|
سُمْعَةُ الجِّهَاز!
كمال الجزولي
الحوار المتمدن-العدد: 3477 - 2011 / 9 / 5 - 22:08
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
خلال النصف الثاني من فبراير الماضي قفَّ شَعر الرأي العام السُّوداني من هول حكاية صفيَّة إسحق، قروناً قرونا، وأبدت مختلف المجالس والمنتديات والصَّحافة الورقيَّة والأسافيريَّة أقصى اهتمامها بها، وتصدَّى للتعليق عليها، طوال الأيَّام والأسابيع التي تلت، كتاب مرموقون كثر، كالأستاذين فيصل محمد صالح وعمر القرَّاي؛ ولا غرو، فما كلُّ يوم تعلن فتاة، في بيئة تسودها الذهنيَّة الرعويَّة، أنها اغتصبت! لكن هذه التشكيليَّة اتهمت ثلاثة منسوبين لجهاز الأمن الوطني باعتقالها، بتاريخ 13/2/2011م، واقتيادها إلى أحد مبانى الجِّهاز، حيث تناوبوا، حسبما قالت، الاعتداء عليها! طالب الأستاذ فيصل، في عموده اليومي بـ (الأخبار)، بإجراء تحقيق قضائي شفاف "وإلا لن يكون المرء، بعد الآن، آمنا على نفسه، أو أسرته، أو أصدقائه"! واستغرب د. القرَّاي، في مقاله الرَّاتب بـ (أجراس الحرِّيَّة)، صمت الجِّهاز عن نفي الواقعة، أو تأكيدها، أو الإعلان، على الأقل، عن إجراء تحقيق حولها! أمَّا الجِّهاز نفسه، فبدلاً من الاستجابة لهذه المطالب البسيطة العادلة، أقدم على تحريك الإجراءات الجَّنائيَّة ضدَّ الكاتبين بتهمة (إشانة سمعته)، حيث أنهت النيابة والشُّرطة تحرِّياتها، ووضعت الأوراق أمام محكمة الصَّحافة والمطبوعات التي حدَّدت مواقيت لجلسات المحاكمة خلال الأيَّام القادمة!
(1) هكذا أقدم الجِّهاز على المخاطرة بوضع (سمعته) ذاتها على المحك، بجعلها هي الواقعة محل البحث Res Gestae، بالمصطلح القانوني، وليس، فقط، الواقعة التي تدعيها صفيَّة، تمشِّياً مع القاعدة الذهبيَّة القائلة بأن "من يطرق باب العدالة ينبغي أن يفعل بأيادٍ بيضاء ـ He, who comes to justice, should come with clean hands. وبالحقِّ، عن أيَّة (سمعة) ينافح الجِّهاز، وهو الذي: (1) ما زال يعمل بذات شروطه السَّابقة، مع أن مشروعيَّة تلك الشروط قد نسفها، تماماً، نصُّ المادة/151 من الدُّستور الانتقالي لسنة 2005م، المستمدِّ من اتفاقيَّة السَّلام الشَّامل، فتبدَّلت مهمَّة الجِّهاز، رغم المغالطات، إلى "جمع المعلومات، وتحليلها، وتقديم المشورة بشأنها لأجهزة الدَّولة المختلفة"؟! (2) ما انفكَّ يتصدَّر أسباب اتهام النظام بانتهاك حقوق الانسان، وخرق نصوص حمايتها، في الصُّكوك الدوليَّة وفي (وثيقة الحقوق) الدُّستوريَّة، فأضحى الناس يعرفوننا، حتى في بلاد تركب الأفيال، بحرائق أبيي وكادوقلي، ومآسي كلمة وأبو شوك، وظلامات كجبار والمناصير والحامداب ومروي، بعد إذ أتى علينا حين من الدَّهر كانوا يعرفوننا فيه بـ (خارتوم باي نايت)، والقطن طويل التيلة، ومشروع الجزيرة، والسكة حديد، والصمغ العربي، والخطوط البحريَّة، والطيِّب صالح، وعطبرة، والمقرن، وسودانير! (3) ظلَّ يتحمَّل وزر الانتقادات الدَّوليَّة للنظام، وأبرزها ما يتصل بمنهج إدارة الأزمة مع المحكمة الجنائيَّة الدَّوليَّة، وهو المنهج الذي كان محمد علي المرضي، وزير العدل الأسبق، قد اختزل وصفه بأنه "ثابت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها"!
(2) ولعلَّ من أقوى ما يشدُّ الأنظار صوب الجِّهاز، دون غيره، لدى وقوع أيَّة كبيرة أو صغيرة في باب انتهاك الحقوق، أنه ظلَّ يتمتع، قبل وبعد العام 2005م، بسلطات وحصانات من شأنها أن تطلق أيَّ يدٍ في الخلق بلا حسيب، تسنده في ذلك قوَّات نظاميَّة أخرى، أصابت، أيضاً، من هذا (الطيِّب!) نصيب، وذلك على النحو الآتي: (1) كان (قانون قوَّات الأمن الوطني والاستخبارات لسنة 1999م)، يتضمَّن مثل هذه النصوص التي تمنح السُّلطات، وتحصِّن من التبعات، مِمَّا لفت، بوجه مخصوص، انتباه لجنة أنطونيو كاسيسي الدوليَّة للتحقيق في أحداث دارفور (راجع كتابنا: الحقيقة في دارفور، تلخيص وتقديم وعرض لتقرير "لجنة التحقيق الدَّوليَّة"، ط 1، مركز القاهـرة لدراسـات حقـوق الإنسـان2006 م، سلسلة قضايا حركيَّة" ـ22 ، ص 184ـ 186): أ/ فالمادَّة 31من ذلك القانون كانت تسمح لعضو الجِّهاز بالقبض والتفتيش والاحتجاز والتحقيق، وتمهله ثلاثة أيام حسوماً قبل إخطار المحتجز بأسباب احتجازه! ب/ وكانت المادَّة/9 تخوِّل عضو الجهاز احتجاز الممتلكات أيضاً! ج/ كما تخوِّل المادَّة/9، كذلك، مدير الجِّهاز تمديد هذه المدَّة لثلاثة أشهر، وتجديدها، بموافقة النائب العام، لثلاثة أشهر أخرى، وطلب تجديدها من مجلس الأمن الوطني لثلاثة أشهر إضافيَّة! د/ ورغم أنه يحقُّ للمحتجز، نظريَّاً، استئناف هذا القرار أمام القضاء، إلا أنه ليست هنالك ضمانات محدّدة لممارسة هذا الحقِّ، أو لتمكينه، وهو في قبضة الجهاز، من الاستعانة بمحام! هـ/ علاوة على ذلك فإن "حقه المضمون"، نظريَّاً أيضاً، في الاتصال بأسرته، بموجب المادة/32/2، مهدر، عمليَّا، بعبارة تفرغه، تماماً، من محتواه، إذ تشترط للتمتع به "ألا يخلَّ ذلك بسير الاستجواب"! ومعلوم أن "الاتصال بالأسرة" يخلُّ، دائماً، في شرعة جهاز الأمن، "بسير الاستجواب"، طالما أن المشرِّع قد ترك سلطة تقدير ذلك للجهاز نفسه! (2) كان قانون 1999م، أيضاً، فضلاً عن قانون الإجراءات الجَّنائيَّة لسنة 1991م، يتضمَّن نصوصاً تعيق، بشدَّة، مقاضاة الأشخاص ذوى السُّلطة: أ/ فالمادَّة/33 كانت تقضى بأنه "لا يجوز اتخاذ أيِّ إجراءات مدنيَّة أو جنائيَّة ضدَّ العضو أو المتعاون في أيِّ فعل متصل بعمل العضو الرَّسمى إلا بموافقة المدير". فإذا أخذنا في الاعتبار أن موافقة المدير مشروطة، حسب هذا النصِّ، بكون الإجراء (غير متصل) بالعمل (الرَّسمي)، فإن هذه المادة تمنح، في حقيقتها، الأعضاء والمتعاونين حصانة قويَّة immunity ضدَّ إلزامهم، مثلاً، بإعطاء أيِّ معلومات عن أيِّ (تعذيب) مدعى به ثمَّة من يشهد عليه سوى منسوبي الجهاز وحدهم! ضف إلى ذلك أن عبارة (تتصل بالعمل الرَّسمى) نفسها مطاطة إلى الحدِّ الذي يسمح بتأويلها حسب الحاجة، بالنظر لصعوبة التفريق بين (وقت العمل الرسمي) وغيره لدى منسوب الجهاز، بحيث يسهل اعتبار هذا المنسوب في حالة (عمل رسمي) طوال ساعات النهار والليل! ب/ وحتى إذا وافق المدير، فإن العضو يقدَّم إلى محكمة سرِّيَّة (داخل) الجِّهاز، بالمخالفة لنصِّ المادَّة/41/1 من العهد الدَّولي للحقوق المدنيَّة والسِّياسيَّة التي تعتبر (العلنيَّة) معياراً دَّوليَّاً لـ (عدالة) المحاكمة. ج/ وإذن، فإن اشتراط "موافقة المدير"، بنصَّ المادَّة/33، لا يتيح، في الواقع، سوى الإفلات من العقاب impunity، إذ من غير المتوقع أن يستخدم المدير سلطته التقديريَّة هذه ولو في مواجهة صغار مرءوسيه الذين ينفذون أوامره، ويعملون وفق تعليماته، ناهيك عن كبار معاونيه! ولئن تباهى الجِّهاز، في حالات نادرة، بمحاكمة بعض منسوبيه، فإن ذلك بلا قيمة حقيقيَّة وسط موج الظلامات المتلاطم، دَعْ السؤال عن (عدالة) وضع هذه السُّلطة، أصلاً، في يد شخص واحد .. "فيك الخصام، وأنت الخصم والحكم"؟! (3) زاد طين هذا المنحى بلة صدور أمرين جمهوريين مؤقتين من رئيس الجُّمهوريَّة، في 2005/4/10م، بتعديلين جوهريين: أوَّلهما على قانون الاجراءات الجَّنائيَّة لسنة1991 م، وثانيهما على قانون قوَّات الشَّعب المسلحة لسنة 1986م، حيث انصبَّ كلاهما على تحصين عضو الشُّرطة والقوَّات المسلحة من المسئوليَّة الجَّنائيَّة جراء ارتكابه جريمة (التعذيب)، أو حتى (القتل العمد)، وتمكينه، بالتالي، من الإفلات من العقاب، بحيث لا يقتضى الأمر سوى (الدِّيَّة)! وحتى هذه تتكفل بها الدَّولة حسب المادَّة//733 في التعديل الأوَّل، والمادَّة/79/أ/3 في التعديل الثاني. ولاحظنا، حينها، أن سقوط التعديلين في المجلس الوطني لن يعوِّض عمَّا يوفرانه، فعليَّاً، من (حصانة) وفرص (إفلات من العقاب) خلال مدة سريانهما، فضلا عن أنه لا يوجد، بالنظر لاتجاههما العام، ما يضمن عدم صدور أيِّ تشريع مشابه مستقبلاً. (4) ومن أهم معيقات العدالة، كذلك، (التقادم) المسقط للدَّعوى الجَّنائيَّة: أ/ فرغم أن القانون الجَّنائي الدَّولي لا يعترف بـ (التقادم) في قضايا حقوق الانسان، كما وأنه لم يكن معمولاً به، في السُّودان، قبل1991 م، إلا أن المادَّة/1/38 من قانون الإجراءات الجَّنائيَّة لسنة 1991م نصَّت، لأوَّل مرة، على سقوط الدَّعوى الجَّنائيَّة ذات العقوبات التعزيريَّة إذا انقضت مدَّة (التقادم)، وهي عشر سنوات بدءاً من تاريخ وقوع أيَّة جريمة معاقب على ارتكابها بالإعدام أو السجن عشر سنوات فأكثر. وتسري أحكام المادَّة/ 38بأثر رجعي، استنادا إلى قاعدة القانون الأصلح للمتهم! ب/ وينطبق حكم هذا النصُّ أيضاً على قانون الأمن لسنة1999 م، رغم خلو الأخير من أحكام (التقادم)، وذلك لكون المادة/3 من قانون الإجراءات الجَّنائيَّة لسنة1991 م لا تقصر تطبيق أحكامه على الجرائم المشمولة بالقانون الجَّنائي لسنة1991 م وحدها، وإنما تشمل أيَّ جرائم في أيِّ قانون آخر. ج/ ضف إلى كلِّ ذلك (التقادم) المسقط لدعوى (التعويض المدني)، حيث تقضى المادَّة/ 159من قانون المعاملات المدنيَّة لسنة 1984م بعدم سماعها بعد انقضاء خمس سنوات من علم المضرور، وخمس عشرة سنة من وقوع الفعل الضار!
(3) وتماماً كما في عهد ما قبل الاتفاقيَّة والدُّستور الانتقالي، واصل الجِّهاز، بعد صدورهما، أيضاً، خوض (معركته) ضدَّ الحرِّيَّات والحقوق، متمتعاً بالسُّلطات والحصانات المطلقة ذاتها! ولعلَّ هذا هو ما حدا بلويز آربور، المفوَّضة السَّامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة، لأن تعبِّر، في ختام زيارة إلى السُّودان، أواسط 2006م، عن بالغ قلقها "إزاء قوَّات الأمن التي تقوم بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الاعتقالات التعسُّفيَّة والتعذيب في أماكن تابعة لجهاز الأمن"، ومطالبتها، من ثمَّ، "بإعادة ترتيب .. الجِّهاز، وإصلاحه بصورة عاجلة، لأنه لا يتفق مع المعايير الدَّوليَّة لحقوق الإنسان في عدم محاكمة المسئولين، وفي الحصانات الواسعة الممنوحة لهم"، وأن "ثمَّة حاجة إلى تغيير كامل لنظام الأمن الوطني في البلاد" (وكالات، 5 ـ 6/5/2006م). ومن عجب أن المجلس الوطني الذي أنيط به إصدار قوانين (التحوُّل الديموقراطي)، خلال الفترة الانتقاليَّة (2005م ـ 2011م)، أجاز قانون الأمن الوطني الجديد لسنة 2010م، والذي يكرِّس أوضاع (الشُّموليَّة)، تماماً كما قانون 1999م، حيث التفَّ القانون الجديد على شرط المادَّة/151 من دستور 2005م الانتقالي، والذي يقصر عمل الجِّهاز على "جمع المعلومات وتحليلها ونصح أجهزة الدَّولة بشأنها"، فأغرق هذا الشَّرط الواضح في لجج لغويَّة يبدو ظاهرها خاضعاً لهذا القيد، بينما تنطوي على كلِّ دلالات الانفلات إلى طلاقة النشاط القمعي المباشر، والمدجَّج بسُّلطات وحصانات غير محدودة، فمثلاً: (1) المادَّة/4/1 تجعل مهمَّة الجِّهاز ".. تنبيه أجهزة الدَّولة المختصَّة بقدوم خطر داخلي أو خارجي". لكنها، بعد تعداِد صنوف هذا الخطر، بما فيها "تهديد السَّلامة الاقتصاديَّة، والنظام (الدِّيموقراطي!)، والنسيج الاجتماعي"، تعود لتضيف إلى هذه المهمَّة "بث الطمأنينة وسط المواطنين"! وبصرف النظر عن المغالطة الغليظة المتمثلة في دور الجهاز في "بث الطمأنينة!"، فإن هذا النصُّ إنما يحدِّد، بالمخالفة الصَّريحة لنصِّ المادَّة/151 من الدُّستور، عن وظيفتين للجِّهاز، (استشاريَّة) و(تنفيذيَّة) في آن! (2) أوضح من كلِّ ذلك "اختصاصات وسلطات الجهاز" كما تحدِّدها المادَّة/24 التي لا تكتفي بأن يباشر الجِّهاز وظيفته (الاستشاريَّة) الفنيَّة في جمع المعلومات، وتحليلها، والتوصية بشأنها، وإنما تطمر هذه المهمَّة الدُّستوريَّة الواضحة في محيط هادر من المغالطات، والوظائف (التنفيذيَّة) المنتحلة للجِّهاز، من شاكلة "حفظ" الأمن، و"تأمين" المدن، و"حماية" الدُّستور والنسيج الاجتماعي وسلامة المواطنين، و"مكافحة" النشاط "الهدَّام!" ـ وجديرة بالملاحظة المخصوصة هذه (الرَّشاقة) التي استعيد بها مصطلح (النشاط الهدّام) من لغة تشريعات المرحلة (الاستعماريَّة) ليدرج في هذا النصِّ (الوطني) الحديث ـ ولعلَّ طبيعة (قيام) الجِّهاز بهذه الوظائف لا تحتاج إلى فانوس ديوجينس لإضاءتها! (3) كذلك فإن المادَّة/25 من الوضوح في خرق الحقوق الدُّستوريَّة بما لا يخلف أدنى لبس، إذ تنصُّ على قائمة لـ (سلطات الجِّهاز) من شأنها مصادمة هذه الحقوق مباشرة، ومع ذلك جاءت هذه القائمة تالية لعبارة "بعد الاطلاع على (وثيقة الحقوق) الواردة في الدُّستور"، بينما كان الأجدر أن تقرأ "على الرَّغم من (وثيقة الحقوق) الواردة في الدُّستور"! إن حال هذا النصِّ كحال السَّيارة التي يؤشر سائقها شمالاً بينما ينعطف بها يميناً! (4) أمَّا المادَّة/50، بعنوان (سلطات الأعضاء والمدير والمجلس)، فتكاد تكون، من حيث التفتيش، والقبض، والحجز، منقولة بحذافيرها من قانون 1999م، لولا بعض الفروقات، خصوصاً في ما يتصل بمدَّة الثلاثين يوماً المقرَّرة لأيِّ عضو بالجِّهاز للحجز والقبض، بدلاً من الأيَّام الثلاثة في قانون 1999م، وكذا مدَّة الخمسة عشر يوماً المقرَّرة للمدير، بدلاً من الثلاثة أشهر في القانون القديم، وتمديدها لثلاثة أشهر بأمر مجلس الأمن الوطني بدلاً من أمر المدير بموافقة النائب العام. ويجدر هنا لفت الانتباه إلى أن الفريق محمد عطا، مدير الجِّهاز، عندما وجد أن مشروع القانون الجَّديد الذي أجازه مجلس الوزراء حدَّد فترة الاعتقال بشهر واحد، قال إنها قصيرة، وطالب البرلمان بزيادتها إلى 45 يوماً، كما في بريطانيا، "فالبلاد مواجهة بجرائم .. تتطلب مدة أطول في الاعتقال" (الشرق الأوسط، 19/10/09). (5) وأمَّا المادَّة/52، بفقراتها السِّت، فتسيِّج عمل الأعضاء والمتعاونين بقدر هائل من الحصانات، حتى لا تكون ثغرة ينفذ منها سبيل لأخذ أيٍّ منهم بأيَّة جريمة. وحتى عندما يكون من الممكن تعريض أحدهم للمساءلة، فإن ذلك لا يتمُّ إلا بموافقة المدير، وبموجب محاكمة داخليَّة سرِّيَّة، تماماً كما في قانون 1999م الملغي! (6) وأمَّا المادَّة/51، بعنوان (حقوق المعتقل)، فمن غير المنظور، في ضوء الخبرة السَّابقة، تطبيق أيٍّ من فقراتها العشر، وفي مقدِّمتها حقُّ الشَّخص في أن يبلغ بأسباب اعتقاله فوراً، وأن توفر له زيارة من أسرته ومحاميه "إذا لم يضرُّ ذلك بسير التحرِّي!"، وأن يتظلم للمحكمة، وأن تصان كرامته؛ لذا ستبقى هذه (الحقوق)، كما بقيت من قبل في قانون 1999م ولائحته، محض كلام مرسل على الورق!
(4) حكمة لورد أكتون (1884م – 1902م) بأن "السُّلطة مفسدة، والسُّلطة المطلقة مفسدة مطلقة" تفرض على أهل الجِّهاز أن ينتبهوا جيِّداً لما يروج في أوساط العامَّة عن جهازهم، من حيث أنه راتع في (نعيم!) هذه (السُّلطة المطلقة!)، ومتبحبح في أكناف مقاصدها، حتى نسبت إليه الذهنيَّة الشَّعبيَّة كلُّ (مفسدة مطلقة!)؛ واللهمَّ لا لوم إلا عليه. هكذا لن يقف الأمر عند (صفيَّة) وحدها، بل سيتعدَّاه إلى (صَّفيَّات) أخريات و(أصفياء) آخرين ستعلق دماؤهنَّ ودماؤهم بـ (سمعة الجِّهاز) ما لم يجهد نفسه في تطهيرها، والنأي بها عن مواطن الدَّنس، بدلاً من الانشغال بالمقاضاة الجَّنائيَّة. وهَبْ أن الناس (يتقوَّلون) عليه، أفيجيئون شيئاً إدَّاً، أم يتصرَّفون وفق طبائع الأشياء وسيرها في الحياة العاديَّة؟! إن الحكم (العادل) على (الجهاز) إنما يتحقق، أولاً، في وجدان الناس قبل أن يتحقق في ساحات القضاء؛ ومن ثمَّ فإن أحداً لن يصدِّق (براءة) الجِّهاز مِمَّا يُنسب إليه، ولو على سبيل الاختلاق، حتى يسلك هو مسلك (الأبرياء)، وأوَّل ذلك إصلاح قانونه حتى يكون أكثر عدلاً ومقبوليَّة. وها دوننا، مثلاً، أحدث المعطيات في وقت كتابة هذه المقالة: حكاية الطالب حسين إبراهيم انقابو، من أبناء كاس بجنوب دارفور، بالمستوي الرابع بكليَّة التربية بجامعة الدَّلنج؛ فبعد مشاركته، بالخميس 16/6/2011م، في مخاطبة بجامعة الخرطوم حول الوضع في دارفور، جرى اختطافه، صباح الجُّمعة 17/6/2011م، من الشَّارع العام، بالقرب من مسكنه بحي مايو، ثمَّ قتل، وقذفت جثته في العراء صباح السَّبت 18/6/2011م؛ أفلو قرن الناس بين واقعة المشاركة بالمخاطبة السِّياسية في الجَّامعة، وبين مصير الاختطاف والقتل في اليوم التالي مباشرة، فاتجَّهت أنظارهم، أوَّل ما اتجهت، إلى الجِّهاز، يكونون قد كفروا؟! أم إذا طالبوا الجِّهاز بالتحقيق في الواقعة، ولو من باب تبرئة الذمَّة، دفع بهم إلى أقفاص الاتهام، وأوقفهم بين أيدي القضاء الجَّنائي بتهمة (إشانة السُّمعة)؟!
(5) على أن المشكلة، في ما يبدو، هي أن الجِّهاز نفسه، لكثرة (سلطاته) و(حصاناته) المطلقة، يكاد لا يصدِّق أنه (برئ)! فالأستاذان فيصل والقرَّاي استشعرا مسئوليَّتهما لمطالبة الجِّهاز بالتحقيق، فحسب، في واقعة صفيَّة. لكن تلك المطالبة أثارت، على ما يبدو، وساوس الجِّهاز وشكوكه في (النوايا) و(الضَّمائر)! بعبارة أخرى شكلت، بالنسبة له، (طاقيَّة) اتهام وجدها على (مقاسه)، فالتقطها، وأحكم وضعها على رأسه، معتبراً، من ثمَّ، أن الكاتبين يقدحان في (سمعته)! وبشأن هذه المفارقة روى عبد الوهاب الأفندي طرفة تداولتها مصر، أيَّام عبد الناصر، بأن الشُّرطة ضبطت رجلاً يدعو في قارعة الطريق: "اللهم عليك بهذا الحاكم الظالم"! فأحالته إلى المحكمة التي حكمت عليه بالسجن ستة أشهر لإساءته لرئيس الجمهوريَّة! ولمَّا دفع الرجل بأنه لم يذكر الرئيس، وإنما كان يدعو على الحاكم الظالم، ردَّ القاضي: "وهل هناك ظالم غيره؟!" (سودانايل، 20/6/2011م).
***
#كمال_الجزولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مَا تَبَقَّى مِنْ صُورَةِ السُّودان!
-
عن أبوجا بمناسبة الدوحة:
-
مِنْ الجُّزْئِي إلَى الكُلِّي: الطَّالِبَاتُ ومُنَازَلةُ اله
...
-
الإِطَاحِيَّةُ!
-
لَيْلَةُ الخَنَاجِرِ الطَّويلَة!
-
أَنُوصِدُ الأَبْوَابَ أَمْ نُوَارِبُهَا؟!
-
حَالَةُ الجَّوْرَبِ المَقْلُوب!
-
الثُّقْبُ فِي سَقْفِ البَيْت!
-
يَا فَنْدُمْ أعْدَمْناهُ .. يَشْهَدُ الله!
-
أَمَامَ كُلِّ جَنُوبٍ .. جَنُوب!
-
فَصَلَ يَفْصِلُ فَصْلاً!
-
الأَيْدِيُولوجِي المُضَاد!
-
أَبْنَرْكَبْ الكَرْكَابَة!
-
سِرِّي!
-
إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (الحلقة الأخيرة)
-
إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (6)
-
إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (5)
-
إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (4)
-
إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (3)
-
إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (2)
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|