أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض خليل - المؤامرة: قصة قصيرة















المزيد.....


المؤامرة: قصة قصيرة


رياض خليل

الحوار المتمدن-العدد: 3491 - 2011 / 9 / 19 - 15:39
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة من مجموعة: القرش والأسماك ، الصادرة عن دار الحوار باللاذقية عام1995 ، القصة الحادية عشر

كان يجلس وراء طاولته ، قبالتي ، إنه زميلي في العمل ، نحن ثلاثة في مكتب واحد: أنا وهو وهي ، لبنى مأذونه ، أنا وعاطف فقط في المكتب .
إنه هو الذي يكرهني ، يحيك مؤامرة ضدي ، يريد التخلص مني بأي شكل ، هاهو يراقبني بدهاء من زاوية عينه ، يتجسس علي ، يحصي حركاتي وسكناتي ، يتربص لالتقاط أي خطأ ، أو هفوة .. كبوة تصدر عني ، لينقض علي ، و يفترسني ، أوه ، ليتني أعرف لماذا؟ لماذا يكرهني ؟ لو أعرف الأسباب التي تجعل منه ذئبا مفترسا؟ أهي المزاجية ؟ الطبيعة والطبع العدواني ، الرؤية السوداوية للعالم؟ ربما هذه الأسباب كلها . لم أتصرف معه بما يستوجب كراهيته لي ، أنا ودود ، ومحب ، فما تفسير سلوكه؟ ربما الحسد والغيرة والأنانية ، نعم هي كلها ، والنظرة السوداوية ، هذا الداء القاتل السام ، يستطيع أن يفعل الكثير ، يستطيع أن يفتك بالضحية ، هذه الصفات أحيانا تحدد المواقف الكبيرة قبل الصغيرة وهي بالتالي كثيرا ماتحدد المواقف الفردية ، هذا الطبع كالديناميت المتفجر ، الذي يودي بالأبرياء ، يدمر بيوتا وشوارع ومدنا وبلدانا . قد يفجر حربا طويلة لاتتوقف ، وقد يشعل حربا عالمية ثالثة ؟ ألم تكن مزاجية هتلر سببا أضرم نيران الحرب العالمية الثانية؟ وغيره من أمثاله عبر التاريخ : موسوليني .. نيرون .. هولاكو.. وغيرهم كثيرون من هواة ومحترفي الحروب . المزاجية السوداء العدوانية سرطان يجب اجتثاثه من عالمنا ، يجب استئصاله ، لابد من عملية جراحية جريئة وينتهي الأمر .
لكز صوت زميلي في المكتب ، وهو المريض بالسوداوية العدوانية ، طبلة أذني بعنف ، وانتزعني من تحليقاتي وتهويماتي . قال: " يجب أن تتخلص من مرضك" . اندهشت لأنني أعتقد أنه هو المريض وليس أنا ، سألته مستنكرا: مرضي؟ أنا؟ ، وفسر قوله: " كفاك تهويما وشطحا ، ترى أين يحلق خيالك ؟ وإلى أين يصل في كل مرة؟ وأجبته: العالم فسيح .. فسيح جدا . ورد: أنا أراه بالعكس تماما ، لاأدري لماذا؟ وصمت ، وتأكدت من حدسي ، وتأكدت من تشخيصي لمرضه ، هو يخالني مريض ، أتعرفون لماذا؟ لأنه .. لأنه هو .. هو المريض الذي يرى العالم مريضا ، يرى العالم والناس من خلال نظارة المرض ، أسمعتم ماقاله؟ قال : إنه يرى العالم ضيقا ، إنها النظرة السوداوية المريضة للآخر ولكل شيء ، النظرة التي تجعله يرى العالم زنزانه ، بل خرم إبرة ، إنها المزاجية العدوانية تحركه ، تحدد أفكاره وسمت تصرفاته ومواقفه تجاه الآخرين ، والسبب الذي يدفعه للتآمر علي هو إحساسه بالمؤامرة ، الحياة مؤامرة ، لذلك يكيد لي عند الآخرين من حولي . هتف عاطف: أنت عديم الثقة بنفسك ، لذلك لايمكنك الوثوق بالآخرين . أنظرو بم يصفني ، إنه يسقط علي صفاته هو ، تلك صفاته وحده ، والكلام صفات المتكلم .

2
هزني كلامه بشدة ، أدهشني ، أحسست به جوابا على تساؤلاتي الصامتة ، التي تدور في خلدي ، غريب ! كيف له أن يسمع صوتي الداخلي غير المسموع ؟ أيتمتع بحواس خارقة ؟ أهو ساحر؟ كيف سمع كلامي ؟ كيف يستطيع أن يترجم " منولوجا " ، ياللوقاحة ! إنه يدخل حرمة أعماقي ، إنه خطر ، متآمر ، متواطئ ، ينتهك أعماقي ، يسرقها ، يعتدي عليها بخبث . وهتف مرة ثانية : كف عن هذا الهراء ياصديقي ، والتفت لعملك .
- ماذا تقصد؟
- أقصد أن لا تنصاع للأوهام والشطط وأحلام اليقظة , و....
- هل لديك طريقة تخلصني منها؟
- الطريقة لديك أنت ، وإذا لم تتصرف بسرعة .. ستسوء حالتك
- حالتي؟
- ستسقط إلى الهاوية ، ستدمر نفسك ، ولن يرحمك الآخرون
راحت كلماته تتطاير في رأس كالزوبعة : " الهاوية "! .. تدمير! .. رحمة .. الآخرون ! . انتقلت الزوبعة إلى رئتي لتتسارع أنفاسي ، ثم وصلت إلى القلب ، فأخذ ينبض بسرعة ، ثم انتشرت الزوبعة .. وانتشرت لتعم كل أنحاء جسدي ، الذي راح يرتعش ، وترتفع حرارته تحت ضغط الزوبعة .. الزوبعة التي لم تجد متنفسا لها سوى في جسدي وجلدي الذي راح يتصبب عرقا حارقا . وصحوت على صوته يسألني : هل أستدعي لك الطبيب؟ إنه زميلي المجنون في العمل وفي نفس المكتب ، لاحظ حالتي غير الطبيعية ، وسألني : هل أستدعي لك الطبيب؟ .. التفت نحوه ، نظرت في وجهه وعينيه ،ولم أتكلم ، كان يجلس وراء طاولته ، قبالتي ، يترصد حركاتي ، يحصي أنفاسي ، دقات قلبي ، نظراتي ، إنه مخادع ، يتجسس علي ، يحقد علي ، يتواطأ ضدي ، يحفر لي في الخفاء ، وفي نفس الوقت يتظاهر بالطيبة والإخلاص والوفاء ، ياله من رجل خبيث ! ناعم ومميت كالحية ! ولكن لماذا ؟ لماذا؟
نهض من وراء طاولته ، خفت منه ، فهو لديه قدرات خارقة ، إنه يسمعني ، وصوتي لم يخرج من فمي ، صوتي يقبع ساكنا .. صامتا في داخلي .. في حلقي ، ولساني يتحرك بالاتجاه المعاكس تماما ، إذن .. كيف يسمعني؟ لعله جني ! عفريت !! ساحر! ، إنه يخرج من وراء طاولته ، وهو يرمقني بنظرات حاقدة ، توحي بنوايا إجرامية وشيكة ، ما عساه سيفعل؟ هل سيهاجمني؟ هل سيخنقني؟ .. رأيته يتجه نحو الباب ، ويخرج ، ارتحت ، كأن جبلا انزاح عن ظهري ، تحسست صدري ، رقبتي بارتياح ، لقد نجوت ، لن يؤذيني ، لماذا؟ وهل سيفعل في المستقبل؟
لقد فتح الباب بهدوء ، خرج بهدوء ، أغلقه خلفه بهدوء ، أوه .. بهدوء ، لماذا؟ أهو الهدوء الذي يسبق العاصفة؟ ربما أراد ألا يثير شكوكي ، ربما يخدعني ، يوهمني لكي أطمئن إليه ، فأبقى حيث أنا ، ربما ذهب ليستطلع أمرا ، أو ليحضر شيئا حادا : سكين أو ماشابه ، ربما يحضر فخا ، كمينا ليصطادني وأنا وراء طاولتي ! هل أهرب؟ وأفوت عليه الفرصة ؟ هل أهرب قبل أن يعود ، الاحتياط واجب . وقبل أن أنهض لأتوارى .. نقر باب المكتب ثلاث نقرات خفيفة ، فتح إثرها الباب ، فإذا ب" الآذن" يحمل صينية ، عليها كأس عصير ، اقترب مني وهو يبتسم بطريقة مريبة ومثيرة : لاشك أنه يشفق علي ، أو هكذا أحسست ، هل عرف شيئا؟ هل أخبره أحد بشيء عني ؟ اقترب ، مد يده للكأس ، أمسك به ، وقدمه لي ، وهو يبتسم ، ويقول : " تفضل يامعلمي ، برّد أعصابك بهذا الكأس من العصير ، الاستاذ عاطف أوصى بالعصير لك ، وفكرت: " أعصابي" ؟ إذن الآذن يعرف شيئا ، ولايريد أن يحرجني أو يقلقني ، مع أنه لايعرف الذوق واللباقة ، يبدو أنها التعليمات والأوامر ، عليه أن ينفذها رغما عنه ، عليه أن يلوذ بالصمت ، طلب منه أن يكتم السر: " أعصابك؟" ! مالها .. مابها أعصابي؟ ! لماذا لفظ هذه الكلمة بالذات؟ دون سواها؟ وقبل أن يخرج سألني : "تأمر شي أستاذ؟"
- لا .. تسلم يداك .. يعطيك العافية
- الله يعافيك أستاذ
- أتعرف أين ذهب زميلي؟
- نعم ياأستاذ ... ولكن ...
- قل .. قل .. لماذا التردد؟ أخبرني .. لاتخف .. لن أخبره
- دخل إلى مكتب المدير
- المدير! .. المدير! مباشرة ..
- اهدأ ياأستاذ ..
- أنا ؟ .. أهدأ ؟ .. امض أنت ، وأنا سأتصرف ....
3
ذعر الآذن من لهجتي وحركاتي المتوترة ، تراجع إلى الوراء ، دار نصف استدارة وهو يتلمس باب الحجرة خائفا ، فتحه بارتباك ، وخرج , وصفقه خلفه بسرعة ، وبقيت وحدي .. ليس وحدي تماما ، كانت معي الطاولات والكراسي وموجودات الغرفة المملة الخائنة ، التي أشتم فيها رائحة المؤامرة الدنيئة ، إنها المؤامرة .. المؤامرة تتكرر ، ليس هذه هي المؤامرة الأولى ، وربما لن تكون الأخيرة ، تذكرت حوادث الطفولة المؤلمة ، أمي التي تآمرت علي وضبطتني معها في " الاسطبل" ، يومها كنت وإياها نلعب ، واكتشفنا الأمر مصادفة ، كانت لحظة رائعة تعادل عمرا . وغيرها من الحوادث المؤلمة ، أوقع بي الآخرون بها تلفيقا وزورا وبهتانا ، وتذكرت .. وتذكرت ، عشت ولاأزال أعيش هكذا مع المتآمرين في البيت والشارع والمؤسسة . كان زميلي يشي بي للأستاذ ، والاستاذ لمدير المدرسة ، وهذا الأخير لأهلي ، والجميع لايصدقونني ويحكمون علي من غير أن يعطوني فرصة الدفاع عن نفسي . عشت متهما .. ملاحقا .. مدانا ..
إذن كان الآذن يعرف ويصدق ، ويكتم الحقيقة ، لطالما كنت بريئا ، والآخرون يلفقون لي التهم الخطيرة ، هاهو عاطف يحسدني ويغار مني ، منذ أن كنا معا في المدرسة ، وكنت أتفوق عليه دائما في الدراسة والرياضة والانضباط وحسن السلوك وخفة ا لدم ، كنت متفوقا عليه جسديا وعقليا ، كنت أكثر منه وسامة ، وكان هو قبيحا قميئا من الخارج والداخل ،كان فاشلا .. لئيما .. حاقدا ، وكان الآذن يدرك كل شيء ، و" يطنش" ويخفي ويكتم ، إنه طرف في المؤامرة ، مع أنه كان يبيعني الأخبار عن غيرة عاطف القاتلة من تفضيل زميلتنا لي . زميلتي المنعشة كالنسمة الباردة في حر الصيف اللاهي ، الجميلة كالغابة البكر ، الرقيقة كورق الورد ، العاشقة كقصيدة حب شفافة ، زميلتي الزنبقة البيضاء المرحة ، التي يضوع شذاها فرحا طفوليا كالبحر . كانت تحبني ، منحازة لي بكل عواطفها وجوارحها ، تهتم بي ، تميزني ، تستثنيني ، وتثني علي صراحة ، تفضلني علنا ، وكانت تحتقره ، تنبذه ، لهذا كله ، ولأسباب لاتحصى أعلم بعضها ، وأجهل بعضها ، كان عاطف يكرهني ويحقد علي ، ويتربص بي الدوائر ، يلفق ، يختلق ، يكذب ، يكيد لي ، يتآمر ، يلصق بي تهما من ابتكار خياله المريض ، وعلى سبيل المثال : عندما كنا طلابا ، استطاع أن يقنع الاستاذ أنني أسخر منه بحركة من إصبعي الوسطى ، بشكل غير لائق ، ومناف للحشمة ، حيث كان الأستاذ يدير ظهره لنا ويكتب على السبورة ، اتهمني حينها زورا ، وصدق الاستاذ التهمة من غير أن يدقق أويسألني أويترك لي فرصة الإنكار ، وقتها صفعني بقوة صفعة لن أنساها ماحييت ، وبكيت ، وأحسست منذ ذلك الوقت بطعم القهر والذل والإهانة ، بل والأصعب منها كلها هو إحساسي بالظلم ، الذي جعلني أفهم معنى العدل ، والحاجة للعدل والكرامة والحرية التي افتقدتها مذ كنت صغيرا إلى الآن . كثيرا ماكنت أعاقب بلا محاكمة ، والآخرون لاأدري لماذا لايفهمون معنى أن لايؤخذ بالوشاية قبل التأكد من صحتها ، كما يحدث في المحاكم عادة . ولايطبقون مبدأ:" وتبينوا قبل أن تصيبوا قوما بجهالة" . لماذا أنا مختلف؟ والآخرون كلهم ضدي: الاستاذ .. المدير.. زميلي.. والآذن .. وحتى أمي .. إلا زميلتي : نجمة ليلي الدامس ، زنبقتي الماسية المتلألئة ! التي اتهموها هي الآخرى ، بتهمة غير لائقة ، وغشوها ، ولوثوها بأنواع الوشايات والنميمية ، إلى أن أقتعوها ، وبدأ الجفاء يبعدنا عن بعضنا البعض تدريجيا ، إلى أن تحولت إلى عدوة لي ، تحتقرني ، تنبذني ، تخاصمني ، تكرهني هي الأخرى ، وتوجه لي اتهامات ماأنزل الله بها من سلطان ، وأخذت تدينني ، وكنت أستطيع أن أسامحها رغم كل هذه الأشياء ، ولكن مالاأستطيع أن أسامحها به ، هو أنني رأيتها بأم عيني ، رأيتها تشبك ذراعها بذراع زميلي الحقير عاطف المقرف ، بأم عيني ضبطها تبتسم له بصفاقة وعهر وابتذال ، وعرفت ماهو أدهى ، عرفت أنها تمضي معه أوقاتا طويلة ، ويختليان مع الشيطان . وفي المكتب يلعبان وتتشابك أصابع كفيهما بشدة وحرارة وعنف ويتضاحكان ، بل يقهقهان ليغيظاني ويستفزاني ويتحدياني ويثيران أعصابي المثارة أصلا ، إلى درجة أنني دخلت مرة في عراك بالأيدي معه .
وفتح باب المكتب ، تمدد الدم في عروقي ، حينما أطل رأس الآذن من الباب ، بدا رأسه كرأس أفعى ، فتح الباب لدرجة تمكنه من إدخال رأسه ، الذي يشبه رأس الثعبان ، وكان يبتسم بخبث ، كانت ابتسامته كريهة مثله ومستفزة وساخرة ومهينة لي ، فتح فمه كالكلب اللاهث ، ولسانه الطويل يتدلى خارجا ، مد لسانه الأفعواني باتجاهي ، وبالتحديد باتجاه وجهي ، كاد يلامس وجهي ، وهو يلهث ويفح ، وانطلق يهرّ .. وينبح في وجهي بأسلوب " ديبلوماسي" رصين ، ومحسوب بدقة ، لكنني لم أسمع أو أفهم شيئا من نباحة الملحن الموقع الممطوط ، وبعد جهد جهيد ، استوعبت عبارته الأخيرة : " المدير يطلبك ياأستاذ " . قالها ، وصفق الباب وراءه ، ومضى ، قبل أن ينتظر إجابتي ..
تأكدت للمرة ا لثانية أن ثمة مؤامرة ضدي ، وإلا فلماذا يطلبني المدير؟ ورنّ الهاتف الوحيد فوق طاولة زميلي ، ولا أحد في المكتب سواي . هل أرد على المكالمة؟ هل أرفع السماعة؟ من تراه يتصل؟ ونهضت متثاقلا ، اقتربت من الهاتف ، رفعت السماعة مترددا :
- آلو .....
4
- أنا لبنى .. من معي؟
انزعجت . لأنها لم تعرفني من صوتي ، لقد نسيت صوتي الجاحدة .. الغادرة ، وأجبتها بلهجة ناشفة:
- أهلا
- أعطني عاطف
الحقيرة .. الكلبة .. تريده هو .. وبكل وقاحة ، سافلة ، وكررت الطلب:
- آلو .. عاطف .. أين أنت؟
- ليس في المكتب
وأغلقت الخط في وجهي بوقاحة بعد أن قالت: " سأتصل مرة أخرى بعد حين" .
وضعت السماعة في مكانها على سطح الجهاز ، وتأكدت للمرة الثالثة أنها المؤامرة ، هاهي لبنى متواطئة .. شريكة في المؤامرة ، هو ماحدث ويحدث لي دائما ، كلهن خائنات ، وأولهم لبنى المتآمرة . مالذي تريده من عاطف القميء؟ الخائن .. الغادر ، عاطف الذي تسلل إلى قلبها كاللص وسرقه ، كما تسلل منذ لحظات إلى مكتب المدير لتنفيذ المؤامرة الدنيئة ضدي ، إنه يكرهني ،ومع ذلك يتظاهر بمحبتي ، يجلس قبالتي ، وراء طاولته ، يرميني بابتساماته المراوغة الماكرة مجانا ، إنه هو هو بذاته عدوي الأخطر ، تلك سحنته ، أنا أعرفه ولو غير وجهه وقناعه وجلده ، أعرفه وأفهمه جيدا ، هاأنذا الآن أملك الحواس الخارقة نفسها التي يمتلكها عاطف ، أسمع أعماقه ، دقات قلبه الأسود المتفحم ، تنفسه الذي ينشر الروائح الكريهة ، أعرف وأقرأ ماوراء لسانه ذي الرؤوس المتعددة ، أنا الآن تحولت ، صرت مثل عاطف ، أنا جني .. عفريت .. مارد .. ساحر .. قادر على فعل ماهو أفظع ، سأسحقه ، لن أمكنه مني ، سأنتصر عليه ، ولن يفيده أي شيء مما يفعله : الخداع . التلفيق.. وسوف أستعيد لبنى التي اختطفها مني وعلى غفلة من الزمن ، سأسترجعها ،وستسمعني وأنا أشرح لها ملابسات الأحداث ، وسوء الفهم والتفاهم الذي تسبب به عاطف ، وستصدقني ، وأكشف لها خيوط المؤامرة ، أنا متأكد أنها ستكرهه ، وتنتقم منه ، بل ستطلب مني الانتقام لها منه ، وستطلب مني التخلص منه ، وسيكون هذا صداقها . وبعد أن أحقق الهدف ، لن أتودد لها ،ولن أحبها ، لأنها لاتستحق ، وليست جديرة بي ، إنها تافهة تحب التافهين والخونة ، ويمكن أن تخونني مرة ثانية وثالثة و.. ، سأجعلها تفشل وتندم ، ترى إلى أي حد وصلت علاقتها بعاطف المخادع؟ عاطف الماهر بتزوير وقلب الحقائق والتلاعب بالكلمات والألفاظ والعواطف ، الخبير في اقتناص الفرص والغدر والوصول إلى مبتغاه بوسائل ملتوية .
فتح الباب . إنه عاطف زميلي .. بل عدوي اللدود ، الذي يتآمر علي . سألني:
- هل ماتزال متعبا؟
- اتصلت لبنى تسأل عنك
- سألني المدير عن وضعها الصحي
- أحقا؟ مابها؟
- إنها متوعكة ، سأزورها ، وأطمئن على صحتها . مارأيك أن ترافقني لعيادتها في منزلها ؟
ونهضت من وراء طاولتي متوترا .. منقبضا ، وفوجئت بما أخبرني به زميلي عاطف ، وفوجئت أكثر حينما استطرد قائلا: " سأخطب أختها الليلة " أريدك أن تذهب معي . تغيير الجو مفيد لك .
تجمد وجهي ، وظل فمي مفتوحا من شدة الدهشة ، وأحسست بنفسي منشطرا نصفين متضادين ومتنابذين : الحب والكراهية . الفرح والحزن . وثنائيات لاحصر لها . وقال عاطف : " إذا كنت متعبا ، فلماذا لاتطلب إجازة من المدير؟
اندفعت بصمت ، فتحت الباب ، خرجت ، وصلت إلى غرفة ال" سكرتيرة " ، وجدتها تبتسم لي ، مدت ذراعها مشيرة لي بالدخول إلى مكتب المدير ،وهي تشرح: " إنه بانتظارك .. تفضل .. ادخل " .
كان الخوف يخدر جسمي ، يجعله ثقيلا ، الآن سينكشف المستور ، وتصل المؤامرة إلى منتهاها ، مثل أي قصة أو مسرحية ، ستحل العقدة ، وستتخذ القرارات التنفيذية الجائرة ، كالعادة ، بلا محاكمة ، لكنني لن أستسلم ، سأقاوم ، سأواجه الموقف رغما عني ،ولن أبدو جبانا .. لافي نظر عاطف ، ولا في نظر لبنى ، ولا في نظر السكرتيرة حتى ، ثم
5
إنني لاأريد أن أكون جبانا حتى أمام نفسي . إذن لأواجه مصيري بنفسي وبرجولة وشجاعة وبطولة ، المتنبي قال: " وإذا لم يكن من الموت بد ..... فمن العجز أن تموت جبانا " . سأطبق ماقاله أبو الطيب البطل ، وسأواجه مصيري ال"تراجيدي " المحزن ، تلك هي الرواية الحقيقية : البطل يقضي ، يموت واقفا ، بشجاعة حتى النهاية ، وما بعد النهاية ، البطل يموت دون أن يتخلى عن كرامته وعزته ، دون أن ينحني ويذل ، دون أن يقبل الأيدي ، ويمسح الأحذية ، ويبوس الأقدام ، ويتلفظ بعبارات الخنوع والمهانة ، أرفض أن أكون شحاذا ، أعرف أنني سأخسر المعركة ، سأواجه الهزيمة ، وليكن ، أن أهزم بطلا أفضل من أن أنتصر نذالة وخسة ، لم لا؟ أنا البطل ، أنا عنترة ، أنا البطل الضحية القربان ، الذي يدفع الثمن وحده ، في مواجهة المؤامرة ا لدنيئة ، التي تحاك ضده دائما ، لأنه بطل متفوق .. فارس .. نبيل .. محبوب ، أنا البطل الأسطورة والرمز ، الآن سأدخل التاريخ من الباب وليس من الشباك كاللصوص والحرامية ، سأدخل مكتب المدير ، سأواجهه ، سأنظر في وجهه وعينيه الذئبيتي بجرأة ، ولن ترهبني أنيابه القاطعة كالنصال ، ولا نظراته المفترسة الشرهة ،ولاصوته البشع ،وحركاته المناورة . سأصمد ،وألقنه درسا لن ينساه ، سأقول له كلاما جديدا وطريفا ومختلفا .. لم يعتد سماع مثله من قبل ، سأقول له: ام أعد طفلا .. تلميذا ضعيفا ، يتلقى الضرب والإهانات والسخرية ،ولايعرف كيف يرد ويدافع عن نفسه ، سأقول له: إنه مجرد إنسان عادي مثله مثلي ، لانختلف في شيء ، إلا في بعض التفاصيل والخصوصيات الشخصية ، سأقول له: أنني أفضله بالكثير الكثير لولا هذا الكرسي الضخم الذي يجلس عليه ، لاأدري كيف ولماذا؟ الكرسي الفاخر .. ذو الدواليب أو العجلات ال" فيبر" ، حيث يديره في كافة الاتجاهات التي تروق له . لم لا؟ سأصارحه ، وأكشف له عيوبه وعاهاته ، سأقول له: أنت قبيح .. قميء .. فظ .. أحمق .. ثمنك " فرنكين" ، أنت مجرد " ديكور" ، لعبة ، دمية ، " روبوت" لاروح فيه ، محشو بأشياء لاقيمة لها ، سأقول له : أنت كائن تافه ، حشرة ، هيكل ميت ، طبل لايخيفني دويه ، وسأقول له ، وسأقول ، ولن أتوقف عن الكلام ، ولن يستطيع بسلطته أن يوقفني عن الكلام ، حتى ولو كبس الزر طلبا للنجدة ، ولو جاء الآذن وال" سكرتيرة " وعاطف ولبنى والموظفون جميعا ،وحاولوا منعي ، لن أتوقف حتى تحطمه كلماتي ، وتسحقه عباراتي ، وتقطعه إربا إربا ، سأدخل أيها المدير المتستر خلف الأبهة والوقار والعظمة المزيفة ، ولن أستسلم للمؤامرة حتى لو هزمت .
ودخلت ، وأغلقت الباب ورائي بهدوء ، ثم التفت نحو المدير وأنا رافع الرأس ، جعلت وجهي في وجهه مباشرة ، وعيني في عينيه ، نظرت إليه بندية ، كان يبتسم ، وينهض نصف نهضة من وراء مكتبه ، وهو يمد يده وذراعه باتجاهي ، ليصافحني .. ولم أتردد في مد يدي لمصافحته . وترافق هذا بإخباري : " إهلا برئيس القسم الجديد ، مبروك الترفيع وتولي المنصب ا لجديد " .
وأحسست بنفسي أنشطر وأنشطر ، وبأجزائي تتصارع في معركة ضارية ، أتراه يخدعني؟ يراوغني؟ لاأظن ذلك ، لاضرورة لهذا ، لنبدأ المواجهة على طريقة ا لفرسان الثلاثة ، ياله من جبان مخادع ومراوغ .. خسيس . مددت كفي وذراعي إليه مصافحا بصورة آلية .. عفوية . طلب مني الجلوس ، وجلست ، ورفع بيده ورقة كانت على طاولته ، قدمها لي بود واحترام ، وهو يثني علي : " هذا هو أمر تعيينك رئيسا للقسم ، وعضوا في مجلس الإدارة ، نظرا لحسن سلوكك ، وحسن أدائك وتفانيك بالعمل ، مبروك ، وألف مبروك ، وأهنئك من كل قلبي على نجاحاتك وتفوقك . إن مجلس الإدارة كله أجمع على قرار تعيينك ، وعلى أنك المثل الصالح للموظف . وكبس الزر ، ودخل الآذن ، الذي لم ينس أن يبتسم كعادته ، وقال له المدير: اثنين قهوة حالا ........
انتهى 18/10/1994



#رياض_خليل (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المرآة: قصة قصيرة
- حادثة أبي طاهر التي لاتصدق
- الخناس: شعر
- المسافة: قصة قصيرة
- رجل تحت الأنقاض
- إنها سيدة محترمة : قصة قصيرة
- كوني فأكون: شعر
- سوسن وعيد الأم
- القرش والأسماك
- ابتسامات دعد
- المفترسان
- الولادة الأخيرة : قصة قصيرة
- موجة عابرة في سطح صقيل
- ولكن غدا لم يأت
- جريمة في ملف النمرود: قصة قصيرة
- الولادة: قصة قصيرة
- ستعودين:قصيدة
- المتقمصة: قصة قصيرة من مجموعة الريح تقرع الباب 1976
- يحدث هذا حبا : قصة قصيرة
- عيّودا: قصة قصيرة


المزيد.....




- مبادرة جديدة لهيئة الأفلام السعودية
- صورة طفل فلسطيني بترت ذراعاه تفوز بجائزة وورلد برس فوتو
- موجة من الغضب والانتقادات بعد قرار فصل سلاف فواخرجي من نقابة ...
- فيلم -فانون- :هل قاطعته دور السينما لأنه يتناول الاستعمار ال ...
- فصل سلاف فواخرجي من نقابة فناني سوريا
- -بيت مال القدس- تقارب موضوع ترسيخ المعرفة بعناصر الثقافة الم ...
- الكوميدي الأميركي نيت بارغاتزي يقدم حفل توزيع جوائز إيمي
- نقابة الفنانين السوريين تشطب سلاف فواخرجي بسبب بشار الاسد!! ...
- -قصص تروى وتروى-.. مهرجان -أفلام السعودية- بدورته الـ11
- مناظرة افتراضية تكشف ما يحرّك حياتنا... الطباعة أم GPS؟


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض خليل - المؤامرة: قصة قصيرة