّ و نحن جماعات . حذار فأنت لن تكتب عن الأحذية وحيدا .سوف يُصاحبك فان غوغ و تُصاحبك أحذيته. و معك سوف تسير الفلاّحة صاحبة القدمين المتعبتين ، و سوف يصحبك هيدغر و شابيرو و دريدا نفسه و يصاحبك فن الرسم و تُصاحبك الفلسفة . لا تُحاول أن تُقصي أيّا من أصحابك فأنت تحتاج الى أقدامهم جميعا كي تنصف الأحذية . بداية للدخول في الأحذية لا تشبه أيّة بداية أخرى ..ههنا بقدر ما تتماثل أساليب البداية بقدر ما تفشل الفلسفة و يتعطّل التفكيك . فلنجرّب فنّ الاختلاف و لنذهب بتجاربنا الفريدة الى أقصى حدودها علّنا نعثر على شيء من الفلسفة أي من الحرية أي من امكانيات الحياة نفسها.. علّنا بالأحرى نضاعف الأشباح بدلا عن اقصائها و مُطاردتها أو الهروب منها خوفا و رعبا ..فالأشباح التي تُغرينا بالتفلسف هنا و تراودنا على الكتابة هي الفلسفة نفسها، نصوصها و كل ما تبقى من الأفكار في حقولها ... كيف نبدأ في الفلسفة و كيف ننتهي ؟ سؤال شغل هيغل و من بعده هيدغر و استأنفه على نحو تفكيكي دريدا . و يبدو أنّ الجميع قد اتّفقوا هذه المرّة أن ليس هناك بداية للفكر و لانهاية ..لأننا نقيم داخل الدائرة .بوسعنا أن نبدأ من النهاية أو من الوسط أو من أيّ هامش .لا فرق من أين ندخل في الفلسفة لأنّه لا وجود لطريق جاهز سلفا و سابق عن مسارات التفلسف .و لاننا غادرنا عصرالكتاب و دخلنا عصر الكتابة بوسعنا أن نبدأ من "كفانا قولا .هاوية و هجاء للهاوية ". ماذا نفهم من هذه البداية الخاصة بفنّ التفكيك ؟ و حينما نكفّ عن القول كيف سنتفلسف في الحقيقة أو في فنّ الرسم أو في الأحذية ؟ و هل نكفّ عن ممارسة الفلسفة حينما نكفّ عن القول ؟ وهل نصمُتُ كلما توقفنا عن الكلام ؟ و حينما هناك صمت هل يتعطل التفكير؟ يُجيبنا دريدا كاتبا لغة الصمت :"أن نبدأ و أن ننتهي ب"كفى" لا علاقة للأمر بالكفاية و لا باكتفاء الاكتفاء و لا بأي شكل من القناعة و الرضا.." نحن لا نكفّ عن الكلام لأنّا اكتفينا منه و أخذنا منه نصيبنا أولأنّا رضينا واقتنعنا و اكتفينا ..بل لأنّا تحررنا من الكلام و نطلب الآن أن نكتب الصمت بكلّ أطيافه المسكوت عنها و المقصية و المُهمّشة و التي تقف على الحدود و التخوم بلا أوراق رسمية للدخول في قارة غطرسة اللوغوس . ههنا يصير التفلسف اقامة ثرية في الصمت بدلا عن لوغوس بأنساقه و مفاهيمه و كل أشكال تواطئه مع أجهزة النفوذ . بدأنا اذن و البادئ أظلم .من هي أحذية فان غوغ؟ كيف سنعيدها الى أصحابها و كيف سنقيم في خوائها المُظلم و في عتمتها الحالكة؟ لقد ذهب في اعتقاد الجميع أنّ الأمر يتعلّق بزوج من الأحذية .لكنّ دريدا يتصدّى لهذا الاعتقاد .هيدغر اعتقد بأنّها زوج من الأحذية لفلاّحة تجوب الحقول ، أماّ شابيرو المُختص في النقد الفني و صاحب كتاب حول رسومات فان غوغ تحديدا ، فقد ذهب الى القول بأنّها أحذية الرسّام نفسه .لكن لا أحد وضع "هويّة " هذه الأحذية موضع شكّ أو سؤال.و يسأل دريدا مفاجئا الجميع : و من أين أتاهم اليقين بأنّ الأمر يتعلّق بزوج من الأحذية .".و ما معنى الزوج حينئذ ؟ " .هنا يتدخّل فنّ التفكيك مُسائلا أكثر الأمور التي نتوهّم أنّها بديهية بذاتها .ليس ثمّة نقطة أرخميديس في التفكير..نحن نسيرعلى أرض زلقة لا نعرف اللحظة التي سوف نسقط فيها و لا اللحظة التي سوف ندرك فيها برّ الأمان. و حينما نقول أنّها زوجا من الأحذية ففي طيّات اعتقادنا هذا ثمّة الكثير من الأحكام المُسبقة الخفية و من علامات غطرسة اللوغوس . ثمّة الرغبة في اختزالهما في هُويّة واحدة و في السكوت عن عجرفة براديغم الهُوية الذي يُفكّر بالأصول و الذاكرة و استبداد الهو الهو الذي لا يقبل الاختلاف و التعدد..ثمّة أيضا الرغبة في المُصالحة و في الوصل و في طمس الثقوب و مواقع الخلاف و العطالة ..ثمّة رغبة في النسق و النظام و في المُحافظة على استقرار الوقائع و النصوص و انقاذ الواجهة ..ثمّة استئناف لرسم فلسفي لاهوتي معا يختزل الوجود منذ أفلاطون و أرسطو الى ديكارت و كانط في الثنائيات بين المادّة و الصورة و الله و العباد و المتناهي و اللامتناهي والجوهر المفكّر و الجوهر الممتدّ و الذات و الموضوع..و الأخطر من كلّ ذلك على مصير الأحذية هو أنّ وراء الوصل بينها و اختزالها في مؤسسة الزوج و الزواج ثمّة رغبة في اسنادها الى ذات تملكها ..ثمّة براديغم العودة الى الذات و ثمّة براديغم الملكية الخاصة . ليست أحذية فان غوغ "زوجا من الأحذية" .انّما هي حذاءان منفصلان لا علاقة لأحدهما بالآخر غير علاقة الجوار الاعتباطية . بل و أكثر من ذلك لا هُويّة لهذه الأحذية غير أنّها انّما "صُمّمت من أجل أن تبقى هناك" على ذمّة فنّ الرسم .و كلّ معارك النسب و الاسترداد و الهُوية هي معارك ثانوية .انّها مودعة في فضاء اللوحة فاغرة الأفواه مُبهمة لا تبالي بمن ينظر اليها و لا بمن يتخاصم في شأنها .بل انّها هي التي تحدّق فينا و تضحك ملء قدميها التي هاجرتها من سخف معاركنا و تأويلاتنا المُتغطرسة التي تدّعي امكانية معرفة حقائق الأشياء و تطويعها و تخزينها في المخزن الكبير للعقل البشري. يقول دريدا : "..و انّ انفصالهما لأمر بديهي .انّها أحذية مُنحلّة، مُهملة و منفصلة عن الذات الحاملة والمُستحوذة أو المالكة ،بل هي مُنفصلة حتّى عن الذات المُؤلّفة _المُوقّعة ..وهي مُنفصلة في حدّ ذاتها (لأنّ خيوطها مُنحلّة)." لذلك يقف دريدا طويلا عند ضرورة كسر جهاز الوصل البديهي بينهما ...فتراه يتوقف عمدا و على نحو تراجيدي عند السؤال التالي :" ما هو الزوج في هذه الحالة ؟ هل سوف تُغيّبون سؤالي ؟ أو أنّكم ، و من أجل ألاّ تُصغوا اليه ، تُضاعفون من السرعة في تبادل هذه الأصوات ..هذه الخُطب اللامُتكافئة ؟ و لسوف تختفي قوافيكم سريعا ..مُتقاطعة ، مُتشابكة معا ، مُجتمعة برمّتها ضمن نقطة تقاطع انقطاعاتكم نفسها .لن تُنكروا ذلك : اختصارات ظاهرة و كثرة مُتصنّعة تماما .و تبقى حقبكم بلا أصول قابلة للحساب بلا وجهة ، بيد أنّها تشترك في النفوذ .و انّكم في كلّ ذلك لتجعلونني بعيدا عنكم ، أنا نفسي و مطلبي ، الى حدّ يقع فيه اجتنابي كما لو كنت كارثة .غير أنّي أُصرُّ ضرورة : ما هو الزوج في هذه الحالة ؟ " هكذا تُكتب أسئلة الصمت ..ضدّ أسئلة الكلام التي كلّما تكلّمت الاّ و أسكتت أسئلة أخرى ..خطاب الكلام هو خطاب مستعجل يحثّ الخطى مُتجاهلا للأسئلة الحقيقية لأنها أسئلة تُشوش عليه صفاءه المزعوم.. و ويل حينئذ لكل من يصرّ على تعطيل سرعة النسق و لهفته على الاستقرار الموهوم .سوف يقع اقصاؤه و استبعاده كأنّه "كارثة " .انّ التفكيك كارثة على كلّ هذه الخطابات المُتصنعة وعلى هذا الضجيج و التهريج الذي يُغيّب الأسئلة الحقيقية . من هي اذن هذه الأحذية ؟ يجيب دريدا قائلا : " وفي كلّ الأحوال فهما منفصلتان ، تُحدّقان فينا بفم فاغر أي بفم أبكم ، فاسحتين مجال الكلام و الحيرة أمام أولئك الذين دفعتهم الى الكلام ..و هي لتدفع الى الكلام على وجه الحقيقة . و انّها لتصير كما لو كانت مُدركة لكوميديا هذا الأمر الى حدّ الضحكة المُتواصلة المكتومة باستمرار.ازاء هذا التمشّي ضدّ الواثق من نفسه ، يضحك الشيء (الحذاء) سواءا كان زوجا أو لم يكن ." و تنفجر كل الأسئلة عن هوية الأحذية . ههنا نسأل فقط و قد لا يأتي الينا غير سؤال آخر . فالتفكيك هو فنّ ولادة الأسئلة ..فنّ للتفلسف يُبعثر كلّ الأسئلة التقليدية الملهوفة على الاجابات . ههنا نسأل اذن لكن ليس من أجل الاجابة ..فلا مجال لعودة منطق الثنائيات الى حقل التفكير.كل البديهيات يقع بلبلتها. نسأل "من هي الأحذية" فيأتينا قول مُغاير عمّا افترضه السؤال أو انتظره ..نتحول من هو الواحد الى" هُما منفصلتان " ..لا يجمع بينهما أيّ شيء غير "فم فاغر" لكنه لا يرغب في الكلام بل هو "أبكم" يرفض التواصل و التواطؤ مع النسق .هويّة الأحذية صارت من نوع مُغاير للمفاهيم التقليدية للهويّة .انها فقط تفسح مجال الكلام و الحيرة ..انّها هُوية طريفة لأنها تهب الفلسفة امكانية الكتابة و التفكير لا بالحقائق المجرّدة و السماوات البعيدة و العلل الأولى بل التفكير بما لا يُفكّر فيه : التفكير بالأحذية .و تستحيل هذه الأحذية من موضوع تتأمله الذات و من منتوج يصلح للاستعمال الى شيء ضاحك من فرط سذاجة هذه الكوميديا التي ينسجها اللوغوس حول الفنّ و حول امكانيات تأويله. لكن ليس ثمّة كوميديا فحسب .و المجال لا يتّسع للضحك من كل كلام عن أحذية فان غوغ.انما في الأمر "لحظة انهيار مُحزن ، ساخرو مرضي و دالّ" .298. انهيار لأيّ شيء ؟ و دالّ على ماذا ؟ انهيار للأحذية ؟ وهل لها مكان آخر غير مواقع الانهيار ؟ فهي مُنهارة بطبعها ما دامت تقبع في الطابق السفلي لعالمنا.دريدا نفسه يدفعنا الى هذا الانهيار.انهيار النصّ و الفكر الذي لا يعرف من أين يدخل ضمن هذا الانهيار..و وفق أيّة حركة..حركة النظر من بعيد أم حركة السقوط الحرّ أم حركة الدوران العبثي ضمن الدائرة ..احراج يدفعنا اليه التفكيك قائلا : "لست أدري بعدُ ممّ أنطلق .و لست أدري ان كان ينبغي أن أتكلّم أو أن أكتب ..أن تنسج خطابا حول موضوعك أو حول أيّ موضوع كان ، ربّما يكون ذلك أوّل شيء يقع استبعاده.." و يضاعف دريدا من ألعاب اللغة و من اقتدارها على التلاعب بالفكر و بالقارئ و بالدلالة معا .و يطلب منّا ألاّ ننزعج من غموض الطريق و من أشباح الأحذية .و يوصينا بأن "لا مجال للتهوّر هنا و لا للتّعجّل نحو الاجابة .فالتسرّع في الخُطى ..ربّما يكون ذاك هو الأمر الذي لم يكن بوسعنا أبدا اجتنابه أمام اثارة هذه اللوحة المشهورة". و يكثر دريدا من مفاعيل التفكيك و من احراجاته و ألغازه و ريبيّته الجذرية مُخلخلا كُلّ أشكال البديهيات و ناثرا أنماط مُغايرة من التفكير و المُسائلة .يقول :" لكنّني لا أعرف بعدُ من أين المسير و ان كان ينبغي أن أتكلّم أو أن أكتب ، و لا بخاصّة وفق أيّة نبرة ، و تبعا لأيّ رمز و من أجل أيّ ركح و وفق أيّ ايقاع، ايقاع البدو ام ايقاع الحضر ، ايقاع عصر الحرف أم ايقاع التقنية الصناعية .." 300 أسئلة أكثر من الأجوبة و شكوك أكثر من كل أشكال اليقين .. يتعلّق الأمر بأحذية لا تسير بل هي مودعة لحالها بلا سند وحيدة ..تقبع في أحد أركان فنّ الرسم .ليست زوجا من الأحذية بل قد تكون حذائين يسريين .فدريدا يجد هذه الأحذية حذائين يسريين من كلّ صوب ..بقدرما نُحدّق فيهما و تحدّق هي بدورها فينا بقدر ما تكون أقلّ شبها بزوج قديم من الأحذية. و تبدأ المكنة في تفكيك لوحة أحذية فان غوغ ..تبدأ من النهاية ..تبدأ حيثما تتوقف آلة اللوغوس الفلسفي عن العمل .عمّال جدد للفلسفة سوف يولدون على يد دريدا و سوف ينتثرون و ينتتشرون في عمق النصوص فاتحين قارّات جديدة تُغري بالتفكير .يقبض دريدا على الأحذية في عرائها التشكيلي بعد أن حرّرها من الزوج التقليدي المّتصالح مع نفسه الجامع بين اليمين و اليسار في هوية واحدة، هي ذات الأحذية التي بها نسير في ركب النسق و النظام و الاطار و بها نتأقلم مع المؤسّسات و نهلّل لها . لكن "ماذا عن أحذية حينما لا تسير ؟ و حينما تُوضع جانبا ، باقية لزمن يكاد يكون طويلا بل و الى الأبد ، خارجة عن الاستعمال ؟ ماذا تعني ؟ ما قيمتها؟ ..على ما يدُلُّ فائض القيمة أو ناقص القيمة التي لها ؟ و مُقابل أيّ شيء يُمكن استبدالها ؟" يجمّد دريدا اذن الأحذية و يعيدها الى فضاء اللوحة ..لكن المعركة مع فلسفات الفنّ التقليدية لم تنته .يتعلّق الأمر هنا بعلاقة الفنّ بالسوق .فمنذ قرنين من الزمن سقط ميدان الفنّ في حقل البضاعة .و لم يسقط لوحده بل سقطت معه كلّ دائرة الثقافة و صارت الحضارة برمتها في كنف النظام الرأسمالي الى بضاعة مُطلقة.و تراكمت السلع و فائض القيمة و اقتصاد السوق .كيف نحرر الفنّ من البضاعة ؟ تلك معركة لا تخص في الحقيقة دريدا .ذلك أنّ من خاضها بشكل شرس هو على وجه التحديد ثيودور أدرنو و بنيامين . أدرنو يرى ضرورة تحرير الفنّ من السوق بنوع جديد من الجماليات سمّاها جماليات القبح . و بنيامين رأى في الاستنساخ التقني للفنّ و تراكمه انفتاحه على الجماهير.هي معركة بين فنّ جذري سالب مضادّ للتواصل و للمتعة وللجميل التقليدي ، و بين فنّ فقد سحره في عصر التقنية لكنه تحوّل بذلك الى آداة خلق لوعي جماهيري ثوري . لكنّ معركة دريدا معركة مُغايرة .يقول: "نعم ، لنفترض مثلا حذائين (ذات خيوط) يُمنين أو حذائين يُسرين ..لم يعُد الأمر يتعلّق بزوج ..انّه شيء أحولُ و أعرج .لست أدري ، على نحو عجيب ، و مريب و ربّما مُهدّد و شيطاني قليلا .لقد كان لديّ أحيانا هذا الانطباع مع مثل هذه الأحذية لفان غوغ .و انّي أتسائل ما اذا كان شابيرو و هيدغر قد تسرّعا في صنع الزوج من أجل أن يطمئنّا .فقبل كلّ تفكير ، هيّا نطمئنّ الى الزوج ". بعيدا عن اليمين و اليسار و بعد نهاية عصر الايديولوجيات لم يتبق من غطرسة اللوغوس غير الحًوًلِ .معاناة و تشويش و غشاء على الأبصار.ههنا لم نعد نعرف كيف التوجه في الفكر .صار اللوغوس أحولا .و صار ينظر الى اليمين و اليسار معا .و لم يعد يميّز بينهما .لم يعد اليسار يساراحقيقيا .و لا اليمين يمينا مطلقا .و صار بذلك الحذاء أعرجا. لكنّ هذه الوضعية ليست مريحة لأحد .لذلك أسرع كلّ من هيدغر و شابيرو الى صنع الزوج و تحويل الأحذية الى أعضاء نسقيين طيّعين لآلة التفكير التقليدية سجينة الثنائيات التي سرعان ما تُصالح بينها حتى تضمن اقامة آمنة على دروب الفكر. كيف التوجه في الفكر حينما يصير الفكر أحولا و كيف المسير بأحذية عرجاء ؟ لم يبق من الأحذية بعد طلاق الزوج غير "اسم المشية ، أي قريبا جدّا من الأرض ، و في الدرجة الأسفل ، الأكثر ذاتية أو خفاءا لما نُسمّيه الثقافة أو المُؤسّسة ، الحذاء ..." كيف اختراق الطبقات السفلية من الثقافة ؟ كيف نمشي و أنظارنا موجّهة هذه المرّة الى حيث تقبع الأحذية و من يجاورها حذو النعل بالنعل؟ لن نخلعها هذه المرّة لأننا لن ندخل بها المعابد. انما نسير بها حيث هي، أي فيما أبعد من كل مكر الفكر التقليدي ، حيث تُقيم الأفواه الفاغرة و الأقدام العرجاء من فرط الاهمال و التهميش . لمن هذه الأحذية ؟ يتعلّق الأمر بنوع من المُراسلة المجازية بين اجابتين .هي مجازية لأنّها من صنع دريدا .وفي الحقيقة ما حصل هو نقد لاذع ، صدر عن شابيرو أحد المختصين في النقد الفني و في لوحات فان غوغ تحديدا،لتأويل هيدغر للوحة أحذية فان غوغ . هيدغر رأى في هذه الأحذية ملكا لعالم الفلاحة أي ملكا للأرض بوصفها الأصل و الحضن الذي يهب الكينونة ، لكن شابيرو أعاد هذه الأحذية لصاحبها فاعتقد أنّ الرسّام لم يرسم في الحقيقة غير أحذيته .ركح عجيب لاعادة الأحذية الى أصحابها و مناورة مثيرة حول سياسة الحقيقة في فنّ الرسم.أمّا دريدا فيوجّه الحقيقة نحو وجهة أخرى..فهو يكشف أوّلا أنّ فضاء الصمت الذي التجأت اليه هذه اللوحة قد استولى عليه نفوذ الكلام و النقد و المعاني الموهومة .و أنّه على صناعة التفكيكك ثانيا أن تحرّرُ هذه اللوحة الصامتة و هذه الأحذية المُهملة و المتروكة و الخارجة عن دائرة الاستعمال و التي لا نسب لها من نفوذ الذات المُتغطرسة.لذلك يتسائل مُتهكّما "لمن هذه الأقدام التي نريد اعادة الأحذية اليها "و من هي الذات الحاملة لها ؟ و كم من مُدن اخترقت و عبرت و كم من الحروب تحمّلت ؟ و كم من المُهجّرين و المُضطهدين حملت ؟ و كم من التوابيت و الجنازات شيّعت ؟ و كم أماتت و كم أحيت؟ .. و لنبدأ بتأويل هيدغر.لأنّ ذاك هو مربط النعامة و أصل كلّ هذه الخصومة حول الأحذية .انّ مُسائلة هيدغر للوحة أحذية فان غوغ تتنزّل تحديدا ضمن اشكالية أصل الأثر الفنّي .حيث تظهر هذه الأحذية على سطح نصّ هيدغر حينما يضطرّ الى تجسيد السؤال عن "ماهية الفنّ التي تكمن فعلا في الأثر".لكن كيف ادراك ماهية الفنّ بما هي تعود الى أصل الأثر الفنّي؟ علينا أن نتوقف قليلا عند لحظة " الدور" التأويلي الذي يلقاه هيدغر وهو بصدد السير في شعاب تائهة في عالم الفنّ .وهو ما يعلن عنه النص التالي .يقول هيدغر:" ماذا يكون الفن، انّما يجب أن يُستقى من الأثر.و ماذا يكون الأثر؟لا يُمكننا أن نُجرّبه الاّ من ماهية الفنّ.و قد يُلاحظ أيّا كان بسهولة من الجهد أنّنا نتحرّك في دور.و قد يقضي الذهن المُشترك بأن نتحاشى هذا الدور،لكونه خرقا للمنطق.و يظنّ المرء أنّ ماذا يكون الفنّ قد يُقبل أن يُستخرج من فحص مُقارن للآثار الفنية القائمة. و لكن أنّى لنا أن نكون على يقين من كوننا نتّخذ فعلا آثارا فنّية قاعدة لهكذا فحص ، اذا كُنّا لا نعلم قبلُ ما هو الفنّ؟ ..بذلك ليس لنا بُدّ من أن نقطع مسيرة هذا الدور .و ما كان ذلك علاجا مُؤقّتا و ما كان نقصا.فانّ وضع الخطى على هذا الطريق هو للفكر العرسُ، متى فرضنا أيضا أنّ الفكر أيضا من عمل اليد . و ليست الخطوة الرئيسة من الأثر الى الفنّ من جهة ، ما هي الخطوة من الفنّ الى الأثر هي وحدها دورا ، انّ كل واحدة من الخطوات التي نُحاول ، انّما تدورضمن هذا الدور". انّ االسير نحو أصل الأثر الفني ليس سيرا على طريق مستقيم بل هو اندفاع مثير و تدحرج داخل دائرة لا نملك ضمنها الا قطعها كاملة و الطواف داخلها .و ليس في الأمر أية لعنة و لا خطيئة و لا شعورا بالذنب .انما سيرنا لملاقاة ماهية الفنّ بوصفه ما به ننشدّ الى العالم و ما به ينتصب العالم بل و يأتينا و ينفتح على المدى ، هو العُرس بعينه ، عُرس الفكر . و يبدأ السير ضمن الدور التأويلي بسؤال مثير هو التالي :" الى أين ينتمي الأثر؟ " و نخطو بذلك خطوة جديدة تنقلنا من ما هو الأثر الفني ؟ الى أين ينتمي ؟ ما هو العالم الذي ينتصب داخله ؟ ما هي الصلات التي تشده الى الأرض فتفتحه على العالم ؟ يجيبنا هيدغر"انّ الأثر لا ينتمي بما هو كذلك الا الى الميدان الذي يُفتح عبره هو ذاته..انه ضمن الأثر انما يكون حدوث الحقيقة قيد الفعل ." و من أجل تسمية الحقيقة قيد الفعل و تجسيدها يحيلنا هيدغر على لوحة أحذية فان غوغ .حيث يستعين بهذا الأثر على تحديد السبيل الذي بوسعنا التوجه وفقه ضمن الدور التأويلي لاشكالية أصل الأثر الفني و منبته.علينا أن نتوقف عند مفهوم الأثر نفسه .هل هو مصنوع من أجل الاستعمال و لمنفعة مُحددة ؟ هل هو شيء بوسعنا اختزاله ضمن الزوج التقليدي للمادة و الصورة؟ ويبدو أن هذا الزوج هو بمثابة "الرسم المفهومي بامتياز لكل نظرية الفنّ و لكلّ استطيقا". لكن يبدو أن هذا التصور للأشياء النابع من هذه الثنائية التقليدية مادة و صورة يعوقنا عن السير قُدما نحو ما يجعل من الشيء شيئا و من الكائن كائنا و من الأثر أثرا. ان اختزال الأثر في الشيء و الشيء في ثنائية المادة و الصورة يكشف عن غطرسة هذه المفاهيم و بداهتها الوهمية و المزعومة. خطوة أخرى تدفعنا خارج رسومات الاستطيقا التقليدية.لكن هيدغر يُحذرنا بألّا نستعجل ..ههنا لا عجلة و لا استباق و لا اجابات مسبقة ..علينا أن نتمهل حتى لا نسقط في هاوية المسار التقليدي ..بوسعنا حينئذ أن نضمن لأنفسنا سبيلا أفضل و من دون العودة الى أية نظرية فلسفية ..و هنا نلتقي بأحذية فان غوغ .زوج من الأحذية لريفية..و من أجل وصفها لا نحتاج البتة الى أن تكون هذه الأحذية حاضرة نُصب أعيننا .لكن هل نقتصر على تمثّل هذا الزوج من الأحذية "هكذا" "بعامة"..؟ و لو اكتفينا بالنظر الى هذه اللوحة ذات الأحذية الفارغة التي توجد هنا دون أن نستعملها ..لكننا بذلك لن نتعلم شيئا عمّا به يكون المصنوع مصنوعا..هل يعني ذلك أنّ خروج المصنوع من دائرة الاستعمال يلقي به في سلّة المُهملات أي اللامعنى ؟ بل و أكثرمن ذلك اننا لا نستطيع عبر لوحة أحذية فان غوغ أن نُحدّد أين توجد الأحذية .. الى أين تنتمي الأحذية؟ ما هو العالم الذي تفتحه و ما هي الأرض التي هي لها بمثابة الحضن و الرحم؟ انّها أحذية لريفية عادت لتوّها من الحقول .انّ أحذية فان غوغ هي ملك لعالم الفلاحة ..انها تأتينا من الأرض..انها تنتمي الى نداء الأرض. كل الأسئلة عن علاقة هذا الأثر بالمنفعة هي أسئلة لا جدوى منها ..فقد تصلح الأحذية للرقص أيضا . لكن هذه الأحذية الماثلة في لوحات فان غوغ و قد رسمها أكثر من ثمانية مرة هي ما هي فهي توجد على نحو أكثر صراحة من الريفية نفسها .لكن هذه الريفية التي تلبس هذه الأحذية و تُقضي معها يوما كاملا تجوب الحقول و تعتني بالأرض و تكدّ من أجل قوتها اليومي ، لا تنظر البتة الى هذه الأحذية و هي لا تشعر بها حتى مجرد الشعور.و انها واقفة و انها لتسير بواسطة هذه الأحذية .ذاك هو كيف تصلح هذه الأحذية على وجه الحقيقة. و رغم ذلك لا شيء نبصر في هذه اللوحة غير فضاء وسيع مُبهم. . فحينما نكتفي بالنظر الى هذه الأحذية و حتى حينما نحدق بها مليا لا شيء نظفر به ..ههنا تنتهي احداثية الاستطيقا التقليدية القائمة على اختزال الفن و العالم برمته في ثنائية الذات و الموضوع .مع هيدغر نغادر استطيقا الذات و تكف بذلك الأحذية عن أن تكون مجرد موضوع لذات تحكم على جماله أو قبحه وفق مزاج الذائقة المتغطرسة .مع هيدغر تكف الأشياء عن المثول أمامنا في شيئيتها المدقعة و في برودها الموضوعي ..بل ربما تكون الأشياء هي التي تأتي الينا لأنها تنجلي في باحة المنفتح أمامنا حيزنا البصري .نحن لا نلتقي أشياء العالم على نحو ارادي و بلوحة مقولات جاهزة ..و ان الفنّ نفسه يصنع عالما و يشدّنا اليه بما ينتصب في باحة الكينونة الوسيعة ..لوحة أحذية فان غوغ تصنع عالما خاصا بها تنتمي اليه و تجذبنا نحوه و تغرينا بالاقامة فيه ..ما يهمّنا هنا لم يعد جمالها أو قبحها بل كونها علامة على الكيان ..و الا ماذا في أحذية شعثاء غبراء مترهلة مغبرة مكفهرة متروكة بلا سوق و لا ثمن و لا مساحيق تلمعها ، غير كونها تدعو الى عالم مغاير جدير بأن نسائله و نجعله وجهة للفكر نفسه ؟؟؟؟ لا شيء في هذه الأحذية اذن حتى نبذة من تراب الحقل أو من الطريق بوسعه أن يُحدّد لنا على الأقل مجال استعمالها .و رغم ذلك يرى هيدغر أنّه"داخل ظلمة الخواء الحميم للحذاء يتجذر من بعيد تعب خطوات كدّ الفلاحة و جهدها اليومي و داخل خشونة الحذاء و صلابة حمولته يُثبّت بطء حركات الخطى بين الحقول .كل آثار الخطى مُتشابهة..و جلد الحذاء و قد بللته قطرات الندى التي داعبت أرض الحقول .و فيما أسفل من النعال تمتد وحدة الطريق الريفية التي تتوه مساء و عبر هذه الأحذية يمرّ النداء الصامت الى الأرض و تمرّ أيضا هبتها المُضمرة و وعدها بالحبّات الناضجة . و عبر هذه الأحذية يولد من جديد الخوف الأخرس ازاء امكانية ضمان الخبز اليومي و تولد أيضا الفرحة الصامتة بالنجاة من جديد من خطر الفاقة و قلق رهيب من وطأة الموت المُهدّد" تنتمي لوحة أحذية فان غوغ حسب هيدغر اذن الى نداء الأرض. يقول " انّ هذا المصنوع ينتمي الى الأرض و انه محمي و مُحصن داخل عالم الريفية و انه داخل هذه الملكية تسكن هذه الأحذية الى ذاتها".انها أحذية الريفية و هي أحذية الدرب الطويل و الحقول الواسعة ..وفي هذه الأحذية امكانية أن تتوه الفلاحة ليلا ..و ألاّ تجد الطريق .. كيف يُفكّك دريدا هذا الدور التأويلي الذي يُعيد لوحة الأحذية الى نداء الأرض؟ . ان دريدا لن يقيم في هذه الأحذية ..و لن يتخذ منها صنما ..انما سوف يتخذ على عاتقه مهمة تحرير الفلسفة من هذا التأويل الذي جذبنا معه الى الدائرة ..دائرة العودة الى أصل الأثر الفني و دائرة نداء الأرض ..الارض التي تحضن العالم و العالم الذي يشده الأثر ..لن يقيم دريدا في الأرض لأنّ هذه الأحذية قد تكون بلا أرض و بلا أصل بل هي أحذية منبتة أو مهجرة ..ثمة انفعالات غامضة سوف تُؤججها هذه الأحذية عن غير قصد : معارك بين اليهودي المنبت المهجر الذي لا أرض له و المسيحي اليميني القومي السعيد بتأويلية للمعاني قد لا تصلح الا للأرستقراطيين و الرومانسيين ..هي معارك بين اليسار و اليمين أي بين شابيرو و هيدغر ..و رغم ذلك يوصينا دريدا بأنه "لا ينبغي أن نترك هذه الأحذية بين أيادي شابيرو و هيدغر".لماذا نحرر الأحذية من ايديولوجيات اليمين و اليسار و اليهودي و المسيحي و الحضري و الريفي ؟ انّ أهمّ عيب سقط فيه هيدغرفي تأويله للوحة أحذية فان هو ما سمّاه دريدا "سذاجة المرجع"، و هي سذاجة ارتكبها هيدغر ثلاث مرّات في حق الأحذية : في المرّة الأولى حينما اعتقد بأنها زوج من الأحذية .و في المرّة الثانية حينما أعادها مُتعجلا الى الريفية . و أخيرا حينما ماثل بين اللوحات الثمانية للأحذية مُعتقدا أنّها واحدة . يقول دريدا:" ان هيدغر لا يُخيّب آمالنا فقط ..انّما هو يجعلنا ننفجر ضحكا..من أين أتى بأنّ الأحذية هي أحذية تعود الى ريفية" .انّ التفكير في هذه اللوحة وفق احداثية الأصل يفتح"نا بالأحرى على الهاوية" . كيف لا يتفطن هيدغرالى أن وراء رسم فان غوغ للأحذية مرّات عديدة قصّة فلسفية أكثر غموض و تعقيد من مجرّد المحاكاة و تكرار الرسم و انتاج التماثل؟ يقول دريدا :"انّ الأستاذ هيدغر يعرف جيّدا أنّ فان غوغ قد رسم هذه الأحذية عدة مرّات ، لكنه لا يُعيّن هُويّة اللوحة التي يقصدها ، و كأنّما الصياغات المختلفة قابلة للتبادل ، وهي تُمثل جميعا نفس الحقيقة"352. انه بالرغم من أنّ هيدغر كان يوصي بالتمهّل و عدم التعجّل فهو قد سقط في فخّ هذه الأحذية الفاغرة التي تُغري بأن نلقي فيها بأقدامنا و بأن نحثّ الخطى فلا نفعل حينها غير السقوط في نسج الأوهام والأحكام و البديهيات الساذجة حولها .و الا ماذا يعني أن نستعجل على اسنادها الى ذات تلبسها ؟ ألا تصلح الأحذية الا من أجل استعمالها؟ و ماذا عن أحذية خارجة عن دائرة الأستعمال؟ و ماذا عن أحذية لا تصلح الا لفن الرسم ؟ يقول دريدا:"ان هيدغر يُلقي بنفسه سريعا في "المرجع " و في مرجع جدُّ مهمّ لوحة ذائعة الصيت ..كأنّما الشيء بديهي جدّا و واضح جدّا ..و هل يستنتج هيدغر من جملة أحذية فان غوغ في الأحذية نوعا من اللوحة العامّة ..انها فرضية بائسة ينبغي طرحها جانبا" ماير شابيرو و لوحة أحذية فان غوغ : ماير شابيرو مؤرخ للفنّ الأمريكي (1904 ، 1996) عُرف بدفاعه عن الفنّ الحديث و بقراءته الماركسية لتاريخ الفنّ .و كان من الذين حضروا دروس هيدغر حول أصل الأثر الفنّي .وكتب كتابا حول فان غوغ (نُشر بنيويورك سنة 1950) .ما يهمنا هو أنّ شابيرو قدّم قراءة للوحة أحذية فان غوغ يُعيد فيها هذه الأحذية الى فان غوغ نفسه. يكشف دريدا عن ثلاثة عقائد في تأويل شابيرو هي التالية: أوّلا : أنّ أحذية مرسومة بوسعها أن تعود فعلا و أن يقع ارجاعها حقّا الى ذات حقيقية ذات هوية و اسم محدد. ثانيا : أنّ الأحذية هي أحذية سواء كانت رسما أو أحذية فعلا ، فهي أحذية فحسب و بكل بساطة هي ما هي متطابقة مع نفسها و قابلة للتأقلم مع الأقدام . ثالثا: أنّ أقداما (مرسومة شبحية أو فعلية) تنتمي الى جسد خاص .و أنّها ليست قابلة للفصل عنه . هذه عقائد ثلاثة ليس بوسعها أن تصمد .انّها تنهزم بمجرد ما يحدث ضمن هذا الرسم . انّ المعركة بين شابيرو و هيدغر حول أحذية فان غوغ ليست مجرّد معركة بين الريفي المسكون بالحنين الى الحقول و الحضري المُحبّ لحياة المُدن .يتعلق الأمر بتقاطع عجيب بين معارك شتّى : معارك هويات بين المسيحي عاشق التأويل و المعاني السعيدة لكينونة شاعرية في العالم ، و اليهودي المُهجّر المنبتّ .معارك ايديولوجيات بين اليمين المحافظ و اليسار الغاضب .غير أنّهما يشتركان في الكثير من العقائد و الأوهام الساذجة ازاء فنّ الرسم من قبيل : انتمائهما الى براديغم الذات المُتغطرسة التي تعتقد في ضرورة أن تنتسب هذه الأحذية الى ذات تملكها..اعتقادهما في أنّ ما رسمه فان غوغ هو فعلا أحذية ..اعتقادهما في الثنائيات التقليدية التي تختزل الأحذية في زوج من اليمين و اليسار... هل وقع انصاف الأحذية ؟ لا أحد بوسعه أن يدعي ملكية أحذية فان غوغ حتى فان غوغ نفسه.لا أحد مذنب في هذه القصة و لا أحد مُتهم .لا ذنب على الرسوم .كل ما وقع تحت اغراء التفكيك هو الكتابة و الرسم و الحقيقة . كل ما وقع هو محبّة الحكمة .و محبة بذر الكتابة و تبذيرها و تناسل الحروف .أمّا عن أحذية فان غوغ فهي ملك لفن الرسم فحسب .ليست هذه الأحذية للبيع .لقد صممت من أجل أن تبقى هناك .متروكة لحالها مودعة في فضاء الصمت .أعيدوها الى صمتها و أبعدوا عنها غطرسة اللوغوس و أكاذيب الخُطب. و رغم ذلك ما زالت هذه الأحذية تشهد على كرامة الانساني .فيما أبعد من اليمين و اليسار لا تزال تبقى هذه الأحذية شاهدا على ما تبقى من الانساني فينا.و بالرغم من أنها أحذية مُهملة لكنها أحذية لا تُنسى.. لا تصلح هذه الأحذية الى أيّ شيء من فرط ما وقع استعمالها.هي أحذية لا جمال فيها و رغم ذلك هي أثر فني لا يُنسى.انها لا تنتمي الى تاريخ الجمال و لا الى براديغم الاستطيقا بل هي أثر فنّي فقط دونما وصاية و لا أبوّة فارغة. و حين شعر فان غوغ يوما أنّه مُهدّد ، تمسّك بأحذيته كمن يتمسّك بورقة قشّ لأنّها آخر ما تبقى من كرامته .و حين تقطّعت بها السُّبُلُ لم تجد أحذية فان غوغ من ملجأ لها غير فنّ الرسم.انّه عالمها الوحيد و اليه تنتمي .و يبدو أنّ لهذه الأحذية كرامتها الخاصة مثل الكرامة التي للشيوخ و المُسنّين و الضعفاء و المُشرّدين و كلّ الذين أخرجهم النسق عن دائرة الاستعمال . و للأحذية الحق في أن ترفع قضية استرداد حقوق مثل المُعطلين و المُهمّشين و المغضوب عليهم و الغاضبين و الذين لا سكن لهم و لا عمل و لا منزلة اجتماعية و لا أفق..لا أحد ينتظرهم و لا أحد يستقبلهم .. ليست أحذية فان غوغ أحذية فقط و ربّما ليست أحذية أصلا .و سوف تبقى هذه الأحذية قابعة في فضاء فنّ الرسم ، لا شيء يحتضنها غير اللوحة المُعلّقة على الجدار . عليها حينئذ أن تتحمّل الوحدة و اليُتم و برودة الجدران ..لكنّ برودة اللوحة أجمل عندها من معارك الأصل و الذات و الهوية .. و فضاء الصمت عندها أرحم من غطرسة اللوغوس ..ما يتبقى في هذه الأحذية الفاغرة الفم معاني أخرى و ثورات سوف تأتي.. انتهى
.
#أم_الزين_بنشيخة_المسكيني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أية ذاتية سياسية بعد الثورة ؟
-
نص في الثورة
-
نص
المزيد.....
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|