|
مع فرج الله الحلو في ذكراه العطرة الخالدة
مصطفى أمين
الحوار المتمدن-العدد: 3482 - 2011 / 9 / 10 - 02:30
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
كنتُ ممن أتيحت لهم الفرصة للعمل مع هذا القائد الشيوعي الكبير فرج الله الحلو (أبو فياض). كان ذلك بعد سفر خالد بكداش إلى موسكو صباح 22 شباط عام 1958، يوم التصويت في البرلمان السوري على قيام الوحدة الاندماجية بين سورية ومصر. قبل سفر خالد بكداش بساعات حضرتُ نقاشاً بين الأمين العام للحزب الشيوعي وبين قادة هذا الحزب، وعلى رأسهم فرج الله الحلو، ومعه نقولا شاوي وأرتين مادويان وحسن قريطم، وقد حاول فرج الله إقناع خالد بكداش بضرورة حضور جلسة التصويت على الوحدة، وإلقاء خطاب يوضِّح وجهة نظر الحزب بتركيبة الوحدة وشروطها، ثم ينسحب من المجلس قبل التصويت على قرار الوحدة. وكان نقولا شاوي وأرتين مادويان يؤيدان فرج الله في موقفه، في حين أصرَّ الأمين العام على عدم حضور هذه الجلسة، مدعياً أنهم لن يسمحوا له بإلقاء كلمته، وسوف يعتقلونه بعد ذلك، وقد أراد فرج الله أن يذكـِّر الأمين العام بحادثة مشابهة جرت قبل سنوات في تشيكوسلوفاكيا، عندما كان الأمين العام للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي هو الشيوعي الوحيد في البرلمان، الذي يسيطر عليه اليمين المعادي للاشتراكية، وأن الأمين العام التشيكي (غوتوالد) أصرَّ على حضور جلسة افتتاح المجلس اليميني، وألقى خطاباً شرح فيه موقف الحزب الشيوعي، وخرج من المجلس قبل التصويت على قراراته، إلا أن هذا المثال لم يقنع الأمين العام، الذي بقي مصراً على سفره وعدم حضوره جلسة البرلمان. كان فرج الله حريصاً على أن لا تُعطى الحجة لتفسير الموقف من عدم حضور الجلسة بأنه عداء للوحدة، خلافاً لموقف الحزب الحقيقي، الذي كان يسعى إلى وحدة تقوم على الحرية والديمقراطية. وقد اتضح فيما بعد أن القيادة السوفييتية لم تكن راضية عن موقف الأمين العام بعدم حضوره جلسة التصويت على الوحدة، وكان موقفها يتفق مع موقف فرج الله. بعد سفر الأمين العام إلى موسكو، عاد أعضاء القيادة الحزبية (الشيوعية السورية اللبنانية) إلى لبنان، باستثناء فرج الله، الذي بقي لقيادة الحزب في سورية. كان جميع الرفاق المرشحين للقيادة في سورية يتابعون الدراسة الحزبية في المدرسة الحزبية العليا في موسكو، ومنهم ظهير عبد الصمد ويوسف الفيصل ودانيال نعمة وإبراهيم بكري، وكنتُ من المقربين من الأمين العام، وأحضر أحياناً اجتماعات القيادة، كما كنتُ مسؤولاً عن حركة السلم في سورية. اختارني الرفيق فرج الله لمرافقته في بعض المهمات، التي كان يقوم بها، وكان أحياناً يزورني في منزلي، الذي لم يكن يبعد كثيراً عن مكتب الحزب - مكتب جريدة (النور). وحينما كنا نلتقي، كان يحدثني عن القضايا الحزبية وعن الظروف القادمة، وخاصة المتعلقة بالإصرار على حلِّ الحزب الشيوعي، وما سترتب على ذلك، ولم يكن متفائلاً، وكان يُظهر انزعاجه من أغلاط الصحافة، وخاصة أغلاط جريدة (النور)، وكان يؤكد لي أن المستقبل للحرية والديمقراطية والاشتراكية. وصادف أن كان فرج الله في منزلي حين فاجأ الرئيس عبد الناصر سكان دمشق بمجيئه إلى دمشق، وقد زحفت دمشق للقائه في قصر الضيافة، وكنتُ مع فرج الله نشاهد من شرفة منزلنا حركة الجماهير الزاحفة للقاء القائد العربي. فجأة التفت نحوي فرج الله، وقال لي: (لا تغرَّك هذه الحشود! سيأتي يوم تُغيِّر فيه اتجاهها)، وقد حصل ذلك يوم الانفصال. وفي أحد الأيام، اتصل بي مكتب الملحق العسكري المصري في دمشق، وطلب مقابلة مسؤول الحزب الشيوعي السوري، وحدد موعداً لذلك في دارته القريبة من دارة خالد العظم. بلـَّغت فرج الله بهذا الخبر، فوافق على قبول الدعوة، ودعاني لمرافقته فيها. وبعد أن استمع إلى طلبات الملحق العسكري المصري، قال له فرج الله: (بعد عرض الموضوع على قيادة الحزب، سنبلـِّغك الجواب). ثم عاد خالد بكداش، الأمين العام للحزب، سراً إلى دمشق، وعاد فرج الله إلى لبنان. عشت هذه الفترة القصيرة مع القائد الكبير والمرشد والمعلـِّم والرفيق والصديق. كنتُ أستمع إلى حديثه بانتباه حول كل القضايا التي نمر بها، سواء كانت حزبية أم اجتماعية، وكانت العلاقة معه مدرسة جديدة بالنسبة إليَّ. بعد أن أعلن الأمين العام البنود الثلاثة عشر الشهيرة، التي فجَّرت الأزمة مع السلطة السورية، وفتحت أبواب المعركة الشرسة بين قوات الأمن السورية والحزب الشيوعي. نـُبِّهتُ ليلة رأس السنة في 1 كانون الثاني 1959 أن لا أقيم في منزلي، وهذا ما حال دون اعتقالي في تلك الليلة، في إطار اعتقالات طالت الألوف من أعضاء الحزب وكوادره. لم يجدوني في منزلي، فأخذوا شقيقي رهينة عوضاً عني. أويتُ إلى بيت عائلة شعبية دمشقية، استضافتني بسبب معرفة وتعامل سابق معها، وبعد أسبوع من وجودي لدى هذه العائلة الكريمة جاءت زوجتي لزيارتي، وهي ملفوفة بملاءة زم للتمويه، وأخبرتني أن أبا فياض سأل عني واطمأن على صحتي. كان لهذا الخبر تأثير عميق في نفسي، إذ إن أبا فياض رغم كل مشاغله والظروف المحيطة به يسأل عني. قلتُ لزوجتي: (إن أبا فياض إنسان عظيم قلَّ من هو مثله في هذه الأيام)، وفرحت لأنه هو بخير أيضاً. بعد أسبوع عادت زوجتي لتخبرني أن أبا فياض يريد زيارتي في مكان انزوائي. فرحتُ كثيراً بهذا الخبر، ورجوت زوجتي أن تكون حذرة في مجيئها وذهابها مع أبي فياض. وحسب الاتفاق، وصلتْ زوجتي ومعها أبو فياض، وكان لقاء وعناق وقبلات، وكان أول سؤال وجهه إليَّ: (هل أنت مرتاح هنا؟). قلتُ له: (نعم، إن هذه العائلة التي أجارتني تعدُّني واحداً منها). ثم سألني عن الوضع المادي مع عائلتي، فقلت له: (ماشي الحال، لا تشغل بالك بهذا الأمر). بعد أن شربنا القهوة، استفسر مني أين أمضيت ليلة رأس السنة، أي ليلة مباشرة الاعتقالات، فقلتُ له إنني قضيت تلك الليلة عند صديق، لكنه قام في الصباح مرعوباً، وشعر كأن سيارات الأمن تحوم حول منزله، وطلب مغادرة منزله والانتقال إلى مكان آخر، وقد أخبرته بالتفصيل بما حصل. بعد ذلك أخذني جانباً، وقال لي بصوت خافت: (لقد صدر قرار الحزب بإخراجك من سورية). وقد لاحظ أمارات السرور والفرح والشكر على وجهي، ثم تابع حديثه محدداً يوماً وساعة محدَّدَيْن ومكاناً قريباً من الحي الذي كنتُ أقيم فيه، ثم أضاف: (في ذلك الموعد ستنتظرك سيارة لونها كذا، وهي ستأخذك إلى خارج سورية. لم أعد أعرف كيف اشكره. عانقته وغمرته بقبلاتي، ورجوته أن يعتني بنفسه. ثم ودَّع أحدنا الآخر، وكانت تلك آخر الكلمات بيننا وآخر لقاء مع فرج الله الحلو، مع أبي فياض. بعد وصولي إلى بيروت بعدة أيام تفاجأت بخبر منشور في الصحف اللبنانية، وقد نزل على رأسي كالصاعقة، إنه خبر اعتقال المباحث السورية لفرج الله الحلو. سافرتُ إلى موسكو، ولم يفارقني خبر اعتقال أبي فياض، وكيف اعتـُقل، ومن الخائن الذي أوقع به. ولدى انتقالي إلى براغ، وتسلم عملي في مجلة الأحزاب الشيوعية (قضايا السلم والاشتراكية) كانت أول رسالة تلقيتها من الرفيق نقولا شاوي تطلب التركيز على حملة تضامن عالمية للمطالبة بالإفراج عن فرج الله الحلو. وقد قدَّم الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي كل المساعدات، فكانت وكالة الأنباء التشيكية تعرض ساعة في القسم الخارجي من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، وكنتُ أتلقى التعليمات من الرفيق نقولا شاوي، وأترجمها، وأطرحها في حملة شملت بقاع العالم أجمع وصحافته ووكالات الأنباء العالمية، وقد استمرَّت الحملة إلى أن ظهرت الحقيقة المأساة، فتوقـَّفت الحملة. المجد والخلود للقائد الشيوعي السوري اللبناني فرج الله الحلو (أبي فياض). وستبقى ذكراك العطرة خالدة يا أبا فياض. مصطفى أمين
#مصطفى_أمين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 583
-
تشيليك: إسرائيل كانت تستثمر في حزب العمال الكردستاني وتعوّل
...
-
في الذكرى الرابعة عشرة لاندلاع الثورة التونسية: ما أشبه اليو
...
-
التصريح الصحفي للجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد خل
...
-
السلطات المحلية بأكادير تواصل تضييقها وحصارها على النهج الدي
...
-
الصين.. تنفيذ حكم الإعدام بحق مسؤول رفيع سابق في الحزب الشيو
...
-
بابا نويل الفقراء: مبادرة إنسانية في ضواحي بوينس آيرس
-
محاولة لفرض التطبيع.. الأحزاب الشيوعية العربية تدين العدوان
...
-
المحرر السياسي لطريق الشعب: توجهات مثيرة للقلق
-
القتل الجماعي من أجل -حماية البيئة-: ما هي الفاشية البيئية؟
...
المزيد.....
-
الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل
/ آدم بوث
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
/ غازي الصوراني
-
الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
/ محمد حسام
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
/ أزيكي عمر
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
المزيد.....
|