|
القابض على الجمر
باسل سليم
الحوار المتمدن-العدد: 1039 - 2004 / 12 / 6 - 08:41
المحور:
الادب والفن
"في ابتكار ما يشبه سيرة الشعر"
لا أعرف متى بدأت تحديدا علاقتي بالشعر مثلما لا يمكنني القول أنني اعرف أين انتهت، ربما من قصيدة سليمان العيسى " فلسطين داري" التي تعلمناها في المدرسة الابتدائية في صف مكتظ بالبنات والبنين نتسابق لحفظها وإعلاء أصواتنا رغبة في ملاحظة المعلمة لنا . فلسطين التي لم تكن يوما داراً لي إلا في خيال الشعر والحماسة ألهبتنا بسماع أغنيات " العاشقين " التي ما زلت اذكر رمزية " عود اللوز الأخضر " والأطفال الذين " ربيوا عالحصيرة".
ولكون أخي الكبير مبتلى بداء اليسارية فإن بيتنا كثيرا ما حوى المختلف عما ألفناه من الكتب ، في أحد العطل الصيفية رآني أخي أقرا أحد "الألغاز" للمغامرين الخمسة فنهرني وقال ما يشبه أنه يجب أن أقرا كتبا حقيقية . الفرق بين الكتب الحقيقية والزائفة انطبع في رأسي حتى اللحظة، أعطاني رواية أفريقية مترجمة اسمها "الصوت" لغابرييل اوكارا. قرأتها بنهم وقرأت بعدها رواية اسمها البصقة للكاتب المصري شريف حتاتة. توالت الكتب علي في ذلك الصيف، كنت استعين بأخي لانتقاء الكتب وبدأت بعد فترة في نبش المكتبة وحيدا دون استعانة. أكثر ،ما قرأته في تلك المرحلة كان في الرواية والقصة أسماء كثيرة وبعشوائية: عبد الرحمن منيف، غسان كنفاني، جبرا ابراهيم جبرا، مكسيم غوركي ، الطيب صالح ، نوال السعداوي ، والكثير من الادب التقدمي . أول الكتب التي التقطتها من الشعر كانت لمحمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد وفجأة وقعت على المجموعة الكاملة لأمل دنقل فدهشت كيف يستطيع أحدهم أن يكتب الشعر بهذه البساطة والخفة. تعلقت بقصيدة " لا تصالح" قرأتها المرة تلو المرة وقررت قراءتها في الحفل المدرسي السنوي دون علم المنظمين، اقترحت على أستاذ اللغة العربية قراءة قصيدة وطنية فوافق وانطلت الحيلة عليه.
قرأت القصيدة أمام حشد من الطلبة الذين لم يميزوا سوى لهجتي الحادة وصراخي المتواصل، اتفقت مع مجموعة من الأصدقاء التصفيق عند مقاطع محددة، صفقوا وتمنوا علي بعد الحفل لو أنني لم أطل.
كرهت الشعر المدرسي للطريقة التي يدرس بها مع العلم أنني كنت استمتع بفك طلاسم لغة القصائد القديمة . درسنا المتنبي " أمعفر الليث الهزبر بصوته" وقصائد مملة من مثل وصف شوقي للنحل.
اهتممت بالرواية والقصة ، ثم الفلسفة ( الماركسية ) والدراسات السياسية حتى دخلت الجامعة ، كنت اكتب بعض المقاطع الشعرية وخلال المرحلة الثانوية اهتممت بكتابة المقال واحتراقاتي العشقية التي لا يوجد لها تصنيف .حلمت أن أكون كاتبا ذات يوم أستطيع تطويع الكلمات مثلما يفعل الكبار.
في نهاية سنتي الجامعية الأولى وقعت في حب شاعرة تصغرني بسنتين ( كانت في الثامنة عشرة ) ، حبيبتي كانت شاعرة من الدرجة الأولى ، تطوع القوافي بطريقة غير عادية وتنبي بشعرية عالية . أتعبتني كثيرا فعكفت على قراءة الشعر بعد مشاورة الشاعر خالد أبو خالد في كيفية تحسين كتابتي للشعر. اذكر ما قاله لي يومها من أن الشاعر لا بد وان يولد شاعرا ( لم أولد كشاعر) وقال لي :حاول فربما ، وأشار إلى رف من الكتب الحمراء في المكتبة ( منشورات دار العودة) وقال لي : اقرأ ، قلت له فقط اقرأ ، قال نعم : اقرأ بلا حدود، وقال لي كيف أنه في بداياته كان يقرأ بلا توقف . وبما أنني دودة كتب فقد قرأت بلا توقف، قرأت لأكثر من أربع عشرة ساعة في اليوم وبدون توقف لأيام وأشهر ، أنهيت رف الكتب الحمراء كاملا : أدونيس ، درويش ، أمل دنقل ، السياب ،البياتي ، أبو سلمى، خليل حاوي، الماغوط، وآخرون لا أذكر أسمائهم . قرأت الرواية المترجمة بدون كلل ، أدب أميركا اللاتينية ، الأدب الروسي، الأدب العربي ، روايات وقصص لكتاب أعرفهم وآخرين نسيتهم ، قرأت كتبا مملة حيث أجبرت نفسي على القراءة بدون توقف.
في هذه الفترة كتبت الكثير من القصائد التي نصحني الشاعر خالد أبو خالد بتمزيقها ومعاودة المحاولة.
بدأت أدرك أن كتابتي تحسنت بعد كتابة قصيدتين اعتقد أنهما ستكونان في مجموعتي الأولى: "الوردة الوحيدة" التي كتبتها بإيحاء الشاعرة بيسان أبو خالد وقصيدة "الشاعر" التي كتبتها متأثرا بالشاعر ماهر رجا وهما شاعران فلسطينيان من جيل الشباب شجعاني كثيرا على الكتابة. النقلة التي حدثت لي جاءت في فترة كنت أعيش فيها كمتشرد، طويل الذقن، حذاء وسخ، الكثير من النبيذ وكتاب في اليد للقراءة أينما كنت : في السرفيس ، في المقاهي المكتظة ، في المحاضرات المملة ، وحتى أثناء النوم حيث كنت أنام والكتاب على وجهي وكنت أحلم بالكتب ، في تلك الفترة تعرفت على عرابي في الكتابة الروائي الأمريكي "هنري ميلر " قرأت له في البداية "مدار السرطان" وانقلبت مفاهيمي رأسا على عقب ، كنت أقراه في كل مكان وفجأة انفجر بالضحك على مقطع ساخر أو تشبيه مبتكر ، عشقته بلا حدود ، أعدت قراءة بعض الصفحات عدة مرات ، استمتعت بقذاعة الكلمات وإباحيته المطلقة وقلت لنفسي " هذه الحياة التي أريد أن أحياها" .
قرأت أيضا الشعر المترجم خاصة الفرنسي والأمريكي: بودلير والت وتمان .القراءة كانت بلا حدود حتى اختلطت علي الكتابة والقراءة . .
أحسست أن شعريتي تفتحت على مصراعيها عندما كتبت قصيدة " أسطورة الفتى عصفور النار" كتبتها على ليلتين لم انم فيهما ساعة، ثم بعد شهر كتبت قصيدتي التي اعتبرتها الأهم " النشيد الأخير على قبر أبي" هذه القصيدة امتصت مني كل طاقتي وأوقعتني في اكتئاب مزمن ،عندما أنهيتها بعد ثلاثة أيام من المكابدة ،قرأتها بين يدي صديقتي وأجهشت في بكاء هستيري على حضنها .
تتابعت القصائد التي اختلطت علي في تلك المرحلة ، استمتعت بكتابة اغلبها واستطعت في تلك الفترة ترتيب أمسية في نادي أسرة القلم في مدينتي الزرقاء لقراءة بعض من أشعاري بمصاحبة العود ، كان الحضور كثيفا من الأهل والأصدقاء وأخي الكبير الذي كان تعليقه أنه تفاجأ ، أما أمي فقد كانت سعيدة ولأول مرة من سنوات أراها مقتنعة أن تعلقي بالكتب والكتابة -التي اعتبرتها مهنة العاطلين فيما سبق- قد أثمر .
حبي الثاني كان الملهم لي لكتابة اغلب قصائدي اللاحقة " نشيد الكائن الأول " حطاب أعمى " الطيبون" وغيرها واعتقد الآن أن كتابتي للشعر كان دائما حافزها أشخاص مدهشون التقيتهم بصدفة مرتبة. بعضهم صار صديقا ويكتب الشعر وهؤلاء هم الأكثر تأثيرا في كتابتي للشعر.
بعد عودتي لعمان تعرفت على مجموعة من الشباب يكتبون الشعر ويتحاملون على قصيدة التفعيلة لا اتقانا لقصيدة النثر ولكن عجزا عن كتابة التفعيلة، هؤلاء أفادوني كثيرا إذ فسحوا لي الفرصة للتصادم مع نماذجهم الشعرية وقراءة مرجعياتهم الشعرية. انبهرت بقصيدة النثر وأحببتها ووجدت فيها إمكانيات وحريات لا توفرها التفعيلة، كان لي فيما سبق تجربة واحدة هي قصيدة " نساء الأبد " كتبتها في دمشق ثم تبت بعد أن أنبني احد الأصدقاء الذين يكتبون قصيدة النثر وقال لي " الزم التفعيلة احسنلك". كتبت في عمان " أجساد نابية" " رأس مشرع" ونتيجة لعلاقتي الجدلية مع الشاعر نجوان درويش الساخط دائما كتبت " شاهدي ما أرى".
عرفني على نجوان درويش الصديق الدائم هيثم سرحان الذي كتب الشعر أيضا، كان نجوان في تلك الفترة قد أصدر ديوانه الجميل الذي كان مصدر مشاكلنا ومشاكساتنا معه، فقد كان يكتب النثر كما يقول لكنه كان يكتب المنثور مقفى وتلك مصيبة يقع فيها الذين لم يتجاوزوا التفعيلة، وكان لدى نجوان قدرة مدهشة في نسف الشعراء الآخرين ويكتب بحس رامبوي: الكتابة أو الموت، وإذا حكّم في الشعراء لأحرق كتب ثلاثة أرباعهم على التقدير.
مزاجية نجوان قابلها رزانة وحذر هيثم سرحان الذي كتب التفعيلة والمنثور أيضا، قصائد هيثم التي كان يلقيها علينا طازجة كانت فاسقة وصوفية في نفس الوقت، لا اعرف ما الذي ابعد هيثم عن الشعر ودفعه لإكمال دراساته العليا بتفوق لا يملكه كسالى مثلي ففي الفترة التي كنت ادرس فيها الماجستير جاء هيثم إلى نفس الجامعة وأنهى دراسته قبلي بسنة وبتفوق قاهر.
علاقتي بالشعر لم تكن يوما علاقة محبة: فأنا أكره الشعراء بشكل عام، وأتهرب من فكرة معرفتهم شخصيا لاقتناعي أنهم أكثر الأطفال شقاءا على الأرض، أفضل سماعهم في الأمسيات وانفر من السلام عليهم، وصلت إلى طريق مسدود في بعض الوقت لدرجة أحسست أن فكرتي بأن أصبح شاعرا كانت أكثر الأمور تعبيرا عن عجزي وبلاهتي.
في الثلاث السنوات الأخيرة كتبت قصائد نثرية قصيرة، في سنة 2002 لم اكتب سوى قصيدة واحدة كرستها لأكثر الأشخاص جنونا في المنطقة "خالد حمادة" وأسميتها " سباك المدينة الفاضلة " هذه القصيدة هي الوحيدة التي تتحدث عن شخص بعينه، شخص عشت معه ليال لا نهاية لها تشبه الشعر، شخص إذا كان ثمة إمكانية لتجسيد الشعر سيكون هو.
عندما ناقشت رسالتي الجامعية في علم النفس السنة الماضية قال لي أحد المناقشين: لماذا تكتب البحث كأنك تكتب الشعر، قلت له لأنني كنت أكتب الشعر فيما مضى، قلت فيما مضى وكأنني خارج من مملكة الشعر أو مطرود ومنفي.
بعد تلك الحادثة كتبت قصائد سخيفة ضاعت عن عمد، أكره الكتابة وآخر ما كتبته كان مقالا أسمه "الجدار “ رفضت نشره جريدة الحزب الذي انتمي إليه، والجدار هو ليس نفس الجدار الذي يكتب عنه الناس وتتحدث عنه الصحف، إنه جدار من نوع مختلف وقفت أمامه عاجزا عن الكتابة ، عاجزا عن الشعر ، وعاجزا حتى عن الحب .
في الكتابة عما يشبه السيرة الشعرية فاصل قاتل لا أطيقه، فاصل عميق حتى القلب، فاصل عن الكتابة وعن الأمل، فاصل لم ابتكره في هذه السيرة ولم أعرف انه هناك حتى هذه اللحظة.
أنا في طين لا أستطيع الخروج منه بالطريقة السهلة التي يفعلها الشعراء الذين لم يعودوا شعراء بل اصبحوا ساسة ، البعض يقول لي أكتب أي شيء وبعد زمن سترى الكتابة تأتيك، أكتب أي شيء وكأن الشعر يمكن أن يكون أي شيء. أتحايل على نفسي وعلى الكلمات، الهزائم العامة شخصية بكل معنى الكلمة، الصورة قاتلة والكلمات تتلاشى كدوائر الماء.
ما أحاول فعله لا يشبه التقرب من الشعر، إنه يشبه السيرة الشعرية أو محاولة ابتكارها لعلني أستطيع لملمة القليل، أحاول إقناع نفسي نشر بعض القصائد، نشر ديوان شعر، أو ابتكار موقع على الانترنيت للهروب من الرقيب، كلها محاولات لا جدوى منها فالمهم في الشعر أن تكتبه وأن تكون لك القدرة على كتابته، وإن لم تستطع فالعيش كشاعر وذلك لا يمكن أن يكون إلا كالقابض على الجمر.
عمان . صيف . 2004
#باسل_سليم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بل الوقوف على ارض الواقع يا رفيق هادي
-
حديث الليالي الطويل
-
نشر الجريدة الحزبية أم سقوط وطن: أزمة الحزب الشيوعي العراقي
-
الفلوجة واسلحة الدمار الشامل
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|