|
المرآة: قصة قصيرة
رياض خليل
الحوار المتمدن-العدد: 3489 - 2011 / 9 / 17 - 10:06
المحور:
الادب والفن
1 المرآة قصة قصيرة من مجموعة القرش والأسماك الصادرة عن دار الحوار باللاذقية عام 1995 القصة العاشرة رحت أتسكع في شوارع المدينة هربا من الضجر والحياة المملة ، للمرة الألف أعبر الشوارع نفسها .. المحلات التجارية .. البضائع المغرية .. الواجهات الفخمة الأنيقة ، طوفان من الإغراءات والإثارة والأحلام العقيمة ، وينتهي بي المطاف في كل مرة إلى العودة خائبا .. حانقا على كل شيء . في القبو .. تحت درج إحدى البنايات ، أي في بيت الدرج ، صممت غرفة بعرض مترين ،وعلى طول ثلاثة أمتار ونصف ، وفيها مرحاض ومغسلة ، أجرها صاحبها لي ، ولاتدخلها الشمس من أية جهة ، أجرها صاحبها لي بأجرة شهرية تعادل نصف راتبي تقريبا ، وأعتبرت حظي جيدا بالفوز بتلك الغرفة ، لتكون ملاذا لي وقتما أشاء وأحتاج ، ولاسيما للنوم ، وقضاء الليل فيها . كلما كنت أحس بالتعب والملل والقرف ، تقودني خطواتي تلقائيا إلى غرفتي ، التي كنت أحس برحابتها كلما أحسست بضيق المدينة ، وضآلة مساحتها وحجمها ، تذكرت صاحب الغرفة حين التقيته لأول مرة . سألني: ماذا تعمل؟ أجبته : معلم . وسأل: معلم ماذا؟ واستغربت سؤاله لأول وهلة ، واستطرد موضحا: قصدي : معلم " باطون" معلم نجار .. ماصنعتك؟ معلم بأي صنعة ؟ ابتسمت ، وضحكت من كل قلبي ، فنظر السمسار إلي نظرة تأنيب وعتاب ، فأدركت المغزى ، أصبح وجه صاحب الغرفة مخيفا . سارعت إلى إصلاح غلطتي ، وهي أن صاحب الغرفة أحس بأنني أسخر من غبائه وجهله وسوء تقديره لنوع مهنتي ، أجبته من الآخر: أنا معلم مدرسة ياأخي . أجابني بلهجة فظة وناشفة وفوقية : تشرفنا يا أستاذ .. لاتؤاخذنا . أعددت الشاي ، أخذت رشفة ، وأشعلت سيجارة . سيجارتي تعادل أضعاف السجاير العادية ، فقط لأنني أتمكن من اقتنائها ، وتدخينها ، ولأن دخانها ينحصر في الغرفة ، ولايتبدد ، لأنه لامنفذ في غرفتي ليهرب منها ، وهكذا أجتر دخان السيجارة الذي يخنق الغرفة .. إلى أن أفتح الباب للتهوية . استلقيت على السريرالعتيق الخرب ، أحسست بالراحة وبالحرية . هنا لاتتعبني المناظر الخلابة ، ولاتلسعني سياط البضائع المثيرة ، ولا تضغط علي مشاهد السيارات الفارهة ، ولا تبهر عيني الأضواء الملونة الفاتنة . هنا مقبرة الأحلام التي لاتزهر ولاتثمر . هنا لاوجود لإشارات المرور ، وتقاطع الطرقات ، والزحمة ، وال" إتيكيت" ، ولا الفضوليين والمتجسسين ، هنا لاوجود للرقيب والحسيب . لذا يمكنني هنا أن أفعل الكثير ، بحرية ومتعة ، هنا ، ولأنني وحدي في غرفتي ، أحس أنه لامعنى للعورة ، وسائر المفاهيم الفارغة التي تكبلني وتثقل حياتي المثقلة أصلا بالممنوعات والمحظورات التي تخترق وراء الجدران . دخلت الحمام ،وهو مرحاض وحمام معا ، بعد أن تعريت ، وتخلصت من ديكتاتورية الثياب ، قضيت حاجاتي واغتسلت ، واستمتعت ، وأنا أراقب نفسي في مرآة كنت قد وضعتها خصيصا في زاوية مناسبة ،لأمارس هوايتي في رؤية طيفي كلما احتجت . نظرت في المرآة . تأملت جسدي كله ، ثم ركزت على وجهي ، دققت النظر في تفاصيله ، وتساءلت: أهذا أنا حقا؟ ولأول مرة أسمع ردا : " لا.. هذا ليس وجهك " . كان الصوت مألوفا . أشحت قليلا ، ثم عدت ونظرت في المرآة ، ورأيت وجه صديق قديم لي : وليكن اسمه : " س" ، إنه صاحب الصوت المألوف . صديقي طيب ، ودود ، وهو الوحيد الذي أتكلم أمامه بصوت مرتفع ومسموع ، إنه محل ثقتي ومحبتي ، على الرغم من أنه كان يعاكسني الرأي في الكثير من القضايا والآراء . من داخل المرآة .. صرخ صديقي في وجهي مرة ثانية مؤكدا: هذا ليس أنت .. ليس أنت . سألت نفسي: أحقا؟ هذا ليس أنا؟ نعم .. نعم ، إنه ليس أنا ، إنه هو .. هو صديقي" س" . رددت عليه: أعرف ذلك ياصديقي ، الآن تذكرت ، عندما كنت تنصحني وتقول: إذا أردت أن تعرف نفسك ، فانظر في المرآة ، مرة شتمتني باللهجة الدارجة:" العمى ضربك ، ماشايف حالك؟ ماعندك مراية؟ . قال: قلت لك هذا كثيرا ، ولكنك لم تطبق نصيحتي ، وبالتالي لم تفهم كلامي حتى الآن ياصاح ، لذلك عدت إليك عبر المرآة ، عساك تفهم . وتلاشت الصورة ، صورة وجهي وصورة وجه صديقي معا من تلك المرآة ، ثم تبخر الطيف ، وتغبشت المرآة ، ثم أخذت تصفو تدريجيا إلى أن عادت صورة وجهي إلى الظهور ، تفحصت وجهي ، تلمسته ، حدثت نفسي معلقا: ربما أنا مريض ، أو أنها شطط خيال ، أحلام يقظة ؟ ... 2 عدت إلى سريري ، وقبل أن أستلقي .. سمعت نقرا على الباب ، وكما توقعت : إنه صديقي" س" ، كل يوم يزورني في نفس الموعد ، فتحت له الباب : " أهلا وسهلا" قال : " ألى تغير عادتك؟ كم مرة طلبت منك تهوية ا لغرفة قبل قدومي إليك ؟ الدخان يزعجني ، أم أنك فقدت حاسة الشم؟ أكاد أختنق " . اعتذرت له : آسف .. آخر مرة ، ثم جلس في مكانه المعتاد على طرف السرير المخلع . سألني : إلى أين وصلت اليوم؟ أجبته: إلى جهنم وبئس المصير . رد: " خرجك" أنت واحد لاتستأهل أن تصير بني آدم" . قلت مازحا: " أتشمت بي؟ " . قال: " كم قلت لك : العالم "برا" (في الخارج) ، وليس هنا داخل هذا القبر اللعين الذي تسميه غرفة ، اخرج ، ولتر العالم والدنيا والناس ، ولتعش كما يعيشون ، هل ستظل إنسانا فاشلا .. غبيا؟ "فاشلا .. غبيا" كانت أمي تردد ها ، تعيرني بفلان وعلان : " انظر إلى رفاقك وأصدقائك .. أصبحوا ملاك ، ومتزوجون ، وكل واحد عنده سيارة شكل ،عرفوا كيف يتصرفون ، نجحوا ، وأنت كما أنت : إيد من ورا وإيد من قدام ، ياحسرتي عليك يا ابني ، عين وصابتك ، كلهم دبروا رأسهم إلا أنت : حسد .. حسد .. هكذا راح يلاحقني صوت أمي ، وتتابع: شو ناقصك؟ هل هم "أشطر منك؟" أذكى منك ؟ ياحسرتي على حظي وحظك . الحظ .. الحظ ، استوقفتني هذه الكلمة الصعبة ، مامعناها؟ هل يأتيني الحظ؟ أو كما يقال:" حظ إعطيني وبالبحر ارميني" . البعض يولج وفي فمه ملعقة ذهب ، الأغنياء يفرخون الأغنياء والفقراء يخلفون الفقراء .. بل الأكثر فقرا ، الحظ ؟ هل علي أن ألهث وراءه بحثا عنه؟ لكن كيف؟ أين وكيف أجدك أيها الحظ الهارب مني بين يدي ؟ وتساءلت كثيرا ، ومامن جواب شاف ، ماهو الحظ؟ هل هو" لبن العصفور؟" . أين يقع جغرافيا؟ هل هو في بلاد " الواق الواق؟" . غرقت في شريط من صور الحضارة الحديثة ، والمقبلة ، قارنتها بحاجاتي التي لاسبيل إلى إحصائها ، وبعد جهد جهيد .. وضعت إشارة مساواة فيما بينها ، واستخرجت المعادل النقدي لها ، كان هائلا ، وبعد تحليل وتركيب .. وضعت إشارة مساواة أخرى ، ثم أرجعت المسألة إلى جذورها الحقيقية ، فشملت البشرية منذ وجدت حتى هذه اللحظة ، وبعد حسابات معقدة توصلت إلى ضرورة ووجوب وضع إشارة مساواة ثالثة ، اكتملت بعدها الحلقة : الحقيقة تتكون من أبعاد ثلاثة ، والمسألة حجمية إذن ، بقي أن أعرف وأجد المفتاح : العلاقة المنطقية للأشياء .. والحياة . بعض الأشخاص القريبين مني جدا ، يحثونني على الحياة والتغيير والعمل ، على مبدأ " دبر رأسك " و" فلان ليس أذكى منك " ، " علان مثلك مثله" ، " يجب أن تجد حلا .. إنها مسؤوليتك " ، " يجب أن تفعل شيئا " ، يجب .. يجب ..يجب .... خطرت في ذهني عبارة صديقي "س" : هذه ليست مرآة .. إنها مجرد زجاج عاكس لايريك سوى الشكل والصورة الخارجية ، القشرة ، بعد واحد وربما يريك بعدين : الطول والعرض ، المساحة تقوم على هذين البعدين . صديقي "س" فيلسوف ، إنه مدرس فلسفة ، وكاتب ، ويمارس نشاطات تجعله متفائلا وسعيدا ورضيا عن ذاته . المساحة إذن غير الحجم ، والمرآة لاتعكس جميع أبعاد حجمي ، وأهم من هذا أنها: أي المرآة لاتعكس صورة أعماقي وكينونتي الذاتية ، المرآة لاتعكس الجوهر ، إذن ماذا يقصد صديقي"س" بنصائحه الفلسفية؟ أية مرآة علي أن أنظر فيها؟ أوه .. هاأنذا أقترب من الحل : المرآة هي الحل .. المرآة هي الحظ الذي أبحث عنه ، ويبحث عني ، إنها اختراع جديد ربما ، لا ، ليست كذلك ، ماأغباني ، هذه ليست المرآة السحرية التي تريني كل شيء ، هذه مرآة فاشلة ميتة ، أنها مجرد زجاج من رمل ومواد ميتة ، لاتفكر ولاتقدم حلولا . فجأة يحضرني الحل: المعادلة عبارة عن مثلث " ع ، س، م" ، ولكن أي الرؤوس هو البداية ؟ بعد تمحيص وتحليل افترضت أن "ع" هي البداية .. مفتاح الحل : "ع" هي الحرف الأول من كلمة " عمل" ، و"س" هي الحرف الأول من كلمة " سلعة" ، و" ن" هي النقد . من يصنع من؟ العمل هو الذي يصنعهما ويحددهما . الناس يعملون ، يتنافسون ، وحلبة المباراة والمنافسة هي السوق . أنا أعمل ، لكن عملي لايحقق لي ماأريد وأحتاج ، وليس ثمة إشارة مساواة بين عملي والعنصرين: س ، ن ، المتولدين عنه وبسببه ، فلماذا؟ تذكرت صديقا محشوا بالأفكار الاشتراكية ، كانت كلماته تطن في سمعي كالصدى ، تئز ، تقرقع ، كان رأسي يدوخ ، وأغرق في دوامة لاقرار لها . وتذكرت أيضا نقص تحليله ، وضعف حركيته الفكرية ، وتذكرت التغيرات العالمية الأخيرة ، التي أوصلته إلى مستشفى الأمراض العصبية . نفضت صديقي الاشتراكي وأفكاره من ذهني ، وعدت للسؤال عن التكافؤ بين عملي وراتبي ، ووجدت خللا في المعادلة ، خللا يستحيل معه الحل حسب الاستنتاجات التي توصلت إليها . وحاولت أن استحضر "س" اليبرالي المعادي للصديق الاشتراكي ، ولكن التعب كان قد نال مني ، فاستسلمت للنوم . 3 "س" ليبيرالي ديمقراطي ، يؤمن بدور الفرد في المجتمع ، و"س" كان شخصا ناجحا ، يعمل .. بل يمارس العديد من الأعمال ، وكان يحصل على الكثير مما أحلم به ولا أحققه . "س" كان يقول: " كل إنسان فرصته بين يديه" ، ووجدتني أنظر إلى راحتي أبحث فيهما عن فرصتي ، كانتا فارغتان ، تساءلت: ماذا يمكنني أن أصنع بهاتين اليدين؟ هل أصنع معجزة؟ كفلان وعلان وعللاك البان ؟ فلان صنع ، وعلان خلق من الضعف قوة ، وأنا أراوح مكاني ، يعني أنني أسير خطوات إلى الوراء وأتخلف . ماذا علي أن أفعل؟ ناجحون .. فاشلون ، إلى أي فريق أنتمي؟ . فكرت بعملي ومواهبي المختلفة ، واقتربت أكثر فأكثر من الحل ، علي أن أزاول عملا مناسبا لمواهبي واستعداداتي ، عملا أتقنه وأحبه ، ومستعد لمتابعته بحماس وعزم وتصميم ، التخطيط وحده غير كاف ، هنالك نقطة توازن حساسة جدا بين الخطة وتنفيذها ، هنا يكمن الحل المفتاح : التوافق والتوازن المثالي بين النظرية وفن التطبيق على أرض الواقع . أيقظتني من أفكاري وتأملاتي نقرات على الباب : " هذا موعده" فتحت بسرعة ، واحتضنت صديقي "س" وكأنني لم أره منذ سنوات ، عانقته بحرارة ولم أتمالك نفسي ، تركت الباب مفتوحا ، ورحت أصرخ : اكتشفتها .. اكتشفتها ، ياصديقي المخلص . ودهش صديقي واستغرب وسأل: ماهي؟ ماذا اكتشفت؟ أجبته: المرآة .. المرآة .. المرآة ............... انتهى
#رياض_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حادثة أبي طاهر التي لاتصدق
-
الخناس: شعر
-
المسافة: قصة قصيرة
-
رجل تحت الأنقاض
-
إنها سيدة محترمة : قصة قصيرة
-
كوني فأكون: شعر
-
سوسن وعيد الأم
-
القرش والأسماك
-
ابتسامات دعد
-
المفترسان
-
الولادة الأخيرة : قصة قصيرة
-
موجة عابرة في سطح صقيل
-
ولكن غدا لم يأت
-
جريمة في ملف النمرود: قصة قصيرة
-
الولادة: قصة قصيرة
-
ستعودين:قصيدة
-
المتقمصة: قصة قصيرة من مجموعة الريح تقرع الباب 1976
-
يحدث هذا حبا : قصة قصيرة
-
عيّودا: قصة قصيرة
-
ماوراء هموم امرؤ القيس
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|