أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - مقدمة خليل كلفت لترجمته لكتاب: -كيف نفهم سياسات العالم الثالث (نظريات التغيير السياسى والتنمية) تأليف: بى. سى. سميث-















المزيد.....



مقدمة خليل كلفت لترجمته لكتاب: -كيف نفهم سياسات العالم الثالث (نظريات التغيير السياسى والتنمية) تأليف: بى. سى. سميث-


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3501 - 2011 / 9 / 29 - 00:03
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


هذا كتاب بمثابة موسوعة مصغرة عن العالم الثالث اليوم، عن نظريات التفسير والتغيير المتعلقة به وكذلك عن التطورات الأساسية الجارية فيه.
وهو بمثابة موسوعة غير أنه لا ينظم مادة موضوعه فى مداخل مرتَّبة ألفبائيا، وما يجعله أقرب ما يكون إلى الموسوعة هو أنه يشمل بالبحث التفصيلىّ الجوانب الأكثر أساسية فى نظريات وممارسات واتجاهات وأقدار البلدان النامية أو الأقل نموا أو المتخلفة وفقا لتسميات متعددة لنظريات متعددة لنفس العالم.
وبين سؤالىْ ما المقصود بالعالم الثالث؟ وما فُرَص التغيير أمامه؟ لا يكاد الكتاب يترك أىّ ظاهرة مهمة خارج بحثه. وتتقاطع هذه الظواهر وتتداخل. أىْ أن الكتاب عندما يبحث ظاهرة من ظواهر بلدان العالم الثالث إنما يبحثها من كل أبعادها وبالأخص فى علاقاتها العميقة والمتنوعة مع كل الظواهر الأخرى.
وعلى سبيل المثال فإنه يجرى بحث البيروقراطية بمختلف أبعادها: البيروقراطية بوصفها جهاز الدولة الإدارىّ، البيروقراطية كطبقة حاكمة، البيروقراطية والديمقراطية. وعندما يبحث التفريعات والتنويعات المتعددة لهذه الجوانب فى علاقاتها المعقدة مع مختلف جوانب كل ظاهرة أخرى سنجد أن الهدف يتمثل دائما فى الإلمام الواضح بعلاقة أساسيات وتفاصيل كل ظاهرة بأساسيات وتفاصيل كل ظاهرة أخرى.
ما العالم الثالث؟ ما النظريات التى تفسر واقعه الراهن وتطوراته؟ ما التحديث؟ ما التنمية؟ وحقائق دولة العالم الثالث فى علاقاته بمجتمع العالم الثالث وفى أشكال التحقيق البالغة التعقيد لكل من هذه الدولة وهذا المجتمع؟ ولكى نفهم العالم الثالث المعاصر يجرى بحث الاستعمار الجديد والتبعية، بالنظريات والوقائع والتطورات المعنية. وتتداخل مع كل هذا الأحزاب وطبيعتها وأوضاعها والأنظمة السياسية التى ترتبط بها، وتشابكات ولاءاتها مع الولاء القومىّ العام، والولاء الإثنىّ أو الفئوىّ وغير ذلك. ويجرى بحث كافة أبعاد القوات المسلحة والتدخلات العسكرية وعلاقاتها بالطبقة الوسطى ودورها فى السياسة الداخلية والخارجية كما يجرى بحث علاقاتها بالبيروقراطية والديمقراطية وأشكال الحكم. وتبرز قضايا الانفصال عن الدولة-الأمة أو الدولة القومية على أُسُس إثنية أو دينية أو غير ذلك. كما يجرى بحث "الدَّقْرَطة" democratization( ) فى علاقاتها بكل هذه الظواهر والتطورات وبالأخص بقضية التغيير. ويصل بنا كل هذا إلى المحصلة العامة لكل هذه الظواهر بكل تداخلاتها: أعنى التغيير باعتباره الثورة التى هى بدورها محصلة جدل الاستقرار وعدم الاستقرار فى بلدان العالم الثالث. والصراع محتدم بين القوى التى تدفعها المصالح الداخلية والخارجية إلى المحافظة على الاستقرار أو استعادته وبين القوى الداخلية العمالية والديمقراطية والاستقلالية المدفوعة بمصالحها إلى عدم النظر إلى الاستقرار على أنه بقرة مقدسة كما تؤدى فاعليتها السياسية إلى زعزعة الاستقرار القائم أو تعميق وتوسيع نطاق عدم الاستقرار عندما تحتدم صراعاته الاجتماعية والسياسية. وتمثل محصلة هذه الصراعات آفاق أو معوقات التغيير وبالأخص فى صورة عملية الدَّقْرَطة.
ومن هنا فإن هذا الكتاب سيكون بالغ الفائدة للدارس الأكاديمىّ للعلوم السياسية، ولكنْ أيضا للسياسيِّين والنشطاء ومناضلى مختلف الأحزاب والحركات والمنظمات الطامحة إلى التغيير. وبدلا من ضيق الأفق القومىّ الذى يحصر أصحابه فى النظر من الزاوية المصرية أو العربية لكل ظاهرة سياسية يضع الكتاب أمام القارئ المصرىّ أو العربىّ تجربة أوسع. ذلك أن العالم العربى أو الشرق الأوسط جزء لا يتجزء، كما يقال، من العالم الثالث، مهما تعددت خصوصياته. وبدلا من الشوڤينية المنكرة التى قد تقدَّم لنا تصورات وردية عن أنفسنا تتناقض تماما مع أوضاعنا الحقيقية، وكذلك بدلا من جلد الذات باعتبار أن العرب هبطوا إلى الحضيض بسبب خصائص ملازمة لهم قوميا أو ثقافيا، وكذلك بدلا من التصورات الساذجة التى مؤداها أن العرب والمسلمين مستهدفون بوصفهم كذلك، أىْ بدلا من عنصرية تمجيد الذات برفعها فوق كل الأمم الأخرى أو عنصرية احتقار الذات (ذلك أن كلا من تمجيد الذات واحتقار الذات عنصرية مقيتة)، بدلا من كل هذا وبدلا من سلبيات فكرية أخرى يجذبنا الكتاب إلى تجربة أوسع ونظرة أوسع إلى كلٍّ من التفسير والتغيير فى عالم أوسع ينتمى إليه العرب والمسلمون، أىْ العالم الثالث الذى تتعدد خصوصياته ذات الكثرة الهائلة ولكنْ تشترك كل بلدانه فى تجربة الاستعمار الكولونيالىّ والاستعمار الجديد والإمپريالية، مع أن هذه العلاقة الاستعمارية والإمپريالية، رغم أنها واحدة فى جوهرها، تمثل كثرة هائلة بدورها من الخصوصيات التى هى محصلة لطبيعة وخصائص ونظريات البلد الاستعمارىّ (إنجلترا، فرنسا، إسبانيا، الپرتغال، هولندا، بلچيكا، إيطاليا، ألمانيا، إلخ.، فى المرحلة الكولونيالية، مع إضافة الولايات المتحدة والاتحاد السوڤييتىّ السابق فى مرحلة الاستعمار الجديد) وطبيعة وخصائص وثقافة كل بلد من بلدان العالم الثالث خضع للاستعمار أو شبه الاستعمار، عندما كان البلد المعنىّ مستعمَرة، وللاستعمار الجديد عندما صار البلد المعنى مستقلا بالمعنى القانونىّ الدولىّ، وبالمعنى الدستورىّ، بعيدا عن الاستقلال الحقيقىّ الاقتصادىّ والسياسىّ.
وينطلق الكتاب من النظر إلى الأساس السوسيولوچىّ للنظرية السياسية الوظيفية والأساس الاقتصادىّ لنظرية التبعية على أنها مُعْطًى، كما يقول. وتكون المحصلة وضع بلدان العالم الثالث على أرضية ذات خصائص سياسية واقتصادية عريضة تشترك فيها هذه البلدان مع أخذ التنوع الواسع النطاق فى الاعتبار. ويجرى إيضاح ما هو مشترك بين بلدان العالم الثالث بأمثلة مباشرة من كل قارات وبلدان ودول ومناطق وأقاليم هذا العالم كما يجرى إيضاح التنوع من خلال أمثلة من بلدان متنوعة فى كل قارة من القارات الثلاث.
والصورة الكاملة المجمَّعة من هذه الأمثلة وسياقاتها وتفسيراتها وحدود تغييراتها صورة قاتمة بل مأساوية فى حقيقة الأمر: هزال الإنتاج والاقتصاد، هزال التجارة مع العالم، تدهور كافة الخدمات على كل المستويات، وباء الانقلابات العسكرية فى الحياة السياسية، وباء الفساد المنفلت، الفقر والجوع والمرض والأمية والأوبئة، الحقائق الديموجرافية المفزعة، التدخل الأجنبىّ الواسع النطاق فى كل المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية لهذه البلدان بما فى ذلك التدخلات العسكرية المباشرة من خلال الغزو المباشر كما كان الحال بالأمس فى جنوب شرق آسيا وكما هو الحال اليوم فى منطقتنا فى أفغانستان والعراق ولبنان وفى البلدان المرشحة الأخرى فى عالمنا العربى (وبالأخص الضفة الغربية وقطاع غزة ولبنان وسوريا) والشرق الأوسط (وبالأخص إيران وپاكستان).
والمحصلة باختصار هى "متلازمة" الاستقلال السياسىّ الدستورىّ والتبعية الاقتصادية اللذين صارا قَدَر العالم الثالث ومصيره فى غياب مخرج حقيقىّ من هذا المأزق التاريخىّ.
ومآسى هذه "المتلازمة" مفزعة بأبعادها التى تتجسد فى سوء التغذية والجوع والفقر وتدهور الأحوال الصحية والتعرض لأهوال القمع والحروب الأهلية والغزوات والتدخلات الخارجية وأهوال الأوبئة المتفشية. والمنطق الطبيعىّ لهذه السيرورة المأساوية مخيف، ببساطة لأنه لا يوجد فى الحركة الموَّارة لحياة البشر بكل تطوراتها الراهنة شيء من قبل "مَحَلَّك سِرْ". وإذا كان الملايين وعشرات الملايين من البشر يموتون اليوم كل عام من الجوع والأمراض والأوبئة، وإذا كان المليارات من البشر يحيون اليوم فى معاناة متواصلة لهذه المآسى، فإن الاستنتاج المنطقىّ الوحيد هو أن مليارات البشر فى العالم الثالث يتعرضون على المدى القريب والمتوسط للفناء والانقراض. وفى أزمنة سابقة كنا نقرأ كُتُبًا بعناوين من قبيل "العالم الثالث فى معركة البقاء"، وفى غياب مخرج من هذه الأوضاع تغدو معركة البقاء مهددة بأنْ تغدو دروب الفناء والانقراض، وعلى هذه الدروب ينطلق قطار العالم الثالث بسرعة مُدَوِّخة، وبالأخص بلا سائق، كما قال جورباتشوف ذات يوم عن الاتحاد السوڤييتى الذى صار سابقا، ذلك أن الأنظمة الحاكمة فى العالم الثالث ليست جزءًا من الحل، بل ليست مجرد جزء من المشكلة، إنها فى الحقيقة فى علاقاتها الوثيقة بالقوى الاستعمارية الخارجية المشكلة بشحمها ولحمها، ولا أمل فى أنْ يأتى أىّ حل منها.
فمن أين يأتى الحل؟ وما المخرج من هذا المأزق التاريخىّ؟
ولا شك فى أن بلدان العالم الثالث تضم بين طبقاتها طبقات مدفوعة بحكم مصالحها التاريخية إلى التغيير والثورة، ولا شك فى أن لهذه الطبقات حركات سياسية واقتصادية واجتماعية وأحزاب سياسية ومنظمات متنوعة لا تُحْصَى ولا تُعَدّ، ولا شك فى أننا إزاء حراك كبير موّار فى كل مكان فى العالم الثالث، تحت رايات تمثل أيديولوچيات متنوعة عديدة تترواح بين الأفق العمالىّ الاقتصادىّ الإضرابىّ والأفق الاشتراكىّ الماركسىّ وغير الماركسىّ والأفق الديمقراطىّ العام والأفق الإثنىّ الانفصالىّ وأفق الأصوليات المتنوعة العديدة. وتقدم كل أيديولوچيا نفسها على أنها هى دون غيرها "الحلّ"، فالشيوعية هى "الحل"، والإسلام هو "الحل"، والديمقراطية هى "الحلّ".
غير أننا لا نرى أمامنا أىّ حل، رغم مزاعم كل هذه الأيديولوچيات. لماذا؟ لأن الواقع الاجتماعىّ-الاقتصادىّ-الثقافىّ هو صانع الأيديولوچيات وليس العكس. لأن الأيديولوچيات لا تصنع الواقع بل هى من صُنْعه. كذلك فإن الأيديولوچيات هى نظريات التغيير وليست التغيير ذاته. فقط عندما ينطلق التغيير التاريخىّ من عقاله تأتى النظريات والأيديولوچيات والأفكار لإرشاده. على أننا لسنا إزاء مرحلة زمنية للتغيير من تحت تأتى عند اكتمال عناصرها مرحلة النظرية المرشدة. والحقيقة أن النظرية الثورية تأتى من المثقفين وتتطور خطوة خطوة غير أنها تنتقل إلى مرحلة النظرية المرشدة لثورة عندما تلتقى بهذه الثورة فى سياق تطورها التاريخىّ، خطوة خطوة، وصولا إلى لحظة جديدة تنتقل فيها النضالات الاقتصادية الجماهيرية الواسعة إلى نضالات سياسية تاريخية مباشرة فى سبيل سلطة الدولة وتنتقل فيها النظرية إلى نظرية مرشدة لهذه الثورة لأنها صارت المكوِّن الرئيسىّ لوعى مناضليها، قياداتها وجماهيرها، حيث يصير الفكر سلاحا فكريا "ماديا" بمعنى أن الجماهير الواسعة صارت مسلَّحة به.
"الحلّ" إذن هو الثورة.
وكان رد "أوديب" عند سوفوكليس على لغز الإسفنكس هو أن حل اللغز هو الإنسان لأنه يحبو على أربع أرجل ثم يمشى على رجلين وأخيرا على ثلاث أرجل، حسب مراحل عمره، وكان رد "أوديب" أندريه چيد بأن حلّ اللغز هو الإنسان لأنه هو الحل لكل الألغاز. وبعيدا عن الكثرة الكاثرة من الأيديولوچيات المعاصرة من الفاشيات المزدهرة فى الغرب والأصوليات المزدهرة عندنا والتى تعلن كل أيديولوچيا وأىّ أيديولوچيا منها أنها هى الحل؛ يتمثل الحل التاريخىّ الحقيقىّ فى الثورة. لأن التغيير الذى تنشده الطبقات المستغَلَّة المقهورة التى تعتمد كل نظرة إلى التغيير على حركتها النضالية وحدها مهما كانت الثورة فاشية أو إسلامية أو شيوعية تقود بحكم منطقها الاجتماعىّ-الاقتصادىّ-السياسىّ-الثقافىّ إلى الثورة الاجتماعية معتمدة على الأيديولوچيا الوحيدة التى ترشدها بوصفها كذلك.
غير أن أوضاع العالم الثالث فى حد ذاتها وفى علاقاتها مع أوضاع العالم اليوم لا تترك فسحة للأمل فى الثورة مفسحة المجال واسعا أمام البربرية المتفشية الآن فى العالم الثالث وفى العالم كله.
وإذا كانت الثورة، قد بدت منذ لحظة بوصفها حلّ اللغز، فإنها تبدو الآن بوصفها اللغز الذى يحتاج إلى حلّ، لأن حالة العالم لا تُنْبئ بثورة فى المدى القريب والمتوسط، لا فى الغرب ولا فى الشرق، لا فى الشمال ولا فى الجنوب. ورغم أن الثورة ليست محالة إلى التقاعد الأبدىّ، فإنها ليست واردة على جدول العمل السياسىّ فى أىّ وقت قريب، ولا أعنى النضال الثورىّ الوارد دائما بل أعنى الثورة الاجتماعية الشاملة التى تشترط الشروط الموضوعية والذاتية. وإذا صحَّ أن الثورة ليست محالة إلى التقاعد وليست واردة فى مستقبل قريب أو متوسط أو منظور، فلا مناص من أنْ تنفتح هنا فجوة زمنية هائلة تمثل الخطر كله على شعوب العالم الثالث بالذات.
وهنا بطبيعة الحال أوهام هى بمثابة تعويذات متنوعة ضد الأخطار المحدقة. هناك مَنْ يتوهمون أن الإمپريالية العالمية لن تسمح بانقراض العالم الثالث فى سبيل الاحتفاظ به كشريك تجارىّ. غير أن مثل هذه الأوهام إنما تنبع من الجهل الفادح بأن التبادل التجارىّ العالمىّ صار يتركز فى التبادل بين الشمال والشمال حيث يتضاءل نصيب الجنوب أو العالم الثالث بصورة متواصلة.
والأخطر تلك الأوهام التى تنبع من الأيديولوچيات. فالكثير جدا من الماركسيِّين ينطلقون من تأكيدات نظرية عامة دون أنْ يكلفوا أنفسهم عناء النظر نحو الواقع الاجتماعىّ-الاقتصادىّ-السياسىّ-الثقافىّ الفعلىّ فى العالم الثالث. فَهُمْ يرون الثورة كما تؤكد النظرية وينسون شروطها التاريخية كما تؤكد النظرية أيضا ويتجاهلون الواقع الفعلىّ، ويواصلون بالتالى تفاؤلهم الساذج وحديثهم الساذج عن الثورة فى العالم الثالث متجاهلين الفجوة الزمنية الفاغرة فاها والتى تبدو بمثابة ثُقْب اجتماعى أسود يهدد بابتلاع العالم الثالث بأكمله. والثورة المنشودة لن تحدث إلا عند تواصُل بقاء البشر، وهذا البقاء ذاته هو الذى تهدده الأوضاع الراهنة.
وللأصوليات ومنها الأصولية الإسلامية أوهامها الواسعة. وإذا كان الإسلام هو الحل، فإن هذه الأصولية تتطلع أيضا إلى الثورة التى هى الحل. ولكن هل تستطيع الأيديولوچيا السياسية الإسلامية أنْ تقفز فوق الأوضاع الاجتماعية-الاقتصادية التاريخية فى سبيل إحداث ثورتها. وماذا عسى أنْ تكون الثورة الإسلامية؟ هل هى ثورة تغيِّر ضمير الإنسان المسلم بفضل الدعوة الدينية فتبقى فى الإطار الدينىّ الدعوىّ أم هى ثورة اجتماعية تتمثل أسلحتها المادية فى الحركة النضالية للطبقات العمالية والشعبية، وهى الثورة التى رأينا بوضوح عقبات عدم توفر الشروط الموضوعية والذاتية الضرورية لاندلاعها وانتصارها؟ وإذا كانت الأيديولوچيا السياسية الإسلامية تصلح كنظرية مرشدة لثورة سياسية، كما كان الحال فى ثورة الإمام الخمينى فى إيران منذ أكثر من ثلاثة عقود، فهل تصلح أيضا كنظرية مرشدة لثورة اجتماعية شاملة وليس لمجرد ثورة سياسية ضمن نفس النظام الاجتماعىّ الواحد فى نهاية المطاف؟
وهنا يظهر تناقض كبير بين الدين والسياسية.
الأديان فى جانب مهم من جوانبها بطبيعة الحال حامل للفضائل المنشودة فى حياة البشر، وهى بطبيعة الحال الفضائل التى بلورتها التجربة البشرية فى مسيرتها الطويلة. ومن هنا فإنه لا يمكن إنكار وجود دور لها فى الحياة الأخلاقية للبشر مع الاعتراف بأن البشر يظلون دائما قاصرين عن تحقيق تلك الفضائل فى سلوكهم فى الحياة. ولكنْ لماذا لا يتطابق هؤلاء البشر مع الفضائل التى تنطوى عليها تجربتهم البشرية وأديانهم ووثنياتهم؟ لسبب بسيط: لأن الأخلاق الفعلية فى الحياة رغم تأثرها بالفضائل الدينية (وهى نفس الفضائل البشرية التى انتقلت إلى الوثنيات والأديان والقوانين الوضعية) تنبع من منابع أخرى للسلوك: تتناقض الأخلاق الفعلية دائما مع فضائل الأخلاق المثالية لأنها تنبع من حياة البشر، من الحياة الاجتماعية الاقتصادية الثقافية التى تنعكس فيها مستويات التقدم التقنى والاجتماعىّ للبشر، وتنعكس فيها علاقات الاستعباد والاستغلال والقهر بين البشر، حيث يتوزع ضمير البشر بين القمع المادى والأيديولوچىّ والتمرد والمقاومة أو الاستكانة والخضوع. وقد أثبت تاريخ كل الأديان وكل الوثنيات وكل الحياة البشرية بكل الفضائل التى تدعو إليها أن الأخلاق الفعلية بخيرها وشرها لم تتطابق مطلقا مع المثل العليا للفضائل والأخلاق الدينية، وكان الانتصار دائما للأخلاق الفعلية التى لا شك فى أنها تنطوى على مبادئ لا تقوم بدونها حياة اجتماعية للبشر، وهذه المبادئ الأخلاقية البشرية ذاتها إنما هى بدورها مثل عليا لا يمكن أنْ تتطابق معها الأخلاق الفعلية للبشر.
وإذا كانت الأديان (وكذلك الفلسفات والقوانين) تقدم لنا، فى جانب من جوانبها، فضائل كبرى فى السلوك فى كل مناحى حياتنا، فى معاملاتنا الحياتية الأخلاقية والاقتصادية، فإن السياسة شيء آخر. السياسة هى علاقات الاستغلال والقهر المتواصلة كما تسجلها حوليات التاريخ البشرى بمداد من الدم والحديد والنار. فكيف يمكن أنْ نتصور أىّ توافق بين هذين النقيضيْن: الدين من جانب كونه دعوة إلى الفضائل ومكارم الأخلاق والسياسة كعلاقات استغلال وقهر بين الطبقات؟!
وإذا كانت السياسة هى العلاقات بين الطبقات الاجتماعية فإن الدولة هى الأداة التى تدير بها طبقة من هذه الطبقات تلك العلاقات، وهذه الأداة بحكم طبيعتها تحمى مصالح الطبقة الحاكمة وهى بطبيعتها مصالح استغلالية وقمعية وبالتالى فإن الدولة تقوم على إدارة العلاقات بين الطبقات لحماية الاستغلال وتكون أداتها فى ذلك هى القمع المنهجىّ، من خلال الأجهزة الإدارية والقضائية والپوليسية والتمثيلية والأيديولوچية للدولة.
إن استيلاء الأيديولوچيا السياسية الدينية على الدولة فى بلد من البلدان إنما يعنى أنْ تحلّ طبيعة الدولة محل طبيعة الدين، أىْ أنْ تسلك الأيديولوچيا الدينية كدولة فى يد الطبقة الحاكمة تحمى مصالحها وتقمع معارضيها الذين تعتبرهم أعداءها. ذلك أن ما يستولى على الدولة ليس الدين فى سماواته بل البشر على الأرض المنتمون إلى طبقات ومصالح الطامحون لإدارة الدولة لتحقيق مصالحها رغم المشاعر والرغبات والتصورات التى تملأ عقول وقلوب قواعد الحركات التى تتبنَّى هذه الأيديولوچيا الدينية السياسية والتى تتطلع إلى إقامة حياة عادلة على الأرض.
ولكنْ ألا يصدق الشيء ذاته على الثورة الاشتراكية أو الشيوعية والدولة النابعة منها؟ ألا يقوم نفس التناقض بين الأيديولوچيا والمثل العليا الشيوعية من جانب والدولة الاشتراكية التى تتأثر إلى حد ما بهذه الأيديولوچيا غير أنها تتأثر أكثر بالواقع الاقتصادىّ والطبقىّ التاريخىّ الموروث والقائم وبالصراع الطبقىّ المحتدم رغم مزاعم الانسجام؟
والحقيقة، كما أثبت تاريخ الدولة الإسلامية فى أزهى عصورها، عصور الحضارة العربية الإسلامية، وكذلك تاريخ الخلافة العثمانية، وفى العصر الحديث (إيران)، هى أن الأيديولوچيا السياسية الإسلامية، السنية أو الشيعية، يحوّلها الواقع الاجتماعىّ-الاقتصادىّ إلى عامل من عوامله، أىْ إلى التعبير عن سيطرة وتسلط طبقة حاكمة على بقية الطبقات، وعلى البلدان المجاورة من خلال الفتوحات. ولم نر أىّ نتيجة أخرى تتمثل فى تحرير حياة الإنسان المسلم الذى تواصلت معاناته وتواصل شقاؤه فى سياق علاقات القهر والاستغلال.
ويمكن القول إن الشيء ذاته أثبته (فى حدود تجارب القرن العشرين فقط بطبيعة الحال) تاريخ العلاقة بين الأيديولوچيا الشيوعية والدولة الناشئة عن الثورة البلشڤية. وعندما انقلب العالم الذى ظل يُعْتَبَر عالم الاشتراكية (الاتحاد السوڤييتى وأوروپا الشرقية والصين وبلدان أخرى فى آسيا وأمريكا اللاتينية) واتضحتْ بجلاء الحقيقة الرأسمالية-البيروقراطية لذلك العالم الشيوعىّ أو الاشتراكىّ صار من السخف ألا نعترف بأن التناقض بين المثل العليا للأيديولوچيا الشيوعية والواقع التاريخىّ للدولة التى تنشأ عما سُمِّىَ بالثورة الاشتراكية. فهل كانت تلك ثورات اشتراكية؟ وهل تحققت فيها شروط الثورات الاشتراكية عند اندلاعها أصلا؟ وهل تحققت السيرورة الاشتراكية بعد انتصار الثورة؟
وها هى الثورة الاشتراكية تتحول إلى لغز! وها هى دولتها تتحول إلى لغز!
ونعلم جميعا أن الفوضوية، أو اللاسلطوية كما يفضل تسميتها بعض مناضليها، تقف موقف الرفض من دولة يفوضها التاريخ بالقيام بمهمة تحويل المجتمع الرأسمالىّ إلى مجتمع شيوعىّ. وفى منافشة دارت بينى وبين عدد من المناضلين الفوضويِّين أو اللاسلطويِّين بمدينة پيزا، إيطاليا، منذ أكثر من عام ونصف، فى مكتبة عامرة بالمؤلفات الفوضوية وغيرها وتضم مخطوطات أصلية لكبار مفكريهم، وجدتُ منهم الرفض الكامل لفكرة حزب سياسىّ يعمل فى سبيل قيادة ثورة يتم تنظيمها فى دولة لتحقيق الشيوعية. وقلت لهم إنه ينبغى النظر إلى المستقبل بقدر ما يتعلق الأمر بالفوضويِّين والماركسيِّين على أنه مستقبل يختلف عن الماضى. فالفوضوية شيوعية والماركسية شيوعية وتدور نقطة الاختلاف الكبرى حول فكرة الدولة، وسيكون من الخطأ بعد تجربة الثورات المسماة بالاشتراكية خلال القرن العشرين والدول التى نشأت عنها وإعادة إنتاجها للرأسمالية من خلال سيطرة الدولة والبيروقراطية أنْ نتصور أن الماركسية سوف تحتفظ بنظرياتها عن الدولة والثورة كما هى، فالنضال فى سبيل الثورة سيكون نضالا طويلا ناضجا على العكس من الثورة البلشڤية وبالتالى ستكون الثورة أعمق وجماهيرها أوسع وأنضج وعيا وبالتالى فإنها لن تعتمد على دولة بنفس المواصفات اللينينية أو الستالينية أو الماوية، وستغدو العلاقة بين الدولة والديمقراطية مختلفة تماما عن كل شيء تحدث عنه الماركسيون أو توقعوه أو حققوه. ورغم أننا لا نعلم المدى الذى سيصل إليه هذا التطور فإننا على كل حال إزاء خطوة مهمة للغاية سوف تقطعها الماركسية بعيدا عن الدولة، الأمر الذى ينطوى على احتمال تقارُب من نوع مّا بين الماركسية والفوضوية، ولعل مما يدل على هذا التقارب الآن تلك الأشكال الهَجينة التى تجمع بين الماركسية والفوضوية. وأعتقد أن على الماركسيِّين أنْ يبدأوا مناقشة معمقة تاريخية بمعنى الكلمة حول الثورة والدولة، حول كل منهما وحول علاقاتهما حتى يكون السير إلى الأمام ممكنا.
وإذا عدنا إلى الكتاب الذى أقدمه للقارئ فإن إحدى حسناته الكثيرة تتمثل فى أنه بعيدا عن الأمانىّ والأوهام والتفاؤلات الساذجة، يلفت نظرنا إلى أهمية الحساب. ولم يتناول الكتاب ظاهرة إلا واستغرق فى حساب مختلف احتمالات متغيراته، على سبيل المثال: الإثنية والانفصال؛ فمتى تندفع إثنية أو حركة إثنية فى طريق الانفصال، ومتى تكون محاولتها ناجحة ومتى تفشل، وما علاقة هذا بوضع يتميز بعدد قليل من الإثنيات المتناظرة القوة أو بوضع يتميز بكثرة من الإثنيات مع إثنية مسيطرة أو إثنيتين مسيطرتين، وكيف يكون حساب ميزان الأفضلية/المزايا، فى المفاضلة بين البقاء ضمن إطار دولة قومية متعددة الإثنيات أو الانفصال عنها، وما علاقة المساواة أو اللامساواة الاقتصادية بذلك، ومتى تكون أشكال من النضال المسلح واردة ومتى تكون غير واردة؟ كذلك فإن جدل الاستقرار وعدم الاستقرار وشروط حظوظ كل منهما قضايا تخضع للحساب الدقيق، مثل كل القضايا والظواهر والتطورات الأخرى التى يبحثها الكتاب، ولهذا يكون تقييم مختلف نظريات العالم الثالث من حيث مزاياها ونقاط ضعفها على أساس مثل هذه الحسابات الدقيقة لمعطيات الواقع ومتغيراته بالمقارنة مع تفسيراتها، ولهذا أيضا فإن الديمقراطية، أو التبعية، أو الاستغلال، أو التدخل العسكرىّ الداخلىّ أو الأجنبىّ وكل عنوان آخر (عشرات العناوين فى الواقع) لا يرد العنوان الواحد منها فى مكان واحد أو فصل واحد عند تناول موضوعه بل يتكرر كل عنوان عند تناول كل عنوان آخر، لأن كل هذه الظواهر المتعددة إنما هى تجليات وعوامل ومتغيرات الكل الواحد المتمثل فى الحياة الاجتماعية-الاقتصادية-السياسية-الثقافية للبشر على الأرض، حيث تؤثر كل ظاهرة فى كل ظاهرة أخرى وتتأثر بها، وحيث يكون المركز فى كل نقطة كما يمرّ المحيط من كل نقطة على العالم ككل وعلى كل ظاهرة فى سياق تطورها. إن هذا الحساب الدقيق للعوامل والمتغيرات عند بحث كل تطور اجتماعىّ-اقتصادىّ يختلف تماما عن عالم الأوهام الذى يعيش فيه كثير من مثقفينا الذين اعتادوا تسجيل المبادئ والمواقف والشعارات متجاهلين ضرورة بحث المسار الفعلىّ للتطورات. وما يميز حسنين هيكل بالذات عن كل مثقفينا اليساريِّين جميعا تقريبا، رغم تكوينه الفكرىّ الغربىّ، هو أنه ينكبّ على تحليل الواقع العينىّ ومساره العينىّ منتهيا بثقة إلى تنبؤات تصيب كثيرا وتخيب قليلا، على حين لا يقوم يساريونا إلا بالشجب والإدانة وإعلان المبادئ وترديد الشعارات دون أدنى اجتهاد.
ويذكر المؤلف فى مقدمته، كما سنرى بعد قليل، أنه فى هذه الطبعة الثالثة من طبعات كتابه (طبعة 2009)، حذف الفصل الخاص (فى طبعتيْه السابقتين) بنظريات الإمپريالية والكولونيالية الذى حلَّل تفسيرات العلاقات بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة التى صارت حاليا ذات أهمية تاريخية، إلى حد كبير، إذْ حلت محلها أشكال الاستعمار الجديد، موضوع الفصل الجديد (الفصل 3). والحقيقة أن الكتاب لا يتجاهل الشروط التاريخية لنشأة العالم الثالث تماما غير أنه لا يبحثها كما ينبغى للسبب الذى ذكره، أىْ لأن تلك الشروط لم تَعُدْ لها سوى أهمية تاريخية، فى نظره، أو لأنه لا يمكن القول إن الحالة الراهنة للعالم الثالث تفسِّرها الكولونيالية التى سيطرت على أراضيها وشعوبها فى مرحلة تاريخية سابقة فى نظر المؤلف أيضا.
على أن بحث التاريخ لا يمكن أنْ يصير "ذا أهمية تاريخية"، خاصةً إذا كان تاريخا كبيرا إلى هذا الحدّ وقريبا إلى هذا الحدّ. ومن بين الاحتمالات النظرية والتاريخية أنْ يكون ذلك التاريخ قد وضع العالم الثالث داخل شروط موضوعية لا مخرج جذرىّ منها إلا على سبيل الاستثناء القابل للتفسير بشروط جديدة تقوم بتحييد تلك الشروط الموضوعية التاريخية الموروثة.
والقصة باختصار شديد هى أن الدول الاستعمارية الأوروپية مع بداية دخولها المرحلة الرأسمالية قامت بفتح أراضى وشعوب ما يسمى الآن ببلدان العالم الثالث (فى القارات الثلاث) والتى كانت قد تأخرت عن الوصول إلى المرحلة الرأسمالية. وفى هذه الحالة نجد دولا (خاصةً إنجلترا وفرنسا وقبلهما إسپانيا والبرتغال وهولندا) تسير بخطى حثيثة على طريق الثورة الصناعية والرأسمالية والإمپريالية استعمرتْ بلدانا متأخرة أىْ قبل-رأسمالية وحوّلتها إلى مستعمرات وأشباه مستعرات وأخضعتها لعلاقات الاستغلال والنهب والقهر والاستعباد. كانت الدول أو البلدان الأخرى قابلة لأنْ يتمّ غزوها وفتحها واستعمارها فصارت مستعمرات، بسبب التقدم الرأسمالىّ المتواصل فى البلدان الاستعماريّة والوضع قبل-الرأسمالىّ الذى تواصل ترديّه وتدهوره فى ظل السيطرة الاستعمارية. ولا شك فى أن الدول الاستعمارية تقوم من خلال سيطرتها بإدخال أشكال وأنواع من التقدم فى أوضاع المستعمرات. ذلك أن السيطرة الاستعمارية كانت تعنى فى حد ذاتها قيام الدول الاستعمارية والرأسمالية بوجه عام بتصدير السلع الصناعية إلى المستعمرات واستيراد المواد الأولية منها وتصدير رؤوس الأموال إليها (لاستثمارها فى شروط تحقق أقصى الربح فى المستعمرات) وكذلك البشر (سواء بصورة مستديمة من خلال الاستعمار الاستيطانىّ أو بصورة مؤقتة بالأعداد الكافية للإدارة الاستعمارية والنشاط الاقتصادىّ والغزو الثقافىّ فى كل مستعمرة). وهكذا يأتى الاستعمار الكولونيالىّ ثم الإمپريالىّ (منذ بداية القرن العشرين) إلى المستعمرات بالحضرنة والمدن الحديثة والمواصلات الحديثة والكهرباء والأجهزة والمعدات الحديثة الصناعية والزراعية والخدمية وغير ذلك. ولا يمكن تصوُّر الجوانب الحديثة للحياة فى العالم الثالث بدون صعود الحضارة الرأسمالية فى الغرب بكل منجزاتها ومخترعاتها وكذلك بكل توسُّعها. ونكون هنا إزاء علاقة فاعلية ومفعولية بصورة بالغة النقاء فى المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية. وهنا نرى بوضوح كيف يُعيد الغرب الرأسمالىّ خلق باقى العالم على صورته، وليس المقصود بحال من الأحوال تحويل باقى العالم إلى الرأسمالية بل فرض علاقات السيطرة والخضوع والتبعية على باقى العالم وتعنى إعادة خلقه على صورة الغرب إعادة خلقه بما يتلاءم مع سيطرة الغرب ومصالحه وأهدافه، مع الاحتفاظ به بكل الوسائل فى إطار التبعية ومنعه من التقدم الرأسمالىّ الشامل لأن تخلفه شرط لاستمرار السيطرة عليه واستغلاله ونهبه. وهنا يحدث تطور بالغ الأهمية فيما سُمِّى فى مرحلة تالية بالعالم الثالث (أىْ عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات فى السابق): ثورة سكانية بدون ثورة صناعية وتستفحل هذه الظاهرة التى تكون فى مرحلة أولى نعمة (بالقياس إلى تكوين شعوب كبيرة نسبيا فى المستعمرات مع حياة حديثة أو شبه حديثة) وتنقلب فى مرحلة تالية إلى نقمة حقيقة (حيث يعيش مليارات البشر بدون اقتصاد حقيقىّ تقريبا فى ظروف من سوء التغذية والجوع والمجاعات والفقر والحروب الأهلية والتدخلات الإمپريالية).
وهكذا تنغلق الآفاق أمام حاضر ومستقبل هذه البلدان. ولم تمثل الاستقلالات والتنميات مخرجا جذريا من هذه الحالة، الحالة العالم-الثالثية. فالتنميات لم تكن تنميات اقتصادية واجتماعية وثقافية شاملة تقوم على الصناعة وثمارها على الزراعة والمجتمع والتحديث الثقافىّ. والنتيجة إخفاق التنميات والدخول فى مرحلة من التراجع التاريخىّ على كافة المستويات الاجتماعية-الاقتصادية-الثقافية. ومع هزال التنميات وإخفاقها تستمر وتتواصل وتتفاقم وتستفحل التبعية الاستعمارية لهذه البلدان التى يبقى استقلالها مجرد استقلال قانونىّ ودستورىّ إذْ تظل سياستها أيضا تابعة.
وتتواصل هذه الثمرة الخبيثة التى كانت محصلة للتفاعل بين عمليتين متزامنتين هما عملية وصول بلدان غربية إلى الرأسمالية أولا وبالتالى سيطرتها على باقى العالم، وعملية استمرار المجتمعات والاقتصادات والتكوينات السياسية والثقافية قبل-الرأسمالية، وهى عملية إعادة إنتاج للتخلف والتدهور، فى باقى العالم، الذى يصير موضوعا للفتح والغزو والسيطرة.
ومن الخطأ اعتقاد أن هذا التاريخ غير البعيد ليس له سوى أهمية تاريخية، لسبب بسيط هو أن الوضع الناشئ عن الفتوحات الاستعمارية لا يكاد يترك منفذا للخروج منه، والدليل الدامغ هو إخفاق الاستقلالات والتنميات واستمرار التبعية الاستعمارية فى العالم الثالث.
على أن انقسام العالم خلال أكثر من نصف قرن فى القرن العشرين إلى غرب رأسمالىّ وشرق شيوعىّ كما تصوره الغرب وكما تصوره العالم الثالث أيضا فتح فى الواقع الفعلىّ حينا وفى عالم الأحلام الوردية أحيانا إمكانات وفُرَصًا أمام بلدان العالم الثالث، ليس فقط فى حدود اللعب على الحبال دون إحداث قطيعة مع علاقات التبعية، بل أيضا فى الأفق الأوسع للتحول الاجتماعىّ التاريخىّ فى بعض البلدان بعيدا عن التبعية أو تحسينا لشروط التبعية.
وهنا قصور فادح فى الكتاب الذى أقدمه إلى القارئ. فرغم تركيزه العميق للغاية على التنوُّع البالغ القائم بين بلدان العالم الثالث فإنه يحاول الابتعاد عن تمزيقها إلى مجموعات أبعد من مجموعات الدخل ومعدل النمو ونصيب الفرد كما تقدمها المؤسسات الاقتصادية الدولية. ويؤدى به هذا إلى تجاهل بلوغ التنوع فى بعض الحالات إلى الاختلاف العميق الذى قد يفتح الباب للخروج من خصائص وسمات مصير العالم الثالث بالنسبة لبعض البلدان. ورغم الاختلاف المعترف به بين بلدان أفريقيا جنوب الصحراء من ناحية والنمور الآسيوية القديمة والجديدة من ناحية أخرى، يتجاهل المؤلف أهمية بحث المصائر المحتملة لهذه النمور أو التنانين بعيدا عن قَدَر العالم الثالث ومصيره.
ويبدو الوضع الخاص للنمور، بانفلاته المتحقق أو المحتمل من مأزق الحالة العالم-الثالثية مناقضا تماما للقفص الحديدىّ الذى وضع فيه الاستعمار الكولونيالىّ والإمپريالىّ العالم الثالث بلا مخرج محتمل منه. غير أننى أشرتُ فيما سبق إلى الاستثناء. ذلك أن أوضاعا تاريخية خاصة ترتبط بالأزمات الكبرى للرأسمالية العالمية من جانب وبظروف خاصة فى بعض مناطق العالم من جانب آخر، يمكن أنْ تؤدِّى إلى سير بلدان تنتمى تاريخيا إلى عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات أو حتى العالم الثالث نحو الرأسمالية بلا نعوت من خلال دروب خاصة.
وإذا كانت بلدان عديدة قد تأخرت عن رأسمالية أوروپا الغربية ثم لحقت بها مثل ألمانيا وروسيا وإيطاليا والياپان وغيرها، وهى بلدان لم تكن من مستعمرات الغرب الرأسمالىّ، فإن النمور القديمة والجديدة تمثل مجموعة جديدة تسير فى نفس الطريق رغم أنها لم تَعْبُرْ بَعْدُ بصورة حاسمة كل الحواجز والعقبات التى تعترض سبيل صيرورتها الرأسمالية، ولم تكن هذه البلدان، مستعمرات وإنْ كانت فى وقت ما أشباه مستعمرات، بأغلبيتها أىْ واقعة بوجه عام تحت التأثير الاقتصادىّ والسياسىّ والثقافىّ العميق للكولونيالية والإمپريالية دون احتلال عسكرىّ مباشر أو إدارة استعمارية مباشرة.
وتمثل التجربة الصينية الماوية الكبرى، أىْ الثورة الفلاحية بقيادة ماركسية تهدف إلى الاشتراكية والشيوعية، التقاءً فريدا بين هذا الظرف التاريخىّ فى تلك المنطقة من العالم والظرف التاريخىّ الدولىّ المتمثل فى وجود الاتحاد السوڤييتىّ وقوته الاقتصادية والسياسية والعسكرية وتحت نفس الرايات الماركسية والشيوعية. ومن الناحية الموضوعية فإن بلدا رأسماليًّا كبيرا وقويًّا وجديدا على المسرح الدولىّ، وجديدا فى كونه تكوينا رأسماليا ناشئا عن ثورة رأسمالية ذات قيادة ماركسية وشيوعية ساعد الصين الشبيهة بروسيا من نواح عديدة وبالأخص من حيث الثورة الشعبية ذات المحتوى الرأسمالى والقيادة الشيوعية على تفادى الوقوع تحت السيطرة أو التبعية الاستعمارية الجديدة، وبناء دولة رأسمالية عملاقة توشك على إعادة صياغة العلاقات الاقتصادية والسياسية الأساسية فى العالم، وتوشك على الدخول كقوة حاسمة فى عالم متعدد القطبية.
وبطبيعة الحال فإن الأراضى الصينية الأخرى مثل تايوان وهونج كونج وكذلك كوريا الجنوبية سارت فى طريق التطور الرأسمالىّ من دَرْب آخر هو درب الالتقاء بين ظروف هذه البلدان التى كان يلقيها الخوف من الصين وروسيا والشيوعية فى أحضان الولايات المتحدة الأمريكية التى كانت تتلمظ على إدخالها فى برنامجها لتطويق وحصار الصين والاتحاد السوڤييتى ليس فقط عسكريا، بل أيضا من خلال خلق واجهات أو "ڤتارين" رأسمالية متقدمة ومتوهجة (رغم الديكتاتوريات التابعة فى هذه البلدان)؛ وذلك على العكس من التوجه الرأسمالىّ العالمىّ العام: عدم السماح (بكل الوسائل) لباقى العالم بالتحول إلى الرأسمالية الحقيقية أو إلى الاشتراكية والشيوعية. وإذا كان الغرب الرأسمالىّ قد ساعد بقوة على انهيار كل تطور محتمل نحو الاشتراكية والشيوعية، ونجح أيضا فى منع تطور باقى العالم إلى الرأسمالية، فقد فشل فى منع تحول الصين إلى الرأسمالية، وساعد بنفسه فى تطور رأسماليات أخرى ابتلعتْها الصين (هونج كونج) أو ستبتلعها (تايوان)، بالإضافة إلى كوريا الجنوبية.
وبدلا من هذا نجد الصين فى هذا الكتاب فى قائمة واحدة مع السعودية، ومع زامبيا، ومع السودان، وغيرها، تحت عنوان واحد مضلِّل هو العالم الثالث.
وتبقى ملاحظة أخيرة على الكتاب.
فى سياق بحثه العميق للعالم الثالث من حيث التفسير والتغيير، والاستقرار وعدم الاستقرار، والعوامل المتنوعة المؤدية إلى حفز أو تثبيط الثورة، لا يجد المؤلف، محقا فى ذلك كل الحق، أفقا قابلا لمجرد النقاش سوى عملية الدَّقْرَطة فى العالم الثالث، على أن هذا النقاش بدوره سلبىّ ففى عالم الاستغلال، واللامساوة الاقتصادية، والقمع، والانقلابات والتدخلات العسكرية الداخلية والخارجية، والبيروقراطيات والدول المفرطة النمو، والحروب الأهلية، والحركات الانفصالية، والأصوليات والإثنيات المتناحرة، والثقافات قبل-الرأسمالية، وغير ذلك، لا تستطيع الدَّقْرَطة أنْ تكون عملية عميقة ناجحة.
وهنا لا تبقى سوى الأخطار الكئيبة التى تُحْدِق بالعالم الثالث، ولا يتجاهل المؤلف تلك الأخطار التى يدركها جيدا ويتناولها كتابه دون مواربة.
غير أن هذا لا يكفى. لا يكفى أنْ نتحدث عن الأخطار البيئية والأوبئة والمجاعات والحروب الأهلية واستفحال الفساد وتدهور الرعاية الصحية وتفشى الفقر والجهل والمرض. لا يكفى الحديث عن هذه الأخطار وكأنها وضع فظيع دائم وثابت يسبب المعاناة والشقاء فى عالمنا الثالث. فالوضع الراهن ينبغى النظر إليه من زاوية تغيُّره ومستقبله، فإذا كان هذا الوضع لا يتحسن ولا يتطور ولا يتقدم فإنه لا يظل على حاله. إن عدم السير إلى الأمام يعنى التراجع إلى الوراء. وعندما نتحدث عن التهميش طوال عقود طويلة فإن الاستمرار فى الحديث عن التهميش يصير مضلِّلا للغاية. وإنما يقود المزيد من التهميش المتواصل إلى أشكال قصوى من التدهور والانهيار. وهنا تندمج الأخطار المتنوعة التى نتحدث عنها خطرا خطرا فى خطر كبير واحد مؤداه الانهيار والانقراض.
والحقيقة أنه قد يكون من الأدب والتهذيب أنْ نكفّ عن إيلام الناس بالحديث عن الأخطار القصوى، غير أن الحديث عنها بكامل أبعادها هو الذى يمكن أنْ ينقذ منها، وإنْ بصفة جزئية، وبدلا من دفن رؤوسنا تحت الرمال ينبغى أنْ نَنْتَبه ونُنَبِّه إلى الأخطار القصوى المُسْلَطة فوق رؤوسنا مثل سيف ديموقليس. ولعل هذا أنْ يدفعنا إلى التفكير العميق، والبحث العميق، على كافة المستويات للتوصُّل إلى مخرج حقيقىّ، قبل أنْ نصل إلى نقطة اللاعودة. وينبغى أنْ ندرك جيدا أنه يوجد شيء اسمه نقطة اللاعودة.
وأنا شخصيا لا أعرف مَخْرَجا حقيقيا مما نحن فيه! وأعتقد أن ما يواجهنا فى عالمنا الثالث هو هذا التحّدى: التحديث الشامل السريع، الصناعىّ والثقافىّ، فى سباق مع الزمن، أو الانقراض، فهل نكون على مستوى التحدِّى؟! ولكنْ مَنْ المفوَّض تاريخيا بتحقيق هذا التحديث الشامل: الطبقات الاستغلالية التى تقهر الشعوب أم الطبقات العاملة المضطهدة والمقموعة والمقهورة وبالأخص غير المسيَّسة وغير الواعية فكريًّا؟! والطبقات من النوع الأول تدفعها مصالحها وبالأحرى جهلها حتى بمصلحتها فى الاستمرار بعيدا عن التحديث الرأسمالىّ الشامل والطبقات من النوع الثانى مقهورة ومقموعة رغم حركاتها الاقتصادية والإضرابية مع أن مصالحها التاريخية تتمثل فى الاشتراكية فيما تتمثل مصلحتها المباشرة على الأقل فى مجرد البقاء فى سياق أىّ تقدم منقذ حتى وإنْ كان فى إطار نظام رأسمالىّ حقيقىّ. ذلك أن ما ينقذ العالم الرأسمالىّ فى الغرب أو الشمال ليس سوى الرأسماليّة المتقدمة رغم استغلالها وقهرها لشعوب الغرب مهما كان ما ينقذ مستقبل شعوبها يتمثل فى الاشتراكية والشيوعية.
27 أكتوبر 2010



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها تقديم للمؤلف خليل كلفت
- كتاب: النظام القديم والثورة الفرنسية
- الثورة المصرية الراهنة وأسئلة طبيعتها وآفاقها
- الديمقراطية .. ذلك المجهول!
- خواطر متفرقة من بعيد عن الثورة العربية
- الحزب الحاكم القادم فى مصر
- الحرب الأهلية فى ليبيا ... تحفر قبر نظام القذافى
- لا للتعديلات الدستورية الجديدة (بيان) بيان بقلم: خليل كلفت
- يا شعب مصر ... إلى الأمام ولا تراجع ... التراجع كارثة
- لا للتعديلات الدستورية فى مصر
- مفهوم النحو (مقدمة عن العلم وموضوعه ( مقدمة بقلم: خليل كلفت ...
- المادة الثانية من الدستور المصرى الدائم (دستور 1971) والعلاق ...
- بين الثورة السياسية والثورة الاجتماعية مقدمة خليل كلفت لترجم ...
- ماذا يعنى حل مجلسى الشعب والشورى؟ [فى مصر]
- الشعب المصرى يريد إسقاط النظام
- ثورة تونس نحو الاستقلال الحقيقي والتنمية الحقيقية


المزيد.....




- السوريون في تركيا قلقون من نية أردوغان التقارب مع الأسد
- بعد القطيعة.. هل هناك أمل في تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق؟ ...
- ضابط أوكراني: نظام كييف تخلص من كبار مسؤولي أمن الدولة عام 2 ...
- رئيسة البرلمان الأوروبي: ما يحدث في ألمانيا اختبار حقيقي لأو ...
- مباشر: قتلى وجرحى في ضربة إسرائيلية على مبنى سكني وسط بيروت ...
- أوكرانيا تطلب من حلفائها الغربيين تزويدها بأنظمة دفاع جوي حد ...
- غارات إسرائيلية مكثفة على وسط بيروت والضاحية
- أوكرانيا تطالب الغرب بأنظمة دفاع جوي حديثة للتصدي لصواريخ رو ...
- عشرات الشهداء والجرحى بقصف إسرائيلي على مناطق متفرقة من غزة ...
- كيف يواصل الدفاع المدني اللبناني عمله رغم التهديدات والاستهد ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - مقدمة خليل كلفت لترجمته لكتاب: -كيف نفهم سياسات العالم الثالث (نظريات التغيير السياسى والتنمية) تأليف: بى. سى. سميث-