|
المسافة: قصة قصيرة
رياض خليل
الحوار المتمدن-العدد: 3486 - 2011 / 9 / 14 - 09:07
المحور:
الادب والفن
1 المسافة: قصة قصيرة من مجموعة" القرش والأسماك" الصادرة عن دار الحوار باللاذقية عام 1995 وهي القصة الثامنة ثمة من يتعقبني! ترى ماذا يريد مني؟ منذ مدة وهو يواظب على ملاحقتي . في البداية كانت المسافة التي تفصله عني كبيرة ، ولكن يوما بعد يوم ، كانت تتقلص تدريجيا .. كانت تصغر . لماذا يراقبني؟ ليس لدي مايثير الاهتمام ولا الشبهة . إنه يثير أعصابي . أتراه رجل أمن؟ هذا غير وارد ، لأنني لم أفعل مايخل بأمن الدولة والنظام العام والآداب ، ولاأتعاطى السياسة أو المخدرات أو التهريب ، لم أرتكب مخالفة سير حتى علما بأنني لاأملك سيارة : لاعامة ولاخاصة ولاحكومية ، أنا إنسان بسيط . موظف مبرمج بدقة ، لايخطئ في عمله وأداءاته . أنا رجل مدجن ، لايملك طموحات ، ولايمارس حتى أحلام اليقظة ، وليس لدي مشاريع للمستقبل . إذن لماذا أكون مستهدفا من قبل ذلك الشبح الذي يلاحقني ، من العمل إلى البيت ، وبالعكس؟ لاأذكر المرة الأولى التي لاحظته فيها ، ولم أتبين ملامحه إلا بعد أن أصبحت المسافة التي تفصلنا مناسبة لتبينه ، كنت ألتفت إليه بين الفينة والأخرى ، لأتعرف على وجهه ، وكان الرجل لايأبه لحركاتي والتفافاتي . اليوم أصبح قريبا جدا ، يوشك ان يصير محاذيا لي ، فكرت كثيرا في التوقف ، والتحدث معه ، لكني ، وبعد محاكمات ذهنية سريعة ، لم أجد المسوغ الكافي لمثل هذا التصرف ، قد يجيبني جوابا أو أجوبة مزعجة .. استفزازية ، مثل: " الشارع ليس ملكك ، هذا ليس من شأنك ، من أنت حتى تحشر أنفك فيما لايعنيك؟ ليس من حقك أن تسأل " . تلك عينات مما يمكنه قوله لي .. فيحرجني . وقد يكون عصبيا ، نزقا ، فيوجه لي الشتائم والإهانات ، وقد يهاجمني ؟ كل شيء جائز ؟ وربما تكون المصيبة أكبر ، والخطأ أفدح ، فيما لوكان رجل أمن . إذن علي أن أضبط أعصابي ، ثم إنه حتى اللحظة لم يصبح محاذيا لي تماما ، ولم تبدر منه حركة عملية ضدي ، فلماذا استبق الأمور؟ هاهو يقترب أكثر فأكثر ، ينتج عنه أن خطواته أسرع من خطواتي ، هاهو يكاد يلامس ظهري ، لن ألتفت ، سأتجاهله ، ولكني سأدافع عن نفسي إذا لزم الأمر . اقتربت كثيرا من بيتي . هاهو مدخل العمارة المؤلفة من طوابق عدة ، وشقق ، وهاهي بقالية أبي سلمان ، وهاهو سلمان نفسه ، أبو سلمان القوي ، الذي لن يسمح لأحد أن ينال مني ، وصلت ، فيما كان الرجل قد أصبح محاذيا لي تماما ، وقبل أن أدخل .. كان الرجل قد وقف مع أبي سلمان ، يكلمه ، يبتاع منه شيئا ما ، ولم أهتم لهذا كله ، ولكن في نفس اللحظة .. كانت بنت الجيران: بنت أبي سلمان البقال قد وصلت أيضا ، عائدة من عملها . وقفت هي الأخرى عند أبيها ، تظاهرت أنني سأدخل العمارة ، وتباطأت ، وانحنيت لأسوى شريط حذائي ، كنت أمثل ، ومن طرف عيني سرقت نظرة منها ، وإذا بها تتركهما لتدخل العمارة ، كانت ورائي ، تابعت وهي تلحق بي ، ثم تتجاوزني وهي تحييني بابتسامة حيية كعادتها ، وترمقني بنظرة خاطفة من عينيها الواسعتين ، مع هزة خفيفة من رأسها ، تلك كانت عادتها في إلقاء التحية ، كان اسمها : فوزية ، ودخلت فوزية ، كان بيتها : شقتها ، مقابل بيتي تماما ، ودخلت أنا الآخر بيتي . فوزية : هذا هو اسمها : فوزية بنت أنور سلمان ، الملقب بأبي سلمان ، صاحب البقالية الواقعة في أسفل ، في الطابق الأرضي المواجه للشارع العام ، كانت البقالية أصلا جزءا من الشقة الأرضية ، غرفة من غرفها التي حولها إلى بقالية ، ليسترزق منها ، ويرفد مورده التقاعدي الشهري . أبو سلمان يعيل زوجته التي تساعده في المحل ، إضافة إلى ابنته البكر ، وثلاث بنات ، وصبي وحيد . فوزية .. تعمل في مشغل للخياطة ، لتعلم المهنة ، والكسب ، ومساعدة ذويها في تدبير شؤون المعيشة التي تزداد تكاليفها مع الزمن . كنت وراءها تماما ، عندما وقفت أمام باب منزلها . نقرته ، وقبل أن أتجاوزها نحو باب منزلي المقابل ، بادرتني بالقول: " تفضل جارنا " . وبشكل مقتضب وسريع أجبتها: شكرا .. غير مرة . ردت حالا: " ولماذا غير مرة ؟ دائما 2 تقول : غير مرة ، والمرة لم تأت ! أحرجني جوابها ، واضطررت لأكرر بشكل عفوي: غير مرة انشاء الله . ابتسمت لي وابتسمت لها ، فيما فتح باب منزلها ، وأطلت منه أمها شفيقة التي رحبت بي: أهلا جارنا ، تفضل على الغداء ، دعنا نكسبك هذه المرة . شكرتها ، واعتذرت ، ووعدتها أن ألبي الدعوة في مناسبة قريبة . دخلت فوزية بيتها ، ودخلت بيتي ، خلعت سترتي ،علقتها ، اتجهت إلى غرفة النوم ، استلقيت على سريري مستسلما لأحاسيس ومشاعر متنوعة وضبابية ، ساقتني إلى تداعيات شتى : كل شيء فارغ ، أعيش وحيدا ، علاقاتي مع الآخرين تشبه علاقاتي مع الأشياء .. الأشياء الخالية من الحياة ، شيء ما يعكر علي عزلتي ، يتسلل إلى وحدتي ، يعبث بوجداني وغرائزي . أنا خائف .. مرتاب من ذلك الشيء غير الواضح ، الذي بدأ يتطفل على حياتي الساكنة .. بل الراكدة تماما . أحس بالارتباك والتشتت والضياع والرهبة ، أحس أن شيئا ما يحدث ، وسيحدث . لعل الشخص الذي يلاحقني هو السبب ، أو ربما فوزية ؟! فوزية ذات الابتسامات القصيرة السريعة ، والنظرات الخاطفة ! لم أدخل بيت الجيران ، ولاأزورهم إلا لماما ، أحيانا يطلبون مني مساعدة من أجل وحيدهم : الصبي الصغير ، وهو في الصف الخامس الابتدائي ، فلا أتردد ، وبالمقابل يولونني الاهتمام والرعاية وحسن الجوار . أتعامل معهم بدقة متناهية ، أشتري من البقالية بعض حاجياتي ، أبو سلمان يراعيني بالسعر ، يبتسم لي بود ، يسألني عن صحتي ، وعن أهلي في القرية ، القرية القريبة من المدينة ، أبو سلمان الفضولي يريد أن يعرف كل شيء عني ، عن حياتي الغامضة .. المثيرة ، يريد أن يعرف كم أتقاضى شهريا جراء عملي ، يسألني أيضا عن أملاكي في القرية ، عن مساحات الأراضي التي أملكها : كم دونما ؟ يسألني عن البيت الريفي ، عن الحيوانات كالبقر والدجاج والغنم ، وغيرها ، عن عدد أفراد أسرتي ، عن مكانتي ، ومكانة عائلتي الاجتماعية والاقتصادية في القرية ومجتمع القرية ، كان أبوسلمان يقذفني دائما بوابل من الأسئلة التي تفرخ وتتناسل بلا توقف بمناسبة وغير مناسبة كان أبو سلمان يستفسر ويستفسر ، ويحاصرني بالأسئلة من كل حدب وصوب ، وكنت أختلق الذرائع للتهرب منه والتملص من فضوله المتغول والهروب من سيل أسئلته المندفع بغزارة وقوة يصعب مجابهتها .. وكنت كثيرا ماأتساءل: لماذا يفعل أبو سلمان كل هذا؟ أم سلمان تختلف عنه ، كانت تتحدث بشكل محدد ، وحول محور معروف الإطار: كانت تركز على موضوع مثل الزواج ، الطلاق ، بنت الأصول ، النصيب ، الزوجة الصالحة ، الرجل المناسب ، عن المحبة والأخلاق والأسرة .. الخ . فوزية كانت فقط تطلق النظرات وتقذف الابتسامات ، تروح وتجيء ، تقدم أنواع الضيافة : القهوة والشاي والفواكه ، وتغتنم الفرص لإطلاق صواريخ نظراتها وابتساماتها نحوي . وأنا مستلق على السرير ، حدثت كل هذه التداعيات ، ولاأعرف كيف انقطعت فجأة بلا مبرر ، نظرت إلى الساعة وصدمت عندما عرفت أنني أمضيت ساعات في الرحلة الذهنية والاستغراق والتخيل والتخييل الذي تبخر دفعة واحدة ، وبدون أسباب ولاسابق إنذار ، نهضت متعبا ، أحسست بالرغبة القوية في تحريك جسمي .. عضلاتي التي أتعبها السكون والاستلقاء لمدة طويلة ، دخلت المطبخ ، وقد عاودتني بعض الأفكار السابقة ، ثم لاأدري كيف خطرت ببالي صورة الرجل الذي يلاحقتي كل يوم ، ويقترب مني تدريجيا ، حتى أصبح محازيا لي تماما . حفظت صورة وجهه جيدا ، وجهه يبدو اصطناعيا كقناع ، يشبه وجه لص محترف وخطير ، أو هكذا أحسست ، وفكرت بالمسافة التي كانت تفصلنا ، وكيف تضاءلت ؛ حتى انعدمت . غريب !؟ هذه هي المرة الرابعة أو الخامسة التي ألتفت فيها للساعة ؟ وأنسى الوقت الذي قرأته فيها توا , الآن سأركز : إنها الثالثة والربع من بعد الظهر ، حسنا ، بضعة ساعات ويحل المساء ، ماذا لو زرتهم هذا المساء؟ سأشرب الشاي من يدي فوزية ، وسأنظر عميقا في وجهها البهي ، في عينيها الواسعتين كالأفق ، اللامعتين كنجمتين في سمائي الليلية الصافية ، ولكن ... ولكن ماذا بعد؟ أهلي يعيشون في القرية عيشة الكفاف ، الأرض التي نملكها صغيرة ، مساحتها ثلاثة دونمات ، والبيت في القرية يتألف من غرفتين بائستين ، واسطبل للبقرة الوحيدة التي نملكها مع بضعة دجاجات بياضات . ولكن ترى هل فوزية ستقبل العيش في القرية ؟ وتحلب البقرة ؟ وتطعم الدجاج ؟ وتسمع عواء " الجقيلات" في البرية كل مساء وخلال الليل البهيم أو المقمر؟ إنها بنت المدينة . عندنا لايوجد " منتفعات" في البيت كالتي في المدينة ، فكيف ستفعلها؟ وهل ستستحم كما نستحم ؟ وهل ستتضايق من نهيق الحمير؟ وحتى لو قبلت ورضيت بكل هذا .. أين سنسكن؟ ومن أين سنعيش؟ بالتأكيد ستعجبها القرية لأول وهلة ، ستعجبها كما يعجبها منظر جميل فاتن ، ولكن الحياة ليست المنظر وحسب ، الحياة داخل المنظر قد تغير نظرتها وموقفها من ذلك المنظر الخارجي . لأول وهلة ستعجبها أحواض الورد ، ودالية العنب ، وخلف التين العجوز ، أشياء طريفة وساحرة بالنسبة لها ، ستجد فيها المتعة والتسلية ، كل شيء سيعجبها في القرية ، 3 ستحس بالفرح والحرية ، وتستنشق الهواء العليل ، وتلاعب الكلب ، ستركض ، وتشم الورد ، وتقطف عناقيد العنب ، وستشعر بلذة عندما تتذوق طعم التين الأخضر ، وتشرب الحليب الطازج غير المغشوش ، والبيض البلدي ، ستعجتها البساطة والعذرية في حياتنا اليومية ، عندئذ لن تلتفي بالابتسام ، بل ستضحك ، وتفتح ذراعيها ، وتعانق الأحلام ، سنلهو ونلعب معا : أنا وفوزية : تركض أتبعها ، تهرب ألاحقها ، نتصايح ، نشبك أصابعنا ، ثم ... ربما نتعانق ونحن نتبادل عبارات الحب وأشياء من هذا القبيل ، ثم .. ولم لا؟ سوف نتخاصر ، ندخل غرفة النوم ، ثم نمضي في مركب إلى عوالمنا التي نشتهي ، لم لا؟ سنكون تزوجنا ، سنرقص ونغني وننجب أطفالا: ذكورا وإناثا ، ونصبح عائلة كبيرة رائعة . سمعت أحدا ينقر الباب ، انزعجت ، توجست وشتمت ، ترى من ذلك الوقح ، الذي تجرأ على قطع سلسلة أفكاري ، وانتزعني من رحلتي الجميلة الخيالية؟ ! ثم إنه وقت القيلولة ! ولاموعد ، ولم أعتد من قبل أن أستقبل أي شخص في مثل هذا الوقت المخصص للراحة ، سرت متباطئا ، ومازلت مستغربا ، فتحت الباب ، ذهلت حينما لم أجد أحدا ! تجمدت للحظات ، تساءلت سدى عمن طرق الباب ، أم أنني توهمت هذا ! أغلقت الباب ، ورجعت . أتراه ذلك الرجل الذي يلاحقني ؟ وينغص علي حياتي بتجسسه ومراقبته؟ اقتربت من النافذة المطلة على الشارع ، ومن خلالها أجريت مسحا سريعا بعيني للشارع ، بالاتجاهات كافة ، ولم أجد أحدا ! أتراني أتوهم ؟ ليس من عادتي أن أتوهم ، مالسر؟ . عدت ، كان الشاي مصبوبا في كأس أنيق ، ينتظرني ، لبيته ، أخذت منه رشفة ساخنة ولذيذة ، عادت المشاهد المتسلسلة تمر من أمام عيني ، بل دخلت عيني ، واستولت على رأسي : فوزية ، صورتها تستيقظ في رأسي ، تحتل مساحاته ، تجتاحه بلا مقاومة ، فوزية بنت العشرين ، فوزية القمر السهران في قلبي ، ويسمع إيقاعاته الموسيقية الشجية : هل تقبل الزواج بي؟ أتراها تحس نحوي بشيء؟ الإعجاب مثلا ، الحب ، لا.. لا يجوز أن أسترسل في أوهامي . فوزية وأنا .. كلانا لايستطيع العيش في القرية ، بل سنعيش هنا ، في هذا البيت بالذات ، وسوف يسرها ذلك كثيرا ، لأنها ستكون دائما قريبة من بيت أهلها ، وأهلها يفضلون هذا بالتأكيد . هنا سنعيش معا ، راتبي وراتبها معا يكفيان ، مصروفنا قليل .. لاسيما إذا تخلينا عن بعض الكماليات ، أوه ، عفوا ، أقصد عن بعض الضروريات ، لم لا؟ وفوزية بنت قنوعة ، تعرف كيف تضبّ يدها جيدا . اليوم سأنظر في وجهها بإمعان ، وسأبادر بالخطوة الأولى ، هكذا هي العادة ، الرجل هو الذي يتوجب عليه أن يبادر ، ويفاتح المرأة بالحب ، وطلب يدها . اليوم سأمضي خطوة إلى الأمام ، وماهي سوى أيام حتى نكون وصلنا ، ونبتّ بالموضوع ، وبعدها أطلبها من أهلها . الساعة السادسة والثلث مساء ، قمت ، نظرت في المرآة ، شكلي .. هندامي لابأس بهما ، نهضت ، سرت ، خرجت من باب منزلي ، وصرت أمام باب منزل فوزية مباشرة ، تمنيت لو معي قلم لأرسم قلبا يخترقه سهم " كيوبيد" على الباب قبل أن أنقر عليه ، المهم نقرت الباب ، فتح ، أطلت منه فوزية .. فوزية بالذات ، لماذا؟ لعلها كانت بانتظاري ، فسارعت من دون أهلها كلهم ، سارعت لتفتح لي ، لعلها تفكر بي كما أفكر بها ، نظرت في وجهها ، وانبهرت ، فأشحت ناظري ، كانت تشع كالشمس وقت الضحى ، همست بصوت أنثوي مثير: هل ستبقى هكذا واقفا أمام الباب ؟ تفضل جارنا ، لاداعي للخجل ، البيت بيتك . ودخلت : مساء الخير - مساء ك خير وورد عبرت الممر إلى الصالون ، كانوا بانتظاري: الأب والأم والصبي .... ألقيت التحية ، ردوها بأحسن منها ، وبترحاب صادق من القلب ، وجلست ، وجلس أبو سلمان وأم سلمان والصبي سلمان حاملا كتابا ودفترا وقلما كعادته . قال الأب لابنه: " امض الآن ، الرجل لم يجلس بعد ، عيب " . وقلت : دعه يجلس ، سأعلمه ونحن ندردش ، سلمان صبي ذكي ، وكنت أراه عكس ماقلت تماما ، إنه غبي وكسول . هز أبو سلمان رأسه كالسحلية أو الضب في الذي أراه في القرية ، وبالضبط في الحوش حول المنزل الريفي ، وابتسم سلمان ابتسامته البلهاء التي تشبه ابتسامة أبيه ،وهو يلهث . قال أبو سلمان : " الله يوفقك ياأستاذ .. الحقيقة أنت كفيت ووفيت ، ولولاك لرسب سلمان في المذاكرة " ، وقبل أن أرد ، بادرت أم سلمان ذات الفطنة واللباقة والأدب: انشاء الله نفرح بك ياأستاذ ، الله يبعتلك بنت الحلال اللي تسعدك ، أنت نيتك طيبة وبتستاهل كل خير " ،وشكرتها ، وشكرتهم ، واختلست نظرة من فوزية التي تشبه أمها .. وبدأت أعلم الصبي متظاهرا أنني مهتم به . لم يكن عقلي مركزا ، كان مشوشا بعض الشيء ، وهو يلاحق فوزية وتحركاتها ، فوزية التي غابت عن الجلسة .. وفجأة أطلت ، وبين يديها عدة الشاي ، الذي طالما أحببت مذاقه من بين يديها ، كانت تحضر الشاي على أصولها . جلست ، شط عقلي ، طارت عيناي ، حومتا حول فوزية كعصفورين يستطلعان كل شيء فيها . كانت تبدو مدهشة .. فاتنة ، كانت ترتدي ثيابا أنيقة .. ملفتة للنظر ، جديدة ، كأنها للسهرة أو الاحتفال أو ماشابه . أمر ملفت ، لماذا تتأنق فوزية ؟ ولمن؟ لي؟ لم لا؟ إذن هي تشاطرني مشاعري وحبي ، إنها مهتمة بي ، مرتاحة لوجودي ، هذا يشجعني ، 4 ورحت أحدق فيها بجرأة هذه المرة ، فابتسمت بصورة أكثر عمقا واتساعا . وللتأكد تساءلت: " ربما ينتظرون ضيوفا غيري" ، سألتهم : هل تنتظرون أحدا ؟ أجاب أبو سلمان : " على قبالك ياأستاذ .. الليلة خطبة فوزية " . غص حلقي بريقي ، وانقبضت أسارير وجهي ، كأن صاعقة انفجرت في قلبي ، كأن زلزالا اجتاح جسدي كله . لاحظ الجميع حالتي المخيفة ، صدموا ، دهشوا ، هتف أبو سلمان: " يالطيف ! الله يستر .. شوصارلك ياأستاذ؟ خيرا إنشاء الله" وصاحت أم سلمان: " اسم الله حولك وحواليك ياأستاذ ، ماعلى قلبك شر ، الله يعافيك ويقويك ، حسد .. كش بره وبعيد ، " وطلبت من فوزية أن تحضر للأستاذ كأسا من الماء ، وهرعت فوزية إلى المطبخ ، وعلق أبو سلمان : هل أصابك مكروه ياأستاذ؟ هل أنت مريض؟ وعادت فوزية حاملة الماء وهي تصيح : دعوه يتمدد ، ويرتاح ، ونطلب له الطبيب . عندما سمعت كلمة"طبيب" صحوت ،وتماسكت ، وبسرعة قلت: لاداعي للطبيب ، مجرد دوخة وقد زالت . كانت فوزية قد أحضرت لي كأس عصير ، وقالت: العصير يعيد لك النشاط ، وسألتني : هل أعد لك شطيرة؟ قلت : لا .. علي أن أرتاح قليلا ، مجرد دوخة ، ربما كنت متعبا . ونهضت متثاقلا ، واستأذنتهم بالانصراف ، وأسندني أبو سلمان ، وأوصلني إلى الباب ومنه إلى باب منزلي ، دخلت ، وعاد أبو سلمان . تمددت على سريري . كان أبو سلمان قد حاول البقاء معي ، ولم أقبل ، وأقنعته أنني بخير ، وهو يتمتم: " الحمد لله على سلامتك من كل مكروه ، وعافاك الله وعافانا جميعا ياأستاذ ، أرجوك إذا احتجت أي شيء اطلبه ،ولا تستحي ، نحن أهلك ، والجار للجار ، وقد أوصى الله بالجيرة وبسابع جار ، نحن جاهزون لأية خدمة " وشكرته ، وطلبت منه العودة إلى بيته لاستقبال الضيوف ،وإتمام الخطبة ، وقلت : " ألف مبروك وعلى خيرة الله " . قال: أنت مثل ابننا ، عزيز علينا . عدت إلى عزلتي ، أحسسب أن ثمة أشياء تهرب مني . إنها أشياء في داخلي ، تخرج من جسدي ، كما تخرج الحية من جلدها ، الأشياء تتبخر .. تبتعد ، وكأنني أتطهر ، وأولد من جديد ، بعد أن عكرت الأشياء الغريبة الغازية صفو عزلتي ، وانتزعتني من حياتي الفارغة ، الباردة كالأشياء الراكدة ، وسكنت مياهي بعد أن حركها الحجر الذي سقط سهوا على صفحتها . أحسست بالضياء الذي كان ينمو في قلبي يخبو .. وأحسست بالريح التي كانت قد تحركت تهدأ . في اليوم التالي .. غادرت إلى الضيعة : الزمردة الخضراء ، لأنفض الغبار والتلوث الذي لحق بي في المدينة الغامضة ، التي لاترحم أحدا ، وأمضيت فيها فترة نقاهة ، أستعدت فيها عافيتي ونفسي ، وساعدتني الدواجن والنباتات وأسعدتني ببراءتها الفطرية .... فوزية ذهبت ، سرقت ، خطفت على غفلة مني ، ولكن أنا السبب ، أنا من تأخر وتباطأ ، وسبقت إليها ، ترى هل ستستمر بالابتسام لي؟ ولكن كيف؟ كيف وهي التي تكون قد تزوجت ، وغادرت إلى بيت زوجها؟ لايهم ، يكفي أن أراها كل شهر مرة ، كل سنة ، أو كلما زارت بيت أهلها ، سأراها ، وستقذفني بنظراتها الخاطفة الخجولة , وبابتساماتها القصيرة والسريعة . في الصباح ذهبت إلى العمل ، رحت أفعل كل مايمكنه أن يزيح عني تلك الصور والمشاهد التي عشتها سابقا مع فوزية وذويها ، والرجل الذي كان يلاحقني حتى أدركني ، ونال مني أي منال ، بعد أن انعدمت المسافة بيننا في اللحظة التي دخلنا فيها أنا وفوزية العمارة ، ومن ثم تجاوزني وسبقني ، وكسب المباراة . انتهى الدوام ، وغادرنا ، مضيت وحيدا في طريق عودتي إلى منزلي . وفي الطريق رحت ألتفت ورائي ، وأكثر الالتفات . لم أجد من يلاحقني ، لم أجد الرجل إياه . ولشد ماكانت دهشتي كبيرة ! عندما نظرت أمامي جيدا ووجدته ، وكنت قد اقتربت جدا من العمارة التي أسكن فيها ، صرت الآن وراءه ، والمسافة بيننا لاتتقلص أوتصغر ، بل على العكس تماما ، ظلت المسافة بيننا تنمو ، تكبر ، تتسع ، هو يتقدم وأنا أتخلف ، وتساءلت : ترى كم ستبلغ المسافة بيننا غدا أو بعد غد؟ إنه الرجل نفسه ، كنت قد حفظت ملامحه ، وجهه .. سحنته التي تشبه سحنة اللصوص المحترفين ، الذين لايرتكبون جريمة يعاقب عليها القانون ، بل يقترفونها بموجب القانون ومباركته ، وفي وضح النهار ، الآن ثبتت عليه التهمة ، وهو متلبس ، هاهو نفسه يتأبط ذراع فوزية : بنت الجيران .. بنت أبي سلماي " الضب أو الحردون" او البقال ، هاهما يدخلان معا مطمئنين واثقين متحابين ، يقفان ، يتصنعان حوارا ويتباطأان إلى أن أدركتهما حيث يقفان ، نظر الرجل في وجهي وابتسم ،وهزّ رأسه تحية لي ، بينما كانت فوزية والرجل يتبادلان النظرات والضحكات والكلمات في الشارع ،وعلى مرأى من المارة الغرباء ، فوزية هذه المرة لم تحرك ساكنا حينما رأتني ، لم ترمني بقذائف نظراتها وابتساماتها كالمعتاد ، ولم تهز رأسها تحية لي ، بل رمتني بنظرة ازدراء مجهولة وغامضة ، قبل أن تدخل والرجل ، ويغيبا في داخل بيت أهلها ، في نفس الوقت الذي دخلت فيه إلى منزلي ..... 20/10/1994 1 حادثة أبي طاهر التي لاتصدق قصة قصيرة من مجموعة : " القرش والأسماك" الصادرة عن دار الحوار باللاذقية عام 1995 القصة التاسعة اتصل بي صديق ، تواعدنا ، التقينا ، ليسرد لي قصة أبي طاهر التي لاتصدق ، كنا في مقهى الحجاز ، ولم يكن لدينا الوقت إلا للحديث عن أبي طاهر ، الذي اعتدنا أن نلتقي معه هنا ، على هذه الطاولة بالذات ، ونستمع .. ونستمتع بأحاديثه الشيقة ، عن المشاكل اليومية التي يصادفها مع المواطنين المراجعين ، وعن مصطلحات .. ليس من السهل فهمها بالنسبة للإنسان العادي . كان أبو طاهر يحدثنا عن مفهوم " التضخم " و" الأوراق المالية " والقيمة الشرائية ، وارتفاع الأسعار ، كان يبسطها ، يفسرها ، يشرحها ، بحيث يفهمها حتى الإنسان الأمي . كان أبو طاهر يقول: " المسألة في غاية البساطة . النقد أو المال يمثل قيمة . مثله مثل أية سلعة ، كالذهب مثلا ، والذي هو مقياس للقيمة ، لقيمة السلع ، مقياس مادي ملموس ومحسوس لقيمة ا لسلع والنقد أيضا ، هو كالمتر بالنسبة لقياس الأطوال ، أو الغرام بالنسبة للأوزان ، إنه وحدة قياس متعارف عليها ، إنه مثل ميزان الحرارة ، وسألته مرة : كيف نقيس قيمة الذهب؟ وماهو مصدر القيمة ؟ أجاب: " العمل مصدر كل القيم ، والمقياس الأساس الفعلي ، ولكن لتسهيل عملية ا لقياس ، كان لابد من استخدام صورة ملموسة لعمل متجسد ماديا ،وليس أفضل من الذهب سلعة تصلح لتجسيد القيمة من الناحية العملية والواقعية ، وبالذهب نصنع معايير ووحدات قياس صغيرة وكبيرة متفاوتة وطبقا للحاجة ، الذهب يمكن تجزئته ونقله وادخاره وبيعه وشراءه بسهولة ،ويمكن تداوله وتبادله بسهولة ويسر مع سائر السلع " - ولماذا الأوراق النقدية إذا؟ - إنها تعبير عنه ، ويمكنها أن تكون تعبيرا عن العمل نفسه مباشرة ، وهي أسهل استخداما من الذهب ، ويمكن تكييفه مع تعاظم العمليات النقدية المتزايدة . قال صديقي: " كان أبو طاهر يرى الأوراق النقدية سلاحا ذا حدين ، فهي غير آمنه أو مستقرة من حيث القيمة . إذ أن قيمتها لاتفتأ تنخفض ، وتتآكل مع مرور الوقت ، وحصول الأزمات الاقتصادية الدورية المدمرة ، وتلك العاهة أو الآفة لاوجود لها في السلع ، كقانون عام ، أو كخط بياني ، السلع محصنة نسبيا ، ولديها مناعة ضد التضخم ، فهي ترتع أسعارها الأسمية لتحافظ على أسعارها الفعلية ، كلما حصل تضخم مالي . " . وكان أبو طاهر يضرب لنا الأمثلة فيقول: " لم تعد المسألة بحاجة إلى ذكاء وعبقرية . سل أي إنسان تجده يفهم المعادلة على طريقته الخاصة ، سل أي إنسان يقول لك : كل شيء يرتفع سعره ، والعملة تنخفض قيمتها بنفس المقدار . " .
#رياض_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رجل تحت الأنقاض
-
إنها سيدة محترمة : قصة قصيرة
-
كوني فأكون: شعر
-
سوسن وعيد الأم
-
القرش والأسماك
-
ابتسامات دعد
-
المفترسان
-
الولادة الأخيرة : قصة قصيرة
-
موجة عابرة في سطح صقيل
-
ولكن غدا لم يأت
-
جريمة في ملف النمرود: قصة قصيرة
-
الولادة: قصة قصيرة
-
ستعودين:قصيدة
-
المتقمصة: قصة قصيرة من مجموعة الريح تقرع الباب 1976
-
يحدث هذا حبا : قصة قصيرة
-
عيّودا: قصة قصيرة
-
ماوراء هموم امرؤ القيس
-
لماذا رجعت إلى الحزن
-
ثم أعيدك حلما
-
الشراع الأسود: قصة قصيرة
المزيد.....
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|