|
الليل و الإنسان العربي...
ماءالعينين سيدي بويه
الحوار المتمدن-العدد: 3492 - 2011 / 9 / 20 - 19:59
المحور:
الادب والفن
قال أبو حيان التوحيدي: "الليل أصدق عن خبايا الإنسان من النهار.." الليل رفيق قديم تعرف الى الإنسان العربي ، في وسط زحمة الهموم وتناثر البلايا ونكزة الألم. التي تكالبت عليه من نفسه و من نظامه ومن علاقاته ، لذلك نجد أن أبلغ الشعر أفصح عنه العرب كان وقته الليل. طبعا ذلك لحضوره المكثف في إستعاراتهم والتشابيه المحببة إليهم ، ففي بلاغات الكلام كان الليل كناية عن السمر حيث يلفظ الجسد آلامه ويدعها تسترسل إلى ما يجعله يحس من سكرها أن الهم والألم والتعب قد زالوا جميعا. الإنسان بحر تتعايش فيه عوالم متجاذبة و متقاطعة ، ولشدة حلكة بواطنها فإن العواطف و الأفكار والأحاسيس والتخيلات الساكنة بها ما تكاد توقن بتزايد حاجاتها حتى تطلع من ذلك القبو ، إلى الحياة الضاجة خارج الذات الإنسانية. فكان الليل بيان الصامتين ، يعلن عن كمائن جواهرهم الضاجة بأسرار وخبايا جعلت حرارة الجسد بركانا دون فوهة ، والقلب أنهارا دون بحر ، وبعقله حياة بدون ماء .فالليل صديق المحبين إذ يعترفون بلواعجهم ، و رفيق المبدعين والمفكرين إذ يبدعون ويكتبون حياتهم المريرة أو الحلوة ، وصاحب المتعبين من عناء النهار و ضيق العمل. لذا كان "الليل أصدق عن خبايا الإنسان من النهار.." ، بعد أن مرت عليه أوقات عصيبة أفضت عن شعوره بألم المتوحد ، أي الغريب عن عالمه و وطنه . فهو منه، ولكن لا يتجانس معه. كالإنسان العربي قديما وحديثا لما غصت نفسه بالهموم و كثرت البلايا والخبايا ، فنام مقتولا بهمه من فرط صمته فما عاد خاطره يسع حتى لسماع اسمه او اسم زوجه او ولده . إن خالة الخوف التي يعيش الإنسان من الواقع والمصير ، من الآخرين والسياسة بل حتى من كل شيئ يذكره بانسانيته المرصعة بجوهر الحرية ، لا تجعل منه إلا انسانا ينسى ذاته و وجوده مرغما . و هو العاجز ايضا عن البوح بما يثقل خاطره وبما يسود عيشته، لما جرح كبرياؤه من جسام الامور التي يكتم، وهوائل الكدمات التي التي تدوسه ،هنا يكون الليل أصدق عن خبايا الإنسان العربي . "الليل أصدق عن خبايا الانسان من النهار .."هي من كلام أبو حيان التوحيدي في القرن الرابع الهجري، من كتابه مثالب الوزيرين. أخلاق الصاحب ابن عباد وابن العميد . وذلك حين خبر بما يتلاطم داخله من خبايا نكد ،شؤمه ما خالطته ولا همت به حتى عم البلاد والعباد ، ما يسببه الوزيرين فيقول عنهما :...و زال بنظرهما ما فيه الأمة من هذا العيش النكد ، والشؤم الشامل ، والبلاء المحيط ، والغلاء المتصل ، والدرهم العزيز ، والكسب الدنس ، والخوف الغالب ، ولكانت الأرض تخرج أثقالها ، و تلفظ كنوزها ، ويستغني عن ألم الفقر أهلها ومن فضيحة الحاجة أربابها ، ويعود ذوي الدين ناظرا ، وخامل المروءة نبيها.(1) ولعل في هذا الكثير مما يقارب حال الإنسان العربي في القرنين العشرين و الواحد والعشرين ، حتى لو إختلف ليله عن ليل أبو حيان ، فما زال الليل ملاذا أخيرا يتوسله بعد شمس كل يوم أفلت من قبضة العمر. يستنجد ببهيمه وصمته كي ينفجر فيهما بعيدا عن المطاردة و المراقبة و الرقابة على نفسه وعيشه و فكره او احلامه وخيالاته. الإنسان العربي يكاد يموت في التاريخ الحديث بسبب الكذب و الزيف الذي لطخ حقيقة إرادته . الإرادة التي قتلتها الأسماء المستعارة في مدح الواقع و مهيع الأشياء البئيسة الساكنة معه ، من قتل وقمع و احتلال وفوضى تلغي الحرية و العدالة ومنابع المواطنة والكرامة التي كان من المفروض أن تعم الوطن العربي بعد الإحتلال الأجنبي . فتبث العكس أن تلك الإرادة كانت تجابه إحتلالا داخليا أقوى و أعنت و أدمى بكثير من سابقه ،تمثل في النظم الديكتاتورية. ففي زمن الأنظمة العربية الحالية ، العيش النكد ميزة ينفرد بها الاقتصاد في الفقر المنتشر والبطالة المستفحلة . ثم اللاكرامة المواطينين ، فالشؤم الشامل لا ينثني عن نسج سواده على الخارطة السياسية ، لما ساد الاحتلال والقتل والتبعية المذلة للحكومات الغربية . ثم في البلاء المحيط ، والغلاء المتصل الى الدرهم العزيز والكسب الدنس . فهي عناوين مرادفة للإقتصاد الذي يخدم القلة ، و يتبرؤ من الشعوب. أما الخوف الغالب ، فراهن الدساتير والقوانين الصورية المختصة فقط بالسجن والتعذيب والقمع . إنه وجه السياسة العربية . كل هذا يعد الحقيقة البارزة في الواقع السياسي العربي ،وإلا لكانت الأرض تخرج أثقالها وتلفظ كنوزها ويستغني من ألم الفقر أهلها..بما أفصحت عن تلك الخبايا روح أبو حيان التوحيدي . بالأمس واليوم فقد أتى حين من الدهر ـ يقول التوحيدي ـ بكت العرب من وقع الهجاء ، كما تبكي الثكلى من النساء ، وذلك لشرف نفوسها ونزاهتها عن كل ما يتخون جمالها ويعيب فعالها (2) . وجاء دهرنا هذا الذي بكت فيه العرب على فقدان كرامتها ، وهدر قيمتها في زمن موحش خائن لوجودية الشخصية العربية . إن زماننا الراهن الذي كثرت فيه الخبايا والرزايا هو زمن الهجاء الوجودي بجدارة. (1)_كتاب مثالب الوزيرين اخلاق الصاحب ابن عباد وابن العمدة..ابو حيان التوحيدي دار التفكير دمشق/دار الفكر المعاصر ط. 2.1998. ص : 80 (2)_ نفس المصدر. ص 85
#ماءالعينين_سيدي_بويه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حين لا يفهم الشعب السياسة..؟
-
السلطة العربية والشرعية المفتقدة (عرض ونقد لنظرة ليبرالية
-
التيه أعجوبة الروائي عبد الرحمان منيف
-
سقوط الديكتاتور العربي
-
مراكش مدينة التاريخ القديم والفكر العقلاني و الصوفي...
-
نحو اعادة توحيد الوعي الاسلامي: قراءة في أعمال محمد اركون
-
الزمن العربي الموحش.. لحظة الكتابة؟؟؟
-
في الحب والسياسة؟؟
-
عبد الرحمان منيف في صحراء الجزيرة العربية
-
لا أعرف الشخصَ الغريبَ
-
أحداث مخيم العيون،أفاضت كأس علاقات المغرب مع جاريه.. الجزائر
...
-
السياسة الواقعية في نهاية التاريخ
المزيد.....
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|