|
جرائم تربوية بحق الأطفال
عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني
(Abdel Ghani Salameh)
الحوار المتمدن-العدد: 3491 - 2011 / 9 / 19 - 12:29
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تبدأ الأخطاء التربوية في الأسرة الكبيرة، وتتشابه مع الأسرة الصغيرة حين لا يولي فيها الآباء الرعاية الكاملة لأطفالهم، ومن الواضح أن الأسرة الكبيرة لن يستطيع الأبوان فيها أن يوليا الرعاية والاهتمام بكل فرد فيها، فلن يستطيعا في هذه الحالة أن يمنحا كل ابن حقه الكامل من الحب والحنان، ولن يجدا الوقت لمتابعة كل فرد على حدة، وقد يصعب عليهم توفير الإمكانات المادية، أو الوضع النفسي الذي يؤهلهم للقيام بذلك على أكمل وجه، فالإنسان له طاقة محدودة من العطاء سرعان ما تُستنـزف في خضم معترك الحياة وقساوة ظروفها، وهذا بدوره سينتج أبناء غير مكتفين عاطفيا، وغير مشبعين بالحنان، فيصبحون ذوي نزعة عدوانية تخريبية، وسيتوفر لهم المناخ الملائم للانحراف. فالطفل حتى تكتمل شخصيته، وينضج عاطفيا وعقليا، ويستقيم تكوينه النفسي في بناء سوي، لا بد له أن يتشبع بالحب والعطف في كنف والديه، ويعيش في بيت مفعم بالحنان والتفاهم والأمان. ولكن الأب في المجتمعات الشرقية توارث مفهوما خاطئا مفاده أن المجتمع قد منحه الحق في استلاب شخصية زوجته وأولاده، وأن الأسرة هي ملكا شخصيا له، هذه النـزعة الأبوية تؤسس حوارا مغلقا بين الأب والأبناء، يملي فيه الأب شروطه وتعليماته، ويلقي مواعظه دون أن يناقش الطرف الآخر أو يسمع منه، فهو هنا ينطلق في مواعظه من قناعاته الذاتية التي تربى عليها، ونسي أن للطرف الآخر شخصية اعتبارية مختلفة، فيريد أن يصيغها كما يشاء. هذا الحوار المغلق غير المتكافئ سيولد لدى الأبناء ازدواجية الشخصية، فما أن ينتهي الأب من إلقاء مواعظه وتعليماته، حتى يبدأ الأبناء بممارسة عكسها تماما، وذلك بمجرد غيابه، فهذا الأب نسي أن لكل جيل نزعاته وظروفه المختلفة عن الجيل السابق، ويريد أن يكون أبناءه امتدادا له ونسخة عنه، وهذا يتعارض مع منطق الطبيعة. وأخطر ما في الموضوع، أن يصل الأب إلى العقاب البدني، أو أن يسْخر من عواطف الابن، ويحقر طموحاته ويستهزئ بأفكاره، وبالتالي سيلجأ الابن إلى الانطواء والخجل، وتنمو عنده العقد والاضطرابات النفسية. وعقلية الأب البطريركية ستجعل منه مستبدا متسلطا، يتدخل في كل صغيرة وكبيرة من شؤون البيت، ويفرض وصايته بصورة قد تكون جائرة في كثير من الأحيان، وهو بذلك يعمل على سلب أبنائه شخصياتهم واحتلال عقولهم، وطبعا بدافع الحرص، ولكن بطريقة مشوهة، ستؤدي إلى خلل في شخصية الأبناء، فيتعودوا على الطاعة، وتصبح نهجا في حياتهم، حتى تصبح صورة الأب ماثلة أمام عيونهم، وتتقمص في شخص كل مسؤول أو مدير أو صاحب عمل. والوصاية الأبوية بهذه الصورة تقتل الطموح والتمرد في روح الأبناء، وتخلق فيهم نزعة التواكل والعجز، فيلجئون إلى الغير في حالة مواجهة أية مشكلة، ويفقدون ثقتهم بأنفسهم واعتمادهم على الذات. والأب إذ يكبر، ويكبر أبناؤه، ولا تعود قوته البدنية كافية لإخضاع أبنائه ولا يعود متفردا بالعامل الاقتصادي، وبعد أن يتزوج الأبناء ويبتعدون بسكناهم عن الأسرة ويحققون استقلالا اقتصاديا معينا، فإن العلاقة بين الأب والأبناء هنا ستتسم بالتوتر والعصبية، ويشوبها التنافس والخوف من الآخر، فيبدأ الأب بالاعتقاد أن ابنه بعد أن استقل عنه سيهجره ولن يخضع لتعليماته، مما يولد لديه خوفا من عقوق الابن، ومما يعزز هذه الهواجس هو الخوف من المستقبل والشيخوخة، أي المرض والعوز وحاجة الناس، وتبدو العلاقة بينهما كأنها شد حبل أو مباراة نهاية الشوط،كلٌ يريد أن يلقي بكامل أسلحته، الأب يريد الابن كما كان يراه طفلا خاضعا منتظرا رضاه، والابن يريد الاستقلال والحرية والتخلص من الوصاية. يقول د. هشام شرابي في كتابه الهام "مقدمات في دراسة المجتمع العربي: "لا شك في أن ما نعتبره في الطفل من ذكاء حاد وفطنة متميزة ومقدرة عالية على التعلم، كثيرا ما تكون صفات حقيقية في الطفل، لكنه سرعان ما يفقدها ويغدو كغيره من أقرانه، ويعود ذلك إلى نمط التربية التي نفرضها عليه، والمعاملة التي نعرضه إليها والتي تقتل سريعا الذكاء والطبيعية في نفسه، وتقضي على القدرات الفطرية فيه وتطفئ جذوة النشاط المشتعلة في داخله، وتكبح جموحه وتجعله فريسة للإحباط، لأننا نريده مؤدبا مطيعا نظيفا، لا يخرب ولا يصرخ، ولا يلعب ليحافظ على نظافة ثيابه وهدوء المنـزل وراحة الوالدين". ويضيف د. شرابي حول تأثير الأهل على الأبناء الذين يراهم غالبا ما يعتمدون أساليب عديدة لجعل الطفل صورة عنهم، وليس آخرها الضرب والتخجيل والتلقين وتقييد الحركة، فما أن يدخل المدرسة والمجتمع حتى يكون قد استعد نفسيا لأن يتقبل الأفكار والأساليب الاجتماعية السائدة، فينسى أحلامه وتتبعثر قدراته، ويلجم تمرده ويرضخ لإرادة الجيل القديم التي تجدد نفسها وتفرض سلطتها من خلال العائلة والمجتمع. ويعتبر د. شرابي أن عملية التطبيع الاجتماعي من المهد إلى اللحد، ما هي إلا استمرار لعملية الاستعباد التي يفرضها الجيل القديم على الجيل الجديد، وبتعبير آخر، إننا نحرم أولادنا من مواهبهم ونسجن خيالاتهم، ونصادر خصوصيتهم، لأننا نسعى أن نجعلهم على شاكلتنا ومثالنا، كما فعل آباؤنا فجعلونا نسخة عنهم. كذلك نجد أن روح الاقتحام والمبادرة يجري خنقها عند الطفل بوسائل أخرى، حين يعلمه الأهل كيف يتأدب، وأن يجعل سلوكه مطابقا لنمط متشدد، سواء في طريقة اللبس أو آداب المائدة أو مسلكه تجاه الكبار أو تجاه أقرانه، وأيضا في فرض تعاليم الدين وطقوسه، فيعلمونه مثلا: أن يتحاشى النـزاع مع الأطفال الآخرين، فمثلا الطفل الذي يضرب طفلا آخر ينال عقابا شديدا، في حين يرثى للطفل المضروب وينال مكافأة، فبالتالي سيتعلم الطفل باكرا أن روح الاقتحام لا تجدي نفعا، وأن روح الخضوع تنال الاستحسان، وهكذا سيتعلم كيف يجد طريقه لطلب المساعدة، واستثارة العطف بدلا من العمل بإرادته الخاصة. ونحن إذ نعلم أطفالنا الطاعة وتنفيذ الأوامر وحسن التصرف، فإننا نكبل عقولهم ونحد من نموهم الذهني الطبيعي، وكما أن الكبت الجنسي سيقابله كبت ذهني، فإن الاثنين سينميان لديه نزعة الامتثال والتسليم والاتكالية.
#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)
Abdel_Ghani_Salameh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وأد البنات بالزواج المبكر
-
المرأة المستلبة في المجتمع العربي
-
المرأة بين العصر الجاهلي والعصر الإسلامي
-
جرائم متسربلة برداء الشرف
-
الكبت الجنسي
-
مفهوم الشرف في الثقافة العربية
-
الاحتباس الحراري ظاهرة خطيرة تهدد مصير الكوكب - وجهات نظر مت
...
-
ملاحظات على هامش تقرير التنمية البشرية العربية
-
تركيا تضع الهوية الأوروربية على المحك
-
رغم حملات الإدانة والإستنكار - إسرائيل تفلت من العقاب الدولي
...
-
الجزيرة وقطر .. تبادل الأدوار الخطير
-
من الهواء المقنع إلى القوقعة - يوميات سجين عربي
-
التحليل النفسي للزعماء العرب
-
في العراق .. من يقتل من ؟!
-
ليل العراق طويل .. طويل
-
العراق .. ذاكرة حاضرة .. وصورة تتداعى
-
مواصلة التنقيب في أعماق الإنسان
-
أسئلة تُنقِّب في أعماق الإنسان
-
محاولة في فهم سيكولوجية الإنسان ..
-
النهايات .. هلاك الإنسان، دمار الأرض .. فناء الكون
المزيد.....
-
فيديو يكشف ما عُثر عليه بداخل صاروخ روسي جديد استهدف أوكراني
...
-
إلى ما يُشير اشتداد الصراع بين حزب الله وإسرائيل؟ شاهد ما كش
...
-
تركيا.. عاصفة قوية تضرب ولايات هاطاي وكهرمان مرعش ومرسين وأن
...
-
الجيش الاسرائيلي: الفرقة 36 داهمت أكثر من 150 هدفا في جنوب ل
...
-
تحطم طائرة شحن تابعة لشركة DHL في ليتوانيا (فيديو+صورة)
-
بـ99 دولارا.. ترامب يطرح للبيع رؤيته لإنقاذ أمريكا
-
تفاصيل اقتحام شاب سوري معسكرا اسرائيليا في -ليلة الطائرات ال
...
-
-التايمز-: مرسوم مرتقب من ترامب يتعلق بمصير الجنود المتحولين
...
-
مباشر - لبنان: تعليق الدراسة الحضورية في بيروت وضواحيها بسبب
...
-
كاتس.. -بوق- نتنياهو وأداته الحادة
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|