منذ فترة قصيرة تستنفر الحكومة الفرنسية قوات الأمن الداخلي وشعبة مكافحة التجسس لمكافحة النشاطات التجسسية الأمريكية وقد لجأ القضاء الفرنسي الى إدارة الأمن الوطني ومراقبة الأراضي الوطنية الـ DST لجمع المعلومات والأدلة الضرورية للملف القضائي والتحقيق الذي بدأه قاضي التحقيق ، مدعي عام العاصمة الفرنسية جون بيير دينتلهاك وهو التحقيق الذي قد يثير في المستقبل المنظور أزمة دبلوماسية بين واشنطن وباريس بشأن نشاطات شبكة التجسس الأمريكية إشلون Echelon الإلكترونية والتي تسمى بـ " أكبر إذن على الأرض " . فحسب مصادر قصر العدل الباريسي يمكن وصف عمليات ألتنصت اللامشروعة وغير القانونية التي مارستها اشلون بواسطة نظام الاعتراض والتصيد الذي لا يضاهيه أي نظام مماثل له في العالم قوة ودقة ، بأنها نشاطات إجرامية جنائية " وتمس المصالح الجوهرية والحيوية الوطنية الفرنسية "
كانت البداية تحقيق برلماني قدم للبرلمان الأوروبي مرفق بملاحظات دقيقة سجلتها مختلف شعب المخابرات الأجنبية والفرنسية تقول ان اشلون _ التي تم تأكيد وجودها غير الرسمي من خلال وثائق أمريكية _ مازالت بمنأى عن أية تحقيقات قانونية تمس نشاطاتها غير المشروعة . وكانت رسالة القاضي تييري جون بيير ، الذي أصبح اليوم نائباً أوروبياً ومسؤولا مالياً في الحزب الديموقراطي الليبرالي ، هي التي أشعلت لهيب التحقيق القضائي الأولي استناداً إلى ما جاء في القانون الجنائي الفرنسي وبالأخص المواد 6-411 و 15-226 المتعلقة بالمصالح الجوهرية للوطن والمس بأسرار الدولة واقتصادها التي تنقل عبر وسائل الاتصال السلكية واللاسلكية - الهاتفية والخلوية والبريد الإلكتروني إيميل والفاكس الخ ... إن نظام اشلون مصمم لكي يتصيد ويلتقط كافة أنواع الاتصالات من الاتصال الهاتفي البسيط الى الفاكسات والبريد الالكتروني ولذلك فإن اشلون متهمة بممارسة التجسس الصناعي والاقتصادي لصالح الولايات المتحدة الأمريكية وبسببه خسرت الشركات الفرنسية والأوروبية العديد من العقود والصفقات تقدر بمئات الملايين من الدولارات خاصة شركة طومسون الفرنسية وأيرباص الأوروبية لصالح شركات أنجلوساكسونية. لقد دعمت إدارة مراقبة الأراضي الوطنية الفرنسية د س ت تحقيقها بتقرير يثبت استخدام وكالة الأمن القومي لـ اشلون لصالحها قي الولايات المتحدة في الخارج ، ولا يمكن لمثل هذه المواجهة إلا أن تخلق توتراً دبلوماسياً بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية .
وقد صوت النواب الأوروبيون في اجتماع لهم يوم الأربعاء 5 تموز 2000 على تشكيل لجنة مؤقتة للتحقيق بشأن نشاطات اشلون وطرحت تساؤلات جوهرية من قبيل " هل ان حياة المواطن الأوروبي مضمونة ومحمية من نشاطات أجهزة المخابرات ؟ هل تواجه الصناعات الأوروبية مخاطر بفعل التقاط ونصيد المعلومات والاتصالات المحلية والإقليمية والدولية ؟ هذا ما سوف تبحث فيه اللجنة المقترحة وتسعى لتقديم الإجابات عليها .
كلفت شعبة مكافحة التجسس بالتدقيق والتحري حول نشاطات اشلون بغية جمع الأدلة الكافية التي تسمح للعدالة الفرنسية توجيه الاتهام لهذه المؤسسة الأمريكية بالتجسس والإضرار بالمصالح الوطنية الحيوية الفرنسية والأوروبية .
وهذه المؤسسة الأمريكية سرية وغامضة في تحركاتها مما جعلها بمثابة فزاعة تخيف المجموعات الصناعية والتجارية الفرنسية والأجنبية .
فالتنصت والتقاط الاتصالات والمكالمات والفاكسات والرسائل الإلكترونية يعد انتهاكاً صارخاً للحرية الشخصية والخصوصية الفردية للمواطنين إلى جانب الأضرار بالشركات والمؤسسات الوطنية وسرقة أخبارها ونشاطاتها وزبائنها وبالتالي المس بالمصالح العليا للبلد . لقد توفرت حتى الآن المعلومات اللازمة لإدانة هذه الإذن الأمريكية الكبيرة فقد القيت عليها تهمة القيام بعدد من عمليات التجسس الصارخة . إذ تجسست اشلون على شركات فرنسية كما ورد في تقرير قدم في شهر أكتوبر 1999 الى الإدارة العامة للدراسات في البرلمان الأوروبي من قبل الباحث دنكان كامبل أورد فيه عدد من الأمثلة على عمليات القرصنة لصالح الولايات المتحدة قامت بها اشلون . مثل صفقة مع المملكة العربية السعودية مرت من أمام أنف فرنسا عام 1994 على حد تعبير صاحب التقرير قيمتها 30 مليون فرنك . فبفضل قرصنة وتجسس اشلون خسرت فرنسا الصفقة وفاز بها الأمريكي مكدونيل دوغلاس الذي علم بتفاصيلها بواسطة ا الإنصات والالتقاط الإلكتروني للاتصالات الذي مارسته اشلون ومعرفة الظروف والشروط المالية للمنافس الفرنسي - الأوروبي أي شركة أير باص . نفس الشيء مع شركة طومسون الفرنسية التي خسرت صفقة ب1.4 مليون دولار لصالح مصنع رادارات أمريكي هو ريتون ولذلك لاحول ولاقوة للأوروبيين أمام مثل هذا النشاط التخريبي الأمريكي . وبالرغم من ذلك تتردد الدول الأوروبية في اتخذ إجراءات وتدابير ضد اشلون خوفاً من تعريض العلاقات الاقتصادية الجيدة مع الأمريكيين .
لم تعترف الولايات المتحدة الأمريكية لحد الآن رسمياً بوجود شبكة اشلون إلا أن الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية سي آي أ جيمس ولسلي اعترف أن بلاده جمعت سراً كماً هائلاً من المعلومات ضد الشركات الأوروبية . وبالرغم من كون اشلون سرية وغير قابلة للكشف والتشخيص إلا أن مديرية مراقبة الأراضي الوطنية والأمن الداخلي الفرنسية ستواجه نظيرتها وكالة الأمن القومي الأمريكية أن أس أ المكلفة بمكافحة التجسس الصناعي والاقتصادي والتكنولوجي لأن هذه الأخيرة هي التي تستخدم اشلون لصالحها وقد أعرب تييري جون بيير عن أمله في أن تتوصل الجهات المسؤولة الى نتائج سريعة لوضع حد لهذا النشاط التخريبي .
ويعود السؤال الجوهري ماهي اشلون ؟
من الصعب تكوين فكرة واضحة عن قوة شبكة التجسس الإلكترونية اشلون سواء من ناحية الإمكانيات التكنولوجية الضخمة المستخدمة اليوم أو من ناحية طبيعة نشاطها وحجمه وأبعاده .
ان اشلون هي الشبكة الدولية التجسسية الوحيدة المعروفة اليوم التي تعمل وفق برنامج تصيد والتقاط وقرصنة ومعالجة منتظمة لجميع الاتصالات ونقلها وجمع المعلومات على مستوى الكوكب والتقاط وتسجيل وفرز وتبويب كافة المكالمات الهاتفية الدولية والرسائل الإلكترونية عبر الانترنيت او الفاكسات والتلكسات .
ولدت هذه الشبكة من الحرب الباردة في إطار اتفاق إيكيوسا وهو حلف وقع عام 1947 بين الولايات المتحدة وبريطانيا ويشمل استراليا وكندا ونيوزيلندة وكان المقصود آنذاك جمع وتبويب وأرشفة المعلومات الأنجلوساكسونية تجاه التهديدات السوفيتية . ولكن بعد سقوط جدار برلين لم تخف الجهود المبذولة في هذا المجال بل على العكس وتنامى نشاط شبكة اشلون تحت رعاية ودعم وكالة الأمن القومي الأمريكية، وهي المكافئ لوكالة المخابرات المركزية المختصة بالاستخبارات وجمع المعلومات الإلكترونية والاتصالات
وتضم وكالة الأمن القومي 40000 موظف اغلبهم يعمل في فورت ميد في ماري لاند مدينة الاستخبارات الإلكترونية كما يصفونها، وبميزانية تقدر باربع مليارات دولار سنة 1997، والوكالة مكلفة بجمع ومعالجة المعلومات القادمة من جميع أنحاء العالم واستغلال المعطيات المتوفرة بفصل البنى التحتية التي تمتلكها ومنها شبكة اشلون .
وهي تمتلك العديد من قواعد التصنت واستراق السمع والتقاط الاتصالات والقرصنة المزروعة في كل مكان وعلى اتصال دائم بالأقمار الصناعية والتجسسية التي تغطي الكرة الأرضية واهم قاعدة تنصت موجودة في إنجلترا مما يدل على الأهمية التي توليها الوكالة الأمريكية للاتصالات الأوروبية فمحطة ف 83 التابعة للقوة الجوية الملكية البريطانية تخصص نشاطها كلياً اليوم لصالح " الإذن الأمريكية الكبيرة " وتوجد في مينث وايت هيل وتضم 1400 شخصاً من مهندسين وخبراء كومبيوتر ولغويين ومترجمين أمريكيين . ولديها 30 صحن لاقط عملاق تجمع المعلومات المسروقة او الملتقطة سراً بواسطة الأقمار الصناعية التجسسية . ومن ثم تقدم المعلومات المختزنة عبر القرصنة إلى الكومبيوتر العملاق لفرزها وتحليلها ومعالجتها وفق منهج الكلمات المفاتيح ومعايير محددة تتعلق بالأرقام سواءاً التلفونية او الفاكسات او البريد الالكتروني والتي تخزن في ما يشبه القواميس الالكترونية . ومن ثم تصنف حسب أهميتها بعد ترجمتها واخيراً يجري تحليلها من قبل عملاء وكالة الأمن القومي .
إن اشلون أخطبوط كوني للمعلومات والاستخبارات يعمل فيما يتجاوز صلاحيات الدول والحكومات ومراقبتها الديموقراطية ، إنها نظام تجسس بلا حدود .يثير قلق السياسيين والبرلمانيين وأرباب العمل، والحال أن عمل اشلون التجسسي معروف منذ أعوام فقد سبق لصحيفة لوموند أن نشرت مقالاً حول هذا الموضوع في 10 نيسان 1998 .
وإذا لم يوضع حد لهذا النشاط الخطير فسوف تشتعل قريباً حرب التجسس الالكتروني فقد كشف الأمريكيون والبريطانيون بدورهم قبل أيام من خلال محطة انترنيت ZD NET صورة لمحطة الالتقاط والتنصت الفرنسية التابعة لجهز الاستخبارات الفرنسي DGES. في الدوم في الدوردون وهي محطة نصبتها فرنسا لتنافس فيها خصومها في الحرب الاقتصادية الدائرة رحاها اليوم . ومحطة تجسس الكتروني أخرى منصوبة سراً بالاتصال مع الألمان في المحطة الفضائية للكورو في كويان ومهمتها اعتراض طريق الاتصالات الفضائية التي تجري بين الأقمار الصناعية والتقاطها خاصة فوق الأراضي الأمريكية .
وبذلك تغيرت طبيعة الحروب في عصرنا واصبح الاقتصاد والنشاط الاقتصادي هو ميدان المعارك فالشركات في حرب للحصول على الأسواق وبات سلاح التجسس الاقتصادي والصناعي والتجاري افضل الأسلحة المستخدمة في هذه الحرب خاصة خلال التسعينات من القرن المنصرم وقدمت الكثير من وكالات الاستخبارات خدماتها للقطاع الخاص في عالم اقتصادي مضطرب وكثير التحول والتطور . فأي اختراع تكنولوجي يهز معادلات التنافس وبذلك بانت أهمية النشاطات التجسسية الالكترونية الفعالة ولجأت الشركات الى رؤوساء سابقين للاستخبارات وعملاء مشهورين فيها يملكون معطيات ومعلومات ذات طابع استراتيجي يهم الشركات الكبرى لتوظيفهم عندها والاستفادة من معلوماتهم وخبراتهم التجسسية. ومن مظاهر هذا التحول الكبير في الناشط الاقتصادي أن التجسس الصناعي والالكتروني بات يدرس في فرنسا وفي الدول الاقتصادية الكبرى في مدارس التجارة وفي الجامعات.. أما المعهد العالي لدراسات الدفاع الوطني فقد صار ينظم حلقات تعليم وتأهيل للصناعيين في هذا المجال .
وانتقلت العدوى من الشركات الكبرى والعملاقة والمتعددة الجنسيات الى الشركات المتوسطة والصغرى وتقوم الدول بتقديم يد المساعدة لشركاتها وصناعييها لدعمهم في نشاطاتهم التجسسية ضد منافسيهم من الدول الأخرى .وقد تذب الحرب الاقتصادية بين الشركات الى حد التشويه والتشهير ونشر الإشاعات الكاذبة كما حصل مع شركة جيات الصناعية الفرنسية التي تعرضت إلى سلسلة من المقالات الصحافية التي وصفت في حملة هجومية تجارب فاشلة لدبابات لوكليرك في الصحراء السعودية وهي حملة الغرض منها تشويه سمعة الدبابة الفرنسية الصنع التي تسعى فرنسا لبيعها لعدد من الدول من بينهم المملكة العربية السعودية ، في محاولة لابعاد الدبابة الفرنسية عن السوق الخليجية واحتكارها للصناعات العسكرية الأمريكية والبريطانية .