أبو الحسن سلام
الحوار المتمدن-العدد: 3481 - 2011 / 9 / 9 - 13:57
المحور:
الادب والفن
نهار اليقظة في المسرح العربي ج 2
- قراءات تأويلية في مسرح قاسم مطرود – ج 1
تحرير د. أبو الحسن سلام
التجريب المسرحي
من النقطة العمياء إلى نهار اليقظة :
في مرحلة الشباب ، وخلال دورة تدريبية على قيادة السيارات ، كان ضابط المرور الذي يقود ورشة إجبارية لتعليم القيادة – وكنت أحد المتدربين فيها مع عدد من المتطلعين والمتطلعات إلى تعلم قيادة السيارات – كان الضابط يلح على مصطلح غريب على الآذان ، هو مصطلح ( النقطة العمياء ) وهي تلك التي تتصل بعلاقة قائد سيارة أمامية بسيارة تتحرك خلفه مباشرة وهو سائر بعربته ، حيث تظهر المرآة الجانبية لسيارته تلك السيارة التي تسير خلف سيارته عند مسافة معينة تفصل بين السيارتين في مسيرتهما المسرعة دون أن تغيب صورة السيارة الخلفية من على صفحة المرآة الجانبية للسيارة الأولي ، طالما تحافظ كلا السيارتين على تلك المسافة نفسها التي تفصل بينهما . فإذا تجاوزت السيارة الخلفية معدل سرعتها التي كانت تسير عليها ، مما يترتب عليه غياب صورتها على المرآة الجانبية للسيارة الأمامية ، فتغيب ، من ثمّ عن عين قائد السيارة الأولى ، ويصبح انعدام رؤيته لتلك السيارة من خلفه بمثابة نقطة عمياء بالنسبة اليه.
تذكرت هذه المسألة وأنا أطالع كتابات نخبة من نقاد المسرح في مجتمعنا العربي ، بعضها مشرقي وبعضها مغاربي ، وهي تتوزع بين كتابة هي بمثابة بطاقة أو مدونة لذات فنان مسرحي ، وكتابة أخرى هي في مجملها قراءات تأويلية لنصوص مسرحية تجريبية عراقية أبدعها الكاتب المسرحي العراقي قاسم مطرود . ومع محاولتي للربط بين تلك الكتابات النقدية ، على مسار تأويلي واحد ، ألحت على خاطري فكرة النقطة العمياء التي أشرت إليها في مطلع مقدمتي لمجمل ما قرأت وانتفعت بما قرأت واجتهدت في الوصـول إلى ما يربط بينها ، مبتدئا بهوامش الإبداع في ذات قاسم مطرود نفسه ، من خلال حوارية أجراها معه الناقد المغربي د. عبد الرحمن بن زيدان. في حوارية بن زيدان لقاسم مطرود ، يراجع بن زيدان إجابات مطرود عن كل سؤال سأله إيّاه ويضع لكل إجابة عنها عنوانا معبرا عن خلاصة جزء من التجربة التي مرت بها عربة ذات ذلك الفنان المسرحي ، ومن تلك العناوين: ( حكاية قصائد تحرق من أجل المسرح - الفن المسرحي في العراق معمار الروح والإنسان –المنفي خارج الوطن معرفة الذات وكشف الآخر – حول تشكيل المحاكم والحرائق في العرض المسرحي – الانتظار القرين الأزلي في وجود الإنسان – أجساد تحت التراب بلون الدم والتراب – هل مسرح المنفى مسرح غير واضح المعالم – النص المسرحي مساحة حقيقية للبوح بالمعاناة.) من هذه العناوين المبتكرة التي استخلصها عبد الرحمن بن زيدان ما كان على هيئة أسئلة وما هو على هيئة استخلاص .
قاسم مطرود يحكي عن العراق
والمنفى والانتظار والموت في تجربته المسرحية
حوار أجراه: الدكتور عبد الرحمن بن زيدان
• المتتبع لمسيرتك المسرحية يلاحظ هذه العلاقة القوية التي جمعتك بالمسرح، بدأت يوم كنت هاويا في المرحلة الابتدائية ومع مرور الأيام اكتشفت كل أشكال المخاضات التي عاشها العراق على المستوى السياسي والديني والثقافي مما شكل لديك الوعي التاريخي الذي دفع بك إلى البحث عن أشكال تعبيرية تنقل بها مرارة هذه المخاضات. كيف يمكن استحضار أشكال ودلالات هذه المخاضات ؟
حكاية قصائد تحرق من أجل المسرح
قاسم مطرود:دون وعي مني تبلورت شخصيتي وشغفي بالمسرح بعد مروري بالعديد من التجارب في خضم الحياة, ولا اعرف الأسباب التي جعلتني أتوقف عند المسرح دون غيره, ومنذ الصغر كنا نتلقى دروسا في الإنشاء والرسم والعلوم, وقد اطلعت على الكثير من القصص البسيطة آنذاك والتي كانت تناسب الفترة العمرية التي كنت أعيش، لكني لم اشعر بالميل إلى كتابة القصة مثلا أو الاهتمام بالرسم.
المسرح وحده هو الذي سحرني وشدني إليه، وبدأت ملامحه تتشكل مذ شكلت فرقة مسرحية في المدرسة الابتدائية لتقديم بعض العروض المسرحية البسيطة في المناسبات المدرسية.
وإن كنت أهتم بالشعر في هذه الفترة، وقد نشرت "ما يمكن تسميتها بالقصائد" وأنا في سن السادسة عشرة من العمر.
وبين حبي للشعر، واكتشافي للمكتبة العامة القريبة من منزلنا، " مكتبة العباس بن الأحنف " التي كنت أدخلها مع موظفيها، وأخرج عند خروجهم، كانت من أجمل سنوات العمر، إنها سنوات الاكتشاف
وخلال هذه الفترة كتبت أول نص مسرحي "كنت اعتقد انه نص مسرحي" فرحت كثيرا وشعرت أني وصلت أخيرا إلى ساحة البوح التي تمكنني من قول ما أريد، وفي الحال، أحرقت كل ما كتبت من قصائد وقصاصات أخرى من الورق، ومنذ ذاك الوقت أصبح المسرح هو متنفسي الوحيد، والأداة الأهم والأنبل للتعبير عن أسباب وجودنا في هذا العصر.
وبعد سنوات طوال انضممت إلى فرقة مسرحية مهمة في مدينتي مدينة الثورة وكانت تدعى " فرقة مسرح الرفض " والتي كانت تضم العديد من المسرحيين والمثقفين، وهناك صار اهتمامي بالمسرح يأخذ منحى آخر، إذ بات علي معرفة الكثير عن ذلك الذي يسمى المسرح.
وبعد فترة وجيرة، أنشأت فرقة " جماعة مسرح المدينة " مع مجموعة الأصدقاء، ومن خلالهم، وبهم، صرنا نتدارس المسرح بكونه فنا راقيا يقدر على إحداث نقلة نوعية في السلوك البشري، وإحداث أهم التغيرات " هكذا كنا نتصور الأمر في تلك الفترة ".
وأخيرا جاء " معهد الفنون الجميلة في بغداد "، و به، ومنه، ترسخ المسرح في روحي بمعناه الذي يتجسد ويتطور معي حتى الساعة، ثم جاءت أكاديمية الفنون الجميلة والتي هي الأخرى جذرت هذا الفن في روحي أكثر من قبل.
* كانت فترة معهد الفنون الجميلة والتخصص في الإخراج، المرحلة الانتقالية التي غادرت بها زمن الهواية لتدخل زمن التخصص مما كانت له انعكاسات على خياراتك الفنية فيما بعد، كيف كانت العلاقة مع هذه الفترة ؟ ومن هم الأساتذة والمخرجون الذين بصموا رؤيتك ومسيرك الفني بمعرفتهم وخبراتهم ؟
الفن المسرحي في العراق معمار الروح والإنسان
قاسم مطرود:نبدأ من أين انتهينا في الإجابة السابقة، ما أن دخلت معهد الفنون الجميلة ووقفت على خشباته المسرحية، وعرفت عمق وتاريخ هذا الصرح الذي مرت عليه أجيال مسرحية، تمثل التاريخ الحقيقي لهذا الفن في العراق, أدركت حينها أن اللحظة الواعية قد بدأت، أو تحركت وأني أقف في منطقة على أولا معرفة ماهيتها وان لا أمر مرور العابرين في هذا المعمار الروحي والإنساني في جسد العراق الفني.
أما الأساتذة الذين اثروا وتركوا بصماتهم, يمكنني القول: جميع من درسني، وعلمني، ولو كلمة واحدة، فإني أدين له بالكثير. هناك الكثير ممن لم يدرسني بل مر على معهدنا كمحاضر بصفته رائد مسرحي، أو خبير في هذا الشأن، فإني أحفظ لهم الكثير مما قالوا، ومنهم الفنان إبراهيم جلال، والفنان جاسم العبودي، والفنان بهنام ميخائيل، والفنان قاسم محمد.
ومن الأساتذة الذين واكبونا كثيرا، الأستاذ عبد الله جواد في صقل موهبتنا في التمثيل المسرحي، ومثله فعل الأستاذ خالد سعيد، والأستاذ التونسي محيي الدين السياري في الإخراج المسرحي، ومن الأستاذ فاضل قزاز الذي عرفنا أن الديكور المسرحي فن وعلم. وكلمة حق يجب أن تقال، إن الأستاذ الذي أسرني وفجر فيّ ملكة البحث والنقد المسرحي هو الأستاذ المصري حسين مليس الذي درسنا تاريخ المسرح، ولكن بطريقة جديدة هي ذاتها التي شاهدتها بعد عشرين عاماً في أوربا، إذ يترك للطالب فرصة التعبير عن رأيه و أفكاره، بل يدفعه إلى تكوين وجهة نظر خاصة بالنص المسرحي أو الكاتب أو المفهوم.
* ما هي العوامل التي جعلتك تغادر العراق؟ و كيف عشت مرارة توديع الزمن العراقي لتدخل أزمنة أخرى لم تألفها من قبل.
المنفي خارج الوطن معرفة الذات وكشف للآخر
قاسم مطرود:في مسرحية " الجرافات لا تعرف الحزن " يسأل الأب ابنه السؤال نفسه و يجيبه الابن.
ـ سأسافر يا أبت
ـ أين ؟
ـ إلى المجهول
وقتها صارت الأرض أصغر من رأس دبوس، و أنا جزء مـن ذلك الرأس، قلت له " يحاول أن يعبر عن قوله لكنه لا يستطيع " يقيناً انه لم يدرك ما أردت قوله و أخيرا انفجرت.
ـ كيف يا ولدي ؟
ـ اختنقت
حقاً إنني اختنقت، بدأت أشعر بقبضة السلطة تضيق الخناق علي، و أن وجوه جلاوزة النظام تراقب كل تحركاتي بعد أن قدمت مسرحية " للروح نوافذ أخرى " على مسرح الرشيد، وتناولت فيها تيمة الحرب، وما أسفرت عنها من دمار وخراب في النفوس، وكنت أكتب بالصحف نقداً مسرحياً شبه يومي، و أتناول العروض المسرحية بالنقد و التأويل، منتهزا ناصية الرمز في المسرح، كي أكيل جام غضبي على أفعال السلطة، وهذا أقصى ما كنت أستطيعه.
و في لحظة ما شعرت بأني مراقب، وأني تحت الركام، وروحي و عقلي أصابهما العفن، و أني بحاجة إلى التجديد،و إذا بقيت دون الاتصال بالآخرين، و معرفة الآخر، فإني ميت لا محالة، فكرياً ، و جسدياً ،ذات يوم حتماً، و على أيدي النظام الذي لا يرحم.
أما كيف عشت مرارة التوديع، فلا يعيبني إن قلت لك: إني غرقت بدموعي, و صارت أقبح الأشياء التي كنت أراها في بلادي، هي أجزاء من الجنة أودعها و أراها لآخر مرة.
المسافة بين بغداد و عمان، كانت كسنوات العمر، وكلما ابتلع الباص مترا من الشارع الطويل،كلما أفقد نسبة مقابلة من الدم الذي يجري في عروقي.
أعرف أني أودع العراق، و الأهل، و الأحبة، و ليس لي غير الدموع، و الحسرات. و بعد التجوال بين دولة و أخرى، استقر بي المقام في هولندا التي جعلتني أراقب نفسي بهدوء و ترو، محاولا فهم نفسي قبل فهمي للأخر، و هذه من فضائل الغربة، إنك تعرف الآخر، و بالتالي تقف على عتبات نفسك، و تشخص العناصر التركيبية لبنيتك،و ما تأثير مجتمعك في مسيرتك الإبداعية، و كيف تنظر إلى الهموم الإنسانية بمعناها الواسع و في إطارها الكبير.
و في الوقت نفسه تبقى الغربة تنخر في روحك، و تعذبك، و لغتك هي اللجام الذي يعيدك إلى عراقيتك و عروبتك.
* في حكاية الدمى في سوق هرج تتوزع بطولة البطل بينما هو متخيل في الشخوص و بينما هو مشخص في معنى الفضاء بالديكور.
ـ ما دلالة هذا التوزع و الانكسار ؟
ـ وهل هو انكسار هل هو انكسار الذات؟ أم انكسار الواقع الذي تسبب في هذا الانكسار؟.
حول تشكيل المحاكم والحرائق في العرض المسرحي
قاسم مطرود:" حكاية الدمى في سوق هرج "، هي المسرحية التي قدمتها كأطروحة تخرج في معهد الفنون الجميلة، بعد أن ولفتها بالاعتماد على أكثر من أربعين مصدرا، و مثل فيها حوالي أربعين ممثلا و ممثلة.
اعتمدت في هذا العمل، على شخصيتين " غاليلو غاليلي "، و ما رافقه من إشكالات في طرح نظريته المتعلقة بدوران الأرض، و كيف و قف الكرادلة، و الباباوات ضده، و أجبروه على التنازل عن نظريته و رأيه. و قد اعتمدت على نص مسرحية غاليلو غاليلى لبرتولد بريخت، و وعدت إلى مصادر أخرى تناولت سيرته و أبحاثه العلمية. إذ كان يمشي في الطرقات،و يطالب الناس، و العسس بقتله، لأنه يروم الوصول إلى الله، عبر وجده، و حبه الصوفي ما بين الرب و عبده :
أقتلوني يا ثقاتي إن في قتلي مماتي
وحياتي في مماتي ومماتي في حيـتي
وقد أدخل هو الآخر محكمة، و طالبوه بأن يعدل عن رأيه، إلا انه لم يتنازل و بقي مصراً على أفكاره و آرائه. و من هنا انطلقت مسرحيتي في تناول هذين الموقفين المتناقضين و ما أحيط بهما من ملابسات.صارت خشبة المسرح مسرحاً لمحاكمة الرجلين، إذ شغل جزء منها الكرادلة و الباباوات الذين الحلاج، إنها الظلامية في كل الأزمنة. أما عامة الناس في كلتا الحكايتين، فقد اشتركوا كأدوات فاعلة في دعم الحدث، لأنهم كانوا يدعمون الحدث من جهة، ويشكلون الديكور، في جانب آخر، و استخدموا مجرد إطارات من الخشب و التي بها و منها شكلنا
أما الشخصية الثانية فهي " الحسين بن منصور الصوفي "، و المكنى بـ" الحلاج "، و كيف كفّروه، و اعتبروه زنديقا، بعد إعلان تصوفه، و مطالبته بحقوق الفقراء، المدن و المحاكم و المنازل و الحرائق.حاكموا غاليلو. أما الجزء الآخر من خشبة المسرح، فقد شغله رجال الدين. و الحكم، ممن قاموا بمحاكمة الحلاج.إلا أني تصرفت بالديكور المسرحي و الذي كان مفتوحاً على المحكمتين.
في حين يدخل الحلاج المساحة التي يحكم فيها الكرادلة و يتلقى الحساب و يرد على التهم، و هكذا فعلت مع غاليلو الذي كان يرد على تهم رجال الدين في عصر
و منذ ذالك الوقت، عرفت أن المسرح ليس منبرا للوعظ أو توجيه الخطب الرنانة، باختيار المنمق من الكلمات، لذا كان الديكور بطلاًً مسرحياً كما كان الآخرون الذين لم يملكوا من ناصية القرار أو البت بمجريات الأمور.
بقيت النهايات مفتوحة، متروكة للمتلقي كي يقدم قراءته، و خلقه لمساحات مسرحية جديدة، هكذا سرت مع جميع نصوصي المسرحية، إذ أبقيت النهايات مفتوحة، لأنني، وبحق، لا أملك الحلول، وعليه، فقد أبقيت النهايات على ما هي عليه، عسى أن يأتي القارئ، أو المتلقي، ليجد الحلقة المفقودة في هذه النصوص.
* مسرحية " للروح نوافذ أخرى "و " رثاء الفجر " جعلت المبدع سامي عبد الحميد ويوسف العاني يتفقان على أن مضامين هاتين المسرحيتين محكومة بتيمة الانتظار. هل هذا يعني أن هناك ظلالا عبثية في هاتين المسرحيتين ؟
الانتظار: القرين الأزلي في وجود الإنسان
قاسم مطرود:منذ البدء اشعر أن فكرة الموت والانتظار أخذتا المساحة الأوسع في مضمار عملي, فقد شخص المبدع الكبير سامي عبد الحميد بكتابته مقدمة مسرحية "للروح نوافذ أخرى " ذلك الانتظار منذ الأزل، وما علينا نحن سوى انتظار يوم غد، لأنه يوم جديد، هكذا نتصور، وما أن يأتي يصبح كسابقه، وما علينا إلا أن نعيد الكرة بالانتظار عسى أن ننعم بذلك الجديد الحق، وعليه فالعجلة مستمرة والانتظار قريننا أينما حللنا.
يبقى الموت ذلك الساكن الملتصق بأجسادنا منتظرا هو الآخر ساعة الوداع.
ولأنني أحمل موتي ليل نهار، منتظرا المساحة الأخيرة التي أسجي عليها جسدي، وأدعه العالم الآخر، كانت مسرحية " رثاء الفجر " وليدة هذه التجربة الإنسانية، وهذه هي الالتماعات التي وقف عليها الرائد المسرحي الكبير يوسف العاني عند كتابته لمقدمة المسرحية.
في رثاء الفجر سار مفهوم الانتظار بمحاذاة فكرة الموت يكمل احدهما الآخر، انتظار الموت أو الحياة، تلك الحياة التي تجر وراءها حبال الموت.
* في هاتين المسرحيتين نجد تمردا على جاذبية الزمن ونجد إصرارا على تلوين تيمة الانتظار بالمشاهد الموحشة والغريبة الملونة بالرعب والإيهام واللامعنى حتى أن الشخصيات تصير شخوصا ورقية تعاني من قسوة الحياة وتعيش الم فجائع الموت وقسوة الحياة بجانب الهياكل العظمية, وصوت الدفانين, وصوت حفاري القبور, وحضور إكسسوارات تتعدد فيها المصطلحات لكنها تدل على نفس المعنى. التابوت والنعش للدلالة على الموت والعدم والضياع. لما هذه الصور الكابوسية في تجربتك المسرحية ؟
أجساد تحت الخراب بلون الدم والتراب
قاسم مطرود:" ما الإنسان إلا مجموع مدركاته "، هذه حقيقة، وهو ماأشرت إليه، في نصوصي المسرحية من مشاهد موحشة ممزوجة بالرعب ومحملة بالفجائع والهياكل العظمية التي تحدث بعضها الآخر.
إنها العراق، أنا، فقد اكتمل وعيي وتصيرت تجربتي وسط الموت والدمار، كنا نتناول وجبات الطعام أمام التلفاز الذي يبث لنا على مدار الساعة أفلام " صور من المعركة "، وعلينا مشاهدة آلاف الجثث المقطعة، المرمية على الأرض، أو تأكلها الأسماك.
بل أزقتنا وشوارعنا، هي الأخرى، كانت شاهدا على الكثير ممن تناوشتهم طلقات الطغاة وتركتهم في العراء لعدة أيام، حتى ابتلعت الأرصفة دماءهم وصار لونهم لون التراب.
أنا من وطن كانت الإعدامات فيه طقوسا تمارس بشكل يومي حتى صارت جزء من فلكلور السلطة. أنا من وطن صارت فيه المشانق معلما من معالم نظام حكم رعيته بالحديد والنار، فكيف اكتب ؟ هل يمكنني أن أكون بمعزل عن هذا الدمار وهذه العدمية.
• وطني جسد حي طاهر يدنس ويقطع كل يوم وأمام ناظر الآخرين.
• ومن هذا الركام، وهذا الزحام، وهذا الوجع والأنين، كنت أنا.
أحاول أحيانا الابتعاد عن هذه الكوابيس، إلا أني/ وما أن أنتهي من نص مسرحي، حتى أجدني منغمسا في كتابة نص آخر والموت بطله أيضا.
هل هذا النوع من التجربة المسرحية, يجعلنا نتحدث عن مسرح المنفى خارج العراق ؟ إذا كان الأمر كذلك, من هم رموزه والفاعلون في وجوده ؟
مسرح المنفى مسرح غير واضح المعالم
قاسم مطرود:يقينا هناك مسرح منفى, وان كنت أتمنى الوقوف على أهم مرتكزاته وتشخيص أهم معالمه من قبل الباحثين والمعنيين بالشأن المسرحي, لذا يصعب علينا التحدث عما يمكن تسميته بمسرح المنفى، لأنه مترامي الإطراف لكثرة المشتغلين في هذا الميدان، من مخرجين، ومؤلفين، وممثلين، وباقي العاملين في إنجاز العرض المسرحي، فهناك أسماء كثيرة، يصعب إدراجها في هذه الورقة.
ولكي نكون منصفين يجب أن يكون حديثنا عن مسرح المنفى في دولة ما, وسأفترض السؤال عن هولندا كوني أعيش هنا.
حقيقة إن مسرح المنفى هنا, مسرح غير واضح المعالم وليست له مفاصله الواضحة، فهو مازال يعاني من أمرين، محاولة إثبات الهوية، و السعي إلى الاندماج مع ثقافة البلد، وبين هذا وذاك، تأكل السنون كل المشاريع، ويكسو الهمم الصدأ.
والمنجز الحقيقي في مسرح المنفى، هو ما يسطر على الورق من بحوث ومنجزات إبداعية في عالم المسرح، لأننا، وبحق، منحنا الفرصة المثلى والحرية اللامحدودة لقول ما نريد وسط هدوء وسكينة وموت حقيقي للرقيب.
* ولأن قاسم مطرود رجل مسرح بكل معاني الكلمة ، لذا فقد انهى الناقد عبد الرحمن بن زيدان حواره معه بسؤال يتناسب مع رجل له خبرات متعددة ، موزعة بين مسارات مسرحية فكرية وإبداعية في مجال التأليف وفي مجال الإخراج وفي مجال النقد المسرحي . ذلك أن هناك أولوية بالضرورة لموهبة من تلك المواهب المشتبكة في ذات الفنان عبر خبراته المركبة والمتداخلة. وهنا تكشف إجابة قاسم مطرود عن أنه يجد نفسه في النص المسرحي ، وسيلة بوح عن معاناة الإنسان بداخله .
* أين يجد قاسم مطرود كيانه الحقيقي للتعبير عن هذا العالم ؟ هل في كتابة النص المسرحي أم في ممارسة النقد كمدخل للتعرف على أشكال اشتغال المسرح؟ أم في الإخراج المسرحي ؟
النص المسرحي مساحة حقيقية للبوح بالمعاناة
قاسم مطرود:كثيرا ما نسمع أن الكاتب الفاشل يتحول إلى النقد. إلا أني كتبت النص المسرحي بالمقلوب، أي بدأت ناقدا، ومارست النقد لسنوات طوال، ومن ثم، تحولت إلى كتابة النص المسرحي، مستفيدا من تجربتي النقدية، إذ كنت الكاتب والرقيب، في الوقت نفسه، مما جعلني ألغي الكثير من المشاريع المسرحية، أو أكتب بتأن، ولهذا فإن نصوصي تعد على أصابع اليد.
وأجد نفسي، في نهاية الأمر، في النص المسرحي، بعد ممارسة الإخراج منذ سنوات مضت، وكتابة النقد المسرحي.
النص المسرحي يمنحني مساحة واسعة للبوح، و به، ومن خلاله، يمكنني قول الكثير، وكشف المستور، وبالطريقة التي يقودني إليها خيالي.
النص منجز إبداعي، قابل للتأويل، ولهذا فهو يمنحني الفرصة والقدرة على استغلال الفسحة الواسعة أمامي، من خلال الشخوص الذين هم أصدقائي، أحيانا، أو ضيوفا ثقلاء، في أحيان أخرى، أستطيع أن اطرح عليهم وجهة نظري، وما أراه، كوني ذات فاعلة تتحرك في هذا العصر.
* وبينما توجهت حوارية بن زيدان مع قاسم مطرود وجهة تبدأ بالموهبة ، مرورا بتعدد مساراتها وتوزعها فيما بين فنون الكتابة المسرحي والإخراج والنقد لتنتهي بفض الاشتباك بين مسارات تلك الخبرات ، لاكتشاف أكثرها اقترابا من طبيعة الفنان ، وقدرة على التعبير عن جوهر ذاته ؛ تتجاوز حوارية الناقد عبد العالي السراج مساحة المنشأ وتداخل الممارسات الإبداعية إلى سؤال الوعي النظري والجمالي والتجريبي في مسيرة الإبداع المسرحي .
وهنا يقرر عبد العالي السراج قي المقدمة التي صدر بها حواره مع قاسم مطرود أن خطاب التجريب لا يصح بدون طرح الأسئلة النقدية:
" لا يمكن التمعن في سؤال التجريب وفي خطابه وبالتالي تقريب صورته في المسرح العربي إلا بطرح أسئلة نقدية تفرضها طبيعة القراءة لهذه الظاهرة ، لأن الصورة والهيئة والكينونة التي يوجد بها هذا التجريب تفرض طرح أكثر من تساؤل وأكثر من أسئلة تخص مشروعية هذه الظاهرة وخصوصيات اشتغالها ومتحولها وثابتها ومناحيها ورهاناتها وغيرها من القضايا والإشكالات التي تؤكد وجود النقد ضمن إشكالية التجريب وحضوره الواعي بهذه الإشكالية ،وكيف صار سؤال التجريب في المسرح العربي موضوعا للنقد المسرحي ، وصار الفضاء الذي يتحرك فيه هذا النقد بأسئلة تقود إلى أخرى لتضمن استمرارية القراءة والإحاطة بأكبر قدر ممكن بشساعة أسئلة التجريب وبتعدد إشكالاته المعرفية والجمالية و الفنية.
بعض من هذه الأسئلة آثرنا مطارحتها مع المبدع والناقد المسرحي العراقي قاسم مطرود أحد الأسماء الفاعلة في كتابة التجربة المسرحية العراقية بالتجريب وبالعطاء الفني المغامر.
ماذا نعني بالتجريب ونحن نتحدث عن المسرح ؟ وما مفهومه وحدوده وأهدافه ؟ وما مراميه وتطلعاته ؟ وهل يمكن القول بتعريف نهائي أو متكامل على الأقل لهذا المفهوم ؟
التجريب هو الوجه المضاد للثبات
للتجريب تشضيات ومعان عديدة, وإذا طوقنا الحديث عن التجريب في المسرح لهان الأمر بعض الشيء, التجريب هو الوجه المضادة للسكون والثبات, وهو المحرك والمفعّل للراكد من الأفكار والقيم.
ولان الإنسان ودون وعي منه تأخذه الأيام فيدخل بالمألوف منها, ويعتاد على السائد من القيم حتى يتبناها معتقدا أنها أفكاره وقيمه وتصل به إلى الدفاع عنها والموت دونها.. وهنا يأتي دور ومفهوم التجريب ليدق جرس الإنذار محاولا استيقاظ النيام واستفزاز المخدرين بحكاوي الأمس.
وفي تصوري إن التجريب بدا منذ الخليقة الأولى ونشوء الأساطير حين بدا الإنسان الانشغال بالمعرفة والاكتشاف, وإذا اعتبرنا قصة خلق النبي ادم كمصدر للجدل, فانه حاول بل جرب تناول التفاحة محاولا كسر السائد متمردا على التابو.
التجريب هو محاولة الإتيان بما هو غير مألوف والتمرد على المكرر,
وإذا عدنا إلى البدايات الحقة للمسرح عند الإغريق فإننا نجد ملامح التجريب واضحة عند ارسطوفانيس ويوربيدس الذي هشم مفهوم السلطة الدينية, وهكذا إذا أردنا التوقف عند المراحل الأخرى من تطور الفن المسرحي فسنجد العديد من الأمثلة والأدلة التي تؤكد بان التجريب كان فاعلا في التحولات المسرحية.
ولا اعتقد إن للتجريب مفهوما ثابتا أو محدودا طالما انه صراع ضد الموت بمعناه الواسع وليس المجرد, وما أن نضعه تحت أي مسميات, فإننا وبالحال نصدر له شهادة وفاة
هل التجريب ظاهرة ؟ أم اتجاه ؟ أم تيار ؟ أم نظرية ؟ أم مقولة نقدية ؟
سأبدأ من نهاية السؤال وأقول: يقينا انه ليس مقولة نقدية أو اتجاه انه فعل ونشاط إنساني ارتبط مع الإنسان منذ الطقوس الدينية الأولى, ويمكن القول انه ظاهرة مسرحية أو فكرية لأنه وكما أسلفت ليس وليد اللحظة, وللظاهرة مقوماتها حيث تأتي كرد فعل لما يفرزه المجتمع.
انه وبحق نشاط اجتماعي دائم الحركة, وأظن وبعد ألف عام سنتحدث عن التجريب أيضا لأنه عنوان الحياة وصورة الغد, التجريب هو الشهيق الذي يطرد الزفير.
هل يمكن الحديث عن التجريب في المسرح العربي ؟ وما دلالة الحديث عن هذا التجريب ؟ وما حدود الاختلاف والتقاطع بين التجريب في المسرح الغربي وقرينه العربي؟
التجريب موروث انساني مقرون بإرث الشعوب
التجريب مقرونا بإرث الشعوب وقدرتها على تجاوز الممكن والصعاب وقبول ما هو جديد على البنية الاجتماعية وليس كل بلد مستعد لاستقبال الجديد والمستحدث بالحياة بل هنالك من يجهز نفسه للدفاع عن قيم الأسلاف والتي يعتبرها ثوابت لا بد من أن يقف بالمرصاد أمام كل قادم جديد على نهجه أو صورته الثابتة.
لذا فيمكننا الحديث عن التجريب في المنجز الحضاري الذي حققناه والقدرة على الإتيان بفعل مضاد, بمعنى تجريبنا لنا وحدنا بسبب كثرة الخطوط الحمراء التي تربينا على وجودها في البيت والمدرسة والشارع والتلفاز والجامعة والمسجد, نحن محاطون بالخطوط الحمراء لذا فحركتنا التجريبية هي بحجم الكسورات والتجاوزات لتلك الخطوط, ويمكننا أن نستشف وجه الخلاف الواضح الكبير بين المسرح الغربي ومسرحنا بسبب الشوط الطويل الذي قطعوه في ركب الحضارة.
هل استطاع المسرح العربي تأصيل ظاهرته لينتقل إلى زمن التأسيس الجديد والمغاير بالتجريب ؟ وهل الشرط الحضاري العربي مناسبا لخلق حالات تجريبية عربية ؟
التجريب المسرحي العربي و الشرط الحضاري
سأتناول الجزء الأخير من سؤالك لأهميته, إن كلمة مناسب والتي وردت في كون الشرط الحضاري مناسبا للتحرك والعمل في حيز التجريب, إنها كلمة ضبابية ويمكن أن يطرح السؤال على فنان فرنسي أو ألماني أو هولندي وستكون الإجابة مختلفة حتما, وأقول اجل إن التجريب مناسب وفق المستوى والحالة التي يعيشها وطننا العربي وتجريبنا تجاوز القواعد الثابتة وفق ما متاح له من تجاوزات للتابوات, طالما يكون إدهاش المتلقي غاية مثلى في معمدانه, لذا سيكون التهشيم للتابوات بدا من العزف على نغمات جمالية جديدة وخلق تكوينات لغوية خارجة عن السياق وإقصاء أفكار كانت نائمة في دفة الكتب السمراء وبناء عالم يلحق بالركب الحضاري لهذا العالم.
هل استطاع التجريب في المسرح العربي أن يتخلص من ثقل مجموعة من الأسئلة من قبيل أسئلة: التأصيل، التأسيس العلاقة مع الآخر، الهوية … للانفتاح أكثر على ما هو إبداعي جمالي ؟ أم انه لازال رهبن هذه الأسئلة التي ظلت ملازمة له من البداية حتى الامتداد ؟
التجريب وأسئلة التأصيل والتأسيس والهوية
ولان الفن الأصيل والمسرح بالخصوص معني بإثارة الأسئلة الكونية التي تدفع الإنسان إلى المعرفة واستنطاق الأشياء.
إلا انه ومن الصعب البت أو القول بان التجريب قد تخلص من ثقل الأسئلة المحورية, كالتأسيس والتأصيل, لأننا مازلنا نؤثث عالمنا الفكري محاولين رصد النافع منه منهجا وواقعا, والمسرح العربي لا ينفصل عن الواقع الذي تحمله جموع كبيرة كنعش كبير لتتخلف عن ركب عصر لا ينتظر أحدا, ما اعنيه ليس هنالك شيئا مجزئ كحالة منفردة يمكننا الوقوف عند عتباتها كذات تحمل صفاتها الوراثية ولا مرجعية لها.
إن العلاقة الوشيجة بين المسرح والآخرين لهي أوثق علاقة إبداعية, ولا يقوم أو ينمو هذا الفن دون الآخرين وفي صورته الأولى هو المتلقي ناهيك عن الأوجه والدلالات الأخرى.
إن واقعنا العربي محاط بالخرب بل من بشاعة إلى أبشع لواقع سياسي مزري إذا يقتحمنا الإعلام بالعديد من صور أشلاء إخوتنا وأحبتنا مرمية على الطرقات أو معلقة بحبال مشانقهم وكل هذا العدم ويراد منا أن نؤثث واقعا مسرحيا جماليا, إن مسرحنا يناضل وحاله حال المناضلين في قول كلمته في إرساء نظم جمالية عسى أن نستبدل المشانق بكلمات محبة ونحول الجثث المرمية في الطرقات إلى عروض مسرحية تخاطب الغد والأمل والحياة
هل يكفي الانزياح او التمرد على كل اوفاق الكتابة النصية لامتلاك شرعية الانتساب الى مشروع التجريب ؟ وهل مجرد رفع شعار التجريب أو تبني اسئلته يؤهلان النص المسرحي لامتلاك القدرة على التحديث والتجريب ؟
التجريب هو الفهم العميق لكينونة العالم
التجريب في معناه الأولي, موقف ولا اعني به موقفا سياسيا أو دينيا, بل هو موقف إنساني جمالي منطلق من الفهم العميق لكينونة العالم, ويقينا ليس مجرد التصريح من الكاتب بأنه كتب أو سيكتب نصا تجريبا هذا يعني انه ولج هذا العالم أو حاول التمرد على سلطته السياسة والدينية والمؤسساتية فهو تجريبي.
الأمر هكذا بالفعل وأكثر بكثير, أن يكون المجرب حاملا مشعلا يمكنه أن ينير به الدروب بعد أن يعزم على تهشيم المصابيح المنطفئة القديمة وان يحمل بين جنباته الصورة المثلى لعالم جديد مدخله الجمال بكل صوره, بعد أن يرمي الصور القديمة في العالم الذي لا رجعة فيه.
يجب أن يكون المجرب ممتلئ بحزن العالم وفرحه وصمت العالم وصراخه, المجرب فيلسوف عصره وباني قصورا ليست لها مثيلا على الأرض من قبل.
ماهي الاختيارات الجمالية التي راهنت عليها النصوص المسرحية العربية التجربية ؟ وهل تحمل هذه النصوص وعيـا نظريا وجماليا بالتجريب ؟
الكتابة النصية وسؤال الوعي الجمالي بالتجريب
إن الواقع العربي وإرهاصات المجتمع الذي يحاول البناء كغيره, مقابل من يمسك معوله الدائم, لهو مؤهلا لان يفرز صورا تجريبية على مستوى الفكرة والبناء السردي لحوار الشخصيات وبالتالي ينتج هذا شخوصا غير عادين وغير مرتبطين بضرورة الحكاية والية كتابتها والالتزام بنقطة بدايتها ونهايتها, وفي نهاية الأمر ينتج هذا عرضا تجريبيا منطلقا من الفكرة الجديدة والشخصية الغرائبية المتمردة على ما هو مألوف وسكن من اللفظ والطروحات الفكرية الجديدة.
ويقينا إنها تحمل وعيا نظريا وبعدا جماليا مقرونا بالمرحلة والمكان التي تنطلق منه وقوة وضعف الرقيب الذي يهيمن ويفسد كل جديد.
هل هناك تراكم حقيقي حققه المسرح العربي حتى تصير قضية التجريب موضوعا للقراءة والمكاشفة والنقد ؟
التجريب في المسرح العربي حاضر نصا ونقدا
مشكلنا كعرب هي إننا لا نحترم منجزنا وقليل هم الذين يقفون متأملين بعض ما تقدمه العقلية الإبداعية هنا أو هناك, ولو لا مجلة مسرحيون التي اشرف عليها لقلت لك: ليس لدينا تراكم أو نتاج إبداعي, ولكن ما يرد إلى المجلة من نصوص إبداعية في حيز التجريب المسرحي وطروحات نقدية ودراسات معمقة في المجال نفسه مما عزز في نفسي القول والتأكيد, بأننا نمتلك الناصية التي تمكننا من البوح في وجود التجريب في مسرحنا العربي نصا ونقدا اشكالويا.
ولا يعني هذا غير الوقفة المتأنية من قبل الشرفاء أصحاب الكلمة الصادقة, أمام مبدعيهم المسرحيين وعلى اقل تقدير في بلدانهم بعيدا عن الفعل المؤسساتي والحكومي, وأنا على ثقة تامة ستزخر مكتباتنا المسرحية بالكتب النفيسة التي أثثت وستاثث إلى مستقبل أفضل لجيل مسرحي يعرف أين يقف على اقل تقدير.
كيف قرأ وتلقى النقد المسرحي دينامية التجريب في المسرحي العربي ؟ وكيف تقصى حقائقه وأهدافه ومراميه وتطلعاته؟ وما أبعاد هذه القراءة وخلفياتها ومرجعياتها ؟ وهل استطاع أن يواكب التغير الذي حدث ويحدث ، وان يغير أدواته ومناهجه التي ظل يقرأ بها الممارسة المسرحية العربية في تراكماتها، وذلك بخلق أدوات ومناهج جديدة قادرة على استيعاب خصوصية المرحلة ورهاناتها الكبرى ؟
النقد وسؤال التجريب
ما زل النقد لم يقدم ما يجب تقديمه من طروحات وافية بالنسبة للتجريب في مسرحنا العربي, لقد حاول بعض النقاد كتابة كتاب عن التجريب أو مقالا نقديا خجولا يمر مر الكرام على فهم هذا التمرد, الثورة, استكشاف التراث وهدم الساكن الراكد منه, ولان وجها من وجوه التجريب هو تجاوز الراكد من العقائد والمفاهيم والنظم البالية والانفتاح على ثقافة وتقاليد الآخر, لذا فقد يخشى الكثير من الدخول إلى هذا المضمار, خشية من السلطة والتي هي الوجه المضاد للتجريب.
هل يمكن القول الآن انه عندنا مسرح تجريبي عربي يحمل كل خصوصيات التفرد والتميز ؟
في الإجابات السابقة يمكننا أن نستشف الإجابة على هذا السؤال وخصوصا السؤال الثامن حيث قلت: اجل تتوفر لدينا كل مقومات المسرح التجريبي ولدينا مبدعين كبار في كافة الفنون المسرحية, إلا إنهم يحتاجون إلى من يسلط الضوء على منجزاتهم.
* ولأن التأليف المسرحي فن قائم على خبرة نظرية وعملية ذات طبيعة خاصة جدا والإخراج المسرحي فن وخبرة نظرية وعملية في الإبداع وفي فنون الإدارة والإنتاج ، وله طبيعته ودوره المخصوص في علاقته بفنون أخرى تتشارك في عملية إنتاج العرض المسرحي ، فإن اجتماعهما في خبرات فنان واحد هو المؤلف وهو المخرج في آن معا ، فيها ما قد يغلب فنا على آخر عند الممارسة الممارسة الفعلية في عملية إنتاج عرض مسرحي ، وهو أمر كثيرا ما يحد من نفعيل مخيلة الإخراج لصالح المنتج النصي موضوع الإنتاج ؛ ولأن الممارستين المسرحيتين تأليفا وإخراجا قد اجتمعتا في خبرة قاسم مطرود المسرحية لذا كانت وقفة الناقد عبد الرزاق الربيعي معه حول تلك الإشكالية، ملتقطا من مجمل رأي قاسم مطرود نفسه خلاصة ما قال حول هذه الإشكالية :
* " أعمل جاهدا على تحويل الكلمة في النص إلى صورة تستفز البصيرة "
* " أنا مع حرية المسرح وليس هنالك تابوات أو شيء مقدس فيه "
* يعود بنا عبد الرازق الربيعي في مستهل حواريتة القطع والوصل مع نجربة قاسم مطرود وتعليلاته لمنابع فنه ، يعود بنا إلى البدايات من جديد :
" عندما غادر العراق عام 1998حمل الكاتب والمخرج قاسم مطرود مع ما حمله معه من أوراق وآلام وخيبات مشروعه المسرحي الذي بدأ ه بوقت مبكر وفي هولندا كان أول شيء عمله هو البحث عن مسرح يحتوي أحلامه الكبيرة ومشاريعه الكثيرة وخلال سنوات قليلة دون اسمه واحدا من المسرحين العراقيين الذين واصلوا مشاريعهم في المنفى لتاسيس مسرح عراقي في المنفى ولقاسم مطرود تواجده في الساحة المسرحية العربية حيث شارك في العديد من المهرجانات المسرحية
وحصل على شهادات تقديرية منها مهرجان المسرح الجامعي الأول المقام في كلية الفنون الجميلة ومهرجان منتدى المسرح الحادي عشر كناقد للكثير من الأعمال المسرحية, وقد شارك أيضا في اغلب المهرجانات التي تقام عن المسرح العراقي بالكثير من المقالات النقدية. كما حصل على شهادة تقديرية لمشاركته في مهرجان المونودرما الثاني وكرم من قبل المركز العراقي للمسرح على جهوده المبذولة
وإسهاماته في دفع الحركة المسرحية في العراق..وله باع في الكتابة المسرحية حيث ألف العديد من المسرحيات منها : مسرحية “طقوس وحشية”و مسرحية “للروح نوافذ أخرى” و “رثاء الفجر” و “نشرب إذا” و”الجرافات لا تعرف الحزن “ التي صدرت في كتاب مؤخرا وقد ترجمت العديد من أعماله إلى اللغة الهولندية.. كما تمكن وهو في هولندا من أن يصدر صحيفة إلكترونية باسم مسرحيون تعنى بالفنون المسرحية.. ويعتبر من مؤسسي رابطة نقاد المسرح والبرلمان الثقافي العراقي في هولندا.
صقل موهبته بالدراسة الاكاديمية فبعد تخرجه من معهد الفنون الجميلة قسم الفنون المسرحية دخل أكاديمية الفنون الجميلة وتخرج عام 1998 في قسم الإخراج المسرحي ولم يكتف بهذا ففي هولندا درس في أكاديمية هلفرسم وحصل على شهادة الدبلوم في مجال إعداد وتقديم وإخراج البرامج التلفزيونية وعمل في هيئات تحرير في عدد من المجلات التي تصدر في هولندا حدثنا عن مراحل التكوين المؤثرات الأولى
قائلا :البداية عشق وأحلام, منذ الصغر استفزني الخطاب أمام الآخرين, وكنت انظر بإعجاب إلى من يخرجون في ساحة المدرسة الابتدائية ويقدمون التحية للعلم
ويلقون النشيد, كنت أشيد بهذه الشجاعة, وهكذا تعمقت نظرتي بعد معرفتي المبكرة بالعديد من طليعة مدينتي التي كنت اسكن " مدينة الثورة " ذات الأطياف المختلفة والمستويات المتفاوتة حيث عرفت وأنا لم أكمل الابتدائية بعد أناسا كان لهم الباع الطويل مع الكلمة والمعنى, والذي شدهم إلى ذلك الطفل هو قدرته على التحاور معهم بانطلاق دون خوف ومعرفة إلا انه يجادل, في وقت كانت التجمعات تبحث
عن شخوص تضمها إليها.
وبعد حين ارتبطت بفرقة مسرح الرفض التي كان أعضاؤها هم من طليعة أبناء مدينة الثورة كالقاص حميد المختار والفنان عباس جاور ونصيف جاسم وآخرين, ثم كونا فرقة أخرى أسميناها " مسرح المدينة " التي جمعت الشباب الساعين إلى التحديث ككريم كاظم ومنصور حسن ومزهر جاسم وأسماء أخرى ويقينا سبق وتزامن مع هذه الفرقة والتي قبلها تنشيط المعرفة والاحتكاك بكل ما هو جديد, ومن
حسن حظي بدأت انفتح على العالم واستقرئ ما يدور حولي في فترة كان العراق يزخر بالصراعات الفكرية والدينية والحزبية, أي منتصف السبعينيات, ففي يوم تكون جلساتي مع لفيف يتحدث عن الدين الإسلامي بوصفه الحل الأنجع لهذه الخليقة بصحبة أشرطة المسجل وبصوت الوائلي أو غيره, وكانت هذه الجلسات بمثابة اجتماعات دينية سرية, وفي اليوم الآخر اجلس مع مجموعة من الحزب الشيوعي,
وجل ما نناقشه هو مفهوم الماركسية التي لم افهم منها شيئا حينها وماذا يعني الحزب الشيوعي وكيف سينصف الفقراء مع تبادل الكتب التي كانت تصدر آنذاك عن دار التقدم والتي تغريك بالإطلاع عليها لروعة طباعتها وكانوا يعتقدون إن الحزب الشيوعي هو النموذج الأمثل لحل كل معضلات الكون.وهكذا الأمر مع التيارات والأفكار الأخرى والمجالس الرياضية التي هي الأخرى تتصارع فيما بينها
والرابح أنا, لأني كنت شخوفا واعتبر كل هذه الصراعات هي اكتشافات في سني المبكرة, حيث أخذت من جميع هذه الروافد ما كان ينمي شخصيتي ويطورها, وقد استفدت من هذه المتناقضات والصراعات باتخاذ القرار القريب من الصحة بعد أن تسلطت الأضواء على الخطابات والشعارات التي كان يموت من اجلها اعز الأصدقاء إلا أنها تبقى شعارات لا أكثر والخسارة الوحيدة هي تلك الأرواح التي أكلتها الأزمنة دون مبرر.
* ولأن اشتباك فن الإخراج مع فن الكتابة المسرحية يشغل مساحة غير مطرقة في كتابات النقاد لذا يسارع الربيعي بتنشيط فاعلية الإجابة عن تداخل تلك العلاقة بينه مؤلفا مع كونه مخرجا لنصوصه المسرحية:
* الكتابة المسرحية هل هي منعطف في تجربتك أم أنها مكملة لعملك كمخرج ؟
حقا إنني درست الإخراج في معهد وأكاديمية الفنون الجميلة في بغداد, ومارست النقد المسرحي منذ عام
1983 منذ كنت طالبا في فرع الإخراج إلا أني عرفت أن في داخلي مؤلف ولم أعلن عن وجوده إلا في عام 1997 بعد أن كانت لي العديد من التجارب في كتابة النص المسرحي منذ عام 1979, ولكني خشيت على ذلك المؤلف مخافة أن يظهر مهلهلا, لذا أحببت أن أقدمه بصورة حسنة أو الصورة التي يستحق, طالما خلفه ناقد ومخرج,
يمكنك القول إن الإخراج ساعدني كثيرا في التأليف وهذا ما أقوله دائما, كاتب النص المسرحي هو غير كاتب النص الأدبي وبين هذا وذاك فرق كبير, وقد لا يرضى على هذا الرأي الكثير من كتاب المسرح ولكنها الحقيقة, وأنا ابن المسرح أحدى ساقي إخراج والساق الأخرى نقد مسرحي, لذا خرج المؤلف دون خوف.
* ألا ترى إن المخرجين بانصرافهم إلى إخراج نصوصهم حرموا الكثير من النصوص التي كتبها أدباء من خارج الساحة المسرحية تركن على الرف مما فاقم من أزمة النص المسرحي؟
أنا مع حرية المسرح وليس هنالك تابوات أو شيء مقدس فيه, وعلينا إتباعه بل ننتظر من يكسر تلك القوانين ونشد على يديه, وليس مشكلا إلغاء أي عنصر من العناصر الأساسية شريطة أن يكون العرض ناجحا.وإذا أراد المخرج أن يقدم عرضا مسرحيا دون الاعتماد على نص المؤلف, فله كل الحق وبهذا يعلن هو الآخر عن مؤلف ومخرج في الوقت نفسه وبهذا نكون قد كسبنا مؤلفا جديدا يضاف إلى المسرح.وإذا كانت هناك نصوص كما ورد في سؤالك كتبها أدباء من خارج الساحة المسرحية ومصيرها الرفوف, فليس العيب هنا بالمخرج بل بالنص الأدبي الذي اختار الرف مكانه الأخير.النص المسرحي, يجب أن يستفز القارئ المخرج الممثل العاملين في صنع العرض وفي نهاية الأمر ذلك المتلقي الذي يحدق بعينه المركبة وان لم يحتوي النص على تلك الخاصية فليحجز مكانه بين الرفوف كمادة أرشيفية. وليس كل ما يكتب للمسرح نصا مسرحيا, هناك الكثير من الإنشاء غير جدير بالقراء وبالتالي غير جدير بالإنتاج المسرحي والإنشاء هنا ليس في سرد المفردات فحسب بل هو السياحة في عوالم ودهاليز لا يتمتع بها إلا كاتبها.في الفترة التي كتب فيها هنريك ابسن جل أعماله والتي كانت تقدم على خشبات المسارح وهكذا كانت أعمال سترند برغ التي قدمت أكثر من مرة في العام الواحد, كانت هنالك نصوص تسمى نصوص فكرية كمسرحيات جورج برناردشو وتلستوي لأنها احتوت على الكثير من الأفكار والقليل من الفن أو لنقل الحرفة المسرحية متناسين إن المسرح هو فرجة أولا ولعبة ومتعة وشكل وإبهار ومن خلال هذا وذاك قل قولتك.خلاصة القول إن النص الجيد يصرخ معلنا عن وجوده حتى ولو كان في خزانة تحت الأرض.
* لم يفت الباحث المحقق في حواريته أن ينعرج بالسؤال عما عرف مؤخرا بأزمة
المسرح ، وما أن يتلقى جوابا يحيلها إلى سطحية الكثير من ةالنصوص ، وبعدها عن تقنية العرض المسرحي ؛ حتى يلتف على الإجابة ليشير إلى طبيعة التركيب في مسرح مطرود بما يكشف من جديد عن شبهة اتهام بأنه يزاوج بين كونه مؤلفا وكونه مخرجا لنصوصه
* هل تقر بوجود هذه ألازمة ؟
اجل هناك أزمة نص مسرحي وإجابتي مرتبطة بالسؤال السابق, نحن لدينا الكثير من النصوص التي كتبت للمسرح ولكنها ليست نصوص مسرحية, يجب أن تكون أدوات كاتب النص المسرحي خالصة وعميقة ولا يملكها غيره ناهيك عن قدرته على الفهم التام لنوع الكتابة وتمكنه من صياغات اللغة التي يكتب بها وهذا كله واحد من مئة مما يجب توفره في الكاتب المسرحي, كنت اعتقد إن مهمة المؤلف الموسيقى اشق وأصعب من الكاتب المسرحي والحقيقة غير ذلك إذ إن مهمة الكاتب المسرحي أعسر
بكثير لما لها من شروط وامكانات عليها أن تكون ضمن سياق شخصية المؤلف وليس عناصرا يستخدمها عند الكتابة ويتنازل عنها في حياتيه اليومية.إن ما يجب توفره في الكاتب المسرحي قد لا أستطيع معرفته أو الحديث عنه إلا انه شيء يشبه
السحر.
* نصوصك مركبة تحتوي على مشاهد بصرية فكأنك تخرج على الورق, كيف تفسر هذا ؟
سأقسم سؤالك إلى قسمين وأجيبك على القسم الأول حيث وجود المشاهد البصرية واحتواء نصوصي على بنية مركبة, فإن كانت نصوصي بهذا الشكل فان هذا من دواعي سروري واعمل جاهدا على تحويل الكلمة في النص إلى صورة والصورة هنا ليس في معناها المجرد, بل ذلك الهيكل الذي يستفز البصيرة ويدعو المتلقي إلى جدل يفضي إلى شيء أو لا شيء, وان كانت مركبة كما أسلفت, فهذه لعبتي وأنا سعيد بها لان النص مثل المرأة إن لم تكن لها أسرار فإنها تفقد نصف جمالها.
أما الشطر الآخر الذي يتعلق بإخراجي لنصوصي على الورق فهو يحمل أمرين الأول يسعدني كوني ارسم الشخصيات واجعلها تتحرك على الورق مما يدفع المخرج والقارئ إلى مشاهدتها واعتبارها كائنات حية تخاطبه حيث يكون, والأمر الثاني هو تدخل وتحجيم قدرة المخرج على التفكير وتفجير مخيلته, وأتمنى أن لا تكون نصوصي قيدا على مخيلة وإبداع المخرج بل أحاول أن أبث الكثير من
المفاتيح التي تمكنه من فك رموزها بعد أن يصل إلى الدهليز الذي يؤدي إلى ذلك الكائن المشترك بيني وبينه وبالتالي نوصله إلى المتلقي عبر الممثل والعناصر الأخرى.
* ومع أن المعايشة التأليفية تفرض على الدور الذي يقوم به المؤلف المسرحي أن يقصر دوره على إمداد شخصيات الحدث المسرحي بما يغطي حاجتها إلى التعبير عن جوهر ما تريد وجور ما تشعر به تعبيرا عن هويتها ؛ فيمكنها بأن تأخذ من مخزون خبراته المعرفية والمعلوماتية على قدر حاجتها لتعبر عن نفسها في صراعها مع الآخر وفي صراع إرادتها مع مشاعرها ؛ الأمر الذي يأخذ به المؤلف نفسه بالصرامة ختى لايسقط القناع عنه فينكشف مسربا بعضا من رأيه على ألسنة شخصياته ، إلا أن الناقد " العبيدي " يلمح باتهام قاسم بأنه دكتاتور في رسم تفصيلات بيئة نصوصه مضيقا على إبداع مخرجي أعماله المسرحية . . وهذا أمر يفترض أ، من المخرجين من لا يتوحد مع النص الذي يقوم بإخراجه ، فقاسم يرسم مرئية صوره المسرحية مؤلفا ، ولكن ذلك غير ملزم لمخرجي نصوصه بالقطع !
* أنت دكتاتوري عندما تكتب أي تحد من حرية مخرجي نصوصك بكثرة الملاحظات والمشكلة أن النصوص تنهار ينائيا لو تجاهل المخرجون هذه الملاحظات, هل تكتب النصوص برؤية مخرج ؟
أنا لست دكتاتورا وإنما اكتب ما اشعر به ضروري في هذه اللحظة وهذا المكان, إن الملاحظات التي أدرجها هي من لحمة النص وهي تساعد وتدل المخرج وصانعي العرض من سينوغرافيا وانتهاء بالمنفذين وإذا كان حذفها يسقط النص بنائيا فهذا حسن أيضا لان النص ليس حورا فحسب وسؤال وجواب انه حياة, تخيل انه مطلوب منك كتابك مجريات يوم لشخصيتين أو ثلاثة, كم سيتطلب منك الإيضاح لسيرهم وتدوين أقوالهم فكيف للنص المسرحي الذي يكون في الغالب مشحون ومكثف في
إيصال ما يجب إيصاله, إن الملاحظات وأنا اسميها " سيناريو العرض " هي روح النص والدفق الذي يعضد عند المخرج أو القاري وبالتالي يجسد على الخشبة مشهدا يصل الى المتلقي مبنيا بناء فنيا ففي نص " للروح نوافذ أخرى " اخذ المخرج جملة " ديدان تزحف على الأرض " وحولها إلى مشهد أخاذ حيث وصلت الديدان إلى القاعة وبالتالي اقتحمت الجمهور, الملاحظات يستفيد منها من له القدرة على تفعيلها وتحويل الكلمة إلى صورة فنية معبرة لها روح ونفس.ولأنني ابن العرض المسرحي حيث عملت مخرجا وممثلا وناقدا ومؤلفا مسرحيا لذا اعرف شيئا عن دقات ذلك القلب, متى ينبض ومتى يستريح وأنني لم اكتب نصا مسرحيا واحدا ولم يقدم على خشبة المسرح بل هناك بعض النصوص قدمت أكثر من عشر مرات وفي العديد من البلدان العربية وفي هولندا.على النص أن يكون مستفزا ومحركا للساكن والمستقر.
* ولأن الحوارية تدور حول قضايا التأليف المسرحي العربي مع كاتب عربي ، فمن الطبيعي أن يتوقف الحديث أما واقع المسرح العربي من حيث علاقته بالمتغيرات المجتمعية والدولية بعامة وحالات اغتراب المنافي بالنسبة للعراقيين وأثر ذلك شكلا ومضمونا على صورة الشخصية المسرحية. وهو أمر يمتد بالقطع إلى قضايا المسرح والتجريب .
* كيف ترى واقع المسرح العربي ؟
المسرح العربي لا ينفصل عن مجريات الواقع العربي المتخم بالأحداث والانقلابات الفكرية والسياسية المؤدلجة منها وصاحبة الشعارات الفارغة التي تملا الأسماع.
إذا تحدثنا عن مسرحنا العربي سيضطرنا الحديث عن الأمان والإنتاج وفلسفة الدولة وفهمها للفن كرافد أساسي في حياة المجتمع.
يوم يكون لنا واقعا مستقرا ولا اعني بالاستقرار الرفاهية وان كانت مهمة للغاية للتفكير بما هو إبداعي وخلاق, الاستقرار هنا في تركيبة الشخصية العربية وعلى اقل تقدير تكون ملامحها شبه واضحة وتعرف على اقل تقدير مكانها من لعبة العصر الذي تتغير فيه الأمكنة كل ساعة, نتيجة لسرعة الحدث المرتبطة بعجلة التطور أو التنامي أو التغير.إن مسرحنا يصارع خارج الحلبة, وهو مدرك وواعي لدوره التاريخي وقد يلعبه في بلد ما أفضل بكثير من البلد الآخر بل قد لا يكون في بعض البلدان العربية اسما للحلبة أو خارجا عنها, ما زالت هناك
بعض البلدان تعتبر المسرح بدعة أو عيب أو حرام, وهناك بلدان لها تقاليد مسرحية وأعراف راسخة في الحياة اليومية والنشاط الثقافي الحضاري كمصر وتونس والعراق وسوريا ولبنان والمغرب
وفلسطين التي ترزح تحت العذاب, في هذه البلدان يمكننا الحديث عن وجود مسرح مع التباين الكبير في الطروحات والتوجهات في الفهم الحق لذلك النشاط المسرحي الإنساني
* ما فهمك للتجريبية في المسرح؟ والمختبر المسرحي ؟
التجريب في المسرح هو ذلك النبض الذي يديم سر بقاءه, وهو الوقود المحرك لعربته والذي يجعلها تواكب التطور بعد اقتحام السينما للمسرح, والآن الهجمة الأوسع عالم الملتيميديا ولا ينقذه شيئا سوى التجريب المستمر.والتجريب لم يغب عن المسرح أبدا منذ النشوء عند ثسبس الاكاري وآريون الكورنثي حتى كتابة نص
الضارعات عام 490 ق م على يد المجرب الكبير اسخيلوس ومن ثم تلاه المجرب الأكبر الذي لم يأت العصر بمثله هو سوفوكليس ويوربيدس وتطول القائمة إذا توقفنا عند مرحة النشوء فقط.في كل عصر وزمان يكون التجريب حاضرا ومؤثرا, والا لتوقف المسرح ورمي مع الكثير من الفنون التي أصبحت تراثا, فقد جاء شكسبير وجرب هو الآخر في المنطقة التي حدّث فيها وهكذا فعل مولير وصولا إلى المسرح الحديث وهذا ليس مكانا لذكر الأسماء واهم الالتماعات التجريبية في منجزاتهم,
لأنه يحتاج مني بحثا طولا ولكني أقول: إن التجريب هو تحريك الساكن واستفزاز المستقر والتحرش بالمقدس وهذا هو دأب المسرح وما يجب أن يكون عليه كي يحافظ على ديمومته.أما موضوع المختبر المسرحي فهو نادر ولا يحدث دائما ونسمع عن مختبر هنا أو هناك بغية استحداث أو تطوير أداة الممثل أو تحسين آليته أو البحث والتقصي في معالجة إشكالية فلسفية عبر مجموعة العمل لإنجاز مشروع عرض مسرحي شبه متكامل عبر عملية التنامي والاكتشاف المختبرية.
* ماذا عن المنفى؟ وهل ترى أن المسرحيين العراقيين نجحوا في تأسيس مسرح عراقي في المنفى
إذا كان المسرح العراقي والعربي غير واضح المعالم وهو ينمو في تربته, فكيف هي حال مسرح المنفى الذي يكافح على أكثر من جبهة, في حقيقة الأمر ليس هنالك ما يسمى بمسرح المنفى بل يمكننا الوقوف عند بعض الأسماء وبعض من تجاربها, وتبقى هذه التجارب فردية مرهونة بقدرة ذلك المبدع على العطاء والصبر والتواصل والخلق وتجاوز الصعاب.إن المسرح في المنفى قائم على المهارات الفردية الغير مدعومة من المؤسسات ويمكننا تلمس الكثير من المشاريع الإبداعية التي لا تعتمد على جهود الآخرين واعني الكتابة للمسرح نقدا وتأليفا.
فقد استطاع المنفيّ استغلال الحرية التي لم يألفها من قبل وغياب الرقيب بشكل كامل إلا من الضمير لإنتاج نصا إبداعيا مفتوح الأفق في عالم النقد المسرحي والتأليف الذي نعاني من النقص في هذا الجانب, وهذا غاية في الأهمية, وإذا تم العزم على تقديم ذلك النص الذي بني على أحلام واطر لم تتوفر لنا يوم كنا في أوطاننا نواجه صعوبات أخرى ومن نوع آخر, من حيث الإنتاج والموافقات ونوع اللغة التي سيقدم بها وأين ومتى. بمعنى آخر إن مسرح المنفى ليس كما نتمناه
* ولاشك عندي في أن خالة الإتراب والغربة عن الوطن وعن تفاعلات الهوية القومية في ظل تفاعلات ثقافة حداثية وتفكيكية غربية فرضتها بيئة المنفى الاختياري ، ترغم المبدع المتواصل مع جذور هويته إلى ابتكار وسيلة تعويض يتنفس بها فنه ، وقد وجد قاسم مطرود وسيلته التعويضية عن غربته واغترابه الثقافي عن طريق تأسيسه لموقع " مسرحيون" المسرحي ، الذي هو بحق منفذ تعويضي لنا نحن المسرحيين كتابا ونقادا ومؤرخين ومخرجين وعلماء عما فقدناه من منافذ للإبداع المسرحي الرصين الجاد منذ هزائم أنظمتنا العربية نتاج عنترياتها الفارغة وديماجوجيتها ، لذا كان حريا بالناقد الالتفات إلى أهمبة الدور الذي يلعبه موقع " مسرحيون".
* أنت تشرف على أهم موقع مسرحي عربي على شبكة الانترنيت, كيف بدأت هذه التجربة؟ وما أفاقها ؟ وماذا أضافت لك؟
كان حلما صغيرا وبدا يكبر, مما اضطرني مضاعفة جهودي لتجسيد ذلك الحلم وتحويله إلى واقع ثقافي مسرحي يعلن عن وجوده.البداية من العراق وبالتحديد قبل أكثر من عشرين عاما, إذ شغلني موضوع النص المسرحي والحديث عن أزمة النص وغيابه في ثقافتنا المسرحية, وكنت اعرف إن في حوزة مبدعينا الكثير من الإبداعات المسرحية إلا أن ثقافة النشر الو رقية كانت تحد من إيصال هذا المنجز لتعسف الرقابة وللمحسوبية والعلاقات التي فرضت نفسها على الواقع الثقافي ولأمور إنتاجية أيضا مما حال من ظهور ما ينجزه المبدع والاكتفاء بإبقائه مركونا في المجرات الخاصة.وبعد وصولي إلى أوربا وبالتحديد إلى هولندا ودخولي عالم الانترنيت الذي أحببت, شرعت بإنشاء موقع " مسرحيون" الذي فتح مساحته الواسعة أمام إبداع جميع المسرحيين العرب لقول قولتهم دون رقابة إلا من جودة النص أو المقال فنيا وله الحق في الكتابة عن أي شيء وبالطريقة التي يجدها هي
الأمثل.وبعد فترة وجيزة تحول الموقع المجلة إلى مؤسسة مسرحية تحتل مكانتها بعد أن عمقت الصلة عبر " أسرة مسرحيون "الذين عملوا من جميع بلدان العالم, وكما جاء في سؤالك " هو أهم موقع مسرحي عربي " وأنا أقول: هو من المواقع المهمة واترك للمعنيين في هذا الشأن الرأي الأخير بمؤسسة مسرحيون ودورها في الحياة المسرحية.
أما أفاق المجلة التي تسعى منذ التأسيس وما زالت إلى إيجاد مؤسسات غير حكومية داعمه لها لكي تصدر سلسلة من الكتب المسرحية وبامكاننا رفد المكتبة المسرحية بالعديد من النصوص المسرحية وبإصدار سلسلة شبيهة بسلسلة المسرح العالمي التي صدرت من مصر والكويت وسيكون ينبوع النصوص العربية جاريا دون توقف, كما لدى " مسرحيون " مكتبة تضم العديد من الكتب والدراسات التي لم تر النور من قبل والتي كانت نائمة في مجرات مبدعيها وكانت إطلالتها الأولى من بوابة مسرحيون.
أما إضافة الموقع إلي شخصيا, فانا انفق على هذا المشروع من جيبي الخاص ومن وقتي الذي استقطعه من أسرتي ومن مشروعي المسرحي الذاتي لكي أحافظ على رونقه وفرادته.ولا أنكر انه جعلني بالحدث المسرحي, بعد أن كنت ابحث عن الجديد في هذا المضمار, والآن يأتيني وبشكل يومي عبر بريدي الخاص لاطلع عليه أولا واضعه في الموقع ثانيا تعميما للفائدة, ولهذا فمعرفتي بالمشهد المسرحي العربي وما ينجز في المنفى معرفة مستمرة ومتفاعلة مع تعميق الصلة بالمبدعين والاقتراب منهم أكثر من قبل وهذا مكسب كبير لنا جميعا.
( انتهى الجزء الأول )
#أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟