|
المفترسان
رياض خليل
الحوار المتمدن-العدد: 3476 - 2011 / 9 / 4 - 12:17
المحور:
الادب والفن
القرش والأسماك =========== مجموعة قصصية : لرياض خليل ،صادرة عام 1995 ، عن دار الحوار للنشر والتوزيع في اللاذقية/سوريا ، وتتألف من (12) قصة قصيرة ، هي حسب التسلسل: 1- دعدوش 2- المفترسان 3- ابتسامات دعد 4- القرش والأسماك 5- سوسن وعيد الأم 6- إنها سيدة محترمة جدا 7- رجل تحت الأنقاض 8- المسافة 9- حادثة أبي طاهر التي لا تصدق 10- المرآة 11- المؤامرة 12- خاتم السوليتير
المفترسان : قصة قصيرة من مجموعة القرش والأسماك ، الصادرة عام1995 عن دار الحوار باللاذقية ، (القصة الثانية) (1)- الخروف المسحور عاش خروف بعيدا عن قطيعه ، لزمن طويل ، يعد السبب إلى رغبته في تقمص شخصية بشرية ، واتخاذ صورة رجل ، إيمانا منه بقوة تلك الصورة ، وشدّة تأثيرها على سائر الحيوانات والكائنات داخل الغابة ، خصوصا تلك المفترسة الضارية ، وكان يعتقد أن الإنسان – وليس الأسد – هو ملك الغابة ، وسيدها دون منازع . كان حظ الخروف جيدا ، لأن ثمة ساحرا يعيش في الغابة ، ويمت إليه بصلة وحظوة ، قصده متوسلا تحقيق أمنيته ، ولبى الساحر طلبه ، بعد أن اشترط عليه ألا يعيش مع قطيعه ، أو يتعامل مع فرد من جنسه .. سيما النعاج ، وألا تتغلب عليه طبيعته الأصلية ، وتقوده إلى تصرف الكباش ، أنذره الساحر بالقول: " إن أي إخلال بالشروط المذكورة سيؤدي إلى إعادته إلى صورته الأصلية : مجرد خروف للذبح والافتراس . وافق الخروف مبتهجا ، دون تأمل بالعواقب ، وما لبث أن خلع قميص الكبش ، واستبدله بقميص بشري ، وراح يمشي مختالا .. مزهوا بنفسه ، ولم ينس أن يشكر الساحر على صنيعه :" مولاي .. أنا شديد الامتنان لك ، ولأبرهن لك عن شكري .. أضع نفسي بخدمتك .. وتحت تصرفك .. وطوع بنانك .ابتسم الساحر ، ورمقه بطرف عينه مباركا له بعمل أوكله له ، ولم يكن الخروف يحلم بمثل هذا المنصب ، الذي كان بالنسبة له رفيعا جدا ، وكبيرا جدا على من كان بحجمه وإمكانياته ، فعاود شكره وحمده للساحر الكريم ، وامتدح سخاءه الذي يفوق التصور والتوقع والطموحات . مضت الأيام والليالي ، وكان الخروف/الرجل يؤدي عمله بتفان وإخلاص ، باذلا أقصى الجهود لكسب رضى الساحر . لهذا السبب ، إضافة لأسباب أخرى كثيرة .. وخارجة عن إرادة كلّ من الساحر والخروف .. رأى الساحر أن من المصلحة والمنفعة بمكان .. ترقية الخروف المسحور إلى رتبة : رجل هام جدا . خاصة وأنه قد ارتقى بعمله مراتب عدّة ، واكتسب خبرة ومهارة تؤهله لشغل منصب كذلك المنصب الجديد لدى الساحر الخبيث . هدأت الأحوال في الغابة ، والتي كانت سببا هاما في ترقية الخروف المسحور . لكن هذا الأخير بدأ يستسلم للجشع والطمع والغرور ، وتزايدت رغباته الاستعراضية لإثبات أهميته وقيمته ودوره ، وبدأ يتصرف بأكبر من حجمه الواقعي ، وراح يقلد في تصرفاته سيده الساحر ، حتى أصبحت تصرفاته المصطنعة مرضا وتقليدا لايفارق سلوكه وشخصيته غير السوية ولا المتوازنه ، وجزءا لايتجزأ من حياته اليومية . لم يقف الخروف المسحور عند هذا الحد ، بل انتقل إلى المطالبة الملحة بالترقية إلى رتبة أعلى ، وراح يحشر أنفه فيما لايعنيه ، ويتصرف وكأنه صاحب حق وشريك للساحر ،وصار فضوله وطمعه يقودان سلوكه ، ويحددان مواقفه اليومية ، ماأثار حفيظة الساحر وانزعاجه وسخريته معا ، وكان الساحر موهوبا في إخفاء عواطفه ونواياه ، والسيطرة على أعصابه ، وكتمان الأسرار ، وإظهار عكس مايبطن ، كان يعتبر هذا كله سلاحا قويا للبقاء والدفاع والنجاح الدائم في نصب الكمائن واصطياد الخطرين ، أو الذين يمكن أن يصبحوا خطرين في لحظة من اللحظات . وهذا سر نجاحه في استمرارية سيطرته على الغابة ، وقيادتها وحكمها وإدارتها بهدوء ودهاء وحكمة ، وتحاشيا لأية مشاكل محتملة ، ليست على البال والخاطر، وبعيدا عن وجع الرأس ، أو احتمال الشغب ، كان الساحر يتقن فنّ ضبط الغابة بمهارة وذكاء وحرص ، ولم ينس دور القوة والبطش عند الضرورة . كان يحسب لكل شيء حسابه .. كبيرا كان أم صغيرا ، ويقود المملكة ، ويحكم قبضته عليها . أخذ الخروف: صنيعة الساحر .. يتمادى ويتواقح ويتطاول ويتجاوز حدوده ، على الرغم من صغر حجم مكانته ، وضآلة دوره وتأثيره ، ويلح بالمطالبة المباشرة وغير المباشرة بالمزيد من الترقيات لمناصب أعلى ، انطلاقا من اعتقاده بالأهلية والجدارة والكفاءة ، ومكافأة له على ماقدمه من خدمات وتضحيات حسب زعمه ، وكان يقول عن نفسه: إنه رجل الموقف ، وكان يذكر ويتبجح ببطولاته ، وبمساهماته في استتباب الأمن والهدوء إلى الغابة . وكان يضخم ويهول من دوره إلى درجة مرضية لاتتوافق مع الواقع الحقيقي ، كان كالذي يجعل من الحبّة قبّة كما يقال في المثل الشائع ، خدعته أطماعه في تقدير أهميته ، وفي طريقة سعيه للحصول على إكرامية مجزية من سيده الساحر، الذي كان يعرف كيف يستوعب مثل هؤلاء المساكين ، ويجود عليهم بما يناسب نزعاتهم الاستعراضية ، كان يمنحهم الشكليات و" البروظة " والألقاب ، ويمنع عنهم السلطة والنفوذ الفعلي ، وكان الساحر يدرك أن مرضهم هو نقطة ضعفهم ، هو ستر ضعفهم وعجزهم وفشلهم وعقدة الدونية التي تستحكم بنفوسهم ، وتدفعهم إلى النفاق واسترخاص كرامتهم . لهذا كله لم يكن الساحر يخشى من مثل هؤلاء الدواب ، بل كان يعتمد على أمثالهم ، ويثق بغبائهم ، ولايخشى تمردهم وعصيانهم وانقلابهم عليه ، لأن أمثالهم مكروهين .. محتقرين .. معزولين .. محدودي القوة والنفوذ والتأثير على الدهماء . المهم ، لم يحصل صاحبنا العتيد:" الخروف المسحور" إلا على القشور .. والأوسمة التي لاتغني ولاتسمن من جوع ، على الرغم من الانتظار الطويل على الدور في قائمة المرشحين ، وكان الانتظار نوعا من اجترار التوقعات والاستنتاجات والأحلام الوردية ، التي طالما نسجها المنتظرون من ابتسامات الساحر العابرة لهم ، ومن نظراته الجانبية المشجعة ، وبعض الهبات والفضلات والفتات ، الذي يلائم ذوق الخروف ، وغريزته وطبيعته الأصلية . لعب الساحر مع الخروف لعبة الزمن والإيحاء الماكر الغدار ، كان يرمي له بين الفينة والأخرى رزمة برسيم ، وبعض الشعير المستورد ، ليهدئ ويخدر أعصابه وعقله المحدود ، ولينشط أحلامه البائسة الخابية ، كي لاتنطفئ تحت وطأة الترقب والانتظار الذي ليس له نهاية . اكتشف الخروف طرقا أخرى لتحقيق أهدافه ، وجذب اهتمام الساحر ، ولفت نظره إلى مزاياه وخصائصه الفريدة ، وممواهبه النادرة ، وعبقريته الاستثنائية ، وأهليته للعب دور أكبر وأعقد وأوسع في حياة الغابة وخدمة الساحر، اكتشف ذلك من خلال ملاحظاته وموازناته وتجاربه مع سكان الغابة ، وحاشية الساحر ، وأركانات حكمه الذين فاق عددهم الحاجة والتوقع ، ورأى الخروف المسحور في نفسه من الصفات والمواهب مايبزّ به هؤلاء في كثير من الخدمات والأعمال التي يؤدونها ، ولاسيما في مجال أمن الغابة والساحر ، وبدافع الغيرة والحسد وضيق العين والحماقة أخذ الخروف المأفون يحاول محاكاة بعضهم ، وراح يجرب الأصوات والأدوار في محاولة لإيقاظ ذاكرة الساحر ، واستدرار عطفه وشفقته ورحمته ، وحفزه لتنفيذ وعوده التي استنبطها الخروف الشقي من ابتسامات وإيحاءات ونظرات الساحر الغامضة المراوغة . أخذ الخروف يحاول تقليد أصوات البلابل والخيول ، كما حاول أن ينظم الشعر ، وفشل مرارا في محاولاته الخرقاء لتحريك مشاعر الساحر المعدنية ، وحثه على الإصغاء لمطالبه والاستجابة لتوسلاته ، ولم يعره الساحر بالا ، بل ورفض أكثر من مرة أن يمسح الخروف حذاءه ، بحجة أن لم يأت دوره بعد ، وبأنه يوجد من هو أكثر خبرة منه في مسح الأحذية . وبرغم هذا ظل الخروف يتمسك بشدة بأوهامه أملا في لفت انتباه الساحر لوجوده ، واستمر في إطلاق صوته الممطوط .. المفعم بالقهر والاستجداء ،كان صوته يتشتت هباء كلما اصطدم بالريح وأذنيّ الساحر وحاشيته التي تكيد له ولبعضها البعض بمناسبة وغير مناسبة ، وهو مايثلج صدر الساحر .وقد أثارت تصرفات الخروف السخرية لدى الكثيرين من سكان الغابة ، المهمّين وغير المهمّين منهم ،ولكن أحدا منهم لم يجرؤ ولم يرغب مصارحته بحقيقة الأمر ، إما أدبا ولباقة ، أو إهمالا ، أو خوفا وتحسبا . كان صوته الحقيقي: أي ثغاؤه يتسرب من خلال صوته المستعار وهو صوت رجل بشري . وهذا ما أسهم في افتضاح أمره تدريجيا بين سكان الغابة . نسي الخروف نفسه وهويته وأصله وفصله منذ زمن ، على الرغم من أنه كان يلوذ بذاكرته البليدة في خلواته وتداعياته ، وكان يستسلم للحنين إلى أصله وطبيعته ، فتمتلئ نفسه بالأشجان والصور، ثم لايفتأ أن يصحو من سكرته .. ومراجعاته الذاتية ، ويوصد ذاكرته بقسوة ، خوفا من أن يفتضح أمره . كم كان يكره الاعتراف بانتمائه وهويته الحقيقية ، ويحس بالعار والدونية حتى أمام نفسه . بدأ اليأس يتسلل إلى نفس الخروف بنسبة طردية مع حنينه إلى الماضي ، وانسياقه وراء غرائزه القطيعية التي عمل جاهدا على كبتها وقمعها . أخذت تعتلج في داخله مشاعر وانفعالات وتصورات متناقضة . أحس بنفسه ضائعا .. مشتتا مابين شكله ومضمونه ، لدرجة جعلته يشك بالحقيقة الأصلية ، ولا يميز بين الذات والصورة ، وكثيرا ماتساءل : هل أنا رجل بالفعل؟ أم مجرد خروف للأكل ؟ غرق وتخبط في أشواقه .. ووجده الصوفي ، وتحت وطأة حلمه المحموم ، الذي لم يحصد منه سوى الخيبة تلو الخيبة . كان تعلقه المرضي بحلمه .. لايسمح له بالتخلي عنه ، مهما كان الثمن ، هذا الحلم الذي ابتكره خياله ، وترعرع في وجدانه المريض البائس . فما كان منه إلا أن أخرج حلمه من داخله ، وجعل منه صنما ، راح يتغنى به ، يصلي له ، يعبده ليل نهار ، ويأمل ، وينتظر دونما جدوى ، وعلى الرغم من جوعه .. لم يأكل حلمه/الصنم ، استمر الخروف بالاستجداء والبكاء مجانا ، كان الساحر يتلذذ بساديته المفرطة ، بينما الخروف يتلذذ بمازوخيته المفرطة ، حتى استغرق كل منهما في أداء دوره إلى غير رجعة . (2)- الذئبة المسحورة اشتكت الذئبة همّها للساحر ، وندبت حظها العاثر ، ومنافسة الكواسر ، قالت:"لم أذق طعم الضأن منذ زمن ، صرت أشتهي أن أمتع عيني بمنظر خروف ، أو حتى شمّ رائحته " . وتابعت تسرد مظلمتها للساحر ، بأسلوب مفضوح من التملق والنفاق : " سئمت حياتي في هذه الغابة ، التي لامكان فيها للعدل وتكافؤ الفرص ، والتي أصبحت تعاني من قلة الموارد والخيرات والوفرة ، حيث لاتنفع الحيلة والمساعي . واستمرت الذئبة تلقي على الساحر تظلمها المليء بالعبارات المنمقة ، والتي لم تخل من عبارات التعظيم والتقديس للساحر وأعماله ومواهبه ، وخصوصا عن كرمه . وكان الساحر قد ملّ من كثرة ترداد هذه الاسطوانة من قبل عدد لاحصر له من سكان الغابة ، وأحب أن يختصر الطريق عليها ، فسألها عن رغبتها بلا مقدمات ولا تمهيد . وقبل أن تفصح للساحر عن رغبتها ومرامها ..شرحت له إمكاناتها ومواهبها واستعداداتها المطلقة لخدمته بإخلاص ، والتضحية في سبيله ، وقالت: " اعتبرني خاتما في إصبعك " ، ورجته أن يهبها جسد شاة ، وأن يحولها إلى نعجة فتية . كاد السحر يفقد تماسكه .. ونضحك لتلك المفارقة الغريبة ، لولا أنه تذكر مركزه ووقاره ورصانته ، فاكتفى بنصف ابتسامة ، وأدركت الذئبة بدهائها مغزاها .. وعرفت ماوراءها .. وتابعت مفسرة : " مولاي .. إنك تهبني كنزا ، شكلي .. ثوبي الجديد يامولاي .. يتيح لي الحياة مع الماشية ، التي ستنخدع بقميصي الجديد ، فأتمكن منها بسهولة ويسر ، سيصبح القطيع ملكي ، أفعل به ماأشتهي وأحب ، وبلا ضجة ولاأنذار ، وبدون أن يفتضح أمري ، أو أضطر لمطاردة أي عنصر منه ، أو الدخول في منافسة مع سواي من الذئاب . صورتي المزيفة الجديدة سوف تغش الأغنام .. بل والكلاب التي تحرسها ، ورعاتها الأغبياء ، وتلك لعمري أروع حياة أحلم بها ، حيث لامكان للجوع والمنافسة والتعب والخوف ، يالها من حياة هنيئة ! علق الساحر: " لوكنت ثعلبا لما ابتكرت فكرة أخبث وأدهى ، يالك من ماكرة ! واعتبرت الذئبة عبارته مدحا وثناء وإطراء لايحظى به كثيرون ، فشكرته ، وكررت توسلها ورجاءها له لقبول تحقيق أمنيتها : أن يهبها قميص نعجة جميلة . خلال الحوار .. كان الساحر قد توصل إلى فكرة . وافق على تلبية رغبة الذئبة ، مقابل شروط منها: الولاء والطاعة وفك ارتباطها بأفراد جنسها من الذئاب ، وكذلك عدم التعرض لبني البشر، مهما كانت الدواعي والأسباب . وأخيرا ضرورة التقيد التام بقوانين وشرائع الغابة المرعية . رقصت الذئبة فرحا ، وركعت إجلالا وامتنانا للسيد الساحر ، وسرعان ماتحولت إلى نعجة جميلة وقوية . نظرت إلى ثوبها الجديد ، ولم تصدق نفسها ، لدرجة أنها أوشكت أن تعض جسدها الشهي . سيما أن شهوتها للدم وللحم كانت مزمنة . أخيرا عثرت على الحظ الآخر ، الحظ الكنز ، الذي طالما حلمت به ، وكانت مستعدة للتنازل عن الكثير للحصول عليه .. بل وعلى أقل منه . هاهي الآن .. تستطيع أن تصول وتجول بين قطعان الماشية .. دون رقيب أو حسيب ، ودون أن تثير الهلع داخل القطيع أو تلفت انتباهه للخطر المحدق الماحق ، هاهي تستطيع أن تندس بسهولة ويسر داخل القطيع المطمئن دون أن تضطر إلى استغفال حراسه من الكلاب والرعاة ، والتعرض لمواجهتهم الشرسة والخطرة والمكلفة ، هاهي الآن قادرة على المبيت مع القطيع داخل الحظيرة الفردوسية .. كل ليلة ، حيث تستطيع أن تأكل وتشرب .. أن تشبع وترتوي وتتلذذ وتتلمظ بهدوء وطمأنينة ، أن تنام ملء جفنيها .. وتحلم ملء عينيها ، تتعشى وتنام بعد عشاء دسم ، وتستيقظ صباحا على فطور دسم أيضا ، دونما جهد أو عناء يذكر . ومرت الأيام .. وسمنت الذئبة , وقويت ، ومالبثت أن بطرت ، وأصابها الصلف والغرور، وعاودها الطمع الذي طالما أدمنته ، ونسيت .. وتناست شروط العقد بينها وبين الساحر . لم يكن لهيئتها كنعجة أن تلغي طبيعتها الأصلية كذئبة ، وبقيت تعاني من الازدواجية ، تمارس سلوكا متناقضا متداخلا بين صفتها الطارئة وحقيقتها الأصلية ، تارة تتصرف كنعجة ، وتارة كذئبة ، وكثيرا ماسببت الازدواجية في سخصيتها المتاعب .. جراء الأخطاء التي ترتكبها ، وضاعت الحقيقة مابين الصورتين المتناقضتين . راحت الذئبة المسحورة ترتكب الحماقات والتجاوزات ، وهو ماكان يعكر صفو الساحر ومزاجه قليلا ، ولم تتوقف الذئبة عند هذه الهفوات ، وطمعت ، وازدادت وقاحة وخسّة ، وتمادت في تعدياتها ومخالفاتها ، التي أثارت احتجاج وغضب وقرف سكان الغابة ، ومع ذلك لم يحرك الساحر ساكنا ضدها .. مافاقم من شراستها ووقاحتها وطمعها إلى درجة أنها أخذت تتطلع إلى الاعتداء على قطيع الساحر نفسه ، ضاربة عرض الحائط بكل الأعراف والتقاليد المعمول بها ، متجاهلة ومتجاوزة كل الخطوط الحمراء ، وكل الحدود بمختلف ألوانها وأشكالها .. ولم يحرك الساحرساكنا ، ماأثار الاشمئزاز والدهشة وحفيظة سكان الغابة ، بل وفي نفوس حاشيته وأفراد بطانته وعبيده وجواريه .. وتجاوز ذلك ليصل إلى حيواناته العامة والخاصة كالخيول والكلاب والثعالب وسائر الماشية والطيور الدواجن بأنواعها .. بدأ يفتضح سر الذئبة المسحورة تدريجيا ، بسبب إصرار سكان الغابة على معرفة حقيقة العدو الشبح غير المرئي والذي يلحق بهم وبأملاكهم الأضرار الفادحة ، دون أن يتمكنوا منه ، أو يظفروا به . وبقي الساحر هادئا متماسكا ، لأنه الوحيد الذي يعلم إلى أين تسير الأمور ، وما هي خواتيمها . ( 3) – الموت افتراسا بدأت الذئبة المسحورة تفكر بالاعتداد على بني البشر ، وهذا ماتوقعه الساحر ، وما منعه من اتخاذ إجراء حاسم ضدها ، والتعرض لبني البشر شرط كاف لفسخ العقد ، الذي بموجبه تحتفظ الذئبة بثوبها كنعجة ، وتعيث فسادا كذئبة . سلط الساحر كلا من الخروف المسحور والذئبة المسحورة على بعضهما البعض ، متوقعا مشاهد درامية مثيرة ومسلية ومفيدة على الرغم من تراجيديتها . التقت الذئبة بالخروف ، وكل منهما راحت تضغط عليه غرائزه المزدوجة المتناقضة : الخروف أراد أن يتصرف كرجل وخروف في آن واحد ، وبالتالي .. النعجة تعني له الأنوثة واللحم معا . والذئبة أرادت أن تتصرف كذئبة ونعجة في آن واحد ، وبالتالي .. فالخروف يعني لها الذكورة واللحم معا ، وبذلك تلتقي غرائزهما في قاسم مشترك : هو مزيج من السادية والمازوشية معا . في الوقت الذي لم يكتشف فيه الخروف الغبي الذئبة الشرسة ، تمكنت هذه من اكتشاف الخروف القابع في داخل ذلك الرجل المزيّف ، ورأت بذلك مبررا كافيا لممارسة حقها بافتراسه . رمق كل منهما الآخر ، كانت نظراتهما مزيجا من الغزل وشهوة القتل . سال لعاب كل منهما رغبة عارمة بالآخر.. وبكل مالديه . كانت الذئبة تنظر إليه من طرف عينها ، وتتصنع الغنج والدلال والإغواء .. متباهية بجمالها .. ولون صوفها الذهبي ، أثارته . اقترب منها مستعرضا فحولته وقوته ، صدّته بثغاء زاده حماسة وإقبالا ، باح لها بحبه ورغبته بها ، متباهيا بقرونه ، وراح الآخر يثغو تعبيرا لها عما يجيش في قلبه حيالها . كتمت النعجة ضحكة شبقة ، استمر صوت الخروف الممطوط المغلف بالرجولة ، يعتد بنفسه وحياته ومكانته ونفوذه عند الساحر ، وبين سكان الغابة ، حكى لها عن أحلامه ومستقبله ، واستعرض لها قوته وإمكاناته وعضلاته وسجاياه ، وخاصة كرمه الذي يغطي أي عيب ، ولم يكتف بذلك ، بل وصلت الأمور به إلى درجة الهيام في نعجة أحلامه .. حتى أصبح مجنونا بحبها ، جاعلا نفسه خاتما بإصبعها ، وذيلا لها ، وصدى لإرادتها ورغباتها ومزاجياتها غير المستقرة على حال ، مرض ولها وجوى بها ، وهي تتمتع وتغري وتصد وتقبل .. حتى مد الرجل الخروف يده إلى صدره ، وأخرج منه قلبه الأحمر الوردي ، ليقدمه عربون محبة وهدية لنعجة أحلامه .. لأميرته النعجة المحبوبة ، التي تعني له اللحم الأحمر والأبيض ، اللحم بكل معانيه ووظائفه وأشكاله وألوانه . وفيما كان يقدم قلبه .. تصنعت النعجة الخجل والحياء ... وهي تقبض عليه بكل مالديها من قوة الشهوة ، ورغبة الافتراس ، وشراهة الغرائز القطيعية الذئبية والأنثوية . قبضت قلبه النابض بالوحشية والحب معا ، بقوة وقسوة وجشع . بعد تقديم قلبه .. فتح لها ذراعيه .. صدره .. جسده .. وعقله .. غارقا في سكرة الشهوات القطيعية المتأججة ، غافلا عن كل ماسواها ، ومتناسيا عبر لحظات النشوة الملتهبة كل القوانين والشرائع والأعراف والتقاليد ونظم وشروط العقد مع الساحر والغابة وسكانها . اغتنمت الأميرة/النعجة تلك الفرصة الأكثر من ذهبية ، ووثبت عليه بكل ماتملك من طاقات الغدر والخيانة وشهوة القتل والافتراس ، اندفعت بكل ماتملك من طاقات إبليسية في محاولة لامتلاكه شحما ولحما وعظما .. جسدا وروحا ، متجاهلة ومتناسية كل ماكان قد اتفق عليه مع الساحر ، غائصة حتى أذنيها في لذة الذبح ، ونشوة الغرائز ، خارقة شروط العقد مع الساحر ، ناكثة العهد الذي قطعته . وكان الخروف/الرجل مندمجا ومنسجما في عمله : يقبّل ويعضّ ويغرز الخنجر في جسد الذئبة المرة تلو المرة ، وكانت الذئبة مندمجة ومنسجمة في عملها المعاكس ، المضاد في تقطيع عنق الخروف ، ومص دمه ، وثقب جسده ببراثنها الأمضى من السكاكين . لم يشعر أيّ منهما بما يفعله الآخر ضده ، فقد اختلطت المشاعر وأحاسيس الحب والقتل في صورة لامثيل لها عند كل منهما . كانا يتعانقا بحرارة وعنف ووحشية ولذة ، يتبادلان كل مالديهما من غرائز الحياة والموت في لحظة درامية فريدة . وفيما هما كذلك ، كان الساحر ، ومعه كثيرون من سكان الغابة ، يشاهدون المسرحية بشغف وحماس منقطعي النظير . وفيما هما يتعانقان ويتعاركان بشهوة وحماسة وحقد ، كان مفعول السحريزول عن كل منهما تدريجيا ، لتتكشف لهما وللمشاهدين صورتهما الحقيقية . بدأت صورة الرجل تضمحل .. تنقشع .. تتقلص .. تذوب . وبدأت صورة النعجة هي الأخرى تحترق .. تتمزق .. تتلاشى .. تمحي . اختفى قميص الرجل ، وبرز منه الخروف ، وبرز قرناه كخنجرين ينغرزان في جسد الذئبة . واختفى قميص النعجة ، لتبرز الذئبة ، ولتبرز أنيابها الشيطانية البيضاء .. الحادة .. وهي تنغرز في عنق الخروف القوي المتوحش . استمرا في معركتهما الغرامية القاتلة ، مستجيبين .. مستسلمين لصراخ الطبيعة الغرائزية العمياء القطيعية ، غارقين حتى الموت في لذة الافتراس المتبادل . انتهى: دمشق – الأحد في 25/9/1994
#رياض_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الولادة الأخيرة : قصة قصيرة
-
موجة عابرة في سطح صقيل
-
ولكن غدا لم يأت
-
جريمة في ملف النمرود: قصة قصيرة
-
الولادة: قصة قصيرة
-
ستعودين:قصيدة
-
المتقمصة: قصة قصيرة من مجموعة الريح تقرع الباب 1976
-
يحدث هذا حبا : قصة قصيرة
-
عيّودا: قصة قصيرة
-
ماوراء هموم امرؤ القيس
-
لماذا رجعت إلى الحزن
-
ثم أعيدك حلما
-
الشراع الأسود: قصة قصيرة
-
قصيدة - سورة القلق
-
شعر: قصيدة لرياض خليل
-
المزبلة
-
العلمانية وصراع الأديان
-
صفقة وهم : قصة قصيرة
-
قادم من جحيمي : شعر
-
إهداء : شعر
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|