حيدر السعدي
الحوار المتمدن-العدد: 3496 - 2011 / 9 / 24 - 13:29
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الاحتلال الديني للعراق
بعد فترة اغتراب ليست بالقصيرة امتدت لخمس سنوات شددت الرحال قاصدا ذلك البلد الذي يحلو لي تسميته وطني (العراق) بدافع الحنين و الاشتياق الى تلك المحلة الفقيرة حيث ولدت و ترعرعت و الى اهلي و هم لي وطن داخل ذلك الوطن , استغرقت الرحلة ثلاثة ايام من مدينتي الى العاصمة ثم الى ابو ظبي و منها الى بغداد. اول ما اصابني بالخيبة موقف حدث في مطار ابو ظبي عندما توجهنا الى البوابة المقرر لنا الخروج منها الى الطائرة و رأيت ابناء العراق كيف يتدافعون و لا يعرفون حتى ما معنى الصف و الوقوف بالدور و كأنما لن يبقى مقعد في الطائرة و سيبيتون في المطار... شعوب العالم بلا استثناء رأيتهم في المطارات و في غيرها يحترمون الصف الا العرب و العراقيون بالاخص...سألت نفسي , الذي سافر و احتك بالحضارة و بالاخرين يتدافع هكذا فكيف بالامي الذي لم يخرج من منطقته؟؟
استغرقت الرحلة ساعتين و نصف و لامست عجلات الطائرة ارض القاعدة الامريكية المسماة مطار بغداد , و لا حاجة لذكر الهرج و المرج الذي عم الطائرة, انتظرت انا و اصدقاء لي الناس حتى نزلوا و توجهنا بدورنا الى باب الطائرة و هناك استقبلنا لهيب حار و كأننا الى جهنم داخلون , عبرنا الممر المتسخ الجدران و كان من الافضل عدم النظر الى الارضية لما تحمل من اثار لبقع من مختلف الاحجام و الالوان , بعد ختم الجواز دخلنا الى قاعة بابل كان الاولى ان تسمى بأي اسم اخر الا قاعة استقبال و الامر من ذلك على اسم بابل تلك المدينة العظيمة.
توجد ثلاثة او اربعة عربات لحمل الحقائب قديمة تكاد لا تسير , من الجيد ان لحقيبتي عجلات... لا وجود لوالدي و لا لاقاربي لان ابناء الشعب ممنوع عليهم دخول القاعدة الامريكية (مطار بغداد) الا بسلطان! ركبت سيارة اوصلتني الى ساحة عباس بن فرناس و نصبه الذي اكتسى بغبار و اوساخ اكثر من وزن البرونز المصنوع منه و هناك وجدت والدي بانتظاري و لكم ان تتخيلوا الموقف بعد هذه السنين...
ركبنا السيارة متوجهين الى المنزل و تمر امام عيني تلال من الانقاض و الازبال و الاسلاك الشائكة و دخان هنا و حريق هناك و اثار طلقات على جدران المباني وصلنا اول حي سكني و بالكاد يرى من خلف الاسوار الخرسانية المليئة بثقوب الرصاص... قال والدي هذه اثار القتال الطائفي..
وصلنا المنزل و كان اللقاء مع امي اكثر عاطفية فقد سال دمعي و انا انظر الى ذلك الوجه الملائكي الذي ابعدني عنه دهري , دخلت المنزل و جلست في الصالة حيث كنت العب صغيرا و ارسم في ما مضى و ارى على السقف اثار رصاصة اخترقت الزجاج و استقرت هناك و ايضا جاء الجواب هذا اثر من فترة الطائفية...حتى اجبر اهلي على الخروج من مسكنهم و استئجار بيت بائس باجار مرتفع في منطقة و عدت بتأمين الحماية لهم لا لذنب اقترفوه سوى انهم لا يؤمنون بالعنف و لا يطرقون اليه سبيلا.
في اليوم التالي خرجت ارى بغداد الرشيد , اول ما واجهني تل من النفايات و روائح لا تطاق و لهيب شمس و كأنها اعدت للكافرين اسير و ارى قناني الماء و العصائر و علب السكائر من كل صنف و لون مرمية على طول الطريق ذات اليمين و ذات الشمال مللت المنظر المؤلم فرفعت نظري الى اعلى لأرى السماء و قد حجبت بشبكة من الاسلاك الممتدة من المولدات الى المنازل و التي امسكت بعشرات من اكياس النايلون و من بين الاسلاك تلمح لون السماء و قد تحول من ازرق فاتح كما نعرفه الى لون مغبر متشح بسواد دخان يتصاعد من كل حي بسبب حرق النفايات و بسبب مولدات الكهرباء .
قلت في نفسي لعل مركز بغداد حاله افضل من اطرافها فتوجهت الى الجادرية و منها الى الكرادة لا تحسن في الصورة لا بل ازدحام السيارات الخانق و كثرة السيطرات التي لا تفعل شيئأ سوى تأخير الناس و رفع ضغط دمهم كل هذا زاد الطين بله!
رأيت مواقف لا تعد و لا تحصى لكني سأبين لماذا اعتقد بأن الدين محتل بلادي , اكثر البسطاء من المتدينين لا يأكلون لا اللحم و لا الدجاج و لا السمك المذبوح في المذابح الخاصة معتقدين بحرمته لذا يتجهون الى المسالخ للذبح و هي منتشرة في كل مكان و بلا شروط للصحة و النظافة و الذوق العام , دخلت احداها لارى ما يوجد هناك , اصبت بالغثيان و تقيأت من شدة الرائحة النتنة و المنظر المقزز , هذه العادات المشينة الغير حضرية ناتج مباشر للدين و رجاله الذين حرموا اكل دجاج المصلحة و لم يحرموا هذه الوساخة و هذه النتانة.
الامر الاخر و هو اغتيال الديموقراطية في العراق من قبل اصحاب اللحى , فالانسان البسيط لم ينتخب من يعتقد انه جاء لمصلحته و ان اخفق سيسحب الناخب البساط من تحته بل انتخب من اشاروا اليه به اصحاب اللحى.
الحالة الثالثة ان الدين سبب رأيسي في رضى العراقي عن نفسه بالرغم من كل يعانيه و ما يحيط به من ازبال و اوساخ و بالرغم من كل عاداته السيئة و غير الحضرية و الجهل المدقع الذي يعيش فيه فهو راض عن نفسه لانه يقيم الصلاة في وقتها و يجوع نفسه طيلة شهر رمضان يزور الاضرحة و يعلق صور الائمة و يصدح القران في محله و سكنه , فلو انتشرت بين ابناء الشعب بأن التفاضل بينهم و الوصول الى مرحلة الرضى عن الذات ليس بالطقوس و البخور و انما بالتحضر و الاحترام في التعامل و التعلم و القراءة و التثقف و النظافة في الماكل و المشرب و الملبس لما كان حالهم كما هو عليه الان.
الحالة الرابعة هنالك اختراع مفيد اسمه المنبه , يمكن بمساعدته معرفة اوقات الصلاة و السحور و الفطور و الى اخره لما كل مكبرات الصوت القوية هذه تصدح 24 ساعة من كل اتجاه؟ منطقة صغيرة بها ثلاث مساجد و حسينيتين!! و كل يؤذن على حدى و في غير تزامن حتى يكاد المرء يكره اليوم الذي ولد فيه طيلة الخمس دقائق التي يجهرون فيها و مطبل السحور هذا له قصة اخرى ففي الثالثة ليلا و هو يطبل عند النافذة و كأنه يعلن الحرب على اعداء الله!
الحالة الخامسة تحول اماكن العبادة من معابد جميلة الزخرفة طيبة الرائحة يسودها السكون و الطمأنينة الى اوكار للمشعوذين و الدجالة و مغذي الفتن الطائفية و المذهبية و القتلة بأسم الدين و الله و المذهب محاطة باسوار و اسلاك و محمية بسيارة جيش عند المدخل و قبح في البناء و خلوها من الزخرفة و النقوش الجميلة حتى فقدت هويتها و الغاية المبنية لاجلها.
و حالات اخرى بالعشرات لا بل بالمئات كلها يقف ورائها اصحاب اللحى و المتنفعون على حساب الناس باسم الله و الدين , تراجع في كل المجالات الا في بيع دسكات اللطم و القران و الحديث و القرايات , رأيت بغداد اسيرة حزينة وسخة , صورة تدمي القلب و تبكي الناظرين, شهرين في وطني و لم استطع البقاء اكثر فشددت الرحال و عدت مرة اخرى الى برد الغربة و ارض الكافرين النظيفة و الجميلة و بات عندي اعتقاد راسخ بأن العراق لن ينهض و هو يهرول و بسرعة الى الهاوية و ارجوا ان يكون اعتقادي خاطئا.
#حيدر_السعدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟