أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - باسم السعيدي - دموع كافكا















المزيد.....

دموع كافكا


باسم السعيدي

الحوار المتمدن-العدد: 1036 - 2004 / 12 / 3 - 08:26
المحور: الادب والفن
    


دموع كافكا
كنا كأغصان شجيرة الدراق نحن الثلاثة ، لم نكن نفترق منذ خيط شعاع الشمس الأول ، نتسلم نحن زمام هذه الأرض ، بل وحتى السماء ، نتقاسم إطعام سكان المجرات القريبة من درب التبانة ، بانتظار غودو الراحل الذي لن يستفيق من نومته الأبدية .
نفتعل الحروب في مشارق الأرض ، ومغاربها ، نحتسي كل الأكواب التي أوجدتها قريحة شعراء سعار الشبق اللولبي الذي يمتد من خلايا تحليل المذاقات في تلافيف أمخاخ البشرية ، نتسلم بأيادينا المتكورة ، آذان الفناجين ، ونسطر ملاحم شرب القهوة ، في مملكة رذيلة البطالة .
كان كافكا سائق باص المدرسة ، نفسها التي درسنا فيها نحن الثلاثة ، وكان تعباً جداً ، من طلبات الأمهات التي لا تنتهي الا بثقب في الذاكرة ، تلك الهبة التي منحناها الله ليستريح كافكا .
غريغوري ، نحات الخرز الذي تلامس انامله بقايا قلادات الصغيرات ، تلك التي لامست كل رقاب نساء العالم بلا استثناء ، ليحيلها الى كلمات غير مفهومة ، في قاموس التكعيب المنسلخ عن الواقع ، الذي تلاحقه ماديات العالم بلا كلل ، وهو يهرب منها بفكره الخرف الذي ينبض ابداعاً .. كأنما موهبته الخرف ، وخرفه الموهبة ، وتتألق بين هذه وتلك كل ابداعات تصنيع الكلمات غير المفهومة ، التي تتحدث بطلاقة لا الى أذنيك ، بل تداعب حساً خفياً فيك ، لا تدرك ماهيته ، بقدر ما تتلذذ باكتشاف الجمالية التي تكمن في الكينونة التي أبدعها غريغوري .
وأنا لست سوى صعلوك ، جرب كل أنواع القبلات ، واستهوته فكرة التلاعب بمخيلةٍ خصبة تخترق الحياء الأنثوي لصعلوكة تظن أنها أميرة فقدت مملكتها في حروب غابرة ، نسيتها أقلام المبدعين الذين أرخوا لقوة لوكريس بورجيا ، أو الريشة التي أبقت على ابتسامة الجيوكوندا عبر القرون،أميرة منسية ترزح تحت نرجسية لا نهائية تكمن بين رمشين يرغبان جداً بأن يوصفا بالجمال ، لست سوى ذاك الذي خذلته حبيبته عند جسر الأحرار ذات يوم ، وغابت في دهاليز شارع النهر ، تتنقل بين سراديب المحال المغلَّقة على نار الشياطين ، لتضع بين طيات ثيابها مجموعة ملونة من الأوراق .. لم نفهم كنهها نحن الثلاثة .
لست أدري كيف انبثقت الفكرة .. ففي يوم واحد ، خرجت لاعناً كل فم قبله لورد بيرون ، وثارت ثائرة غريغوري على عالم الأسطورة المغمغمة بكلمات السحر التي تنطق بها جمادات غريغوري ، وأخرج كافكا بوقاً وأخذ يزعق به في وجوه الأمهات اللاتي يمتهنَّ التقريع ، وركل مؤخرة الباص ، وغادر الى غير رجعة .
جلسنا نحن الفاشلين الثلاثة ، على قارعة الطريق ، فوق أرصفة الباب الشرقي المتكسرة ، نحتسي تلك الأكواب اللعينة ، التي ما إن تعمل حتى تصبح أسرع من الضوء في مسابقة محمومة بين الواقع والخيال .
كان ذلك اللاوعي هو دليلنا الوحيد في رحلتنا تلك ، لا أدري أحقيقة أم خيال ما حصل ، كانت الشاحنة تنهب الأرض ، متوغلة في حقول خضراء لا نهاية لها ، وكنا متكومين كالنفايات في القفص الحديدي الكبير ، المحمل بما لا نراه بعيوننا ، لكننا كنا نشم الرائحة النتنة المنبعثة منه .
لم نعرف المنطقة التي أنزلنا فيها السائق ، بعد أن أدرك وجودنا في قفصه النتن ، لم نتوه ، بل مشينا باتجاه نعرفه تماماً دون أن نراه قبلاً ، كافكا على غير عادته ، كان يضحك ملء شدقيه ، كأنه يضحك من الصحبة ، وغريغوري كان يضع منشفته التي يبللها بين الحين والآخر من السواقي على رأسه المبلل أصلاً ، وأنا كنت أضع الهيد فون ، وأستمع الى أغاني آبا ، دانسنغ كوين ، كنت أشعر بأنني اراقص ملكة ، ليست ماري انطوانيت على أية حال ، لكنها جميلة ، رقصنا حتى ابتلت أجسادنا من العرق ، وربما لهذا كان كافكا يضحك ، فهو لم يرني سعيداً هكذا منذ أمد بعيد ، لا يسألني أحد كيف دخل الى هذياني العقلي ، وعرف بأنني أرقص ، فكافكا يمتلك تلك الموهبة منذ نعومة أظفاره .
جلسنا على حافة النهر ، خلعنا ملابسنا وسبحنا ، لكن كافكا لم يفعل ، بدا عليه التجهم الذي يعتريه كلما قرر أن يجتاح بجيوشه مملكة أخرى .
شهدنا أنا وغريغوري غروب الشمس ، شهدنا بأم أعيننا كيف ذابت الشمس في النهر ، تماما كما تذوب مكعبات السكر في أكواب الشاي .
كافكا ضم تحت جناحه أوراقه التي لملمها بصعوبة بسبب الظلام الذي دخل على قلوبنا قبل أن يزحف على طيات النهار التي ابتلعها بنهم غريب .
حين عدنا الى الشقة التي تنال أجسادنا فيها حقوقها الكاملة ، لم يفعل كافكا ، بل خرج ولم يقل الى أين ، حرنا في أمر كافكا ، لعنة الله عليه ، قال غريغوري ، أظنه سيشن حرباً لا هوادة فيها ، قلت أنا .
جاء بعد منتصف الليل ، مسروراً ، أيقظنا عنوة ، مع اننا لم نكن نياماً ، خرجنا من أسرَّتنا .. كما يخرج الفرخ من البيضة ، لا نعي شيئا مما يجري ، هذا اللاوعي الي صار هوساً .
لنخرج فأنا أدعوكم الى عشاء فاخر ، قال كافكا .
أخذنا ننظر الى بعضنا أنا وغريغوري ، لم نفهم شيئاً ، فكافكا لم يفعلها الا في عرس أمه ، وحين أكتشف رجولته في المرة الأولى .
نهضنا نتراكض لنرتدي ملابسنا قبل أن يغير رأيه ، كأنها حلوى العيد ، يوزعها كافكا ، وقد تنفد في أية لحظة ، ان لم نلحق .
أكلنا كبة فتاح ، وشربنا البيبسي ، وبقينا نغني تحت نصب الحرية ، حتى بدأت ملامح وجه اليوم الجديد ، ركضنا الى شقتنا ، كما كان يفعل دراكيولا خوفاً من أن تطلع عليه الشمس ، فيحترق .
دس رأسه كافكا تحت اللحاف ، يصدر صوت الشخير ، لكننا نعلم أنه يمثل الدور بعناية ، فهو لم ينم بعد .
لماذا هذه العزومة الدسمة .. قلت أنا ؟
هل نطمع في غيرها ؟ .. قال غريغوري .
أرسلت الى الطبع قصتي الأولى والأخيرة ... قال كافكا .
ألم أقل لك أنه سيشن حرباً جديدة ؟.. قلت أنا .
تأخرنا في النوم صباحاً ، فليس لدينا ما نفعله بعد ذلك اليوم الذي أعدنا فيه تفصيل الثوب الجديد لهذا العالم .
استيقظت قبلهم ، جلست أحتسي الشاي واضعاً قدمي فوق المنضدة الخشبية التي رافقت الملك آرثر في حروبه التي دافع فيها عن كاميلوت تلك التي يدعونها المائدة المستديرة ، لكنني ذهبت الى أقرب نجار وجعلتها ثلاثية ، فنحن الثلاثة يستحق كل منا أن يكون ملكا ، على رأس مائدة ليست مستديرة ، أعتقد أننا نحن الثلاثة ، أردنا أن نغير وجه التأريخ بفعلنا هذا مع المائدة .
جلس كافكا قبالتي وهو يفرك لحيته بعد تحية الصباح الذي بدأ دون علم منا ، فقد أخذنا على حين غرة ، بينما كنا نياماً .
كنا ننظر كلما جلسنا الى الركن الثالث ... الذي يكمل أضلاع مثلث الوجود ، كافكا وغريغوري ، وأنا .
غريغوري تأخر في نومه ، لم نوقظه ، لكننا كنا نفتقده على المائدة .
بعد قليل سمعت صرخة مكتومة أتت خجولة من غرفة غريغوري .
ذهبت اليه ، دفعت الباب لأتفقد هذه الصرخة ، وجدت غريغوري وقد تحول الى خنفس أو جعل أو سمه ما شئت ، وهو لا يصدق عينيه ، كما لم أصدق أنا عيني .
صرخت أيضاً ... ماذا تفعل ؟ .. ما هذا الهراء ، كيف فعلت هذا ؟ هذه نكتة سمجة ... عد الى حالك الأول .
لكن غريغوري وقف حائراً ، لم يفهم شيئاً ، حاول بجهد أن يفهم مني ماذا يجري ، لكنني التفتُّ الى كافكا الذي كان واقفاً مثلي ينظر الى غريغوري وهو مذهول ، لكنه بدا شاحباً ، كالموتى ، أو كزهرة عباد الشمس ، وعاد الى جلسته على الطاولة القديمة ، وهو يتمتم مع نفسه ، كالمحموم .
ما هذا الذي حدث ؟، قال كافكا ، وما زال يحدث نفسه ... وكيف .
ركضت أنا الى غريغوري ، أخذت أتفحص جسده ،
كيف فعلت هذا ؟ قلت له
فقال لي وكأنه يريد أن يستيقظ من كابوس مرعب ، أقرصني كي أستفيق ، قلت له ... ومن سيقرصني أنا ؟
نظرنا سوية الى كافكا ، متهالكاً على مقعده المعهود ، كان يريد أن يلتقط أنفاسه دون جدوى .
قلنا له ... ماذا يجري ؟
لم يجب كافكا ، بل لم ينظر الينا حتى ، ذهب ينظر في المرآة .. نظر الى عينيه مباشرة ، لكنه لم يعرف نفسه .
من هذا ؟ قال كأنه يسألنا معاً .
نظر الى يديه .. ثم أقبل على غريغوري وقال له ... وإن يكن .. سنستأنف حياتنا كما كانت .
أأنت مجنون ؟ قلت له
فلننتظر لعله حلم وينتهي .. قال غريغوري .
لكن كافكا بدأ ينظر الى أرجل غريغوري الكثيرة ، والى فمه غريب الشكل ، والى عينيه المركبتين .
بدا واجما ، كافكا ، بينما ينتظر غريغوري أي مخرج من الورطة تلك التي لم تخطر على بال أحد ، نظر الي باستعطاف ، لم أنتظر يوماً من ذلك الفنان المبدع ، النحات الذي يجعل الجمادات تنبض بكل ذلك الحس العالي ، والفن ، والجمال ، لم أنتظر منه أبداً نظرة الاستعطاف تلك .
لطالما كنت قوياً ، قلت له
لطالما كنت قوياً ، تمتم كافكا مع نفسه مرة أخرى .
بدأت لمعة غريبة تظهر في عيني كافكا .
أخذنا ذلك البريق انا وغريغوري ، كنا ننتظر منه رأياً ، اقتراحاً ، أية خطوة الى الأمام .
لكن بات من الواضح أن أية خطوة الى الأمام لايملكها أي واحد منا نحن الثلاثة .
ما هي الا لحظات حتى فهمنا ذلك البريق في عيني كافكا ، لقد كانت دموعاً.
بهرنا كافكا ، هذه هي المرة الأولى في حياتنا التي نراه يبكي ، ما هذا الذي يجري ؟
ذهب كافكا الى غرفته ، خرج شاهراً مسدساً قديما ، ورثه عن أبيه ، نظر في عيني غريغوري ، وأطلق رصاصة واحدة على رأسه ، وسقط سابحاً في بركة من دمه .
مضت سنون على ذلك اليوم ، ومات كافكا لسبب لم نفهمه ، لكن غريغوري ظل على حاله ، وبقيت أنا معه .
بدلاً من النحت ، بات غريغوري يقول الشعر وأنا أدون له ، قصيدته الأولى كانت مرثية لكافكا
اسمها دموع كافكا .
باسم السعيدي
[email protected]



#باسم_السعيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تطور الجريمة المنظمة .. ناقوس الخطر يدق
- بين أصابع القدر ... الملف الأمني
- انما الأمم الأخلاق ما بقيت ..
- سيناريو طرد الاحتلال .. قصة قصيرة
- تقييم الساسة غير الحكوميين في العالم العربي
- فرية كامل السعدون ... حول الإسلام
- الى وزير التجارة العراقي ... تحذير
- الجيش الاسلامي .. والمطالبة بالفتوى
- هل تقدر الحكومة على الصمود ؟
- أي الاسلام .. هذا الذي يقبل بما يجري؟؟
- مخالب الأسد .. من بعبدا الى الدستور
- عدنان الزرفي..النموذج
- مسرح الطمأنينة
- الإسلام البوهيمي … والإسلام المحمدي
- هيئة علماء المسلـ(حـ)ين والشرطة
- الى الكتاب والنخب العراقية
- النجف الأسيرة ..فجعت مرتين
- الى الكتاب والنخب العراقية
- من اوراق الحرب بين مطرقة التحالف وسندان صدام
- محاكمة التاريخ لعبد الكريم قاسم


المزيد.....




- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - باسم السعيدي - دموع كافكا