|
ملحمة جلجامش ج 2
وليد يوسف عطو
الحوار المتمدن-العدد: 3489 - 2011 / 9 / 17 - 09:54
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
في هذا الجزء من الملحمة سنشهد صراع وحدة الأضداد و المنازلة بين البطلين جلجامش و انكيدو و الذي سيتحول إلى صداقة دائمة طول العمر و اعتراف انكيدو بقوة جلجامش و هذا الصراع يمثل صراع البداوة بالحضارة و المدنية و الذي سينتهي فيما بعد بموت انكيدو رمز البداوة . قضية الصراع و المنازلة بين جلجامش و انكيدو جسدها سفر التكوين في التوراة بصراع يعقوب مع الرب . نكمل نص الملحمة : رأى جلجامش (( انكيدو )) الهائج الذي ولد في البادية و يجلل رأسه الشعر الطويل فانقض عليه و هاجمه تلاقيا في موضع سوق البلاد سد (( انكيدو )) باب (( البيت )) بقدميه و منع جلجامش من الدخول إلى الفراش امسك احدهما بالآخر و هما متمرسان "( بالصراع ) و تصارعا و خارا خوار ثورين وحشيين حطما عمود الباب و ارتج الجدار و ظل جلجامش و انكيدو متماسكين يتصارعان كالثورين الوحشيين و حينما انثنى جلجامش و قدمه ثابتة في الأرض ( ليرفع انكيدو ) هدأت سورة غضبه و استدار ليمضي و لما هدا غضبه كلمه (( انكيدو )) و قال له : ( انك الرجل الأوحد , أنت الذي ولدتك أمك ولدتك أمك (( ننسونا )) البقرة الوحشية المقدسة و رفع (( انليل )) راسك عاليا على الناس و قدر إليك الملوكية على البشر ) . الملاحظ في النص حضور الآلهة الإناث بصورة بارزة و هنا هي الآلهة (ننسونا ) و رمزها البقرة الوحشية حيث البقرة رمز للخصوبة و للأمومة لكثرة حليبها و لحمها . في الجزء الآخر من الملحمة يسافر جلجامش مع صديقه انكيدو إلى غابات الأرز في لبنان لمقاتلة العفريت ( خمبابا ) في غابة الأرز المسحورة و يبدو أن الباعث للرحلة تخليد اسميهما في أعمال بطولية بالإضافة إلى سبب آخر هو أن جلجامش أراد أن يرفه عن صديقه انكيدو الذي يبدو انه سئم حياة الحضارة و حن إلى حياته الأولى في البراري و البوادي هذا ما يخبرنا به العالم طه باقر.فتح انكيدو فاه و قال لجلجامش : (( كيف سندخل غابة الأرز يا جلجامش ؟ و إن حارسها مقاتل , و هو قوي لا ينام ... )) . فتح جلجامش فاه و قال لانكيدو : يا صديقي , من ذا الذي يستطيع أن يرقى إلى السماء فالآلهة وحدهم هم الذين يعيشون إلى الأبد مع شمش أما البشر فأيامهم معدودات و كل ما عملوا عبث يذهب مع الريح ( قارن هذه العبارة مع سفر الجامعة في التوراة ( 1 / 2 – 4 ) . أكمل جلجامش حديثه : دعني إذن أتقدم قبلك و لينادني صوتك : (( تقدم ! و لا تخف)) و إذا ما هلكت فسأخلد لي اسما ... إذن لقد اختار جلجامش الأعمال البطولية ليخلد لنفسه و كلمة الاسم لدى البابليين و الشعوب السامية تشير إلى شخصية الإنسان .تسلح جلجامش و انكيدو بالأسلحة و تجمع الناس في أوروك يستمعون إلى جلجامش و هو يطلب من مجلس شيوخ أوروك السماح له بالذهاب للقتال . و هكذا نرى في بلاد بابل أرقى الديمقراطيات القديمة بوجود مجلس لشيوخ المدينة. و جاء الناس إلى جلجامش و تمنوا له قرب العودة و باركه الشيب ( الشيوخ ) و أسدوا له النصح في سفره و قالوا له : (( أيها الملك كنا نطيعك في مجلس الشورى )) ( هذه ترجمة طه باقر و في ترجمات أخرى مجلس الشيوخ ) . فاستمع إلينا و خذ بمشورتنا أيها الملك . . . . . . . . . . . . . . . . . و بعد قتل خمبابا الذي تسعى لتحقيقه اغسل قدميك و عند استراحتك مساءا احفر بئرا و لتكن قربتك ملاىء بالماء النقي على الدوام قرب الماء البارد إلى شمش ... و يبدو أن غسل القدمين نوع من التطهير أو المعمودية و نرى كذلك تقديس الماء و تقديمه لكبير الآلهة شمش و حتى اليوم فالمسيحيون في كنائسهم الشرقية و في الأعياد و المناسبات الدينية يتم مسح جباههم أو رش و جوههم بالماء المقدس الذي تمت الصلاة عليه . ثم يذهب جلجامش إلى الآلهة ننسون البقرة الوحشية , الملكة العظيمة ليأخذ مشورتها و لتشفع له عند كبير الآلهة شمش . و في الصراع مع الثور الوحشي انتصر جلجامش و انكيدو بمساعدة الإله شمش . و بعد الانتصار طلبت عشتار من جلجامش أن يكون عريسها فأجابها جلجامش : أي خير سأناله لو اتخذتك زوجة ؟ انت ! ما انت إلا الموقد الذي تخمد ناره في البرد انت كالباب الخلفي لا يحفظ من ريح و لا عاصفة انت قصر يتحطم في داخله الأبطال . فلما سمعت عشتار هذا الكلام استشاطت غضبا و بكت أمام أبيها ( انو ) و طلبت من أبيها الإله انو أن يخلق لها ثورا سماويا ليغلب جلجامش و يهلكه, فأجابها انو لو فعلت ما تريدينه و زودتك بالثور السماوي لحلت في ارض أوروك سبع سنين عجاف فهل جمعت غلالا لهذه السنين العجاف ؟ و هل خزنت العلف للماشية ؟ فتحت عشتار فاها و أجابت أباها انو قائلة : لقد جمعت بيادر الحبوب للناس و خزنت العلف للماشية فلو حلت سبع سنين عجاف فقد خزنت غلالا و علفا تكفي الناس و الحيوان و من هذه الأسطورة خرجت علينا التوراة بقصة يوسف . فقام الإله انو بإعطائها ثورا سماويا فأخذته و قادته إلى الأرض و دارت معركة بين الثور و بين جلجامش و انكيدو انتهت بمقتل الثور . فجمعت عشتار المتبثلات و بغايا المعبد و المومسات و أقامت المناحة و البكاء على فخذ الثور السماوية الأيمن .و قام جلجامش فقرب زيتا للمسح إلى إلهه الحامي لوكال بندا و اخذ قرنيه رمزا للإلوهة و علقهما في حجرة نومه ثم قام جلجامش و انكيدو و غسلا أيديهما في نهر الفرات , أي قام بالتطهير أو ما يشبه الوضوء في الإسلام . ثم حلم انكيدو حلما عجيبا رأى فيه انو و انليل و آيا و شمش السماوي قد اجتمعوا و قال انو لانليل : لأنهما قتلا الثور السماوي و قتلا خمبابا فينبغي أن يموت ذلك الذي اقتطع أشجار الأرز من الجبال , و لكن انليل أجابه قائلا : إن انكيدو هو الذي سيموت , و لكن جلجامش لن يموت . و هكذا بدا انكيدو يمرض و عرف بقرب موته , فود لو انه ما جاء إلى حياة الحضارة بل ظل في باديته سعيدا . و اخذ انكيدو يخاطب الباب كما لو كان بشرا و هذا يذكرني بأغنية للفنان عاصي الحلاني حيث يبدو أن كاتب الأغنية اخذ الفكرة من الملحمة : أخذت خشبك من مسافة عشرين ساعة مضاعفة قبل أن أبصر أشجار الأرز الباسقة إن خشبك يا باب , لم أر مثيلا له في البلاد علوك اثنتان و سبعون ذراعا , و أربع و عشرون ذراعا عرضك لقد صنعك نجار ماهر في (( نفر )) و جلبك منها . ثم اخذ انكيدو يلعن البغي . و لما أن سمع الإله شمش كلامه ناداه من السماء و كلمه : علام تلهن البغي يا انكيدو ؟ تلك التي علمتك كيف يؤكل الخبز اللائق بسمة الإلوهية و أسقتك خمرا يليق بسمة الملوكية و ألبستك الحلل الفاخرة و أعطتك جلجامش الوسيم خلا و صاحبا . و هكذا نجد الخبز و الخمر المقدسين جزء من الطقوس الدينية في بابل و منها اخذ العبرانيون و اليهود الخبز و الخمر في طقوسهم و هو ما نجده في سفر التكوين عند ملكي صادق الملك و كاهن الله العلي . و بعد أن سمع انكيدو كلام الإله شمش هدأت سورة غضبه و اخذ يبدل اللعنات بالبركات . تعالي أيتها البغي لأقدر مصيرك إن فمي الذي لعنك قد تبدل ليباركك . و بعد وفاة انكيدو يرثيه جلجامش رثاءا مرا و يظل يندبه . ليندبك نهر أولا الذي مشينا على ضفافه و ليبكك الفرات الطاهر الذي كنا نسقي منه ليبكك من عظم اسمك في اريدو و من مسح ظهرك بالزيت المعطر و سقاك الجعة ( البيرة ) إلى أن يصل : انه الفأس التي في جنبي و قوة ساعدي و الخنجر الذي في حزامي و المجن الذي يدرا عني و فرحتي و بهجتي و كسوة عيدي . و عندما مات انكيدو فجس قلبه فلم ينبض و عند ذاك يرفع صديقه كالعروس و اخذ يزار حوله كالأسد و كاللبوة التي اختطف منها أشبالها و صار يروح و يجيء أمام الفراش و هو ينظر إليه و ينتف شعره و يرميه على الأرض مزق ثيابه الجميلة و رماها كأنها أشياء نجسة سأجعل أهل أوروك يبكون عليك و يندبونك و سأجعل أهل الفرح يحزنون عليك و أنا نفسي ( بعد أن توسد في الثرى ) سأطلق شعري و البس جلد الأسد و أهيم على وجهي في الصحارى . بهذه الصورة الغاية في الإنسانية و التي اختصرناها يرثي جلجامش صديقه و خله انكيدو و يقوم دائما بإعادة و تكرار هذا النعي و هذه الصورة تشير إلى بدايات التصوف في العراق القديم كما تشير هذه الصورة إلى ما اقتبسه اليهود من الملحمة و نسبوه إلى نبوخذ نصر و أصابته بالجنون و هي تشويه لتاريخنا و حقد اسود دفين . و هكذا اخذ جلجامش يفكر بالموت و بكيفية القضاء على الموت ففكر في الذهاب إلى اوتو – نبشتم الذي نال الخلود و في طريقه سال صاحبة الحانة عنه و هذا النص ذكرناه في الجزء الأول , الملاحظ أن النساء كن يدرن حانات الخمر في بابل و قد أجابته بالإجابة الشهيرة : إلى أين تسعى يا جلجامش ؟ إن الحياة التي تبغي لن تجد حينما خلقت الآلهة العظام البشر قدرت الموت على البشرية و استأثرت هي بالحياة ... الخ و قد دلت صاحبة الحانة جلجامش على أور – شنابي ملاح اوتو – نبشتم فذهب إليه و اخبره أور شنابي أن يقتطع مائة و عشرين مرديا طول كل منها ستون ذراعا . و المردي هو الخشبة الطويلة التي يستعملها سكان الاهوار في دفع المشاحيف في الماء . و في أثناء حديث أور شنابي مع جلجامش قص عليه قصة الطوفان التي أخذتها التوراة بأغلب تفاصيلها ثم يصل جلجامش إلى نبتة الخلود و القصة معروفة حيث تأكلها الحية . ختاما يقول العالم طه باقر : ( إذا كانت الملحمة لا تزال تؤثر بمواقفها و حوادثها في أبناء العصور القديمة بعد مضي أكثر من أربعة آلاف عام على تدوينها و رغم تباين الأذواق و القيم , فكم يا ترى كان عظيم تأثيرها في عقول العراقيين الأقدمين بوجه خاص و أبناء الحضارات المجاورة .. ) .
#وليد_يوسف_عطو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل الكتاب المقدس محرف ؟
-
ظاهرة طلعت خيري
-
صفات يسوع المسيح ( عيسى ) في القرآن
-
أدعياء السياسة والثقافة في الشأن السوري
-
فوائد تصوف الحداثة في الاسلام
-
اقليم كردستان العراق بين المطرقة والسندان
-
عولمة التوراة في المسيحية وفي الاسلام
-
( أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ) قرآن كريم
-
ملحمة جلجامش ج1
-
زواج خديجة من محمد
-
( القذافي طار ... طار ... أجاك الدور يابشار )
-
مجتمع يثرب
-
العبودية في المجتمع العربي القديم
-
قناة المستقلة والحديث الناعم في معاداة الشيعة
-
موقف المثقفين من الثوراة في البلاد العربية
-
النبيذ في الإسلام
-
مقارنة بين وضع المرأة العربية في الجاهلية و في الإسلام
-
وضع المرأة عند العرب قبل الاسلام ج2
-
حجاب المرأة في الاسلام
-
ايها المصريون ... أحذروا من تكرار تجربة الدستور العراقي
المزيد.....
-
-يا إلهي-.. رد فعل عائلة بفيديو وثق بالصدفة لحظة تصادم طائرة
...
-
ماذا نعلم عن طياري المروحية العسكرية بحادث الاصطدام بطائرة ا
...
-
إليكم أبرز الرؤساء العرب الذين هنأوا الشرع على توليه رئاسة س
...
-
العلماء الروس يرصدون 7 توهجات شمسية قوية
-
أسير أوكراني يروي كيف أنقذ الأطباء الروس حياته
-
على شفا حرب كبيرة: رواندا والكونغو تتصارعان على الموارد
-
ألمانيا تمدد 4 مهام خارجية لقواتها قبيل الانتخابات
-
مرتضى منصور يحذر ترامب من زيارة مصر (فيديو)
-
-الناتو- يخطط لتقديم اقتراح لترامب بدلا من غرينلاند
-
مشهد -مرعب-.. سماء البرازيل -تمطر- عناكب والعلماء يفسرون الظ
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|