|
المثقف المجتمع والسلطة
محمد السعدنى
الحوار المتمدن-العدد: 3473 - 2011 / 8 / 31 - 08:25
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الكاتب طليعة المثقفين وإمامهم، وهو بما يقدمه من أفكار وما يتبناه من قضايا وما يطرحه من آراء، جزء من حياة أمته وضميرها وهو دليل انتمائها وحيويتها وتجسيد آمالها وطموحاتها، وهو القادر علي تشكيل الرأي العام وحشده نحو مصالح الأمة في مشروعها للتطوير والتحديث والنهضة. كانت تلك قناعتي التي عشتها ومارستها لسنوات طويلة مع فعل الكتابة كمثقف عضوي هو جزء من حياة أمته وتفاعلات أزماتها وطموحها، لكن بمرور الأيام أخذت تتكشف لي حقائق تكمل الصورة ولا تلغيها وتؤكد المعني ولا تنفيه ذلك أنني مع اختبار الكتابة وتفاعلات الميديا ووسائط المعرفة بدت لي المقولات السابقة منقوصة أو غير مكتملة، ذلك أنه بقدر ما للكاتب من قدرة علي تشكيل الرأي العام وقناعات الناس وحشدها نحو قضية معينة أو رؤية محددة أو فكرة مجردة، هو أيضا عرضة لإعادة صياغة وعيه وأفكاره ورؤاه من خلال تفاعلات القراء ورسائلهم وتعليقاتهم وإشاراتهم وانتقاداتهم أحياناً، وأحسب أن تجربتي في ذلك كانت ثرية بقدر لم أكن أتوقعه من قبل. عندما قدمت قراءتي في تراثنا العربي في عدد من المقالات في هذه المساحة، كان أن تلقيت كالعادة سيلاً من تعليقات القراء ورسائلهم، أثني البعض علي المقالات وجدتها وما احتوته من كم معرفي وكيف ثقافي، لكن أغلب التعليقات جاءت متحفظة، وكانت الحجة أن هذه المساحة ليست ملكي وحدي وإنما هم شركاء فيها ينتظرونها ليتفاعلوا مع كاتبهم حول قضاياهم ومستجدات حياتهم، يستشرفون معه آفاقاً جديدة ويأملون في تعاط مغاير ربما أثري أفكارهم بروافد جديدة في سبيل تناولهم للأمور ونظرتهم للأشياء، وكانت رسائل القراء حاسمة قاطعة في ذلك، نعم لقد استمتعنا بما قدمته في هذه القراءة، لكن صفحات التراث علي إمتاعها وأصالتها لن تغنينا عن الإبحار معك في قضايا الفكر والسياسة ومعالجاتها للحال والطارئ من قضايا المجتمع بكل حيويتها وتفاعلاتها، وما أحوجنا لذلك في هذه الأيام التي تتبدي شواهدها حبلي بكل جديد ومأمول ومحتمل، والتي تموج بحركة فاعلة تستحوذ علي الشارع ومحيطه الفاعل ووسائل الإعلام ووسائطها المعرفية، وهي بالضرورة تستدعي المتابعة والفهم والمشاركة، وهم بشكل أو بآخر طلبوا التركيز علي ما قد بدأته من مقالات عن التحديث والتطوير ومشروع النهضة وخصوصاً أنني قد حددت من قبل أن "أجندة النهضة ليست معجزة" وأننا قادرون عليها، شريطة التسلح بمشروع فكري للنهضة يمهد لها ويعبد الطريق ويحدد معالمه وعلاماته. اللافت للنظر والمستوجب للاهتمام في آن، هو أن معظم من كتبوا نعوا علي محيطنا الفكري والثقافي جدبه البادي وتصحره وتجريف روافده وانحسار مبادراته في حدود إجرائية لاتقدم إلا قراءات تسجيلية للواقع، في تكرار ممجوج واجترار سقيم ومعالجات ملساء، لا تعني إلا بالشكل والإطار ونادراً ما تنفذ لعمق الموضوع، وعابوا علي المثقفين أنهم فقدوا القدرة علي المبادرة والاقتراح وتقديم المساهمات والأفكار والحلول، وبدلاً من أن يفرضوا علي الواقع رؤاهم للإصلاح والتحديث والنهضة، بدا أن الواقع هو الذي يفرض سلطته وسلطانه عليهم، فتنازلوا عن الرغبة في الاضطلاع بالدور السياسي الذي يضعهم في عمق الصورة، لا علي هوامشها وأطرافها، وسلموا بعالم ليس من صنعهم ولا هم قادرون علي تحسينه أو إصلاحه، وكأنهم استسلموا للوصفات الجاهزة والصياغات المعلبة والتأكيدات المتملقة واستناموا لغوايات التكيف وأحلام التنفذ والاقتراب. إنها إشارة واضحة إلي افتقاد العامة لدور الخاصة، وهي فكرة تعيدنا إلي أسطورة الكهف في جمهورية أفلاطون، حيث يجلس بنو البشر مكبلين بالقيود، غارقين في تأمل الظلال المتراقصة علي جدران الكهف، فيحسبونها عالم الواقع لأنهم لم يروا في حياتهم سواها، أما المثقف فهو وحده القادر علي تحرير نفسه من الأغلال والظلال والخروج من الكهف ليري الحقيقة ويقود المجتمع. ويخطئ من يتصور أن قصاري شرف المثقف أن يكون في خدمة السلطة، ليس مقبولاً إلا أن يكون موافقاً مؤيداً مادحاً وعلي طول الخط ، أما أن يكون طرفاً في حوار لا يهدف إلا للصالح العام، فيوافق ويؤيد حين تصيب السلطة ويعارض وينتقد حين يجانبها الصواب، فتلك مكرمة لمَا تحفل بها بعد أدبيات السياسة والعمل العام في نظامنا العربي المأزوم، باعتبار أن النقد جزء من ديالكتيك سياسي، لا تعى الأنظمة العربية قدراً لطبيعته ولزومه للإصلاح والتحديث وضرورته للتحول نحو ديمقراطية تفرضها طبائع الأشياء في مراحل الانتقال والتطور، فحولوا كل رأي مخالف إلي عقبة في الطريق وكل ناقد غيور إلي عدو محتمل وكل صاحب فكر أو رأي إلي منافس متطلع ينبغي قطع الطريق عليه وإهدار كفاءته وقدراته، وبالتالي أجهضوا عدداً كبيراً من مشروعات فكرية وعلمية كان ينبغي لها أن تكتمل لتزدهر وتؤتي ثمارها التنموية والتقدمية في محيطنا السياسي ومؤسساتنا العامة التي عانت من وجود كثيرين من العاطلين عن أى نبوغ أو ثقافة أو معرفة،. وهو عبء أضيف إلي كاهل الأنظمة السياسية وأثقل عليها بينما كان العكس هو المفترض. الغريب في الأمر هو استجابة المثقفين وأصحاب الخبرة والكوادر للنمطية والقولبة والاتباعية والتدجين من قبل بعض المسئولين والوزراء، ربما حفاظاً علي مصالح طبقية ضيقة أو تطلعاً لمواقع أرفع تحمل لهم قدراً من الأبهة والسلطة، وربما احتراماً للنفس وإيثاراً للسلامة، فسلموا بالمطلوب مهما كانت خطورته علي الصالح العام ومهما كانت آثاره وتداعياته، وتسابق البعض ربما تواطؤاً وربما انتهازاً وتسلقاً بالإشادة بما يحدث في مؤسسته ومايقدم في هيئته أو وزارته وما يقال في محيطه العام، بينما أكثرهم يعلم أنه كذب ومحض افتراء. المدهش أنه لا أحد أنكر في جلساته الخاصة مع المقربين والأصدقاء خطأ مايحدث واعتراضه عليه والتسليم بسطحيته وأباطيله وفشله، لكن الجميع تحايل علي ذلك بابتسامة صفراء وراح يطلب من الله الستر وحسن المآل ويبرر نفاقه وتبعيته الذليلة بأنه لاحول له ولاقوة متذرعاً بأمثال شعبوية تكرس لمفاهيم التسلق والدونية والانبطاح، وما أكثرها في تاريخنا المملوكي والتسلطي، وهي ممارسات في موروثنا الشعبي طالما لجأ البعض إليها كنوع من التقية والحيلة وخبث الدهماء والسوقة، وكدأبنا عندما نعجز عن فهم الأشياء أو التصرف حيالها، نعمد إلي تغيير مسمياتها أو إعادة توصيفها حاسبين أن ذلك ربما رفع عنا الحرج أو أبعدنا عن حدود المسئولية وتبعات المساءلة. ومن أسف أن هذا هو الحال في الكثير من مؤسساتنا العامة وهيئاتنا الحكومية وقطاعات الإنتاج والخدمات، وربما هو السبب الأساس في أغلب أزماتنا ومشكلاتنا، وفي غياب نواتج التنمية عن محيط الطبقات المستحقة للدعم والرعاية من البسطاء ومحدودي الدخل، وهي ظاهرة تستجلب حنق الناس وغضبهم وإحباطهم وشكاواهم. ذلك يجعلنا كمن يحرث في البحر، أو كأن حكوماتنا المتعاقبة لاتفعل شيئاً إلا مايستوجب سخط الناس ويستدعي شكايتهم وانزعاجهم، ذلك مرده إلى غياب النخبة المثقفة عن مسئولياتها فى التنوير وقيادة المجتمع بينما تشاغلت عنه بمغازلة السلطة وتملق الحاكم، وبذلك ظلم المثقفون أنفسهم ومجتمعاتهم، وهو نوع من الفساد كانت آثاره أشد وطأة وأكثر تأثيراً بالسلب على مصالح الناس وتقدم الأمة. إن سمكة واحدة فاسدة تجعل النفس تعاف كل السمك علي المائدة أو تدفعك لتصور أن البحيرة علي كثرة الأسماك فيها، آسنة لا أمل يرجي منها أو خير يحتمل فيها. كان هذا بعضاً مماكتبت قبل ثورة 25 يناير المجهدة، ترى هل تغير شيئ بعدها؟ ثمة شئ؟!
#محمد_السعدنى (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إناللا هاموهى تونبلكا فيرينا
-
العلم ساحر الغيوب
-
البرتقالة الرخيصة
-
معجزته ليست في ذاتها
-
لن تخبو نار بروميثيوس
-
أوهام التعليم العالي وخطاياه
-
مطعم القردة الحية
-
صفحات في ذاگرة التراث
-
ذهنية -خراسان- وأصولية السياسة
-
أقروا الماجنا كارتا وخذوا كل المقاعد
-
إنتاج وإدارة المعرفة
-
»فصل المقال فيما يكتب عن الدستور أو يقال
-
ضرورات الثورة ومحاذير الفوضي
-
الكومبرادور يحاول إغتيال الثوره
-
إستراتيچيات المشروع العلمي للثورة
-
الزمن ما بين نيوتن وجويدة
-
عن الثورة وجمال عبد الناصر
-
من الثورة إلى النهضة..كيف؟
-
إنتروبيا العلم والسياسة
-
التعليم واقتصاد المعرفة
المزيد.....
-
شاهد.. ركاب يقفون على جناح طائرة بعد اشتعال النيران بمحركها
...
-
سوريا.. القلم الأخضر بيد أحمد الشرع عند توقيع الإعلان الدستو
...
-
كالاس: وشنطن وعدتنا بعدم قبول أي شروط روسية حول أوكرانيا إلا
...
-
الاتفاق بين دمشق والأكراد.. ماذا عن التفاصل والآثار المحتملة
...
-
سوريا.. محافظ اللاذقية يعزي سيدة من الساحل في مقتل نجليها وح
...
-
شيخ الموحدين الدروز الحناوي: لم نطلب الحماية من أحد ويجب إعط
...
-
طهران: العقوبات الأمريكية الجديدة دليل على الخداع وخرق القا
...
-
حريق ضخم في أحد مباني المعامل المركزية لوزارة الصحة المصرية
...
-
محامو الطالب الفلسطيني محمود خليل يطالبون بالإفراج الفوري عن
...
-
اكتشاف قد يحدث ثورة في علاج داء الثعلبة
المزيد.....
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
المزيد.....
|