علاء سالم مانع
الحوار المتمدن-العدد: 3481 - 2011 / 9 / 9 - 00:21
المحور:
الادب والفن
الغرق في الذات
مسرحية بقلم : علاء سالم
المشهد الأول
المسرح مقسّم إلى قسمين متساويين. القسم الأيسر مظلم تماماً بينما القسم الأيمن مضاء بالكامل إضاءة خفيفة..
يدخل القسم الأيمن رجل يرتدي بذلة سوداء مع قميص أسود وربطة عنق بلون فضّي لامع قليلاً..
يتنقّل الرجل بين زوايا القسم المضاء وثناياه وكأنه يبحث عن شيْ ما, ظل الرجل المرسوم على ستارة المسرح الخلفية يحاكي تحركات الرجل اعتياديا..
يستمر الرجل بتنقله وبحثه لثواني ثم يقترب من القسم المظلم من المسرح..
يمد يده يتحسس الفاصل بين الجانبين وكأنه يتحسس جدار ما أو فاصل مادي, يضرب الفاصل الوهمي بقبضة يده..يتنهد..
يلتفت إلى يساره, يراقب ظله على الستارة الخلفية, يتقدم نحو الظل, يتفحصه من أسفل إلى أعلى...
يرجع إلى وسط القسم المضاء, يلتفت نحو القسم المظلم, يمعن النظر فيه لثواني, يتهاوى إلى الأرض, يجلس القرفصاء, يضع رأسه بين رجليه, يتهاوى الظل بنفس الوقت مقلداً حركات الرجل بدقه..
تضاء شمعه موضوعة على شمعدان وسط الجانب المظلم..
بضع ثواني..
يرفع الرجل رأسه, ينتفض بسرعة متقدما نحو الشمعة بمجرد أن يرى نورها يتهادى بين أرجاء الظلمة..
يصطدم بالفاصل بين قسمي المسرح, يتحسسه لثواني, يتنهد, يتراجع إلى الوراء قليلاً..
صوت باب يُفتح ببطء..
يمد الرجل يده من جديد, تنفذ إلى الجانب المظلم, يعبر الرجل من خلال الفاصل..
بنفس لحظة عبور الرجل يضاء القسم الأيسر بإضاءة خفيفة بينما يغرق القسم الأيمن بظلام تام..
في أقصى اليسار, في زاوية المسرح البعيدة, يجلس متسول يبدو منهمكاً بعد بعض الأوراق النقدية وترتيبها..
يتقدم الرجل مسرعاً نحو الشمعة..
على ستارة المسرح الخلفية ظل حيواني الشكل يسلك نفس الاتجاه الذي يسلكه الرجل ولكنه يتأخر عنه بخطوات وأبطؤ جرياً منه بقليل..
ينتبه الرجل إلى الظل الحيواني - قبل أن يصل إلى الشمعة - يتجمّد في مكانه....
يواصل الظل تقدمه نحو المتسول بينما الرجل واقف في مكانه...
يضحك المتسول بصوت عال..
يتقدم الرجل نحو المتسوّل بذهول..
المتسول ( مبتسماً ): وأخيراً لقد أتيت..
الرجل ( باستغراب ): من أنت؟! ولماذا تتكلم وكأنك كنت بانتظاري؟!
المتسوّل ( بسخرية ): من كان ينتظر من يا صديقي؟!
الرجل: لم أكن بانتظار أحد..ثم.. أ..لا تهمل شق السؤال الأول..
المتسوّل: دعك مِن مَن أنا..(يبتسم ) المتسول هو الشخص الوحيد الذي لا يُسأل عن هويته..
الرجل: ولكن طريقة مخاطبتك لي جعلتني أُفكر أ...
المتسوّل ( قبل أن يكمل الرجل كلامه ): ليس بقدر مظهرك الذي جعلني أُفكر في جيبك...
الرجل ( وهو يتفحص شكل الظل ): أطلب رزقك من اللّه..هو من يعطيك..
المتسوّل: وهل تراني أجد اللّه في مكان غير الأكف التي تمتد بحقوقي نحوي؟!
الرجل ( يلتفت نحو المتسوّل مستغرباً ): حقوقك؟!
المتسوّل : ضرائب, لاجتيازك بعض اللحظات سالماً واستمرارك في كسب رزقك ( يبتسم ) واقتناء البدلات الفاخرة ( يهمهم ثم يضيف ) كبذلتك هذه والتي كان باستطاعة ثمن كثمنها أن يطيل عمر صديقي المتسوّل, الذي مات جوعاً بالأمس, لشهرين آخرين..
الرجل ( بإصرار ) : لي لحظة موت واحدة لا يؤخرها عطائي لك لحظة أخرى ولا يقدمها عدمه..
المتسول : وماذا تعتبر تأخرك, لبعض ثوانٍ, عن باص يتسبب لاحقاً بحادث يودي بحياة ركابه أو عن آخر يستقله شخص ما حاملاً عدوى لمرض مميت إلا مواعيداً مع الموت تتأجل لأحيان أخرى..
الرجل ( بفتور ) : لا أعطيك .... (ثم يعود لتفحص الظل)..
المتسوّل: أتمنى أن أعرف لماذا ولو لمرة واحدة..
الرجل ( مستهجناً وبلهجة استعلاء ): أنت أول متسول يستفهم عن رفضه بلماذا !
المتسوّل: بل أول متسولٍ يجهر بها..(يصمت لثانية)..هل تعتبر نظرات الاسترحام من عيوننا إلا استفهاماً عن بخلكم وعن عدالة السماء..( ينظر إلى الظل الحيواني ثم يضيف ساخراً ) ولكن لبريق العيون كلام لا يفهمه إلا من كان إنسانا في صورته وظله..
يحملق الرجل بوجه المتسوّل مستفهماً ويهز المتسوّل رأسه متنصلاً عما قاله..
الرجل ( وهو يتفحّص الظل ): ليس ظلي....( يأخذ نفساً عميقاً ثم يزفره دفعة واحدة )
المتسول: دعك من هذا و أعطني....أعطني ضريبة اجتيازك لحظات أخطر من مواعيدك المؤجلة مع الموت..
الرجل ( يستدير نحو المتسوّل مستفهماً ): ؟
المتسول: لحظات في صغرك, أو في حياة والديك, كانت قد تغير مصيرك بأكمله ( يضيف بسخرية وهو يمسح ذقنه ) كانت قد تجعلك متسولاً كهذا الجالس تحت قدميك الآن..
الرجل ( متعجباً ): ؟
المتسوّل ( يكمل موضحاً ): وهل قرار والدي ترك تعليمه واختاره كسب اليد إلا لحظه؟..هل إصابته التي أحالته إلى مقعد إلا لحظه؟..هل اختيار الموت لأمي إلا لحظة؟.. هل قرار والدي بمجيئي إلى هنا والنظر إلى أيديكم إلا لحظة؟... (يتنهد ثم يضيف ) لحظات كانت من نصيبي فكنت أنا الجالس بثيابي الرثة هذه ولم تكن من نصيبك فكنت أنت الواقف بملبسك الأنيق هذا
( يُطرق قليلاً ثم يضيف بصوت منخفض ) هل مشيئة خلقي في بيت كبيتي إلا لحظة؟ وهل مشيئة خلقك في بيت كبيتك إلا لحظة؟...(يتنهد ثم ينظر إلى الأرض)....
الرجل ( ينظر في جيب سترته الداخلي ) : مع إني لم أعرف لحظاتك التي تتكلم عنها ولم أمر بمثلها إلا أن لإعتاقي من سجن كلام بلا طائل ثمن....(يرمي على المتسول ورقة نقدية)...
المتسول (يتلقف رزقه هامساً لنفسه ): تعطون بمقاصدكم التافهة هذه لتخسرون ما تخسرون دون أن ....أُف
يتحرك الظل إلى الوراء لبضع خطوات ثم يقف ليتقدم خطوة واحدة ويتكلم بصوت يشبه صوت الرجل مع قليل من التضخيم ...
الظل ( مخاطباً الرجل ): ناسياً كنت أم متناسياً عندما قلت للمتسول إني لم أمر بلحظات كالتي تحدثت عنها؟!
الرجل ( متعجباً ): ؟
المتسول يرفع رأسه وينظر إلى الظل بلا اكتراث..
الظل ( مكملاً حديثه ): أنسيت مرض صغرك الذي تغيب بسببه والداك عن العمل يوم احترق مصنعهما وتحول أغلب ما فيه من عمال إلى قطع من القماش الأسود ازدحمت للفوز بمكان على واجهة المصنع كي تستجدي الاسترحام لذكراهم؟! هل مشيئة مرضك إلا لحظة ؟ هل قرارهما بالتغيب إلا لحظة؟ أتعرف ما قد تكون عليه الآن لو كان لأبويك نصيباً من أكوام اللحم المتفحمة في صالات عمل ذلك المصنع؟... (صمت) هه ما أظنك إلا ناسيا كنسيانك نفسك...
يبتسم المتسول....
الرجل ( بذهول ) : من .. من أنت؟!
الظل : هه ظلك طبعاً...ظلك الذي رافقك منذ صرختك الأولى, عندما تنفست هواء هذه الحياة لأول مرة, و لحد الآن..ظلك..
الرجل (مستنكراً): ماذا؟! ظل.. ظلي...لَ..لست ظلي ..لست ظلي..
الظل: أين ظلك إذن؟!
يبتسم المتسوّل..
الرجل ( ينظر إلى ظل المتسوّل المرسوم إلى جانبه طبيعياً, يتلفّت حوله يبحث عن ظل على صورته ثم يعاود النظر للظل الحيواني ): لكن..لكنك لست على صورتي ..أ..أنت على صورة....
المتسوّل ( بتردد ): حيوان..
ينظر الرجل إلى المتسوّل بغضب...
المتسول يضم الورقة النقدية التي أعطاها له الرجل إلى صدره ويشير إلى الظل رافعاً المسؤولية عن نفسه...
الرجل ( للظل ): لست ظلي, لست على صورتي...
الظل : وهل ظل الإنسان إلا جانبه المظلم, الجانب الذي يظل محافظاً على شكل واحد مهما تغير شكله الحقيقي..
الرجل ( مستفهماً ): ؟
الظل : لو كان بإمكان كل شخص أن يرى شكل جانبه المظلم متى شاء لانتفى دور العقل وكان باستطاعة الجميع أن يحافظوا على إنسانيتهم عندها تصبح الحياة حلقة مفرغة بلا غاية..( صمت..ثم يكمل حديثه) كل ما يحدث الآن هو مجرد مساعدة لك لتريك موقعك في حلقة السمو الإنساني واتجاهك الذي تسلكه فيها..
الرجل ( بإصرار ): أنا ل...
الظل ( يقاطع الرجل ): ما تراه الآن لن يحدث إلا في المنامات ( ذهول الرجل يصرفه عن الانتباه لهذه الجملة ) ولأشخاص معينين فقط, فكن شاكراً لذلك..
الرجل ( رافضاً الفكرة ): هراء..إذا كان حقاً ما تقول فلم تتبعني إذن؟ .. لم لا..
الظل (يقاطعه أيضاً ): هه مصلحتي..أنت قدري وأنا قدرك يا صديقي(يصمت ثم يضيف بلهجة ذات مغزى) أتبعك علّك تنتبه إلى أني أزداد قتامةً يوماً بعد يوم..
الرجل ( يستفهم ذاهلاً ): ؟!
الظل : ولدتَ و لك جانبك المضيء(يبتسم المتسوّل ويدير نظره إلى الشمعة التي لم يبق منها سوى أقل من النصف) وجانبك المظلم, جانبك الإنساني ( يبتسم المتسول ويرجع نظره للظل مصغياً لحديثه) وجانبك الحيواني وأنت العقل الذي ترجح أفعاله أحدى كفتي الميزان...(يكمل بحسرة) نعيمنا ما ترقى إليه من نعيم وجحيمنا ما تهبط إليه
الرجل ( بتردد, مشيراً إلى الظل ): أنا لَ..لست بهذا السوء..
الظل ( زاجراً الرجل ): ما أظلمك لنفسك ولنا, أنسيت؟! أنسيت ما أنت دائب على فعله منذ سنوات؟! أنسيت من أنرت بهم طريقك ثم تركتهم رماداً تعبث به أنامل الريح (يطرق الرجل مخبئاً وجهه بكفه ) أنسيت فعلتك اليوم, فعلتك التي يترفع حتى الحيوان نفسه عن الأقدام على مثلها..
يتهاوى الرجل جالساً
المتسوّل يراقب بصمت...
الظل : ها أنا صنيعة أفعالك التي لا تعرف لها الإنسانية طريق ولا تربطها بها صلة أو علاقة...
يدير الرجل كفيه حول رأسه..
ثوانٍ من الصمت...
الرجل (بصوت منخفض مقر بما سمع من حديث): لكني جئت صادقاً بالبحث عن كل هذا..
الظل ( موبخاً ): بعد ماذا؟! بعد أن أجدبت أرضك أو كادت؟ّ! بعد أن تضائل نورك للحد الذي تراه؟ (يدير الرجل بنظره إلى الشمعة...يكمل الظل حديثه) بعد أن هبطت بنا إلى هذه الصورة, إلى هذه الدرجة من القتامة..
ثوان من الصمت...
الظل : سئمت جلوسك وسئمت ضياعك..قم وابحث عن الإنسان الذي أضعته بين كثبان حياتك ( الرجل على ذات جلسته وذات التفاف كفيه حول رأسه ) ألا تسمع صرخات الطفل الذي رميته في قعر أفعالك؟! أتعرف على أي صورة هو الآن ( ينظر المتسوّل إلى الأرض ) ما زال بإمكانك استخراجه...استخرجه واستمع لقوله واتبعه حيثما سار..نعم, حيثما سار فاتبعه..
يخبئ الرجل رأسه بين رجليه...
يمد المتسوّل يده ويمسح على رأس الرجل.. يربّت على كتفه..
يعم المسرح الظلام سوى نور الشمعة الضئيل.. ستار
المشهد الثاني
المسرح مضاء بالكامل, في جانبه الأيسر يجلس المتسوّل بذات مكانه منشغلاً بعد بعض الأوراق النقدية أيضاً..
الشمعدان بذات مكانه, وعليه الشمعة ذاتها والتي لم ينقص من طولها شيء تقريباً عما كانت عليه في المشهد الأول..
يدخل الرجل من الجانب الأيمن من المسرح, يرتدي بدله بلون رصاصي غامق مع قميص أبيض وربطة عنق حمراء غامقة قليلاً..
يقف وسط المسرح تقريباً..
ينظر إلى ساعته..
ينظر إلى يساره, يتقدم نحو المتسول..يبرك إلى جانبه مبتسماً..
يستقبله المتسول بابتسامة أيضا, يمد رأسه نحو جيب الرجل وكأنه ينتظر شيء ما..
يعد الرجل بعض الأوراق النقدية ويضعها في كف المتسوّل..
يمسك المتسوّل بالأوراق النقدية بكلتا يديه كما الطفل الذي يستقبل هدية ميلاده..
يمسح الرجل على رأس المتسوّل ثم ينهض...
قبل أن يستدير الرجل يمسك المتسول ببذلته ويشير له بأن يقترب, يبرك الرجل ويقرب أذنه من فم المتسوّل..
يهمس المتسوّل بأذن الرجل قليلاً والرجل يصغي بإنصات, يهز الرجل رأسه ثم ينهض...
يتقدم نحو الشمعة..يجثو إلى جانبها.. يتأملها قليلاً..
تهب نسمة هواء تحرك شعلتها..
يدير كفيه حول الشعلة لحمايتها...
ستار
#علاء_سالم_مانع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟